صبحي صبري
رمضان هذا العام حار في مناخه ، بارد وطيب في مراسيمه وسلوكه ومحبة الناس له . . . استقبلناه بوصفه اغلى الضيوف ، والتمعت في ذاكرة كل منا، قناديل ذكريات دافئة نحبها ونتوق اليها . . . ازاء هذا التشابك العاطفي بين النفس وشهر الارتقاء بالنفس. طاب لي ان استجلي تلك الذكريات المخبأة في صدور المثقفين لأدفع بخصوصية هذه العاطفة الايمانية الى سطح الاحداث فأرى ، وترون معي ، طبيعة التقارب او التباين ، بين حياة الناس ، وخاصة من يتوفرون على ثقافة عالية ، وهم الذين يجد رمضان في اعماقهم فلسفته الخاصة في الحب والتعلق وصياغة العاطفة . . فما الذي يتذكره اعلام الموصل واهلها . . سؤال راح اليهم وجاءت الينا اجاباتهم لمن سألناه مباشرة او عبر هاتفنا الجوال ، وكانت اول اجابة من الاديب والاعلامي ثامر معيوف:
• لا تحتفظ الذاكرة بدفء شيء ، مثلما تحتفظ بدفء الطفولة وتحتفظ تفاصيلها المنحوتة في الاعماق . . رمضان عندي ، ما يزال ، يافعا مثل طفولتي فيه . . وقت ان كنا نصعد الى السطوح مع غروب الشمس لنسمع المدفع ونرى القناديل تتلألأ على رؤوس المنائر ، وخاصة منارة الجامع الكبير . . حيث يصرخ اطفال الموصل كلهم من على سطوح جميع البيوت : أذن . . أذن . . أذن ، وينزلون راكضين متدافعين ليحتلوا اماكنهم على موائد الافطار . . كل مائدة من تلك الموائد ، على بساطتها وتواضعها وتقشف اهلها ، كانت تبدو قطعة من الجنة تجلس حولها عائلة مسلمة قانعة راضية تحب الحلال . . . قبل ذلك كنا نلجأ الى دجلة ، ففي طفولتي او بعدها بقليل جاء رمضان في الصيف ، فاصبح العوم في النهر جزءا من الصيف الرمضاني او الرمضان الصيفي لا فرق . . من جمال رمضان انه يجدد شهيتك للاشياء ولمفردات الدنيا . احفظ في ذاكرتي الكثير وكثير مما احفظه احب ان احتفظ به لنفسي ، فالجمال ، مثل السر، يتكسر اذا اشيع .
• وجاءت الاجابة الثانية من الاستاذ الدكتور والمؤرخ ذنون الطائي ، قائلا : في اخر شهر شعبان يخرج بعض الشيوخ والرجال الى اطراف الموصل تحريا لميلاد شهر رمضان ، بعد صلاة المغرب وبخاصة في منطقة (البوسيف) فاذا ما شاهدوا الهلال قفلوا عائدين الى القاضي الشرعي في المحكمة للادلاء بشهادتهم واعلان بداية شهر رمضان ، فيكبر المؤذنون في الجوامع ويرحبوا برمضان بقولهم (مرحبا مرحبا يا رمضان يا شهر الطاعة والتراويح والغفران) وغيرها من عبارات الترحيب . وتطلق بعض العيارات من المدفع قرب الجسر القديم لاعلام الناس برؤية الهلال . وتزدحم الاسواق وتكتظ بالمتبضعين بكل المستلزمات المادية والغذائية من مفردات طعام والحاجيات المهمة للصائم، وبذلك تزدهر بعض المهن مثل : بائع الحلويات والمرطبات والعطارين واصحاب القهوة والمونة ، وترى الناس مسرورين تعلو البشاشة محياهم يتبادلون عبارات التهنئة فيما بينهم .
وفي هذا الشهر الفضيل يكثر الناس بالعبادات فتغص الجوامع والمساجد بالمصلين ومنهم التائبين ممن يعاقرون الشرب طيلة ايام السنة. فلو تتبعنا احد ايام رمضان في الموصل منذ منتصف ستينات القرن العشرين فسنلحظ مشاهد مهمة وعادات اجتماعية رائعة وصور متعددة عن كيفية التعامل مع هذا الشهر المبارك ففي الصباح يبطئ اصحاب المهن في النزول الى السوق حتى (الضحى)، فاذا كان رمضان في الصيف مثل هذه الايام فترى الناس يمضون بعض الاوقات قرب الشط يبللون جسمهم بالغطس بين الحين والاخر، ويمنع الافطار العلني في الموصل ، وغالبا ما ترى افراد الشرطة يقودون بعض الاشخاص الذين لم يلتزموا بشعائر الصوم الى المركز للمحاسبة والعقوبة . وفي النهار تجد اصحاب القهاوي (المقاهي) يهيئون المقهى او الجايخانة وينظفون كل مستلزماتها مع تحضير دلاء القهوة والنركيلة وتنظيف المقاعد والكراسي (القنبات). والموصلي يلتزم بقلة الكلام حفاظا على صومه ومصداقا لقول الرسول الكريم (صمت الصائم تسابيح) . ومع ذلك ترى من تفلت اعصابه لابسط الاشياء ويسب ويشتم ثم تتطور الخلافات بين اثنين او اكثر وتصل الى العراك واسالة الدماء من الرأس او الوجه ، وبعد ذلك يعلنون ندمهم لان الشيطان دخل بينهم او افسد صومهم .. وترى الاطفال يمارسون العابهم المتنوعة مثل لعبة الاختفاء وغيرها وقبل الافطار يصعد الاطفال الى اسطح المنازل لسماع صوت المدفع ، ثم يرفع الاذان ، ففي تلك اللحظات يعم السكون في المدينة فالكل اوى الى منزله لتناول الافطار مصداقا لقول الرسول الكريم "للصائم فرحتان الاولى عند الافطار والثانية عند لقاء ربه" ، ومائدة الافطار عامرة بما لذ وطاب من اللحوم والارز والبرغل (والكبب) وشوربة العدس و (القيسي) وشربت الزبيب واللبن .
هذا بالنسبة للعوائل الموسرة ، اما العوائل الكادحة فبعض من ذلك، غير ان الاهالي يكرمون الضعفاء باخراج الطعام على روح موتاهم فلا يوجد بيت الا وقد تنوعت سفرته بانواع الطعام ! وحتى في المساجد فالسفرة عامرة للغرباء والمساكين وعابري السبيل . وبعدها يبدأ مساء يوم رمضان، فينطلق الرجال والصبيان الى المساجد والجوامع لتأدية صلاة العشاء والتراويح وتكتظ المساجد بهم واذا ما انقضت الصلاة انطلق الرجال الى (الجايخانات) فيجلسون على شكل جماعات او زرافات كل حسب جماعته ومهنته وصنفه يتجاذبون اطراف الحديث ، او يمارسون بعض الالعاب كالنرد (الطاولي) وثم (الدومينة) بعد ذلك وهم يحتسون القهوة ثم الشاي مع تناولهم النركيلة والسكاير فترى الجايخانة قد غطيت بسحب من الدخان .. وغالبا ما يمارس مجموعة من الشباب لعبة (الفر) وهي صينية تحتوي على (11) فنجانا ويخبئ في داخل احدى الفناجين المقلوبة (المحبس) ويتقابل فريقان من المحلات المتقاربة وتكون اللعبة من (100) نقطة والخاسر يوزع اما البقلاوة او الزلابيا ونحو ذلك ، ويكون اللعب بالتعاقب بين المحلات السكنية مع الفريق الفائز ، ويستمر الجلوس في القهوة حتى وقت السحور، ويحلو للبعض ان يذهب الى الباجه جي من اجل تناول السحور قبل العودة الى البيت ، حيث تبقى تلك المحلات تقدم وجبة السحور حتى قبيل اذان الفجر.
اما الاجابة الثالثة فقد جاءت من الأديب و الكاتب المعروف الاستاذ نايف عبوش ، قائلاً :
*تستهويني ذكريات صيام رمضان في الريف ايام زمان ،لا لأنني قد عشتها في ايام الصبا ، حيث المشاهدات في هذه المرحلة من العمر، اشد تعلقا في الذاكرة من غيرها ، ولكن لان مظاهر الحياة في تلك المرحلة كانت قاسية، ودرجة الرفاهية تكاد تكون معدومة ، قياسا برفاهية ايامنا في الوقت الحاضر .ففي خمسينات القرن الماضي، بل وحتى منتصف الثمانينات منه، لم تكن الكهرباء قد وصلت بعد معظم قرى الاطراف .كما لم يكن الراديو معروفا في الخمسينات، ولا التلفزيون، ولا وسائل الاتصال الحالية .لذلك كان الناس يعتمدون في تحديد بدء شهر رمضان على رؤية الهلال، وانتشار الخبر من المدينة الى الريف بواسطة الافراد القادمين منها. ولم تكن المساجد منتشرة على حالها الراهن في القرى .وهكذا كان الناس عند الافطار يعتمدون على مؤذن القرية، الذي اعتاد ان يصعد على اعلى ربوة فيها ، ويؤذن من عليها بأعلى صوته، لكي يصل صوته الى كل انحاء القرية ما امكن ، حيث يكون الناس، والاطفال بانتظار اذانه، ليبدؤوا بالإفطار على التمر، والماء ، وشنينة اللبن. ثم يؤدون صلاة المغرب في بيوتهم، ويباشرون بعد ذلك بتناول الافطار الذي يكون عادة من حساء شوربة العدس، او جريش القمح ،او الكشك ،ثم يتناولون الثريد من اللحم ، و الطماطا، والبامية في موسمها ، كما يتناولون الشنينة واللبن من الشجوة ،ويتناولون الماء من القربة، فلم تكن الثلاجات يومها متوفرة، حيث كانت وسائل تبريد الماء ،هي قربة الماء من جلد الماعز المدبوغ، وحب الطين المفخور، والجرة. اما في السحور ، فيعتمدون على الملاّ لينادي بأعلى صوته، من فوق نفس الربوة( سحور ،سحور، سحور) لثلاث مرات ،وعند الامساك ينادي( احترام امة محمد احترام)لثلاث مرات ايضا. وكان الملاّ يعتمد في تحديد المواقيت على مواقع النجوم في السماء ،صيفا وشتاء، ويستعين بصياح ديك الفجر. وفي الأجواء الحارة عندما يحل رمضان في فصل الصيف في شهر تموز، و شهر آب اللهاب، حيث تصل درجة الحرارة ذروة معدلاتها إلى حدود 45 درجة مئوية، وربما تلامس الخمسين درجة في العراء، فهناك ذكريات مريرة حفظتها الذاكرة عن معاناة الآباء والأجداد الصائمين في تلك العقود الماضية، يوم كانت مظاهر الحياة في شهر رمضان تجري في أجواء مختلفة انذاك ،حيث إن أغلب السكان في الزمن الماضي يعملون في الزراعة، ويحرصون على صيام رمضان في ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث كان احدهم يعمل في مزرعة الأسرة ،او يحصد الزرع بالمنجل، خلال نهار قائظ، ويواجه متاعب كثيرة لدرجة تعرضه لحالة الاغماء بسبب العطش، والإجهاد، خصوصا في موسم الحصاد، ومع ذلك يأبى الا ان يستمر في صيامه الى الليل ،حيث البعض منهم يضطر إلى تبريد جسده بالاضطجاع بجوار القربة ،أو يلجأ الى ان يرش الماء من القربة على ملابسه ،او يستعمل المهفة ، وهي مروحة يدوية مصنوعة من الخوص، ولها مقبض خشبي مصنوع من جريد النخل. هكذا كان الصوم يجري في تلك الايام الماضية، وبتلك المعاناة القاسية ،التي كان الناس فيها اشد اصرارا ،وحرصا، على اداء عبادة فريضة الصوم ،رغم كل تلك المصاعب، ابتغاء للأجر، ونشدانا للمغفرة، وطلبا لرضوان الله تعالى. فاللهم تقبل صيامهم، وقيامهم، واحسن لهم الجزاء، انك سميع الدعاء.
و أخيراً أتتني الاجابة الرابعة من الدكتور جراح العظام الحاج فريد جميل رشان ، قائلاً :
• من الامور التي لابد من ذكرها الرجوع الى الوراء حينما لم تكن مكبرات الصوت والاضوية موجودة . . كنا ننظر من على سطوح دورنا الى الجوامع المعروفة ومنها جامع النبي جرجيس ، وقبل موعد اذان المغرب بدقائق كنت ارى الاطفال في شتى بيوت الموصل على السطوح، يتطلعون بأبصارهم الى المنائر ليروا بأم اعينهم الاعلام الخضراء وهي ترفرف فوق المنائر ايذانا بدخول وقت المغرب، فاذا ما رأوا تلك الاعلام اخذوا ينادون بأصواتهم الجميلة . . افطروا . . افطروا يا صائمين . . يا لها من ذكريات تشدنا نحو هذه المعالم التي كان عليها اباؤنا واجدادنا . . وبعد الفطور يتهيأ المؤمنون الصائمون لأداء صلاة العشاء ومن ثم صلاة التراويح بأعداد كبيرة جدا ، يتخلل هذه الصلوات من التسبيحات والتكبيرات والتهليلات وكأنها اناشيد اسلامية ايمانية تريح النفس والضمير. . ويعود الدكتور الحاج فريد رشان الى المعاني النبيلة لشهر رمضان، فيستدرك قائلا : شهر رمضان المبارك شهر الايمان ، شهر الاسلام ، شهر الجهاد ، شهر المواساة ، شهر يزداد فيه رزق المؤمن، الشهر الذي فيه من الاحداث والوقائع الكثيرة مثل بدر الكبرى ونزول القرآن الكريم وسواها من الاحداث الجسام التي طرزت تاريخ الاسلام في هذا الشهر الذي هو افضل الشهور على الاطلاق وفيه ليلة هي افضل الليالي حيث انزل الله تعالى دستور الامة وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بهذه وتلك يمتاز هذا الشهر المبارك عن غيره فكان له الاثر في نفوس المؤمنين فأعطوه حقه ومستحقه وكانوا لا يزالون يستقبلونه بقلوب مفعمة بالأيمان. وخلال هذا الشهر الفضيل يعيد بعض المحسنين النظر في ممتلكاتهم، حيث يفضل البعض اخراج زكاته في رمضان مواساة للفقراء والمعوزين والاخر يعد وجبة كاملة من طعامه ومائدته التي يفطر عليها للفقراء من ابناء الحي كي لا يشعر الفقير بما يعانيه من فقر وحاجة وعوز كما اعتاد البعض الاخر ان يذهب بأولاده او النشء من اولاده الى الجوامع والمساجد وهم يتجولون في الشوارع وقد رفعوا بأيديهم شتى المأكولات ليقدموها مائدة افطار في الجوامع وفيها التمر واللبن وشوربة العدس وهذه هي وجبات الفطور المفضلة قبل الوجبة الرئيسية ، اضافة الى كل الاطعمة المعروفة بها هذه المدنية، الكبة الموصلية الشهيرة والدولمة والقيسي والتمن وكبة حلب التي تتكون من الرز وقد حشيت هذه الكبة باللوز والكشمش واللحم والبعض منهم يفرد هذه الكبة بالتمر فقط .. وهناك نوع من الكبة تسمى كبة الحامض التي تقدم مع مرق مزج بمادة السماق والسلق و الشلغم والقرع الشمالي الاحمر، اضافة الى المشويات بأنواعها والحلويات والمعجنات و الطرشي والمخللات ..