صبحي صبري
و نحن نتجول في أزقة الموصل العتيقة، أو نقف مبهورين أمام المحاريب والأزقة والباحات في الجوامع و المساجد والكنائس، يلفت انتباهنا و يشدنا هذا الجهد الحضاري الفني، الذي أخترق التاريخ و الزمن، و ظل شاخصاً و باهراً ... بفضل لمسات الخزافين والنقاشين وفناني الزخرفة العربية الإسلامية و الخطاطين ، الذي حفروا ابداعهم على المرمر ، مانحين الحياة بكل ثقلها مدخلين اليه حيوية أوراق الاشجار و الأعناب و الرؤوس و المقابض و كبرياء الصقور و الاطلالة المآذن والقباب وانتصاب الأعمدة الهائلة، كان هؤلاء المبدعون يستجلبون الطبيعة الحية و ينطقون بها المرمر الخام ، فيبعثون الحرارة في برودته حتى أننا و نحن واقفون أمام هذه العمارة الخالدة تنتابتنا رغبة ان نمد ايدينا الى هذا المرمر الحي ، الذي لا يحتاج إلا إلى لمسة حانية لينطق ... إنه عبارة عن جمال و صلابة معاً .. أبداع فناني الموصل من معماريين و بنائين في إنجازه ليضفي الجمال و المناخ العذب و يريح الابدان و النفوس .. ومن هذه المدينة التاريخية ، مدينة الموصل ، بوصفها أحدى مدن العالم التاريخية و التراثية القديمة ، أنطلق فن الزخرفة بمعية فن زميلاتها مدن العالم القديم ، ليصل إلى أفاق بعيدة في الشرق والغرب، فاصبح الخط العربي والزخرفة الإسلامية علامة شاخصة في العالم .. ومن شواخص الزخرفة الإسلامية تلك الاثار الناطقة في اسبانيا و التي تم انجازها منذ وصول الخليفة عبدالرحمن الداخل اليها و تأسيس الدولة الأموية في الأندلس ، حيث زرع في ارجاء غرناطة واشبيلية وقرطبة وسرقسطة والمدن الاسبانية العديدة من القصور والبيوت والجوامع و الشواخص المعمارية المطرزة بمنجزات الزخرفة الإسلامية الفذة ، التي ما تزال تبهر الزوار بعظمة البناء و رحابته و دقته و اتقانه و حجم الجهد و الصبر و الفن الموضوع فيه مما يدلل على رسوخ جذور هذا الفن في عقول عبدالرحمن الداخل والخلفاء اللاحقين له واهتمامهم الشديد بترسيخه و تأصيله على تلك الارض الجديدة للإسلام، و يجد زوار الاثار التاريخية و الحضارية في بقاع العالم اللمسات الواضحة بالزخرفة الإسلامية و تلاحقها مع زخارف العالم الاخرى و الابداعات المختلفة للدول و الشعوب مما أنتج اشكالاً تحبس الأنفاس لجمال روعتها و دقتها و قدرتها على لفت الانظار و كسب الاعجاب، هذه الاثار الرائعة كانت بيوتاً للسكن و أماكن للعبادة و مناطق للرائحة ، تتصل اليوم مع عطاء فناني الزخرفة العربية الإسلامية في المدن العربية التراثية و منها مدينة الموصل ، حيث يواصل فنانو الزخارف و البناء المعماري الأصيل مهنة ابائهم و اجدادهم في تقديم فنٍ عريقٍ ، تشهد له و به البيوت التراثية العريقة في الموصل مثل بيت التوتونجي و بيت النجدي و دار امامة و سواها من البيوت التي يزيد عمر بعضها على اكثر من قرنين و فيها أنظمة بناء خاصة تقوم على الأواوين و القناطر و الغرف و الباحات المقببة و الاقواس و انظمة التهوية التي تسمح للهواء بالدوران و الشمس بإنارة البيت اضافة الى الاقواس المرمرية المزخرفة و البارزة لإطلالتها على اوان البيوت . أضف الى ذلك ايضاً الزخرفة الدقيقة على الابواب الخشبية القوية ذات المقابض الناطقة و القبضات الحية بجمالها و اشكالها التي تستخدم للطرق على الابواب عند الزيارات و قدوم الضيوف ، والتي تشكل مع المسامير الكبيرة لوحة فنية على خشب الابواب، تكتمل بنظام زخرفة النوافذ و الروازين و العلّيات، هذه هي اول الصفات التي تلفت من يزور و يتجول في الأزقة و (العوجات) القديمة لمدينة الموصل .. فما أحوجنا إلى الاهتمام بهذا التراث الحضاري الفني الذي يقاوم الزمن و يحتاج الى معونتنا لنزيل عنه التراب و نرتق الشروخ و التكسرات و نمنع تساقط قطعة فنية نادرة .. أنه يدعونا إليه دوماً .