صبحي صبري
الشتاء في الموصل فصل حائر بين ربيعين، يشتد فيه البرد إلى أقصى مدياته، فالمدينة هي جزء من المنطقة الشمالية للعراق تمثل بداية نهوض الطبيعة وبداية المنطقة الجبلية.. يحس الوافد إليها من جنوبها أن الطريق يصعد به تدريجيا حتى تفاجئه المدينة وهي نائمة في حضن منطقة متموجة تطل عليها الجبال وبالذات (جبل مقلوب) الذي يحتضنها من الشرق.
في الشتاء تنخفض درجات الحرارة إلى تحت الصفر ويهب هواء متجمد على المدينة من شمالها وتسقط أمطار غزيرة متصلة.. في ماضي المدينة القريب وتحديدا قبل عدة عقود كان الشتاء يأتي مبكرا وكان له طعم أشد وضوحا مما هو عليه اليوم.. كنا آنذاك تلاميذ في الابتدائية تتفاجأ أجسادنا الغضة التي لا تزال محتفظة بدفء السرير بالهواء القارس الذي يصدم آذاننا المكشوفة وأكفنا التي تمسك بالكتب والدفاتر فيجمدها، فتصلّ علينا صليل آلام الأسنان.. نسير على ارض تجمدت سواقيها المغطاة بطبقة من الجليد الشفاف الذي يتكسر ويطقطق تحت أقدامنا الصغيرة.. وفي المدارس نلتم على بعضنا حتى الفرصة الثالثة التي يكون الجو عندها قد أصبح دافئا بعض الشيء فنخرج إلى الساحات ونتدفأ بلهونا وجرينا البريء.
لم يكن أهالينا قد عرفوا بعد الثلاجات والمجمدات وكانت أمهاتنا يحتفظن بالطعام واللحوم والخضروات بطرق تعلمنها من الحياة في الشتاءات الموصلية من خلال التمليح والكبس في (البراني) وهي الآنية الفخارية التي تسد سدا شبه محكم.
في ليالي الشتاء لم نكن نملك مدافئ نفطية أو غازية أو كهربائية، كان لدينا (مناقل) من الحديد أو مدافئ مفخورة (دفايات) وهي تشبه التنور الطيني إلا أنها صغيرة، تشعل النار في بطنها حتى يتحول الخشب أو الفحم إلى جمر نتدفأ به وأحيانا ندحسها تحت اللحاف.
ونستمع إلى صوت المطر الذي يشتد وتزار معه ريح قوية تضرب الأبواب والنوافذ والجدران وتثير فينا الفزع.. كانت الطريقة المثلى لمقاومة البرد هي الملابس حيث يتدثر المرء بكل ما لديه من ملابس شتوية وعادة ما تظهر هذه الملابس من بطون الصرر أو الدواليب المهلهلة مع قدوم الشتاء، فلنا في كل بيت صرر أو صناديق لملابس الشتاء وأخرى لملابس كل فصل لاحق.
وفي الأكل والشرب وفي اللقاءات وفي أي تفصيل للحياة، فالمطبخ الموصلي يتحول في الشتاء إلى الأكلات التي تعطي سعرات حرارية اعلى مثل اكلة (البرمة التي هي مزيج من الحبية و حبات العوين الاحمر و العدس غير المقشر و الحمص مع قطع من لحم الغنم او البقر) و (الباجة) و (التشريب) و (شوربة العدس) و(يبرغ المفلش مع كبة الحامض) و(التمن و القيسي) و(كبة البرغل) و (عروق التنور) و (عروق الطاوة ـ الشفتايات) و سواها..و تتحول رغباتنا نحن التلاميذ إلى (المستوى) وهو الشوندر والشلغم، وإلى الباقلاء والحمص وأنواع الحلويات التي تمنحنا طاقة حرارية كالبقلاوة و المعسلي وزنود الست و الزلابية و اللقم و السجقات و حلاوة الطحينية و حلاوة السكر ..
اليوم .. انخفضت درجات الحرارة في الموصل و كما هو معلن من قبل الانواء الجوية الى أن درجة الحرارة في الموصل هي الان تحت الصفر مما اضطر ديوان محافظ نينوى ان يصدر تعليماته بغلق مدارس الابتدائية و رياض الاطفال ليومي الاحد 15/12 والاثنين 16/12 /2013 خوفاً على فلذات اكبادنا من موجة البرد التي ضربت الموصل و باقي مدن العراق الاخرى .