(مقديشو .. درة القرن الأفريقي)
معد الجبوري
بَحَّارٌ هَرِمٌ،
منذُ عصورٍ يرحلُ،
وهو يُفَتِّشُ عَنْ لُؤلؤةٍ
تتخلَّقُ في أرضٍ واعِدةٍ موعودَهْ..
قالَ: خذوا الحِكْمَةَ عَنِّي
إنَّ الإبحارَ،
هوَ اللؤلؤَةُ المفقودَهْ..
بكلمات هذا النص الشعري افتتحتُ نصوص قصيدتي الطويلة (مكابدات أفريقية) وأنا في أعماق القرن الأفريقي على الساحل الغربي للمحيط الهندي، منذ سنوات بعيدة.. هناك كانت لي أيام حافلة بالمدهش والمُفاجِئ والغريب، فهل يستيقظ في صدري هذه الأيام طائرُ الغابات والبحر المحيط، فيفرد جناحيه وهو ينفض ما تراكم على نوافذ الذاكرة من غبار الزمان؟
*
في كانون الثاني من عام 1976 حَلَّقَتْ بوفد المدرسين العراقيين إلى الصومال طائرةٌ عراقية، وكنتُ أحد أعضاء الوفد، ومعي زوجتي وأطفالي الثلاثة آنذاك: (هديل وحارث ورائد).. وفي مطار (أبو ظبي) توقفنا ليلة كاملة بانتظار الطائرة التي ستقلنا إلى (مقديشو) فاعتبرنا توقفنا فرصة يتعرف خلالها أعضاء الوفد (وهم من جميع المحافظات) على بعضهم، وتتعرف زوجاتنا على بعضهن.
وما أن نزلنا ضحى اليوم الثاني في مطار (مقديشو) حتى تلقانا عند سلم الطائرة عدد من المدراء العامين في وزارة التربية بالصومال، وبعض موظفي السفارة العراقية.. وكانت النسائم التي تهب علينا منعشة تنبئ بمناخ معتدل. ومنذ الدقائق الأولى طالعتنا شوارع العاصمة النظيفة وأرصفتها العريضة المزدانة بصفوف من الأشجار صُبِغَتْ سيقانها باللون الأبيض، والصوماليون رجالا ونساء يروحون ويجيئون بهدوء.. وفي دار ضيافة واسعة استضافنا الصوماليون أكثر من أسبوع وكانوا كرماء طيبين معنا. وخلال أيام التقى بنا سفير العراق في الصومال، ثم صدرت أوامر توزيعنا على المدارس الصومالية، فنسبتُ إلى ثانوية ذات طراز إيطالي تبعد قليلا عن مركز المدينة، ثم استأجرتُ شقة في مركز المدينة لم ترق لي فيما بعد، فانتقلتُ بعد أكثر من شهر بالاتفاق مع الصديق المدرس ناجي التكريتي إلى بيتين متجاورين يحيط بهما سور واحد وتمتد أمامهما داخل السور أرض حديقة كبيرة فيها بعض الأشجار، ويطلان على البحر مقابل السفارة الفرنسية، ثم استقدمتُ خادمة صومالية اسمها (زينب) لا تعرف من العربية إلا مفردات قليلة، لكنها كانت نشطة مخلصة، تأتي في الفجر ولا تغادر إلا في المساء، وأحيانا تبيت مع الأسرة إذا تأخرتُ ليلا.
ومنذ أيامي الأولى في مقديشو تعرفت على أبرز وأهم شوارع المدينة ومعالمها ، ونزلت إلى البحر مرات ومرات، إذ كان لأشقائنا المدرسين المصريين (كابينة)على البحر، فكنا نرتادها ونلتقي بهم، كما تلتقي زوجاتنا بزوجاتهم في جلسات أحاديث شتى.
وفي اختلاطنا بالصوماليين الذين ابدوا محبة خاصة للعراقيين علمنا أن شعب الصومال كله مسلم ولم تفلح أي دعوة تبشيرية سابقة بتغيير دين أحد من أبناء ذلك البلد، وأن الصومالي يدرك أن بلده مجزأ إلى خمسة أجزاء هي: الصومال الإيطالي وهو جمهورية الصومال الديمقراطية التي أقمنا في عاصمتها، وتضم أيضا الصومال الإنكليزي وهو المنطقة الشمالية وأشهر مدنها (هرجيسا) أما الأجزاء الثلاثة الأخرى المحتلة، فهي: (أنفدي) وتسمى الصومال الكيني، و(أوغادين) وتسمى الصومال الأثيوبي، و(جيبوتي) وهي الصومال الفرنسي... ورأينا أن معظم الناس في العاصمة يتكلمون العربية إلى جانب اللغة الصومالية التي تضم عشرات المفردات العربية، وأن عناوين واجهات الدوائر والمحلات التجارية تُكتب بالعربية والصومالية التي كانوا قد ابتكروا لها حرفا لاتينيا وقاموا بحملة كبيرة لتدريسه. وعرفنا أن بعض الصوماليين من أصول يمنية وأن عددا كبيرا من اليمنيين مقيمون في الصومال.
ثم تعرفتُ على أبرز أحياء مقديشو مثل (حَمَرْوين والمدينة وكاران ووابري وشنغاني وهوذن) ويعد حَمَرْوين من أقدم ألأحياء، فـ (حَمَر) بفتح الحاء والميم وسكون الراء، هو اسم مقديشو تاريخيا.. وتعرفت على أسواقها وأبرزها (علكاب) وهو سوق لبيع اللحوم والخضراوات، والفواكه: (الموز والباباي والبمبيلمو والعنبو والليم).. وهناك سوق لبيع السمك، وسوق لبيع حليب الإبل.. وكان سعر كيلو اللحم (الأحمر والأبيض) لا يتجاوز النصف دولار آنذاك.
وفي تلك الأيام، أيام نظام (سياد بري) كان شعار الدولة، يجمع بين (الانتماء الصومالي الأفريقي، والاتجاه العروبي الإسلامي، والتوجه الماركسي الاشتراكي) وكان النظام على علاقة وطيدة بالاتحاد السوفيتي، رغم أن الشعب الصومالي كان يؤلف النكات عن تلك العلاقة، فمن طرائفهم أن سيارة أحد الروس احتاجت إلى (دفعة) لكي تسير، فطلب من الصوماليين مساعدته، فتجمعوا وراء السيارة لكنهم تنحنحوا وأيديهم عليها دون دفعها، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا له: إن الاتحاد السوفيتي يدفع الصومال هكذا.. أما علاقة الصومال بالبلدان العربية فقد كانت تتفاوت حسب ما يقدمه كل بلد من معونات مادية. ذلك أن النظام آنذاك كان مهتما إلى أبعد الحدود بالوضع الاقتصادي والمالي، ومما يروى من طرائف في ذلك الوقت تتعلق بالوضع المالي أن الرئيس سياد بري كان في لقاء مع القادة السوفيت، وحين سُئل عن الوضع الاقتصادي للصومال طلب من وزير ماليته الذي كان معه، وهو رجل أعرج، أن ينهض ويمشي قليلا أمام من سألوه، ثم قال لهم: هذا هو وضعنا الاقتصادي.. وكنت قد رأيت الوزير المذكور وهو يتمشى قرب (فندق جوبا) أكثر من مرة.
رغم ذلك فقد كان الوضع في الصومال مستقرا آمنا.. ومع أن البلد يتمتع بثروة حيوانية وسمكية وزراعية هائلة، وبما يصدره منها إلى الخارج، فقد كان الشعب الصومالي يعاني من فقر وحرمان، حد أن ترى إنسانا في ركن ما يتلوى من الجوع ولا يلتفت إليه أحد، فيما تكثر تجمعات الأطفال هنا وهناك، متسولين وحمالين ومنظفي زجاج السيارات. ولعل من يعطف عليهم أشد العطف ولا يدعهم يحتاجون أكثر من قطعة قماش تستر عوراتهم، هو مناخ العاصمة، فمقديشو وهي من الموانئ المهمة تتمتع بنسيم البر والبحر ولا تزيد درجة الحرارة فيها عند أعلى درجات ارتفاعها قي شهر آذار عن30 درجة، ولا يعرف سكانها لا التبريد ولا التدفئة لاعتدال مناخها في كل الفصول. لكن ذلك كان أيضا من العوامل المساعدة على تسكع الشبان في الطرقات وتناولهم كحول القناني التي تستخدم لتنظيف الأرضيات وتعقيمها، كمشروبات مسكرة للهروب من الواقع. وانتشار ظاهرة السرقة والتسول والخداع في اقتناص لقمة العيش، بل حتى استخدام القرود التي تتجول بين البيوت والطرقات وعلى السواحل أحيانا في الاحتيال والنصب على الأجانب.
هذا، في وقت أتاح فيه النظام كل أسباب الترفيه والحرية الشخصية، ففي مقديشو كانت تنتشر المراقص والبارات في أبرز الأماكن، مثل: (نادي فندق جوبا، وساحل الليدو، ونادي فندق شبيللي، ونادي فندق العروبة الذي بني وافتتح ونحن هناك) وهي أماكن تعج بطالبي اللهو والرقص مع الصوماليات... فضلا عن (التياترو) وهو المسرح الوطني الذي يضم فرق الفنون الشعبية، وفرقة (شريرو) الموسيقية الغنائية، وغيرها من الفرق التي تعمل في الملاهي والصالات. إضافة إلى العشرات من دور السينما المولعة بعرض الأفلام الهندية.
وفي تلك الأيام كانت المرأة الصومالية تحيا كما يحلو لها بكل حرية، فيسحرك طولها الفارع وجمالها الفاتن الأخاذ الذي لا يضاهيه سوى جمال الأثيوبيات، فالمرأة الصومالية ليست زنجية فاحمة السواد بأنف أفطس وشفاه غليظة، فوجهها دقيق الملامح ولون بشرتها أقرب إلى السمرة الغامقة منه إلى السواد الفاحم، لذا فقد عملتْ بعض الفتيات الصوماليات عارضات أزياء في أوربا.. ويشدك تبختر المرأة في الأسواق والشوارع وعلى الساحل بزيها التقليدي الذي لا يعدو أن يكون قطعة قماش طويلة واحدة تلفها على جسدها وتشدها بعقدة عند أحد كتفيها، أو انه ثوب طويل فضفاض مزركش، وشعر رأسها إما مسرَّح تسريحة أفريقية أو مغطى بوشاح خفيف.. ومع أن شوارع وسواحل مقديشو لم تكن تخلو من الإيطاليات والروسيات، إلا أنهن لا يلفتن النظر إليهن كالصوماليات، وخاصة الخلاسيات منهن.
ضمن هذا الجو كتبتُ أولى قصائدي (أحكي عن الساحرة الأولى) ومطلعها:
تبدأ موسيقى العطرِ الأسوَدِ،
إذ تبدأ فاطمةُ الفارعةُ السوداءْ
يتقَلَّبُ تحتَ يدَيَّ،
يُدَمْدِمُ في رأسي،
هذا العطرُ الغامِضُ،
هذا اللوْنُ المُمْتَلِئُ الحَارْ..
وكان لي في الأيام الأولى، أن مررت مع صديقي المدرس القاص خير الدين سلطان بمبنى الإذاعة الصومالية في مقديشو (وكانوا لم يعرفوا التلفزيون بعد)، وطلبنا الدخول فرحبوا بنا. وفي القسم العربي بالإذاعة تعرفنا على مذيع يمني الأصل وعلى مذيعة صومالية أنيقة تتقن العربية، فسألنا عن فترة البث الإذاعي باللغة العربية فعلمنا أنها عشر دقائق فقط، فاقترحنا بعد مداولة معهما أن نمددها إلى نصف ساعة يوميا فتمت الموافقة على أن نرفدها بالبرامج، فنفذتُ في اليوم التالي برنامجا ثقافيا منوعا من إعدادي وتقديمي أطلقتُ عليه اسم (آفاق) ونفذ خير الدين برنامجا آخر، فيما نفذ يوسف السامرائي أحد أعضاء بعثتنا التدريسية برنامجا يعنى بشؤون التاريخ، فكانوا يبثون برامجنا ويعيدون بثها، فاستقطبت قطاعا واسعا من المستمعين.
ومن جانب آخر فقد استطاع مدرس عراقي من زملائنا هو محمد البغدادي أن يتفق مع صحيفة (نجمة أكتوبر) على إصدار صفحتين أسبوعيا باللغة العربية. وقام أعضاء البعثة بتزويده بالمواد الصحفية، فصدرت الصفحتان. ثم التحق بالوفد (طيف المدرس) موفدا عن دائرة الإذاعة والتلفزيون.. وكان العراقيون يلتقون يوميا في صالة فندق جوبا، وفي مقهى مقابل الفندق وهناك يتداولون في شؤونهم والجديد من الأخبار.
وعند التحاق الملحق الثقافي العراقي ببعثتنا في مقديشو مع وجبة ثانية من المدرسين، أبدى إعجابه بما حققناه، وزودني بهدايا للمذيع اليمني وزميلته، وطلب مني التواصل.. وحين أقيم حفل للعراقيين ألقيتُ قصيدة عمودية عنوانها (وانزاح ستر البحر) كنت قد كتبتها في الأيام الأولى من إقامتي، فانتشرت وتداولها بعض الصوماليين ونُشِرَتْ في صحف العاصمة.. وكان لهذه القصيدة فيما بعد، ولما قدمته من حلقات برنامجي الإذاعي وما نشرته في الصحف، أثر في نقلي إلى معهد إعداد المعلمين في مقديشو.. والقصيدة تبدأ بالأبيات التالية:
فرعـاءُ صوماليّةُ ، أمَرَتْ .... بِجمالِها ، أنْ يُعْشَـقَ الغسَقُ
مرَّتْ ، فضَمَّتْ كُلُّ زاويـةٍ .... بحـراً ، فكُلُّ تَلفُّـتٍ غرَقُ
وتَبَسَّـمَت، فافترَّ عنْ بَرَدٍ .... والتَمَّ ، في خَفَرٍ ، فَـمٌ نَزِقُ
ورمى سِهـامَ بريقِـهِ جسَدُ .... حتى الشـعاعُ ، عليهِ ينْزلقُ
ثم انكببت بعد مرور أشهر على كتابة الشعر ، فانبثت في ثنايا قصائدي روح الصومال والجو الأفريقي الأسوَد، وتجلت نصوصي عن صور جديدة تنطوي على الطقوس الغريبة وفضاء البحر والغابة بعد أن عشت مع إيقاعات الطبول الصومالية والنفخ في الأصداف والرقص الصومالي المزاجي، خاصة عندما تقوم نساء كل حي بتنظيف الحي ومعهن الرجال يغنون وبأيديهم الطبول والأصداف البحرية الكبيرة.
وكنت قد تعايشت مع أماكن مثل: (ساحة الدراويش).. والدراويش حركة مقاومة قادها الشيخ محمد عبد الله حسن بوجه المستعمرين أكثر من عشرين عاما (1900 – 1921م) والساحة هي ساحة الاحتفالات الكبرى، وقد شهدتُ فيها الرئيس (سياد بري) يلقي خطبه أكثر من مرة.. وتأملت مرات بتماثيل العاصمة: تمثال (دكحطور) المنفذ بشكل جميل متقن لصومالي شبه عار في حركة رمي حجارة توشك أن تنطلق من يده، والتمثال رمز لمقاومة الصوماليين للمستعرين الإيطاليين بالحجارة، وتمثال آخر هو (حاوا تاكو) يمثل امرأة قد اخترق سهم صدرها. وهو رمز لمواجهة المرأة لأعداء البلد، وتمثال بطلهم القومي محمد عبد الله حسن. فيما عشت أيام تحرر جيبوتي وما رافق ذلك من تظاهرات في مقديشو كان على رأسها رجل رأيته عدة مرات في شوارع مقديشو، هو (حسن جوليد) أول رئيس لجيبوتي بعد استقلالها. إلا أن الصوماليين حين استقلت جيبوتي لم يطالبوا بضمها إلى البلد الأم وبقيت دولة مستقلة.
ولقد عرفت أجواء الجفاف والفيضان وما يصاحب ذلك من عادات غريبة.. فلكي يدرأ الصومالي خطر الفيضان كانت تقام معركة بالعصي على ضفتَيْ نهر (شبيللي) تصاحبها رقصة طقوسية تدعى (استنكا) ولكي يظل البحر هادئا تنحر الذبائح عند الساحل وتؤدى رقصة طقوسية تدعى (استقفورو). فيما تنتشر رقصات أخرى مثل: رقصة (بيري) وتقوم على حكاية مفادها أن رجلين كانا يتابعان ذات يوم نعامة وهي تتحرك بخفة وترقص برشاقة في الحقول فأخذا يقلدانها ومن هنا كانت هذه الرقصة، ومثل: رقصة (كبيبي) وتأخذ اسمها من الطبل الخاص الذي تؤدى على إيقاعه وهي من رقصات مراسيم الزواج، وهناك (المنجيس) وهي رقصة لطرد الأرواح الشريرة يصاحبها تفوه بتعاويذ مبهمة.. وغيرها من الرقصات.
وقد سافرت مع أفراد أسرتي إلى مدينة (جوهر) ثم إلى (أفكوي) عند ساحل نهر(شبيللي) فرأيت ما رأيت من حيوانات أفريقية برية وبحرية، وسافرت إلى (عدن) فأمضيت يومين وقررت في العودة رؤية (هرجيسا) في الشمال والمبيت فيها، وعند هبوطي في مطارها من الطائرة المتوجهة إلى (جيبوتي) مع أربعة أشخاص آخرين، حولونا رغم احتجاجنا إلى طائرة صغيرة جدا لا تحتوي على أكثر من ستة مقاعد لتقلنا إلى مقديشو، وكانت تحلق على انخفاض أتاح لي رؤية العجب مما تحت الطائرة من حيوانات تتقافز وغابات كثيفة، مثلما شاهدت معالم وشوارع مدينة مقديشو من الجو بكل وضوح.
وفي مقديشو رأيت أنياب الفيلة الضخمة في أرقى الأماكن، وسمعت عشرات الحكايات الحقيقية مما يرويه الناس عن الحيوانات في (كسمايو) الواقعة على خط الاستواء: الفيل والكركدن والأسد والنمر والفهد والأفاعي العملاقة.. فيما قلَّبتُ بين يديَّ منحوتات الفن الساذج على الخشب والعاج والعظام وقطع الفضة. وجلود الغزلان والأفاعي والفهود.. وغيرها.
هذه الأجواء بمفرداتها وإيحاءاتها وما قدمته لي من رؤى ، دخلت شعري، مشبعة بخيالي الخاص وقراءتي الإنسانية ومكابدتي الشخصية اليومية هناك. فتخلقت صورا جديدة.. ومن مقديشو أرسلت إلى مجلة (آفاق عربية) قصيدتي (مكابدات أفريقية) التي تضم عددا من نصوصي الشعرية المغايرة لكل ما كان يكتبه الشعراء في العراق، فنُشِرَتْ القصيدة في المجلة على عدة صفحات مرفقة برسوم فنية ملونة. ثم نَشَرتُ بعدها قصيدة عنوانها (شبيللي) وأخرى عنوانها(موسم آخر لطائر الغابة) وقصيدة (أحكي عن الساحرة الأولى) حتى ملأت نصوص تجربتي تلك معظم صفحات مجموعتي الشعرية (وردة للسفر) التي صدرت عام 1981.
وقد سئلت مرارا عن الشعر في الصومال وعن الفنون الخاصة، فقلت وكتبت: إن الغالب هو نظم الشعر باللغة الصومالية بشكل مرتجل يتغنى الشاعر خلاله بكلماته، وقد تسنى لي أن أشهد مرات عديدة تجمعا شعبيا حول شاعر يغني قصيدته بين الناس وهم منسجمون متفاعلون معه، فالصوماليون يسمون الشاعر مغنيا والقصيدة أغنية، وقد اقترن الشعر لديهم منذ عصور بعيدة بالغناء والرقص. وللطبيعة الرعوية التي اتسم بها المجتمع الصومالي فقد حفل الشعر بعشرات القصائد المتعلقة بأغاني الإبل والماشية.. وعندما يتحدث الصوماليون عن شعراء تقليديين كبار أمثال المجاهد محمد عبد الله حسن ، الذي كان ينشد شعره بالصومالية وينظم كذلك باللغة العربية.. أو الشعراء: (علي دوح وسلام عربي وقمان) فإنهم يتحدثون عن ملاحم وطنية يتناقلونها شفاها كضرب من الغناء الشعبي لتنتشر بين الأجيال اللاحقة... والشعر باللغة الصومالية على أنواع، هي: (الجباي والجيفتو والجيرار والبرامير والهلو والهيس)
أما كتابة الشعر العربي في الصومال فلا تعدو أن تكون محاولات قاصرة عن إتقان نظم القصيدة العمودية بضبط لغتها وأوزانها وأساليبها المعروفة، ولم أتعرف في مقديشو سوى على شاعر واحد هو (عمر علسو) وكان يراجعني ويقرأ لي لأصحح له الأخطاء اللغوية والعروضية وأساعده في المشاركة ببعض مهرجانات الشعر العربي التي تقام في العراق.
أما عن الفنون فإن أرصفة ومخازن مقديشو كانت تغص بالتحف الفنية من أعمال الخشب والعاج والجلود وتتميز بتنوع أشكالها وشخوصها الخرافية، واعتماد قطعة واحدة لابتكار شكل معقد. والفنان الشعبي في مقديشو لا يهمه ذكر اسمه على القطعة ولا يفكر بإقامة معرض لأعماله.. لأن ما يهتم به فقط هو بيع ما ينتج، إلا أن المتحف القومي في العاصمة يضم مئات النماذج من أعمال النحت وهي غاية في الابداع والخصوصية.
ورغم ما أمضيته من أيام جميلة عقدتُ فيها صداقات مع الصوماليين، وكنت أمضي في العام الثاني الكثير من أوقاتي مع الأصدقاء العراقيين، خاصة: عز الدين ياسين الموصلي المقيم في بغداد، ومجيد من الناصرية، وناجي التكريتي، ومحمد الدوري، ومن الموصل : خير الدين سلطان، وجاسم جبارة، ومحمد صالح، واسماعيل جمعة خميس، ومحمد مجيد خميس، ومن بغداد: يوسف السامرائي، وطيف المدرس، وأبو هدباء، وهوبي، وهاني، وعبد الحسين، وهاشم برزنجي.. ومحمود من ديالى، وهاتو من العمارة، وغيرهم ممن لا أتذكر أسماءهم.
رغم ذلك، فقد قررت أواخر عام 1977 إنهاء عملي في الصومال، فسفَّرتُ أسرتي مع أسر زملاء آخرين إلى العراق قبل أن أغادر، وهنا لا تغيب عن بالي لحظة صعودي إلى الطائرة ودخولي إلى مقاعدها مع خادمتنا (زينب) لتوديع زوجتي وأطفالي (وكانوا يسمحون لنا بذلك)، فأجهشتْ زينب بالبكاء وانهمرت دموعها وهي تعانق أطفالي وتقبلهم بحرارة، بعد أن عاشت معهم قرابة عامين.
بعد سفر الأسرة، غادرتُ منزلنا الواقع على ساحل المحيط وودعتُ زينب بعد أن ألحقتها بعائلة عراقية أخرى، ثم استأجرت مع الصديقين الموصليين: جاسم جبارة ومحمد صالح شقة مؤثثة تطل على مرافئ السفن، في منطقة (بلشو) مع خادمة، فأمضينا أجمل ما تبقى لنا من أيام، حتى غادرتُ الصومال بطائرة إلى الكويت، فمكثت ثلاثة أيام هناك، اشتريت خلالها سيارة وعدت بها مع جاسم جبارة إلى بغداد ومنها إلى الموصل.
**
للعودة إلى الصفحة الرئيسة