عزة الميلاء
سيدةُ مَنْ غَنَّى مِن النساء في الإسلام
معد الجبوري
إنها (عزة الميلاء) مِن أجمل النساء وجها وأحسنهنَّ جسما، لقبت بالميلاء لتمايلها في مشيتها.ـ
كانت تحسن الضرب بالعود، مطبوعة على الغناء أداءً وتأليفا، وكانت تغني أغاني القِيان من القدائم مثل: سيرين وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة، وكانت الأخيرة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنَّيا أغاني بالفارسية، فنقلتْ عزة عنهما أنغاماً وألَّفتْ عليها ألحاناً عجيبة.ـ
والميلاء أول مَن فَتَنَ أهلَ المدينة بالغناء وحَرَّض نساءَهم ورجالهم عليه ، وكان مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها ما كان أحسن غناءها ومد صوتها وأندى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها.ـ
ـ* الميلاء في نظر المغنين في عصرها:ـ
كان (ابن سريج) في حداثة سنه يأتي المدينة فيسمع من عزة ويتعلم غناءها ويأخذ عنها وكان بها معجبا، فإذا سُئل مَنْ أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل مَن غنى وضرب بالمعازف والعيدان مِن الرجال والنساء.ـ
أما (ابن محرز) فكان يقيم بمكة ثلاثة أشهر ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة وكان يأخذ عنها.ـ
ويقول (طويس) عنها: هي سيدة مَن غنى مِن النساء، مع جمال بارع وخلق كريم وإسلام لا يشوبه دنس ، تأمر بالخير وهي من أهله ، وتنهى عن السوء وهي مُجانِبَةٌ له. فناهيك ما كان أنبلهـا وأنبل مجلسها ، ويضيف: كانت إذا جلستْ جلوساً عاماً فكأنَّ الطيرَ على رؤوس أهل مجلسها، مَنْ تكلم أو تحرك نقر رأسه.ـ
ويقول (معبد): دخلتُ على جميلة وعندها عزة الميلاء وقد أسَنَّتْ وهي تغني على معزفة لها، لحناً في شعر عمرو بن الإطنابة الخزرجي:ـ
ـ علِّلانِي وعَلِّلاَ صاحِبَيَّا واسقِياني مِنَ المرَّوقِ رِيَّا
ـ إنّ فينا القِيَانَ يَعْزِفْنَ بالدفِّ لفِتْيانِنا وعيشـاً رَخِيَّا
فما سمعتُ قط مثلها وذهبتْ بعقلي وفتَنتْني فقلت: هذا غناؤها وهي كبيرة مُسِنّة ، فكيف بها لو أدركتُها وهي شابة!ـ
ـ* من أخبارها مع النساء:ـ
كانت عزة الميلاء من أظرف الناس ومن أعلمهم بأمور النساء، ولها في ذلك أخبار فقد غنت بين يدي سكينة بنت الحسين من شعر عنترة العبسي:ـ
ـ حُيِّيتَ مِنْ طَلَـلٍ تقادَمَ عَهْدُهُ أقوَى وأقفرَ بعـد أمِّ الهَيْثَمِ
ـ إن كنْتِ أزْمعْتِ الفِراقَ فإنما زُمَّت رِكائبُكُـم بلَيْـلٍ مُظْلِم
فأخرجت سكينة دُملجاً مِن يدها فرمته إلى عزة وقالت: صيِّري هذا في يدِك ، ففعلت.ـ
وكانت تلتقي بعائشة بنت طلحة، ولم يكن للأخيرة شبه في زمانها حسناً ودماثةً وجمالاً وهيئة ومتانة وعفة، وقد أقدم على خطبتها العديد من الرجال بعد وفاة زوجها الأول، ومنهم مصعب بن الزبير الذي طلب من عزة الميلاء أن تلتقي بعائشة وتعود لتصف له مفاتنَها ، وحين التقت بعائشـة قالت لها: كنا في مأدبة أو مأتم لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتُكِ، فألقي ثيابك ، ففعلت فأقبلتْ وأدبرتْ فارتج كلُّ شيءٍ منها، فقالت لها: خذي ثوبَك فديتك، فقالت عائشة: قد قضيتُ حاجتَك وبقيَتْ حاجتي، قالت عزة: وما هي بنفسي أنتِ، قالت: تغنيني صوتا، فاندفعتْ تغني لجميل بن معمر العذري:ـ
ـ خَليليَّ عُوجَا بالمَحَلّـة مِن جُمْلِ وأترابِهـا بين الأُصَيْفِرِ والخبلِ
ـ نَقفْ بمَغانٍ قد محا رسمَها البِلَى تَعَاقَبُها الأيّـامُ بالريـح و الوبْلِ
فقامت عائشة فقبَّلَتْ ما بين عينيها ودعت لها بعشرةِ أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك فدفعته إلى مولاتها فحملته .. وحين عادت بما رأت إلى مصعب بن الزبير، تزوج مصعب من عائشة بنت طلحة.ـ
ـ* مع مشاهير عصرها:ـ
ذات يوم أصغى مصعب بن الزبير إلى عزة الميلاء ، وهي تغني في منزله بين يدي عائشة ونسوةٍ من قريش، في شعر امرىء القيس:ـ
ـ وثَغـْرٍ أغَرَّ شَتِيتِ النباتِ لذيـذِ المُقَبَّـلِ و المُبْتَسَـــمْ
ـ و ما ذقتُـه غيـرَ ظَنٍّ به و بالظن يقضِي عليكَ الحَكَـمْ
وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت ثم تعود إليك ففعلت. ثم خرجتْ إليه عزة فغنَّتْهُ ومَن معه مِنْ إخوان، هذا الصوت مرارا، فطرب فرحا ثم قال لها: بارك الله فيكِ يا عزة إنك لتحسنين القول والوصف.ـ
وقال صالح بن حسان الأنصاري : كانت عزة مولاة لنا عفيفة جميلة ، وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم ، وغنت يومـا عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها فلما أفاق قال له القوم لغيرك الجهل يا أبا الخطاب ، قال: إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي.ـ
وكان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء ، وفي وليمة لزيد بن ثابت الأنصاري حضر حسان بن ثابت، وقد كف بصره يومئذ وثقل سمعه، حتى إذا فرغ من الطعام، ثنيت وسادة وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة، فوُضع في حجرها مزهر فضربت به ثم تغنت فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان:ـ
ـ فلا زالَ قَبْرٌ بَيْن بُصرى وجِلَّق عليـه من الوَسْمِيّ جَوْدٌ ووَابِلُ
فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان وهو مُصغٍ لها.ـ
ودخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير، فقال: والله لقد أخفقت أذناي من الغناء فأسمعوني، فقيل له لو وجهت إلى عزة الميلاء فإنها مَنْ قد عَرَفْتَ، فقال: أي ورب الكعبة إنها لممَّنْ تزيدُ النفس طيبا والعقل شحذا، ابعثوا إليها.. وحين أقبلت غنت:ـ
ـ أجـدَّ بعَمـرةَ غُنيانـُها فتهجرَ أم شانُنـا شانُهــا
ـ وعمرةُ مِن سَرَواتِ النسـاء تنفَحُ بالمسـكِ أردانُهـا
فأُشِيرَ إليها أنها أمُّهُ، فأمسكَتْ، فقال: غَنِّي، فوالله ما ذكرتِ إلا كرماً وطيبا ولا تغني سائر اليوم غيرَه، فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أم النعمان بن بشير هي عمرة بنت رواحة أخت الشاعر عبد الله بن رواحة، والشعر الذي يرد فيه اسمها للشاعر قيس بن الخطيم.ـ
ولعزة الميلاء أخبار أخرى مع مشاهير وأعلام عصرها، فيما تذكر المصادر أن مِن تصانيف اسحق الموصلي: (أخبار عزة الميلاء) وكذلك ضمن تصانيف سليمان بن أيوب المدني.ـ
وفي ذلك ما يؤكد أن عزة الميلاء كانت علما بارزا في الغناء ، وتعد الأستاذة الأولى في مدرسة الغناء العربي.ـ
** ـ
المصادر:ـ *
ـ1 ـ الزركلي، خير الدين - الأعلام ، دار العلم للملايين ببيروت ط5 1980-1/70 ، 4/58 ، 7/40
ـ2 ـ الشوكاني، محمد بن علي بن محمد - نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، إدارة الطباعة المنيرية - 8 / 179
ـ3- الصفدي ، خليل بن أيبك - الوافي بالوفيات ، دار المستشرقين الألمان ، استنبول 1931- 1163 -2327
ـ4 ـ أبو الفرج الأصفهاني – الأغاني ، تحقيق : سمير جابر ، دار الفكر ببيروت ط2 - 1 / 183- 187 ، 16 /40 ، 17 / 49 ومن 164- 169
ـ5- ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي- تاريخ دمشق، دراسة وتحقيق: علي شيري، دار القكر للطباعة والنشر والتوزيع - 69 / 222 ، 70 / 46
ـ6- ابن النديم ، محمد بن إسحاق أبو الفرج - الفهرست، دار المعرفة ببيروت ، 1398هـ – 1978م - 202 - 21
** ـ
عودة الى الصفحة الرئيسـة