معد الجبوري
غرس تلك الشجرة في المنزل، وهو بعدُ صبي، أحد أعمامي في ثلاثينات القرن المنصرم، وتناهى إلى سمعي في صباي أنها ( فحل توت ! ) وأن شكلها المهيب أكبر من مما تطرحه من ثمر.. هكذا كانت أمي تنعتها حين تحدثني عنها وتقول عمن ترى شكله أكبر من عمله: (فحل التوت بالبستان هيبة ) لكنني، وأنا صبي في خمسينات القرن المنصرم، كنت اعتبر تلك الشجرة سيدة موصلية مثل أمي وأمهات محلتنا العتيقة في حنوها وكبريائها ودفء أحضانها.
ومع أن محلتنا كانت تضم العديد من أشجار التوت إلا أن شجرة منزل بيت جدي كانت من أبرز وأهم تلك الأشجار، وظلت لها مكانتها في الذاكرة وحضورها في العديد من قصائدي.
تلك الشجرة الباسقة المهيبة التي عشنا أجمل أيام طفولتنا وصبانا معها كانت عالما جميلا للعصافير والبلابل والفواخت، وتحط في أعاليها أحيانا طيور نادرة صغيرة وكبيرة. وكان جذعها الضخم وفروعه ملعبا لصِبْية المنزل وأقرانهم من الجيران، ولعل أبرز مَن كان يتسلقها من بيننا هو عمي ( فاضل ) الذي يكبرني بثلاثة أعوام ، ففي مفترقات جذعها كان يدنو من عش فاختة ( كوكختي ) فيربط أرجل فراخها بخيوط وعندما توشك على الطيران ينزلها من العش ليتسلى بها.
عام 1962 انتقلت أسرتي من بيت جدي، إلى منزل أقمناه على أنقاض بيت جدتي أم والدتي القريب من بيت جدي، وهناك أكملت دراستي الثانوية، ثم دخلت جامعة بغداد عام 1965 وكان والدي قد رحل، وبقيت وحيد الأسرة . لكنني لم أنقطع عن التواجد في بيت جدي والتأمل بشجرة التوت تلك.
عام 1974 وكنت حينها مُدَرِّساً، أدمى قلبي رحيل إحدى أخواتي بعد الولادة وهي في ريعان شبابها، وظلت أمي تنوح عليها بألم مبرح.
بعد ذلك الرحيل، وفي العام نفسه، كتبتُ قصيدة عدت بها إلى ما يقدح في ذاكرتي عن شجرة التوت تلك، ونشرت القصيدة في مجلة ( ألف باء ) .. وبعد أيام من نشرها قالت لي أمي: أين القصيدة التي كتبتها عن شجرة التوت، فقلت لها: من أعلمكِ بالخبر؟ وإذا بالدموع تترقرق في مآقيها وهي تؤكد لي أن بعض النسوة من الجيران زرنَها وقلنَ لها: ( يا لها من قصيدة هذه التي كتبها معد ! لقد أبكتنا ونحن نقرأها في المجلة) وتحدثن إليها عما جاء في القصيدة.
( تلك الشجرة البعيدة ) هذا هو عنوان تلك القصيدة، التي كتبتها قبل أربعين عاما وأدرجتها في مجموعتي الشعرية ( وردة للسفر ) الصادرة عام 1981 وهذه هي القصيدة:
ـ تلكَ الشجرة البعيدة ـ شَجَرُ التُّوتِ،ـ ـ غادرَ كلَّ المنازلِ،ـ ـ وحدَكِ في الحَيِّ تبقينَ غامِضَةً ـ مثلَ بيتي العتيقِ،ـ ـ النساءُ الجميلاتُ في الحَيِّ،ـ ـ غادرْنَ قبلَ العَشِيَّةِ،ـ ـ وحدَكِ تبقينَ شامِخَةً وجميلَهْ..ـ ـ شَجَرُ التوتِ صَوَّحَ،ـ ـ والسيِّداتُ النَّبيلاتُ ـ طوَّحَهُنَّ العذابُ،ـ ـ رِفاقُ الطفولةِ راحوا،ـ ـ وما زلتِ سَيِّدَةَ الأصدِقاءِ القُدامَى ـ ووَكْرَ الطفولَهْ..ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ*ـ ـ ذاكَ وجهُ الصبِيِّ الذي يَتَقافَزُ،ـ ـ بينَ السُّطوحِ القديمةِ،ـ ـ صوتُ الصبيِّ الذي يملاُ الدَّارَ،ـ ـ ضُمِّيه،ـ ـ لَغْوُ العصافيرِ،ـ ـ أفْقٌ لعينيهِ،ـ ـ والوَرَقُ المُتَطايرُ في الريحِ،ـ ـ أجنِحَةٌ لأغانيهِ،ـ ـ ضُمِّيهِ .. ضُمِّيهِ،ـ ـ ذاكَ زمانٌ نظيفٌ،ـ ـ ومُمْتَلِئٌ كالغصونِ الطريَّهْ..ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ *ـ ـ تِلكَ أختي التي وَدَّعتْ ـ وثِيابُ الزَّفافِ عليها،ـ ـ وحنَّاؤُها في يَدَيْها،ـ ـ تُزَغرِدُ بينَ البناتِ الصغيراتِ،ـ ـ ضُمِّي أساوِرَها ـ وجَدائِلَها ـ والزَّغاريد،ـ ـ ضُمِّي حكاياتِ أمّي ـ التي تتفيَّأُ من بعدِها،ـ ـ بالصلاةِ وبالذكرياتِ،ـ ـ ظِلالُكِ تمتدُّ ـ مثلَ ضفائِرِ أختي ـ ويمتدُّ فيكِ الزَّمانُ،ـ ـ وأنتِ الصبيَّهْ..ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــ*ـ ـ تِلكَ أمّي التي،ـ ـ حينَ يبتَلِعُ الليلُ وجهيَ،ـ ـ تلتفُّ مُثقَلةً بِعَباءَتِها،ـ ـ ومخاوفِها،ـ ـ وتطوفُ المَحَلّةَ،ـ ـ قولي لها:ـ ـ سيعودُ الصبيُّ المُدَلَّلُ،ـ ـ ذاكَ الذي كان يشردُ،ـ ـ إذْ تهبطُ الظلمَاتُ الثقيلَهْ..ـ ـ كانَ نهرُ الطفولةِ مُتصِلاً،ـ ـ والليالي طويلَهْ..ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ*ــ ـ آخُذُ الآنَ قلبيَ،ـ ـ مِنْ بين أعشاشِكِ المُطمَئِنَّةِ،ـ ـ مِن حَبَّةِ التوتِ،ـ ـ مِن طلْعِ كلِّ البراعمِ،ـ ـ أمسحُ عنهُ الغبارَ القديمَ،ـ ـ وأحلمُ،ـ ـ قلبيَ عنقودُكِ الأبيضُ الغَضُّ،ـ ـ ينفَرِطُ الآنَ،ـ ـ في ساحةِ البيت،ـ ـ قلبيَ فرخُ اليَمامِ،ـ ـ يَنطُّ من الغصنِ للغصنِ،ـ ـ يلهو معَ الصِّبْيَةِ المَرِحين،ـ ـ وقلبيَ تلكَ الجذورُ البعيدةُ،ـ ـ تطلعُ في كلِّ ِبيتٍ من الحيِّ،ـ ـ ...............................ـ ـ آخذُ وجهيَ،ـ ـ أمسحُ عنهُ رمادَ المسافاتِ،ـ ـ مَنْ يمسحُ اليومَ،ـ ـ شَيبي المُبَكِّرَ؟ ـ لِي نَهَرُ آخَرٌ يتواصَلُ،ـ ـ يبدأ مِنْ حُلمِ ذاكَ الصبيِّ المُدَللِ،ـ ـ يبدأ منكِ،ـ ـ ومن صبرِ أمّي ـ التي لم تزلْ بعْدُ،ـ ـ شامِخَةً،ـ ـ وجميلَهْ..ـ الصفحة الرئيسة |