( لقطتان من المشهد الدامي )
معد الجبوري
***
وحين فكرت بإجابة موجزة تنطوي على ما يستدعيه مثل هذا العنوان من تفاصيل شتى، لم أجد أبلغ وأشد إيجازا من أن أقول: ( لقد كنت في العراق ).
أجل فالأمر لم يكن ليختلف ما دمت في العراق، سيان في أي بقعة منه بدلا من البقعة التي أنا عليها، ذلك أن طائرات العدوان كانت تملأ سماء العراق كله، فقد آثر من أرسلوها أن تكون مثلهم تماما عمياء حمقاء لا تميز بين بشر وحجر وموقع دبابات وروضة أطفال.
لقد دمر ذلك العدوان حتى معامل الحليب والسكَّر والطحين والمنازل والمدارس وسواها، بكل أنواع الأسلحة المحرمة وغير المجربة، وبقصف صاروخي وجوي لم تشهد له البشرية مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية.
آنذاك شهدتُ بعينيَّ ما يعتصر القلب أسى ويملؤه غضبا.. فقد كان المشهد داميا. وهاتان لقطتان مما يكتظ في الذاكرة من عشرات الصور التي ضمها ذلك المشهد:
* الحي العتيق: قصيدة لم أكتبها
كان بإمكاني أن أقدر موقع إحدى الضربات العنيفة وأنا أنظر من مبنى المجمع الإذاعي والتلفزيوني الكائن في مدخل أول شارع في الساحل الأيسر على الجهة اليسرى من جسر الحرية بمدينة الموصل ، حين ارتجت الأرض وتصاعد الدخان والتراب من موقع في الجانب الأيمن للجسر العتيق.
كان الوقت ضحَى يومٍ من الأيام الأولى للعدوان عام 1991.. وبحدس من تسكنه مدينته شممت رائحة ملاعب الصِّبا القديمة وانتشرت حولي أنفاس الأزقة والبيوت وصور الطفولة .. بعد دقائق كان معي في السيارة أحد مصوري الدائرة مع كاميرا تلفزيونية، وكنا هناك.
ماذا أرى! أحقا أن مبنى تلك المدرسة العريقة، مدرسة الطاهرة الابتدائية، وكل ما حولها من بيوت موصلية قديمة ودكاكين وأزقة في ذلك الحي العتيق، أصبح هدفا (استراتيجيا) لأكثر من ثلاثين دولة تقودها أميركا؟!.. وبين روائح البارود الأميركي الزنخ وما يتصاعد من عبق المرمر الموصلي، كانت الكاميرا تدور وعشرات الصور تدور في الذاكرة .. كانت جثث الأطفال في خفقاتها الأخيرة بين الأنقاض، وصيحات (الله أكبر) تتعالى بين أبناء المنطقة الذين تجمعوا هناك لإخلاء الجثث وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من (طيور الجنة) بين ما تذرفه العيون من دموع وما تطلقه الأفواه من صيحات غضب ولعنات.. وكنت مشدودا إلى تلك الصيحات التي تملأ الجسد قشعريرة ورهبة، وأنا أتحسس ما يترقرق بين مقلتيَّ من دموع. مصرا في الوقت نفسه على ألا تفلت منا لقطة نادرة قد تضطرنا تلك المشاعر لتجاوزها.. ومع أن صافرة الإنذار لم تكن قد أعلنت عن انتهاء الغارة، إلا أن ذلك الحي العتيق كان قد اكتظ بأبنائه عند موقع الضربة وهم يتصايحون أمام الكاميرا.
يا لهول ذلك اليوم! لقد أبصرت فيه الأطفال الرضَّع يطبقون أعينهم على حلم بعيد وأجسادهم ما تزال دافئة طرية وخيوط الدم فوق وجوههم وأجسادهم الغضَّة وكان التراب والدم يخضب تلك الضفائر الطويلة وهي تتدلى بين الأيدي.. ضفائر صبيات موصليات كانت سقوف البيوت والصفوف قد أطبقت عليهن، فتناثرت الأجساد كما تناثرت السبورات والرحلات وأثاث المنازل وأسرارها وأحلامها الجميلة.
يومها تذكرت قصيدتي (قوس لبلاط الشهداء) التي كتبتها بعد تعرض تلك المدرسة للصواريخ المعادية عام 1987 دون أن أعايش تلك الحالة ميدانيا، كما عشتها هنا في الحي العتيق، بين أحشاء البيوت المبعثرة وركام مدرسة الطاهرة .. لقد ظل التلفزيون فيما بعد يعرض لسنوات عدة، لقطةً مؤثرة من ذلك الجو لرجل ينتشل طفلة من تحت الأنقاض وقد تدلى رأسها بين ذراعيه وهو يعدو وقد أجهش ببكاء مر.. وعلي الآن أن أعترف بأن ما رأيته وعشته لم يجد له كلمة بمستواه، وبقي أكبر من قصيدة لم أكتبها.
* رحلة تحت القصف
ما أن دخلت بيجي، مع زملاء لي بسيارة الدائرة، بعد ضرب مصافي النفط فيها، حتى هالني ما رأيت.. كان الدخان الأسود الثقيل يتدفق باتجاه السماء ويسد الأفق مشكلا نفقا هائلا من العتمة، مما اضطرنا، ونحن في وضح النهار أن نشغِّل مصابيح السيارة محاولين أن نبعد عن أنفسنا الشعور بالاختناق والضيق.
خلال تلك الرحلة كنت أحث الخطى لرؤية (الحارث) ولدي العسكري الذي كنت لم أره ولم تره والدته التي قلقت عليه إلى أقصى حد، منذ خمسين يوما وكنت علمت أنه في موضع قرب الحبانية، ولكي أصل هناك كان عليَّ أن أواصل رحلتي العجيبة التي رأيت خلالها بعينيَّ هاتين كيف يًكشِّرُ الشر عن أنيابه، ويترك في كل مكان صورة لوجه النظام الأميركي القبيح.
المنشآت التي مررت بها، كلها كانت مدمرة، وكانت أنقاض المساجد والمعامل والمدارس والبيوت على جوانب الطريق هي الشواهد الحية على مدى الهمجية والحقد.
في الفلوجة عبرنا جسرا ما، فالجسر الآخر كان قد تعرض لضربة جوية، وبعد أن عثرت على ولدي في موقع رحَّب فيه الآمر بي فقد كان لحسن الحظ يعرفني كشاعر، عدت به مجازا بضعة أيام، وفي سوق الفلوجة توقفنا قليلا ، وجلبت له علبة سجائر فقد كان لا يدخن أمامي، ففتحتها وناولته سيجارة منها، وحين غادرنا المدينة علمنا أن الجسر الذي اجتزناه قد تعرض لأبشع الضربات الوحشية وأن الجسر الحديدي كان قد استُهدف أيضا.
بعد مسافة قصيرة افترشنا الأرض عند ظل شجيرة وناولنا حارث بنطلونا مدنيا وقميصا ليرتديهما فقد قال لنا أن بنطلونه العسكري يمكن أن ينتصب وحده واقفا لأنه قد تيبس مما تراكم من عرق جسده عليه، وحين انتبه إلى أننا ننظر إليه بدهشة وهو يتناول الطعام بنهم شديد، قال لنا: لا تستغربوا فإن كل ما كان وزعوه علينا من أرزاق هو الطحين الذي نعجنه ولا نجرؤ على إيقاد النار، فنلصقه على أي عمود حديدي ساخن لكي ينضج فنتناوله، وأحيانا نتسلل خلسة إلى أقرب قرية ليأخذ كل منا حفنة من التمر يزدردها مع ذلك الخبز العجيب.
طيلة الطريق في عودتنا للموصل كانت الغارات مستمرة، وحين داهمَنا الليل فوجئنا بضربات كثيفة موجهة لمنطقة (القيارة) وكنا قريبين منها، فترجلنا من السيارة بعد أن أطفأنا مصابيحها وابتعدنا عنها.
في منزلنا بعد أن رأى ولدي ما رأى في الطريق، وفي منطقة سكننا متمعنا بالسواقي قرب مداخل البيوت وماء أسود داكن يجري فيها، قال لي: صدقني أنني أشعر الآن أن الموقع العسكري الذي كنت فيه لا يختلف عن أي بقعة مررنا بها في الطريق، بل انه أكثر أمانا من موقع منزلنا هذا.
قلت: إنهم يستهدفون الأمان العراقي حقا، ويضعون كل ما أبدعه العراقيون في قائمة الخراب والدمار التي أعدوها في دهاليز الهيمنة والكراهية.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة