في أحد أحياء الجانب الأيسر من الموصل ( محلة النبي يونس عليه السلام ) كان يقطن فتى يافع لم يتعد عامه الثاني عشر. بدأ شغفه بالأدب والشعر بتشجيع من أستاذ اللغة العربية ( المرحوم الأستاذ أمين يحيى الكاتب)، الذي لم يلقنه الأدب العربي فقط بل علمه طريق الوقوف والحديث أمام الجمهور عندما كلفه بحفظ قصيدة وإلقائها أما التجمع الصباحي للمدرسة ( مدرسة نينوى الابتدائية ) .
بعدها بدأ قراءة المجلات والكتب الأدبية والقصص بنهم شديد، وعندما انتقل إلى المرحلة المتوسطة انتسب إلى لجنة اللغة العربية والإرشاد الديني، وساهم بنشاطاتها. وفي المرحلة الثانوية وجد المجال أوسع بتشجيع مدرس اللغة العربية ورئيس لجنتها ورئيس تحرير مجلتها (مجلة الإلهام ) الشاعر الكبير ( الأستاذ شاذل طاقه).
تشجع الفتى وأمسك القلم ليكتب لأول مرة . . ماذا يكتب . . لتكن قصة معاناة ابن الجيران أحمد الذي اعتقلته سلطات نوري السعيد لاشتراكه في مظاهرة ضد الحكومة . فكانت البداية قصة قصيرة بعنوان ( إلى السجن ) .
ولم يكن يقدر للقصة أن ترى النور لولا إضافة جملة ( صورة من العهد العثماني ) في الزاوية العليا اليمنى من القصة أضافها الأستاذ شاذل طاقه، والكل يعلم أنها لم تكن كذلك بل هي صورة من عهد نوري السعيد. ومع ذلك لم يعترض الفتى وفرح عندما وجد اسمه لأول مرة بين كتاب المجلة .
وفي السنة نفسها اشترك في مسابقة القصة القصيرة التي أجرتها ( مجلة النبراس ) التي كانت تصدر عن متوسطة الشرقية، وكان الفائز الثاني عن قصته ( الحائرون ) .
وفي السنة التالية أشترك في مسابقة الخطابة السنوية، فكان الفائز الأول عن الإعدادية الشرقية إلا أن الحض لم يحالفه في المسابقة العامة للمحافظة، وكان الدكتور أحمد الحسو (مرشح الإعدادية المركزية) هو الفائز الأول ممثلاً عن المحافظة ليكون بعدها الفائز الأول في العراق لتلك السنة .
شعر الفتى بعد هذه النكسة بخيبة أمل لا حدود لها وشعر أن أحلامه في أن يخوض بحر الحياة الأدبية قد اصطدمت بصخرة الواقع . . فبدل مسار حياته وجهة علمية صرفة ، وبعد إنهائه الدراسة الثانوية ركب قطار طوروس المتجه صوب كلية طب إسطنبول .
البداية الثانية:
في خضم الدراسة المضنية خلال 6 سنوات في كلية الطب لم يكن في الوقت والفكر متسع للأدب أو التاريخ على الرغم من وجود رغبة كامنة في النفس حولهما .
مضت السنين وأصبح الفتى سنة 1961 شاباً طبياً . . وبعد أداء خدمة الاحتياط العسكرية وسنة الإقامة . . استقر طبياً يعالج الأطفال صباحاً في المستشفى ومساءً في العيادة الخاصة . . وعلى الرغم من انشغاله الدائم كان يشعر بحنين لقراءة الأدب والتاريخ فيقتنص الفرص لإشباع تلك الرغبة. وكان لا يألو جهداً في حضور المؤتمرات الطبية سواءً في الموصل أو في بغداد .
وخلال المؤتمر السنوي للجمعية الطبية العراقية سنة 1969 الذي كان حاضراً فيه ، قدم ثلاث من كبار أساتذة الكلية الطبية في بغداد المرحومون ( الدكتور كمال السامرائي ، الدكتور علي كمال ، الدكتور داؤد سلمان علي ) أبحاثاً تبين مساهمات الأطباء العرب والمسلمين في فروع الطب المختلف .
كانت تلك الأبحاث بالنسبة له مفاجأة وزلزالاً أيقض في نفس الطبيب الحدث ما طمرته سني الدراسة فكانت نقطة تحول في حياته، حيث كانت ثقافته حينها متواضعة و مُنْصَبّة على قراءة الكتب الطبية. بعد ذلك عاد متلهفاً ليقرأ ويبحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي.
وكلما مضت الأيام ازداد تعلقاً وشوقاً لاكتشاف المزيد من هذا الكنز الدفين والتراث الثر الخالد، وبعد أن قطع شوطاً لا بأس به فكر أن يكتب.
وأمسك القلم الذي رماه قبل عقدين من الزمان، فكتب بحثاُ بعنوان ( تاريخ طب الأطفال عند العرب والمسلمين ) وألقاه في المؤتمر الطبي للجمعية الطبية العراقية بغداد سنة 1970 . فكان ذلك إيذاناً لبداية جديدة لباحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي .
وحاز البحث استحسانا من الجميع ، خاصة الدكتورة لمعان أمين زكي رئيسة جمعية أطباء الأطفال العراقية حينها ، فقد كانت أستاذة بحق تقدر الموهبة الوليدة حق قدرها . . وأخذت البحث ونشرته في العدد الأول من مجلة طب الأطفال العراقية وطالبته بالمزيد من المقالات للأعداد اللاحقة .
توالت المقالات بعضها في مجلة طب الأطفال وبعضها في مجلة الجامعة ( جامعة الموصل ) . وبعد أن تجمع منها كم لا بأس به اقترح عليه المرحوم الأستاذ سعيد الديوجي طبعها في كتاب ، وألح عليه الأستاذ الدكتور عبد الله الجبوري على طبعها أيضاً ، وكتب الجبوري للكتاب مقدمة جميلة وأشرف على طبع الكتاب في بغداد جزاه الله خيراً .
فصدر الكتاب الأول سنة1974 بعنوان (( الموجز لما أضافه العرب في الطب والعلوم المتعلقة به )) . وتبعه الثاني بعنوان (( تاريخ طب الأطفال عند العرب)) سنة 1978 .
وبعد مضي 44 سنة على المقال الأول الذي كتبه أصبحت الحصيلة اليوم : 37 كتاباً مطبوعاً و8 كتب غير مطبوعة. وعدد المؤتمرات والندوات التي اشترك فيها وألقى فيها أبحاثاً :157 . وعدد الأبحاث والمقالات المنشورة باللغة العربية والإنكليزية في تاريخ الطب والعلوم :185 . وعدد المقالات الطبية المنشورة في الصحف والمجلات العامة :160 . وعدد الأبحاث الطبية الحديثة المنشورة باللغة الإنكليزية : 10
ومع كل ما ذكر فإنه لا زال يشعر بأنه في بداية طريق طويل يلهث لكي لا يتأخر عن الركب ، وكلما أنتهي من كتاب أو مقالة عاد يبحث لنفسه عن جديد ، ليثبت بأن للطب العربي الإسلامي في سير الحضارة الطبية العالمية إشعاعاً وتألقاً وأصالة وشموخاً غمطه وجحده الأعداء وتاه وغفل عنه أصحابه .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة