الـدكتـور مـحـمود الحاج قاسم محمد
طبيب أطفال - الموصل
حياة ابن رشد في سطور (1)ـ
ولد ونشأ أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد ( الحفيد ) في قرطبة سنة ( 520 هـ / 1126 م) كان أبوه وجده من أئمة المالكية ومارس القضاء في قرطبة. وهو يحمل نفس اسم ولقب جده . تلقى العلم والفقه على أبيه وعلماء آخرين. ودرس الفلسفة على يد ابن باجة.ـ
ودرس علم الطب على أبي مروان بن جُرّيول البلنسي وأبي جعفر الترجالي ، وقيل أنه شهد ابن زهر واستمع إلى دروسه .تنقل ابن رشد بين إشبيلية ومراكش التي كانت عاصمة الغرب الإسلامي تحت حكم الدولة الموحدية. وفي عام 567 هـ / 1171 م ولي قضاء قرطبة وفي عام 578 هـ / 1182 م صدر إليه الأمر بالذهاب إلى مراكش ليخلف ابن طفيل في رئاسة أطباء البلاط حيث حضي برعاية الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وفي ولاية أبي يوسف يعقوب المنصور ( 580 – 595 هـ / 1184 – 1198 م ) نعم ابن رشد بالرعاية ردحاً من الزمن، وفي عام 592 هـ / 1195 م أصابته نكبة عظيمة بتدبير بعض الحاقدين، فنفي إلى بلدة اليسانة قريباً من قرطبة، وأتلفت كتبه الفلسفية، وبعد مرور ثلاث سنوات أدرك الخليفة أنه كان مخطئاً في حق ابن رشد فخلى سبيله وأمره بالعودة إلى مراكش لاستئناف نشاطه، غير أنه لم يعش طويلاً حيث أدركته الوفاة عام 595 هـ / 1198 م فدفن أولاً في مراكش ثم نقل إلى قرطبة حيث دفن في مقبرة أسلافه.ـ
ممارسة ابن رشد لمهنة الطب:ــ
يعترف ابن رشد بدون تردد أنه تنقصه التجربة المكتسبة من مزاولة الطب. يقول بصراحة نادرة المثال: وهذا الجزء من الطب ( = المزاولة لمهنة الطب ) هو الذي أرى أنه يعوقني عن الكمال في هذه الصناعة . وذلك أني لم أزاولها كبير مزاولة اللهم إلاّ في نفسي أو في أقرباء لنا وأصدقاء.ـكتاب شفاء الأمراض ، الفصل40 . *2ـ
مـؤلفـاتـه الطبـيـة:ــ
لقد خلط ابن أبي أصيبعة بين مؤلفات ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد فنسب إلى هذا كتباً في فروع الفقه هي في الحقيقة من تأليف جده أما مؤلفات ابن رشد الحفيد *3 ، في مجال الطب فهي تربو على العشرين وهي تتفاوت بين كتاب ضخم إلى رسالة أو مقالة مختصرة ، ندرج فيما يلي بعضاً منها:ــ
ـ1 . شرح كتاب الإسطقسات لجالينوس
ـ2 . كتاب الحميات . ويوجد شرح له في الإسكوريال برقم (879 ) وهو لجالينوس
ـ3 . مراجعات ومباحثات بين أبي بكر بن طفيل وابن رشد في رسمه للدواء
ـ4 . جملة من الأدوية المفردة . توجد نسخة منه في الفاتيكان برقم ( 357 )ـ
ـ5 . شفاء السقام ومبرئ الآلام . منه نسخة في المكتبة التيمورية برقم ( 109 )ـ
ـ6 . شرح أرجوزة ابن سينا ، قال عنه ابن زهر الأوسط : (( إن شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب ، وهي المعروفة أيضاً بالألفية كان أفضل من كتاب القانون في الطب لأبن سينا)).ـ
وقد ترجم الشرح إلى اللاتينية، فأصبح من أبرز المراجع في أوربا خلال العصور الوسطى، بل وخلال العصور الحديثة التي سجلت هذا التفوق في إقامة تمثال للفيلسوف الكبير ابن رشد في كلية الطب بـ مونبليه.ـ
ـ7 . كتاب الكليات : إن هذا الكتاب باتفاق مؤرخي الطب يعتبر أهم مؤلفات ابن رشد في الطب ، فقد جاء حاوياً لنظرياته التي خالف فيها السابقين كما وضم أفكار متميزة في الطب ، نوجز فيما يلي البعض منها.ـ
أولاً – تناوله للطـب بأسـلـوب علمـي:ــ
يؤكد الكثير من الباحثين بأن كتاب ( الكليات ) في الطب هذا واحد من أوائل الكتب التي تناولت علم الطب بأسلوب علمي خاضع للبحث والاستقراء والمناقشة ، فقد جاء كتابه تلخيصاً وافياً ومركزاً لما هو معروف في ممارسة الطب في زمانه ، ولم يكن عمله نقلاً حرفياً عن الآخرين ، بل حاول أن يبرز دوره كطبيب مجتهد و (( قام فيلسوفنا في هذا الكتاب – كما سنرى – بـ نقد الأسس التي كان يقوم عليها الطب في زمانه تفكيراً وممارسة . ولعل هذا هو ما جعل هذا الكتاب يفرض حضوره في الجامعات الأوربية إلى حدود القرن التاسع عشر))، *4ـ
ثانياً – صناعة الطب هـي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة:ـ
يعرف ابن رشد الطب تعريفاً لم نعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب
يقول : (( إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة ، يلتمس بها حفظ صحة بدن الإنسان وإبطال المرض ، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الأبدان...)).ـ
ويشرح ابن رشد مكونات ( الصناعة الفاعلة ) أو العلم التطبيقي، فيقول: ((ولما كانت الصنائع الفاعلة ، بما هي صنائع فاعلة ، تشتمل على ثلاثة أشياء : أحدها معرفة موضوعاتها والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات ، والثالث معرفة الآلات التي بها تحصل تلك الغايات في تلك الموضوعات)) انتهى قول ابن رشد.ـ
وهذا يعني : (( أن الطب في نظر ابن رشد صناعة فاعلة ، أي علم تطبيقي … وهذا العلم التطبيقي قوامه ( أقاويل كلية ) هي ( أصول الصناعة ) ، و ( أقاويل جزئية ) تخص علاج مرض مرض في عضو عضو . ومن هنا قد لا نخطئ إذا قلنا بعبارة عصرنا : صناعة الطب ( أو فن الطب ) قسمان : قسم هو علم يدرس ، كما هو الشأن الدروس العامة التي يتلقاها الطالب في كلية الطب. وقسم هو تطبيق لتلك الدروس أثناء فترة التدريب في المستشفيات والملاحظات السريرية)).ـ
وهذا يعني أن التصور الذي شيده ابن رشد عن علم الطب هو أقرب ما يكون من تصورنا الحديث لهذا العلم، *5ـ
ثالثاً – مكانة ابن رشـد الطبيب في أوربا من خلال كتابه الكليات:ــ
لقد كان لأبن رشد الطبيب تأثير بين في تطور الطب من الجانب النظري وذلك أنه - من جهة – مهد السبيل لفهم نظريات الإغريق في الطب ، بتلخيصاته النقدية لمؤلفات جالينوس وغيره، هذه التلخيصات التي ترجمت إلى اللاتينية والعبرية ، ومن جهة أخرى ألقى ابن رشد نظرة فاحصة على أقاويل الإغريق في كثير من المسائل الطبية وأبدى فيها رأياً مخالفاً أو رسم لبعضها منهجاً جديداً كما هو الشأن في الكليات، *6ـ.ــ
إن ابن رشد قد أعلن في مقدمة كتابه أنه سيتحرى فيه الأقاويل المطابقة للحق وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة (صناعة الطب). وأهل الصناعة الذي يخالفهم في هذا الكتاب ليس ابن سينا فهو يتجاوزه ولا يذكره إلاّ نادراً وفي أمور جانبية . إن الذي سيخالف ابن رشد ويدخل معه في نقاش من أول الكتاب إلى آخره هو جالينوس بالذات ، لقد اعتبر ابن رشد جالينوس الشخص الوحيد الجدير بأن يعتمد وأن يناقش في آن واحد. وواضح أن مناقشة فيلسوف قرطبة لجالينوس ومخالفته في مسائل أساسية من مذهبه الطبي معناه خلخلة وزعزعة البديل الذي لجأ إليه معارضو ابن سينا في أوربا والعمل على تجاوزه.ـ
ومن هنا لابد أن ينظر إليه على أنه أفسد جميع الأطباء فالشيء الذي يعني أنه زعزع الفكر الطبي الأوربي وفي القرون الوسطى ودفعه في اتجاه الثورة على التقليد ، اتجاه فتح باب الاجتهاد فيه. وذلك إلى درجة جعلت البعض يربط بين ابن رشد واكتشاف هارفي للدورة الدموية الكبرى، أما الصغرى فشرف اكتشافها يعود لأبن النفيس، *7.ـ
رابعاً – نماذج مـن مخالفـاتـه لجالينوس:ــ
إن الموضوعات الطبية التي يخالف فيها صاحب الكليات ما قرره جالينوس كثيرة لا يتسع المجال للتعرض لها جميعاً ، ولذلك سنقتصر هنا على المسائل التي اتخذت فيها المخالفة طابعاً خاصاً ، وهي تلك التي أثار ابن رشد حولها نقاشاً عميقاً:ــ
أ – أيهما أهـم : دم الشرايين ؟ أم دم الأوردة ؟ وبشكل مختصر (( جالينوس يرى أن ثمة مصدران للدم الذي في الجسم ، دم الأوردة مصدره الكبد الذي هو عنده معدن الروح الطبيعي وهو الغذاء القريب(المباشر) للأعضاء ، تحمله إليها الأوردة ، فأعضاء الجسم تتغذى من دم الكبد . أما دم الشرايين فمصدره القلب . وهو يحمل إلى أعضاء الجسم ( الروح الغريزي ) . وهو الروح الحيواني الذي به يكون الإحساس وبه يميز الحيوان عن النبات . أما ابن رشد الذي يتبنى وجهة نظر أرسطو فهو يرى أن الأعضاء تتغذى بالدمين معاً ، وأن الدم الآتي من الكبد نيء ، بينما الآتي من القلب ناضج وبالتالي فهو الذي يكون منه جوهر الغذاء وحقيقته))، *8.ــ
ب – لـمـن الرئاسـة في التغذية للقلب أم للكـبـد : إن النظرية الطبية القديمة التي شيدها جالينوس كانت تنص على أن الكبد هي التي تغير الغذاء حتى يصير دماً ، ثم توزعه على جميع أعضاء البدن فهي من هذه الناحية الرئيسة على جميع آلات الغذاء من المعدة والأمعاء … الخ ، ومن هنا ارتأى جالينوس أن لها الرئاسة العامة على جميع القوى الغاذية في البدن بما في ذلك القلب .أما ابن رشد فيعترض على ذلك ويقول أن الكبد رئيسة فعلاً على آلات الغذاء ، كالمعدة والأمعاء والطحال .. الخ ، ولكن ليس لها الرئاسة العامة بل هي للقلب
وهنا (( لابد أن نسجل أن إلحاح ابن رشد على أن الرئاسة العامة هي للقلب ، وليست للكبد كما يقول بذلك جالينوس ، معناه أن المحرك الأول للدم في البدن هو القلب))، *9.ــ
ج – هل التنفس أمر إرادي أم طبيعي ؟ وهذه مسألة أخرى – لها بدورها علاقة مباشرة بالدورة الدموية – اعترض فيها ابن رشد على جالينوس والأطباء .وباختصار : جالينوس يقول أن التنفس فعل إرادي ، وبالتالي مصدره الإرادة والأمور الإرادية راجعة للدماغ والعصب والعضل .أما ابن رشد فيرى أن التنفس فعل يصدر منا بالطبع شأنه شأن النبض ، بدليل أن حركة الرئة بالتنفس مواكبة لحركة النبض وكأنهما حركة واحدة ، إن لم تكونا كذلك بالفعل
د – أقواله في جهـاز الدورة الدموية :إن ابن رشد يرفض رأي جالينوس من أساسه ، ويرتب على ذلك نظرياته في جهاز الدورة الدموية معتمداً على العلم الطبيعي وعلى التشريح والحس
(( فقد عرف هذا الفيلسوف الأندلسي ، قبل هارفي بقرن ، وظيفة الصمامات الكائنة في القلب والأوعية الدموية ، كما أعلن قبله بطلان نظريات جالينوس في تولد الدم من الكبد ، ولاحظ أن الشرايين هي التي تغذي الجسم بالدم النقي ، وأن ما يجري في الأوراد فهو – دم غير نضج – وأن مطية الروح الحيوانية تسري في الأوعية مع الدم مؤكداً أنه لاشيء في أعضاء البدن غير قوة التغذي وقوة الحس ، بل أنه أعلن أن تقسيم القوى في الإنسان إلى طبيعية وحيوانية ونفسانية هو تقسيم غير صحيح
(( فهذه نقاط التقاء رئيسية بين الفيلسوف الطبيب القرطبي والعالم الإنجليزي تضاف إلى نقاط التقائهما في تشريح جهاز الدورة الدموية فضلاً عن ملاحظات ابن النفيس واستنتاجاته العلمية في هذا الصدد ، ومن المستبعد أن يكون هذا الالتقاء قد حدث بمحض المصادفة ، وذلك أن التاريخ كالعلم نفسه، حلقات متماسكة وأطوار متتابعة، ولسنا نشك بعد هذا في أن ابن رشد هو الرائد الذي مهد السبيل لاكتشاف الدورة الجهازية (الدموية) الكبرى ، وأن ابن النفيس هو مكتشف الدورة الرئوية))، *10.ـ
الــمــصــادر:ــ
ـ1- اقرأ عنه : ابن أبي أصيبعة ، موفق الدين أبي العباس أحمد : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، الخطابي ، محمد العربي : الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية ، حمارنة ، الدكتور سامي خلف: تاريخ تراث العلوم الطبية عند العرب والمسلمين ، قمير ، يوحنا : سلسلة فلاسفة العرب ، ابن رشد
ـ2 - ابن رشد ، أبو الوليد محمد بن أحمد : الكليات في الطب ، دراسة الجابري ، الدكتور محمد عابد : مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الأولى ، بيروت 1999 ، ص
ـ3 - السامرائي ، ، عبد الجبار محمود : براعة ابن رشد الفيلسوف في ميدان الطب ( مقال ) ، مجلة الدواء العربي العدد 2 / 1999 ص 129 .ـ
ـ4- ابن رشد : الكليات ، ص 11 – 13 .ـ
ـ5- المصدر نفسه ، ص 40 – 41 ، 42 ، 47 .ـ
ـ6 - الخطابي : الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية ، ج 1 ، ص 329 .ـ
ـ7- ابن رشد : الكليات ( مصدر سابق ) ص 51 – 53 .ـ
ـ8 - المصدر نفسه ، ص 62 .ـ
ـ9 - المصدر نفسه ، ص 64 ، 65 .ـ
ـ10 - الخطابي : ( مصدر سابق ) ص 346 .ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة