رعاية الطفل و تربيته عند الزهراوي
الدكتور محمود الحاج قاسم
طبيب أطفال – الموصل
قبل البدء هناك حقيقتان لا بد من ذكرها ،الحقيقة الأولى : أنه قد كتب أغلب الباحثين عن مساهمات أبو القاسم خلف ابن العباس الزهراوي (325 هـ/ 936 م - 404هـ/ 1013م ) في حقل الجراحة والتي جاءت في المقالة الثلاثين من كتابه التصريف لمن عجز عن التأليف ، ولم تنل المقالات ( 1 – 29 ) ما تستحقه من البحث والدراسة على الرغم من احتوائها على أفكارجديدة جديرة بالدراسة ، في مقالنا هذا تناولنا المقالة الثانية من كتابه التصريف والتي تحدث فيها عن رعاية الطفل وتربيته .
الحقيقة الثانية : يقول الأستاذ العربي الخطابي (( تجدر الإشارة إلى ما لاحظناه من تشابه في المعنى واللفظ بين الفصل الذي كتبه الزهراوي حول تدبير الصبيان وبعض فصول كتاب أبي جعفر ابن الجزار القيرواني في كتابه " سياسة الصبيان وتدبيرهم " الذي استند فيه مؤلفه إلى مصادر سابقة ، فهل أخذ الطبيبان من مصدر قديم واحد أم أن الزهراوي نقل مباشرة من ابن الجزار [1]، لا سيما وأن الزهراوي كان قد اطلع على بعض مؤلفات هذا الطبيب القيرواني وذكرها باسمها ولكنه لم يذكر من بينها كتاب سياسة الصبيان .
وتبقى مسألة أخرى ينبغي الإشارة إليها وهي أن الزهراوي لم يعرف ابن سينا " 428هـ /1037م " ولم يطلع على كتابه القانون ، فهو توفي قبل ابن سينا بنحو أربع وعشرين سنة ، وكان الشيخ الرئيس في ريعان شبابه مشرفاً على الثلاثين من عمره ، هذا ويؤكد ابن أبي أصيبعة أن كتاب القانون لأبن سينا لم يدخل إلى الأندلس إلا في زمان الطبيب أبي العلاء بن زهر " 525هـ/1134م " الذي كان أول من اقتنى نسخة منه من تاجر بغدادي ، إلا أن الكتاب لم يرقه فأطرحه [2] .
أما أبو بكر الرازي " ت 313ـ / 925م " ، فقد كان معروفاً في الأندلس وكانت كتبه ، أو جلها ، متداولة بين أطبائها منذ النصف الثاني من القرن الرابع )) [3]
بعد هذا نقول يمكن إدراج ما كتبه الزهراوي عن رعاية الطفل وتربية بما يلي :
1 – خلق الجنين : خصص الزهراوي فصلاً في المقالة الثانية من كتابه التصريف حول الرحم وهيئته وتشريحه ووظائفه ، وما يترتب عليه في الصحة والمرض من حيث موقعه بين المثانة والأمعاء والمستقيم . وفيه يصف كيف أن الرحم يتمدد ويتسع أو أنه ينضم أو ينكمش أو يتقلص حسب الحاجة ، ولا سيما التمدد الكبير قبيل الولادة ، ثم يصف كيف أن للرحم بطنين ينتهيان إلى فم واحد ، وزائدتين هما قرنا الرحم .
(( وإنه لجدير بالذكر مما هو في غاية الأهمية في تاريخ الطب وعلم الأجنة ، وصف الزهراوي في هذه المقالة ، ألا وهو إشارته بوجود ما يعتبر بإفراز وانغرسا البيضة في الرحم ، وكيف أن البيضة عند التلقيح والحمل fertilization and gestation تنصب إلى تجويف الرحم فرقبته ثم إلى الفرج ، من غير تفصيل حول ذكر أهمية البيضة الملقحة عند الحبلى ، والأنبوبين الاثنين التي تمر منهما بيضتا المرأة لأجل اقتبال الرحم ، والذي بحثه لم يعرف في العصر الوسيط وحتى عصر البعث الأوربي .
يعلق الدكتور سامي حمارنة على ذلك بقوله (( لانعرف إلى أي مقدار كان الزهراوي يدرك أهمية اشتراك المرأة في إفراز البيضة ومشاركة ذلك مع الرجل في المني لحصول الحمل واقتبال الجنين ، ولكن يبدو أن المؤلف قد عالج الأمر بأكثر واقعية عما كانت الآراء قبيل زمنه ، لا سيما عند الإغريق . . وفي العصر العربي وحتى البعث الأوربي )) [4].
على أن المؤلف يقتبس ما ذكره الطبيب اليوناني جالينوس "130 – 201م" من أن الجنين يتكون من المنيين ، كما أنه ينمو ويزيد بسبب دم الطمث ويكمل خلقه ، أولاً الذكر ثم بعد زمنياً إن كان الحبل بأنثى ، وفي الجنين تتصل العروق ( شرايين وأوردة ) التي تأتي من أعلى الجسم إلى الرحم فتغذيه إلى أن يتم نموه ويكمل في البطن ، فإذا كمل يكتفي بما يجيئه منها ، فيتحرك حركات عظيمة وقوية حتى أن رباطات الرحم تنتهك ، وبذلك تتم الولادة الطبيعية بانزلاق وخروج الجنين من ظلمة الرحم إلى نور الحياة .
2 – العناية بالطفل حديث الولادة : ثم أن الزهراوي يعدد بعد ذلك أمراض الرحم التي تصل إلى 46 مرضاً . ثم يذكر أسباب عسر الولادة. وأما الشكل الطبيعي للولادة فيكون بخروج الجنين على رأسه مسبولاً خروجاً مستوياً سهلاً وبسرعة ، وأما سائر الأشكال فتعتبر غير طبيعية .
وحين يخرج الجنين ينبغي أن تقطع سرته أولاً على بعد أربعة أصابع منه ، ثم يربط بخيط صوف مفتول فتلاً أو ربطاً وثيقاً ، ويوضع عليه خرقة قد غمست بزيت .
ومنهم من يحرق بالنار موضع القطع فلا يحتاج إلى ربط ، ثم يملح بملح وحده ، أو يضاف إليه ساذجاً " malabathrum " أو قسطاً " "costusأو سماقاً " sumac " وحلبة وزعتراً fenugreek and thyme" " بشكل مسحوق ناعم جيد للجسد كله ، ما عدا الأنف والفم والعينين حتى ينحل وسخه . ثم يغسل بالماء الفاتر وتعصر أذناه برفق ويفتح دبره بالخنصر ليخرج ما فيه خارجاً ، ويقطر في عينيه شيْ من الزيت ويحتنك بالعسل ، وتده القابلة بلفائف رطبة تحفظه عن البرد ، وإذا وقعت سرته بعد ثلاثة أو أربعة أيام فيذر عليها رماد الودع المحرق أو رماد عرقوب عجل أو قشور بيض مكلسة .
وينبغي للقابلة أن تتعهد بأعضائه وأطرافه بأن تضم ما وجب ضمه ، وتوسع ما وجب أم يكون عريضاً ، وتمدد سائر الأعضاء إلى الجهات كلها ، وتسوي رأسه إن كان شكله على غير ما ينبغي وكذا أنفه ، ثم تتعهد الجسد بالدلك ، ثم تنومه في بيت معتدل الدفء ، نقي الهواء خال من سراج قوي الضوء أو كثير الشعاع ، ولا تدخله الماء الحار الفاتر لتحميمه إلا قبل الرضاعة ، ولا ترضعه عقب خروجه مباشرة لئلا تعرض له تخمة ، ويرضع بمقدار لا يتممد بموجبه بطنه ويقيئه . فإنه إن أخذ من اللبن فوق ما يتحمله هضمه ، ولد في بطنه رياح كثيرة ويعتريه فتور وكسل وتعب وبكاء وقيْ ، فإن عرضت له هذه الأحوال والأعراض ، فليمنع من الرضاع حتى تجف معدته ويزداد في تنويمه ، ويرضع مقداراً أقل من العادة فيرد إلى عاداته.
ويرضع الطفل في اليوم مرتين أو ثلاثاً ولا يزاد عليه إلا أن تستمريه معدته ، فإن كثرة الرضاع في هذا الوقت غير نافع ، ويحمم الطفل بالماء الحار الفاتر العذب المعتدل في أيام الأسبوع ثلاث مرات ، في بيت معتدل الدفء مظلم قليلاً ، وبعد التحميم يدهن بالأذهان الرطبة ثم يوضع على فراش مستو ورأسه أرفع من بدنه قليلاً .
فإن بكى الطفل بكاءً دائماً ، فينبغي أن يحمل ويمشى به ويدار في المنزل برفق .وأفضل مكان يوضع فيه الطفل لحركته وتنويمه هو أن يوضع في " مرجوحه " أو محفة قد علقت في أعلى البيت بإحكام ، ثم بعدها يحرك فيها جائياً وسائراً ( ذهاباً وإياباً ) فإنه يتلذذ به ويستكين ،فيهدأ عن البكاء ويقبل إلى النوم سريعاً .
وقد ينفع الطفل البكاء اليسير ولا سيما قبل الرضاعة ، لأنه يوسع معدته فتتمدد أعضاؤه وأطرافه ، ولذلك يجب عدم الانزعاج والاكتراث أو الاغتنام . وقد يشتاق الطفل إلى الحرارة ، إذا كان آذته البرودة وإلى البرودة إذا آذته الحرارة . وإجمالاً قد يضجر من كثرة الدثار والقمط واللف الذي يلقى عليه ، أو من سوء ما تحته من الفراش ، أو من أذى برغوث
( يقرصه ) أو مكان يأكله في بدنه ( يحكه ) فينبغي إذاً أن يعنى بإصلاح ذلك كله .[5]
3- تربية الطفل وتعليمه :
يقول الزهراوي (( وينبغي لوالد الصبي أن يعنى به منذ صغره ويأخذه بالأدب الحميد والسير الأفضل لتصير بذلك عادته منذ الغر ، لأن الصغير أسرع انقيادا وأسلس قبولاً للأدب ، فالعادة طبيعة ثانية كما تقول الحكماء ، فمن عود ابنه الأدب والأفعال الحميدة والمذاهب الجميلة في الصغر حاز بذلك الفضيلة ونال المحبة والكرامة وبلغ السعادة في الدنيا والآخرة ، ومن ترك فعل ذلك وخلا عن العناية به أدَى ذلك إلى عظيم النقص والخساسة ، ولعله يعرف فضيلة ذلك في وقت لا يمكنه تلافيه واستدراك ما فات منه فحصلت له الندامة التي هي ثمرة الخطأ . ))
(( فإن رأيت صبياً طبيعته جيدة وعادته صالحة ، فاعلم إنه لا تفارقه الخصال المحمودة الشريفة لأنه طبع عليها من جهتين قويتين ، كما في ذلك لا تفارقه الخصال المذمومة الدنيئة لأنه طبع عليها في جهتين قويتين : العادة والطبيعة ، فلموقع العادة هذا الموقع وجب أن يؤدب الصبي ويعود الأشياء الجميلة ويربى تربية فاضلة ليكون ان قبلت طبيعته منفعة التأديب والتفقد والتعاهد صار خيراً فاضلاً ))
ثم يقول (( فمن الصواب إذاً أن يؤدب الصبي فإن كانت طبيعته طبيعة من ليس بأديب ولا لبيب وهذا يتبين للمعترض طريق الصواب . فإن كان للصبي طبيعة جيدة مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة محباً للصدق فإن تأديبه يكون سهلاً وذلك أن المدح والذم يبلغان فيه ما تبلغه العقوبة من غيره ، فإن كان الصبي قليل الحياء مستخفاً بالكرامة قليل الأنفة محباً للكذب عسر تأديبه . ولا بد لمن كان كذلك من إرهابه وتخويفه عند الإساءة ثم يحقق ذلك بالضرب إن لم ينفع التخويف. وينبغي أن يتفقد الصبي في كلامه وقعوده بين الناس وحركته وقيامه ونومه ومطعمه ومشربه ويلزم جميع ما ألزمه العقلاء أنفسهم حتى صارت أفعاله غريزة وطبيعة ))
وأضاف الزهراوي في المقالة الثانية قائلاً في التعليم (( ويدفع الصبي إلى معلم دين فاضل لين العريكة حسن الخلق رحيماً رفيقاً يعلمه أولاً كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه السلام ، ثم النحو ولغة العرب فإذا أحكم منه ما يقيم به دينه المفروض عليه ، فإن كان ممن رضي فالتقيد في دينه ، وإلا توسط علمه طلب البرهان عليه حتى يتصوره على حقيقته ، فإذا أحكم دينه ومنهاجه دفع إلى معلم يعلمه الحساب ثم الهندسة ثم علم النجوم ثم علم اللحون ، هذه العلوم الأربعة الرياضية فإذا إرتاض فيها وجازها ، فعلم المنطق والفلسفة ، ثم ما أحب بعد ذلك من سائر العلوم كالطب وغيره .
وينبغي لمعلم الصبي إذا رآه قد مالت نفسه إلى علم من العلوم وألفته طبيعته فينبغي له أن يزيده بصيرة فيه ويعينه عليه فإنه يتمهر فيه ، وكذلك إن رأيناه ينافر علماً ما ولا ينفذ فيه بسرعة وتتنافر معه طبيعته ، فينبغي للمعلم الا يرغمه عليه ))
وفي هذا إشارة هامة رائدة فيما يتعلق بتربية الطفل نفسياً ، كما تكشفه نظريات التعليم المعاصر ، والتي ترتكز على دراسة ميول الطالب تجاه تخصص علمي أو تقني أو فني ، حتى يتسنى للمعلم مساعدة الطالب للتوجه نحو سبيل أفضل ، وفي ذلك يعد الزهراوي مربي قدير وطبيب نفسي فذ من الطراز الرفيع .
وقبل الختام لا بد من الإشارة إلى أننا لم نتناول إبداعات الزهراوي العديدة في حقل جراحة الأطفال والتي جاءت في مقالته الثلاثين ، وذلك لأننا كتبنا عن ذلك في كتابنا الزهراوي جراح العرب الأكبر وفي مقالاتنا عن مساهماته وإضافاته في حقل الجراحة .
المصادر:
[1] - المصادر التي اعتمدها إبن الجزار في تأليفه كتاب تدبير الأطفال والصبيان كانت ( كتاب السياسة لجالينوس ، مقال بولس في تدبير الأصحاء ، كتاب الصنعة الطبية لجالينوس ، كتاب الأدوية المبسوطة لجالينوس ، رسالة يحيى بن ماسويه في الجنين ) .
[2] - إبن أبي أصيبعة ، موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، دار الفكر – بيروت ، 1956 ، ج 2 : 343 .
[3] - الخطابي ، محمد العربي : الطب والأطباء في الأندلس الأسلامية ، دار الغرب الإسلامي ، الطبعة الأولى ، بيروت 1988 ، ج 2 ، ص 124 .
[4] - حمارنة ، الدكتور سامي خلف : صحة الطفل في كتاب التصريف للزهراوي ، المجلة الثقافية – الجامعة الأردنية ، العدد 20 ، كانون الثاني 1990 ، ص 96 .
[5] -لم يتيسر لنا الإطلاع على آراء الزهراوي حول الطفل في المقالة الثانية من كتاب التصريف ، وإنما إعتمدنا بذلك على ما نقله الدكتور سامي حمارنة في المصدر السابق . وفي كتابه تاريخ تراث العلوم الطبية عندالعرب والمسلمين ، جامعة اليرموك 1986 ، ص 336-339.
عودة الى الصفحة الرئيسة