الدكتور محمود الحاج قاسم
طبيب اطفال - الموصل-العراق
المصدر : موقع الفيسبوك
في كتابنا( حقوق وحرية الإنسان في الإسلام ) الذي صدر سنة 2003 ، تناولنا مسألة حرية العقيدة والعلاقة مع غير المسلمين بالتفصيل . أوجز ما جاء حول ذلك بما يلي ولمن يود التفصيل يمكنه مراجعة الكتاب :
حرية العقيدة والعلاقة مع غير المسلمين
في الوقت الذي يحث الإسلام أتباعه على الدفاع عن دينهم الحنيف والعمل على نشره بالجهاد وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك ، لم يحمل أحداً بالقوة على اعتناقه ، فقد أمر سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعدم جواز الإكراه في الدين وعندما فتح المسلمون مصر والشام وفارس والأندلس لم يفرضوا الإسلام بالقوة بل تركوا أهل الأديان الأخرى أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية معتبراً حرية الناس في عقائدهم مكفولة مقدسة في ظل الإسلام وتحت رايته ، ويمكن تلمس ذلك من خلال النصوص القرآنية ووصايا الرسول r والخلفاء وبنود المعاهدات والاتفاقات مع غير المسلمين التي سنذكرها فيما يلي :
أ – النـصـوص الـقـرآنـيـة :
جاءه عليه الصلاة والسلام صحابي من أهل المدينة يسأله أن يحمل ولديه على الإسلام بالقوة . فنزل قول الله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( آية 25 – سورة البقرة ) . أي ظهر في هذا الدين الرشد والعلاج والهدى فلا داعي للإكراه .
2 . وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم r : (( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ))
( آية 22 – سورة الغاشية ) .
3 . وبدلاً من الإكراه أمر سبحانه وتعالى أن يدعو المسلمون غير المسلمين لاعتناق الإسلام بالعقل والاستدلال والمنطق والحكمة والموعظة الحسنة فقال جل جلاله : (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين )) ( آية 125 – سورة النحل ) .
4 . وقال سبحانه أيضاً : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )) ( آية 64 – آل عمران ) .بهذه الروح من الحرية والتسامح ، دعا الإسلام إلى الإعلان عن حرية الرأي ، وإلى الأخذ بالتلطف فيه بالقول والفعل .
4 . ومن وصايا القرآن الكريم أن الدفاع في الحروب يجب أن يكون بقدر العدوان … وقد نص على هذا قوله تعالى : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) ( آية 194 – سورة البقرة) . لأن الحرب للضرورة والضرورات تقدر بقدرها .
ب – وصايـا الـرسـول r ومعـاهداتـه :
إذا كانت الحروب استثناءً في الإسلام فإنها لم تترك في هذه الحالة الاستثنائية مطلقة بل مقيدة بالوصايا والمبادئ التي أوصى بها الرسول r وخلفائه من ذلك :
1.من وصايا الرسول r للمحاربين المجاهدين : (( لا تغدروا ولا تقتلوا وليداً وستجدون رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً ولا كبيراً فانياً ولا تحرقن نخلاً ولا تقلص شجراً ولا تهدم بيتاً )) .
وهذا عهد رسول الله r لأهل نجران وقد كانوا نصارى : (( …. ولنجران وحاشيتها
جوار الله ، وذمة محمد النبي رسول الله …. على أموالهم ، وأنفسهم ، وملتهم ، وغائبهم ، وشاهدهم ، وعشيرتهم ، وبيعتهم ، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير … ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ، ولا كاهن من كهانته …. ))
ج – وصايـا ومعاهـدات الخـلـفـاء الراشدين :
1 . من وصايا الخليفة الأول أبو بكر الصديق t :
لا تخونوا أو تغدروا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً وشيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً .
2 . ومن وصايا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب t :
واستمتاع الذميين بحريتهم الدينية وضمانهم لمصالحهم العامة كان ملحوظاً في المعاهدات التي أبرمت بينهم وبين المسلمين في إبان الفتوحات الكبرى وإليك نص المعاهدة التي أمضاها عمر بن الخطاب t مع رسل ( سفرنيوس ) أسقف بيت المقدس كنموذج لموقفه مع المسيحيين ، إذ قال كما روى الطبري :
(( بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل ( إيلياء ) من الأمان .
أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم ،وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ولا من غيرها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود .
3 . ومن وصايا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب t : (( إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة من سفك الدماء بغير حقها فلا تقو سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله )).
ومن أقواله كرّم الله وجهه في أهل الذمة (( من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا )) .
وقبل أن ننهي الحديث عن حرية العقيدة ربما يقال ونحن بصدد هذه الدراسة ، إذا كان هذا موقف الإسلام من حرية العقيدة ، ففيم كانت غزوات الرسول وفتوحات الخلفاء الراشدين ، وفيم كانت الجزية وعقوبة المرتد عن الإسلام .
والرد على ذلك أنها لم تكن لتحمل الناس على اعتناق الإسلام بالقوة بدليل المصالحات والمعاهدات وعقود الأمان التي تمت بين الرسول r وخصوم الدعوة حين رغبوا في هذا وأعلنوا ترك الحرب ، وبدليل العهود التي أعطاها الخلفاء الراشدون لغير المسلمين ، وإنما كانت هذه الغزوات والفتوحات لتأمين الدعوة من أعدائها الذين يجمعون للقضاء عليها أو يتحينون الفرصة لإضعافها )).
(( أما مسألة الجزية فقد فرضها الإسلام على أهل الكتاب لا لإجبارهم على الإسلام وإنما كانت ذلك مقابل حمايتهم والدفاع عنهم وإعفائهم من التجنيد لأن المفروض أن القتال في الإسلام إنما يكون لحماية الدين كلما تعرض للاعتداء ومن غير المعقول أن يأتي غير المسلم يدافع عن دين الإسلام )) .
والمسلم كلما ازداد فهماً لدينه وإطلاعاً على تاريخ العرب وحضارتهم ازداد اعتزازاً بالإسلام
وتمسكاً به ، وتسامحاً مع الغير .
ولنا أن نسأل أنفسنا بعد ذلك فنقول : إذا كانت الأرض قد دانت للعرب والمسلمين ، وخضع لهم العالم … فلماذا لم يقض العرب على مخالفيهم ، ولم يبيدوهم بجرة قلم مثلما فعل الأسبان مع مسلمي الأندلس ، أو لماذا لم يكرهوا تلك الأقليات الصغيرة على اعتناق الإسلام على أقل تقدير
وجواباً على ذلك نقول : (( إن طبيعة الإسلام وحبه للناس كافة واحترامه للإنسانية التي جاء لإخراجها من الظلمات إلى النور ، كل أولئك جعل الإسلام يتنزه عن مثل هذه الخطايا ، ويترفع عن آثام كهذه ارتكبها أصحاب الديانات الأخرى )).
**
عودة الى الصفحة الرئيسية