الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
طبيب أطفال - الموصل
أولاً : إحساس المجتمع بالواجب عليه إتجاه الفقير المعوز والشيخ العاجز عن الكسب والمريض غير القادر على العمل واليتيم الذي فقد من يرعاه .
ثانياً : تكفل القادرين من أبناء المجتمع بسد حاجة وعوز هؤلاء جميعاً ، وتوفير ما يحتاجون من أسباب العيش الكريم وألوان الرعاية .
وموقف الإسلام من كل ذلك هو (( فرضه التكافل الاجتماعي في كل صوره وأشكاله ليكون أحد الدعائم القوية لبناء المجتمع الإسلامي .
يقول سبحانه وتعالى : (( إنما المؤمنون أخوة )) ( آية 10 – سورة الحجرات ) . ويقول :
(( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب)) ( آية 36 – سورة النساء ) .
وتروى عن النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) أحاديث كثيرة في هذا الباب منها: (( ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع )) .
ويقول : (( من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل زاد فيعد به على من لا زاد له )) .
ويقول : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشده بعضه بعضاً )) .
إن الإسلام عندما فرض التكافل الاجتماعي ليحقق العدل في المجتمع أقامه على ركنين قويين
(( الضمير الإنساني من داخل النفس ، والتشريع القانوني في محيط المجتمع ، وزاوج بين هاتين القوتين لكي يقيم مجتمعاً متوازناً متناسقاً يقوم فيه الضمير البشري حارساً على تنفيذ التشريع ، بل ساعياً إلى السمو فوق ما يوجبه التشريع والتكليف .ففي مجال التشريع والتكليف فرض الوسائل اللازمة لتمويل ما يتطلبه التكافل الاجتماعي )) [i]
وهذه الوسائل هي :
1 . الزكاة المفروضة على كل مسلم مالك للنصاب .
2 . الجزية المفروضة على أهل الذمة .
3 . الخـراج .
وفي سبيل تحقيق مبدأ رعاية الدولة لكل فرد فيها رعاية كريمة ، جعل للفقراء والمساكين ربع ما تحصله الدولة من أموال الزكاة . ليس هذا فحسب بل أن هذا النصيب إذا لم يف بحاجة الفقراء والمساكين جعل حقاً آخر على الأغنياء يستوفى منهم لحاجة هؤلاء وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله فرض على الأغنياء من أموالهم بقدر ما يسع فقراءهم )) ويقول (( إن في المال حقاً سوى الزكاة )) .
(( وذلك يعني أن الإسلام يوجب على أهل كل حي وبلد أن يعيش أهله بعضهم مع بعض في حالة تكافل وتعاون ، يحن غنيهم على فقيرهم ، ويسد شبعانهم حاجة جائعهم ، ويعطف كل جار على جار ، وفي هذا يقول (صلى الله عليه وسلم) : (( أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله )) .
ويقول ابن حزم في كتابه المحلى بالآثار : إن الله قد فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ، ويجبرهم السلطان على ذلك . وإن لم تقم الزكواة بهم … فيقام بهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة (( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل )) . وأخبر عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :(( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه )) فمن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على طعامه وكسوته فقد ظلمه وأسلمه )) – فلا جرم إذن أن يعد موت إنسان جوعاً في بلد إسلامي أقطع دليل على تقصير أهله فيما فرضه عليهم دينهم من واجب التكافل الاجتماعي، والتواصي بالبر والخير والإحسان واحترام الحياة الإنسانية ـ ولا غرابة إذن فيما يذهب إليه بعض فقهاء المسلمين من وجوب الدية على أهل البلد متضامنين إذا مات أحد أفرادها جوعاً جزاءً لهم عما أدى إليه تقصيرهم ))[2] .
ويحدث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الصحابة عن المال فيقول : (( ألا إني ما وجدت في صلاح هذا المال إلاّ بثلاث أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل … ألا وإنما أنا في مالكم هذا كوالي اليتيم : إن استغنيت استعففت … وإن افتقرت أكلت بالمعروف )) .
ويقول في توزيع الثروة : (( إني حريص على ألاّ أدع حاجة إلاّ سددتها ما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا تآسينا في عيشنا نستوي في الكفاف ))[3].
ولم يهمل الإسلام الصغير والعاجز عن العمل لشيخوخة أو مرض ، فبدأ بفرض التكامل بين
الأقارب ، فأوجب على القادرين منهم أن ينفقوا على المحتاجين . وفي حالة عدم وجود من يقوم بذلك فرض على بيت المال الإنفاق على العاجزين عن الكسب ، وهذا لاشك هو التطبيق الحقيقي لما نسميه اليوم بنظام الضمان الاجتماعي .
ولم يكن تطبيق هذا النظام حكراً على المسلمين بل أن عمر بن الخطاب توسع في تطبيقه حتى على غير المسلمين .قال الإمام أبو يوسف : وحدثني عمر بن نافع عن أبي بكر قال : مر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عمر عضده من خلفه ، وقال : من أي أهل الكتاب أنت ؟ قال : يهودي .
قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن .
فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه ما تيسر ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ، قال تعالى :
(( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )) والفقراء هم المسلمون ، والمساكين أهل الكتاب وهذا منهم )) .
(( وهناك ما سنه عمر بن الخطاب t بجعل عطاء في بيت المال لكل وليد يولد بما يفيد أن العلاوة الاجتماعية التي تعطى الآن للعاملين في حقل الدولة أصلها في الإسلام بصورة أعم وأشمل ، فقد كان عمر يعطي كل وليد ، بصرف النظر عن إن كان والده عامل في حقل الدولة أو غير عامل فيه )) .
(( ومن الصفحات المشرفة في الإسلام عن تحقيق معنى التكافل الاجتماعي بما لا يخطر على البال أن عمر بن الخطاب أمر بتخصيص مراعٍ لأغنام الفقراء ترعى فيها وحدها وأصدر أمراَ بذلك وفي هذا يقول إن هذه المراعي لا تباح لغنم الأغنياء أمثال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان )) .
(( هذا جانب من التكافل الاجتماعي الذي ابتدعه الإسلام وأقامه قبل أن تعرف الإنسانية شيئاً في هذا المجال. وهكذا نجد أن ما أعلنته الثورة الفرنسية ، وما أعلنته المنظمة الدولية من حقوق الإنسان ليس جديداً على الإنسانية وأن الإسلام سبق بقرون بإعلان هذه الحقوق والحفاظ عليها ))[4].
وقد بلغ تطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي زمن عمر بن عبد العزيز القمة بالنسبة للتطبيق الفعلي لهذا المبدأ .حيث كان موقفه من أموال الأمة تضاهي حرمة الإيمان ذاته وأعلنها صريحة مدوية لابد من تقصي الحق في جمع تلك الأموال والعدل في كيفية توزيعه .
يقول الأستاذ خالد محمد خالد [5] :(( ففيما يتعلق بالدخل … نرى الخلفاء قبله ، وقد أرهق الترف والسرف ميزانية الدولة ، راحوا يعوضون ذلك بجمع المال بوسائل غير مشروعة وضرائب غير عادلة .
فأهل الكتاب الذين يعتنقون الإسلام ، يضع عنهم الدين ضريبة الجزية فوراً … ولكن الدولة الأموية تأبى في ذلك حكم الإسلام وتبقي الضريبة فوق كواهل الذين أسلموا ، مبررة ذلك بأنهم إنما يسلمون فراراً من الضريبة .
ويجيء الخليفة العادل فيرفض هذا التبرير الزائف ، ويعلن أن فرح الإسلام بفرد واحد يدخل دائرة نوره وهداه ، خير من ملئ الأرض مالاً وذهباً .
ويطلق أمير المؤمنين كلماته المضيئة هذه (( إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً )) .
(( ولقد أرسل إليه واليه على العراق ( عدي بن أرطأة ) يقول : (( إن الناس قد دخلوا الإسلام أفواجاً ، حتى خشيت أن يقل الخراج )) . فيجيبه الخليفة المقسط العظيم
(( والله ، لوددت أن الناس كلهم يسلمون ، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا )) كذلك راح يتتبع كل الضرائب التي كان الخلفاء السابقون قد فرضوها على الناس فألغاها جميعها .
بل وحتى الضرائب المشروعة ، مثل زكاة الزروع والثمار ، كان يضعها عن الناس عندما تنزل بمحاصيلهم جوائح ، أو تتعرض لبوار.هاهو يكتب لواليه على اليمن ( عروة بن محمد ) :(( أما بعد فقد كتبت إلي تذكر أنك قدمت اليمن ، فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال … إن خصبوا ، أو أجدبوا ، …. إن حيوا ، أو ماتوا . فسبحان الله رب العالمين .. سبحان الله رب العالمين .
إذا أتاك كتابي هذا ، فدع ما تنكره من الباطل ، إلى ما تعرفه من الحق واعلم أنك إن لم ترفع إلي من جميع اليمن إلاّ حفنة من كتم ( نوع نبات ) فقد علم الله أني سأكون مسروراً ، ما دام في ذلك إبقاء على الحق والعدل )). وهنا ينقلنا الحديث من الدخل إلى التوزيع ( التطبيق العملي للتكافل الاجتماعي ) فكيف راح الحاكم القديس يوزع أموال الأمة ؟ وأين كان يضعها ؟
لقد رد المال إلى وظيفته الحقيقية إلى دوره الأصيل ومسؤوليته الأولى في خدمة الأمة وتغطية احتياجاتها: لقد بدأ فرسم حدود الكفالة الشاملة التي ستنهض بها الدولة تجاه مواطنيها فرداً فرداً … وحدد بالتالي مسؤولية بيت المال تجاه تغطية هذه الكفالة كلها ، نرى ذلك في كتابه إلى ولاته :
(( لابد لكل مسلم من : مسكن يأوي إليه ، وخادم يكفيه مهنته ، وفرس يجاهد عليه عدوه ، وأثاث في بيته ، فوفروا ذلك كله ، ومن كان غارماً فاقضوا عنه دينه )) .
والتعبير بكلمة ( مسلم ) هنا … لا تعني قصر هذه المزايا بل الحقوق على المسلمين وحدهم . إنما استعمل هذا الوصف لغلبته لا أكثر … ثم كانت هذه المزايا والحقوق من حق المواطنين جميعاً – مسلمين وأهل كتاب –
وأمر الخليفة ولاته أن يبدءوا تغطية حاجات أقطارهم . وما فاض وبقي يرسل إلى الخزانة العامة … ومن قصر دخل إقليمه عن تغطية حاجات أهله ، أمده الخليفة بما يغطي عجزه :
(( استوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم ، فإن يك كافياً للناس ، فحسناً وإلاّ فأكتب إلي حتى أبعث إليك من المال ما توفر به للناس أعطياتهم )) .
(( ومضى – عمر بن عبد العزيز – يرفع الأجور الضعيفة وكفل كل حاجات العلماء والفقهاء ليتفرغوا لعلمهم ورسالتهم دون أن ينتظروا من أيدي الناس أجراً .
وسخا على ولاته برواتب كبيرة ، حتى يتفرغوا لمهامهم ، وحتى لا تضعف نفوسهم أمام إغراء الحرام . وعلى طول الدولة وعرضها كذلك ، أمر لكل أعمى بقائد يقوده ويقضي له أموره على حساب الدولة. ولكل مريض أو مريضين بخادم ، على حساب الدولة .وأمر ولاته بإحصاء جميع الغارمين، فقضى عنهم ديونهم .وافتدى أسرى المسلمين جميعاً، وأغدق عليهم العطاء. وكفل اليتامى الذين لا عائل لهم في جميع أقطار دولته العريضة المترامية. وكما فعل جده العظيم – عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) - من قبل، فعل هو أيضاً فأمر أن يفرض لكل مولود راتبه وعطاؤه بمجرد ولادته ، وليس بعد فطامه ، حتى لا تتعجل الأمهات فطام الرضعاء فيتعثر نموهم وتضمحل قواهم .
وإننا لنكاد نذهل أمام ذلك الإجماع التاريخي الذي يحدثنا عن اختفاء الفقر والفقراء في عهد القديس الورع عمر بن عبد العزيز حتى لقد كان الأغنياء يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون فقيراً يأخذها ، ويبسط يده )).
المصادر :
[i] - أحمد، أنور : العدالة الإجتماعية في الإسلام ، دار المعارف المصرية ، سلسلة كتابك ( 20) 1977، ص 31 – 34 .
[2] - وافي ، علي عبد الواحد : حماية الإسلام للأنفس ( مقال ) مجلة البحث العلمي ( جامعة محمد الخامس – الرباط ) السنة 13 ، العدد 25 ، يونيو 1976 ، ص 33 – 40 .
[3] - خالد ، محمد خالد : خلفاء الرسول ، دار الفكر ، مطبعة أوفست منير ، بغداد 1986 ، ص 211 .
[4] - البهي ، الدكتور عبد المنعم : حقوق الإنسان ( مقال ) مجلة العربي ، العدد 136 ، مارس 1970 ، ص 20 .
[5] - خالد ، محمد خالد ( مصدر سابق ) ص 602 – 607 .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة