عند العرب والإفرنج
الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
كان صلاح الدين الأيوبي الذي حكم بين ( 570 – 589 هـ / 1171 – 1192 م ) واحداً من أكثر الحكام في زمانه اهتماماً بالعلم والعلماء وبناء المدارس والمساجد والمستشفيات حتى ليعجب الدارس لموضوع الطب والأطباء في عصره وهو يرى في المصادر الكثرة الكاثرة من الأطباء والعلماء ، ويشتد عجبه حين يبهره شغف صلاح الدين بمجالسة خواصه من العقلاء والعلماء والأطباء الذين كانوا دائماً بمعيته في الحرب والسلم على السواء ، يغدق عليهم العطايا والرواتب ، ويبدوا أنه كان للأطباء عنده مكانة خاصة حيث يروي ابن أبي أصيبعة قصصاً عن الهبات العظيمة لبعضهم والرواتب الخيالية للبعض الآخر الذين أناط بهم العمل في المستشفيات سواء المبنية سابقاً أو التي قام ببناءها .ولو أردنا سرد واستقصاء جميع الأطباء الذين عاصروا صلاح الدين لطال بنا الشوط ، لذا سوف نركز هنا على المستشفيات التي طورها أوقام بإنشائها ومقارنة ذلك بما كان عند الإفرنج .
القسم الأول : المستشفيات ( البيمارستانات ) التي بناها صلاح الدين :
يجمع المؤرخون [1] على أن أبقراط أول مؤسس للبيمارستانات وأنها أيضاً أنشأت في جنديسابور بفارس قبل الإسلام بثلاثة قرون ، وأن هذا المستشفى كان نموذجاً للبيمارستانات العربية . وأن نواة هذه البيمارستانات في الإسلام تلك الخيمة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها في غزوة الخندق والتي كانت رفيدة الأسلمية تداوي الجرحى فيها . وأن الوليد بن عبد الملك منشئ أول بيمارستان كامل ناضج في الإسلام سنة 88 هـ / 706 م . وأن هارون الرشيد أول من أنشأ بيمارستاناً في عاصمة العباسيين في بغداد . وقد أحصى الباحثون نحواً من مائة من البيمارستانات انتشرت في رحاب العالم العربي الإسلامي . ولم تقتصر هذه المستشفيات على عواصم الخلافة أو الدولة بل أقيمت في عدد من المدن الكبرى الأخرى والبلدان والقصبات .
وكان يقوم بإنشائها عادة الملوك والأمراء وذووا المال والجاه . وكان نصيب صلاح الدين من ذلك وافراً حيث أنشأ سبعة بيمارستانات هـي :
1 – بيمارستان القدس : لما فتح صلاح الدين القدس سنة 583 هـ أعاد فتح المدرسة التي كان الفرنج قد جعلوها كنيسة عندما ملكوا القدس سنة 492 هـ وأمر بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الأشبيتار بقرب حمامه مارستاناً للمرضى ووقف عليها [2]مواضع وخصص أدوية وعقاقير غزيرة وفوض القضاء والنظر في هذه الوقوف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع أبي تميم
2 – بيمارستان عـكـا : في سنة 583 هـ بعد أن فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس واستنقذه من أيدي الصليبيين ، انصرف إلى دمشق واجتاز في طريقه إلى عكا ، ولما وصل إليها نزل بقلعتها ووكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش ، ووقف دار الأشبيتار نصفين على الفقراء والفقهاء وجعل دار الأسقف مارستاناً ووقف على ذلك كله أوقافاً دارة وولى نظر ذلك لقاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب وعاد إلى دمشق مؤيداً منصوراً [3] .
3 – البيمارستان الناصري أو الصلاحي أو بيمارستان صلاح الدين في القاهرة : لما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن يوسف بن أيوب [4]الديار المصرية (سنة 567 هـ / 1171م ) واستولى على القصر قصر الفاطميين كان في القصر قاعة بناها العزيز بالله في سنة 384 هـ / 994 م فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستاناً وهو باقٍ على هيئته إلى الآن ( أي زمن القلقشندي ) .
قال القاضي الفاضل في متجددات سنة 57 هـ / 1181 م : (( أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح مارستاناً للمرضى والضعفاء فاختير مكاناً بالقصر ، وأفرد برسم من جملة الرباع الديوانية ، مشاهرة [5] مبلغها مائتا دينار وغلات جهتها الفيوم واستخدم له أطباء وكحالين وجرائحيين وشارفاً وعاملاً وخداماً ووجد الناس به رفقاً وبه نفعاً )) .
قال أبو الحسن محمد بن جبير [6]الرحالة الأندلسي عند زيارته لمدينة القاهرة ، سنة 578 هـ : 1182 م وذلك في عهد السلطان صلاح الدين :
(( ومما شاهدناه في مفاخر هذا السلطان ، المارستان الذي بمدينة القاهرة وهو قصر من القصور الرائعة ، حسناً واتساعاً أبرزه لهذه الفضيلة تأجراً واحتساباً ، وعين قيماً من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف
أنواعها ، ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكُسى .
وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكلفون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية ، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم . وبازاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى ولهن أيضاً من يتكفلهن ويتصل بالموضعين المذكورين موضع خير متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك من الحديد اتخذت مجالس للمجانين . ولهم أيضاً من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها . والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد )) .
4 – بيمارستان الإسكندرية : قال تقي الدين المقريزي [7] : (( في السابع عشر من شوال سنة 577 هـ سار السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الإسكندرية فدخلها في الخامس والعشرين من شهر شوال وشرع في قراءة الموطأ ، وأنشأ بها بيمارستاناً ودار للمغاربة ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه )) .
5 – قـاعـة النساء في البيمارستان النوري أو العتيق بحلب : (( وفي هذا المارستان قاعة للنساء مكتوب عليها [8] : عمَر هذا المكان في دولة صلاح الدين يوسف بن أيوب )) .
6 – بيمارستان الفسـطـاط : وقد أبدى صلاح الدين اهتماماً بالمستشفيات التي بناها والتي كانت مبنية من قبل وذلك بتعيين المشرفين والأطباء الجيدين مع تخصيص مخصصات سخية للعاملين فيها ، فقد جاء أنه من اختصاصات ديوان الأوقاف ما يلي :
(( وكذلك يشرف هذا الديوان على الأنفاق على المدارس الصلاحية والمارستانات الثلاثة التي شيدها صلاح الدين بالقاهرة والفسطاط والإسكندرية )) [9].
7 – مارستانات الطلبـة : وكمثال لهذه المارستانات والتي تبين رعاية صلاح الدين لطلاب العلم ( والطب منها ) الذين يفدون إلى المدن الرئيسية التي كانت تحت سلطته يصف الرحالة ابن جبير مناقب الإسكندرية فيقول : (( ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه ، المدارس والمحارس ( مأوى الدارسين والزهاد والمسافرين ) الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم سكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله .
واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك ، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم ، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم ، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة ، وينهون إلى الأطباء أحوالهم يتكفلوا بمعالجتهم )) [10].
القسم الثاني – الطب والمستشفيات عـنـد الإفرنج في عـصر صلاح الدين :
إن ذكر شيء عن الطب والمستشفيات لدى الإفرنج المعاصرين والمتواجدين على مقربة من صلاح الدين في المواقع التي كانت تحت سيطرتهم أمر يحتمه البحث وتستوجبه الأمانة العلمية فنبدأ بالحديث عن الأطباء .
استمرت الحروب الصليبية بين ( 1059 – 1291 م ) وعادت القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي للمسلمين بعد معركة حطين ، وكانت الحروب الصليبية فرصة سنحت للاتصال بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي ، وطريقاً من الطرق التي انتقلت فيها الحضارة والعلوم – والطب منها – من العالم العربي الإسلامي إلى أوربا ولو بشكل يسير[11] .
((جاء الصليبيون غزاة طامعين مخدوعين بتحرير أرض فلسطين من الظلم والظلام الإسلامي وإذا بهم يجدون الإنسانية والعدل ونور العلم مشعة في المشرق الإسلامي ، فنهلوا من علومها واستفادوا من حضارتها ونقلوا من كتبها إلى عالم أوربا السادر في ظلامه الدامس وهمجيته القديمة ونزاعاته التي لا منقطع لها )) [12].
يقول المستشرق الدكتور مايرهوف : (( إن المسلمين الذين اتصلوا بأطباء الإفرنج أثناء الحروب الصليبية لم يكتموا ازدراءهم العظيم بصناعة اؤلئك الأطباء وشكهم بمهاراتهم ويظهر ذلك من الرواية التي قصها ( أسامة ) الأمير السوري )) [13].
يقول أسامة بن منقذ : (( ومن عجيب طبهم أن صاحب المنيطرة كتب إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيب يداوي مرضى من أصحابه فأرسل إليه طبيباً نصرانياً يقال له ثابت فما غاب عشرة أيام حتى عاد فقلنا له : ما أسرع ما داويت المرضى ، قال : أحضروا عندي فارساً قد طلعت في رجله دملة وامرأة قد لحقها نشاف. فعملت للفارس لبيخة ففتحت الدملة وصلحت . وحميت المرأة ورطبت مزاجها . جاءهم طبيب إفرنجي فقال لهم هذا ما يعرف شيء يداوهم . وقال للفارس : أيهما أحب إليك تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين ؟ . قال : أعيش برجل واحدة . قال : أحضروا لي فارساً قوياً وفأساً قاطعاً . فحضر الفارس والفأس ، وأنا حاضر ، فحط ساقه على قرمة خشب وقال للفارس : اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها ، فضربه وأنا أراه ضربة واحدة ما انقطعت ، ضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق ، ومات من ساعته . وأبصر المرأة فقال : هذه في رأسها شيطان قد عشقها ، احلقوا شعرها فحلقوه وعادت تأكل من مآكلهم الثوم والخردل ، فزاد بها النشاف ، فقال : الشيطان قد دخل في رأسها ، فأخذ الموسى وشق رأسها صليباً وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح ، فماتت في وقتها . فقلت لهم بقي لكم إليّ حاجة ؟ قالوا : لا فجئت وقد تعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه )) [14].
وتعلق المستشرقة زيغريد هونكة على هذه القصة قائلة (( ليست هذه النادرة دعوة خصم كما يتبادر إلى أذهان بعض الناس ، كما أنها ليست محاولة لا تهدف إلا الحط من شأن قوم لهم وزنهم ، كانوا أعداء العرب الألداء ، ذلك أن ثمة نوادر أخرى من هذا النوع تشهد ببراعة الطب في أوربة آنذاك . لقد روى أحد المؤرخين الأوربيين الثقاة ، بعد مرور مأتي سنة من وقوع نادرتنا السابقة ، قصة النبيل الصغير الأمير ديدو الثاني ، فون روشيليتز وغويز ، الذي كان يشكو قصراَ في نفسه وسمنة في بدنه . لقد أراد هذا الأمير أن يستشير طبيباَ ليعرف إذا كانت سمنته هذه ستزعجه وتتعبه في الرحلة التي ينوي القيام بها بصحبة الإمبراطور هاينريش السادس إلى أبولين الإيطالية . وما عتم الطبيب أن تناول موسى حادة شق بها بطن الأمير الصغير المسكين ببساطة ، فنزع الشحم الزائد منه ، وانتزع روحه معه كذلك . أجل لقد كان ما حدث طريقة أساسية في المعالجة تذكرنا بفن الطبابة الغربي في الأراضي المقدسة .[15]
ويقول أيضاً : (( ومن عجيب طبهم ما حدثنا به كليام دبور صاحب طبرية وكان مقدماً فيهم . واتفق أنه رافق الأمير معين الدين رحمه الله ، من عكا إلى طبرية وأنا معه ، فحدثنا في الطريق قال : كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر فمرض وأشرف على الموت ، فجئنا إلى قس كبير من قومنا قلنا : تجيء حتى تبصر فلاناً ؟ قال : نعم ومشى معنا ونحن نتحقق أنه إذا حط يده عليه عوفي ، فلما رآه قال : أعطوني شمعاً فأحضرنا له قليل شمع ، فلينه وعمله مثل عقد الإصبع وعمل كل واحدة في جانب انفه فمات الفارس فقلنا له : قد مات قال : نعم كان يتعذب سددت أنفه حتى يموت ويستريح )) [16].
وتعلق زيغريد هو نكه هنا أيضاَ فتقول (( أيد توضع ، وشيطان يطرد ، وصلاة تقام … تلك كانت الوسائل المفضلة في المعالجة التي حاول بها أطباء أوربا عن طريق مسوح الكهنوت والرهبان ، إنقاذ الإنسانية المريضة وتخليصها من براثن الداء والألم .))
ثم تقول ((لقد اعتبر التعاطي بعقاقير غير عقاقير الكنيسة وأدوية الروح ، أو ممارسة مهنة الطب ، وإجراء العمليات الجراحية بالآلات عملاَ دون مركز الكنيسة ، ودون جلال الروح وقدسيتها :( انه لمشين حقاَ أن يعمل الطبيب بيديه ) إن هذا القول ظل معمولاَ به مدى أجيال عديدة طويلة حتى لدى الأطباء المتعلمين . لقد كان من الأمور المعيبة الحقيرة أن يمارس عميد الطب مهنة يدوية ، حتى جس النبض اعتبر أمرا دنيئاَ مهيناَ . وباختصار فإن الكنيسة قد حرمت على رجالها تعاطي الجراحة معاطاة قطعية وتركت للمتحضرين المتمرنين ، ذوي الخبرة البدائية مهنة الجراحة ومعالجة الجراح المدماة .
إن الكنيسة لم تثق بمثل هؤلاء الناس بتة ، كما أنها ما كانت لتثق بجميع أنواع العلاج غير الكنسية . فمن لم يعمل في الدرجة الأولى ، على تخفيف آلام المريض ، من دون إحداث آلام أخرى في معالجته للداء ذاته يدوياَ ، فإنه يعد قد ارتكب خطيئة شنعاء على جسد المريض)) [17]
هذا الجهل من أطباء الفرنج دفعهم إلى أن يلجؤوا إلى الأطباء العرب ، ولم يكن ذلك لأن في الشرق أمراضاً لا علم لأطبائهم بها فحسب ، بل كان ذلك من فروع الطب . واتخذ أمراء الفرنجة أطباء من نصارى العرب فكان لعموري ( عطريق الأول ) طبيب اسمه سليمان بن داؤد وحذا حذوه كثيرون من كبار الفرنجة [18].
ولما مرض الملك الإنكليزي ( ريتشارد قلب الأسد ) أكبر خصوم صلاح الدين بعث إليه صلاح الدين طبيبه الخاص لمعالجته ورفه عنه بأن أرسل إليه الفواكه والثلج [19].
وفي عام 1218 صحب الطبيب الجراح هوغو فون لوكا البولوني فرقة بولونية – مقاطعة في إيطاليا – إلى الحرب في الأرض المقدسة وظل هوغو يضمد جراح مواطنيه ويجبر كسورهم بأساليبه البسيطة مدة ثلاث سنوات وكان يرى كثيراً من الأسياد يفضلون الذهاب إلى جانب الأعداء للتداوي بالرغم من تحريم رجال الكنيسة ، وفي خلال هذه السنوات الثلاث ، توافرت له أكثر من مناسبة للتعرف على هؤلاء الجراحين المسلمين ورؤية عظمتهم وزيارة مستشفاهم العسكري .
إن ما رآه هوغو في معالجة الجروح كان بمثابة صدمة له ، رأى في لحظة واحدة خطأ ما تعلمه وأخذه عن أبقراط [20]وصحة ما يقوم به الأطباء العرب والمسلمون في معالجة الجروح وتخدير الجرحى بالحشيش والسكران عند معالجتهم أو قطع طرف من أطرافهم . وعاد هوغو إلى وطنه عام 1221 وقد تفتحت آفاقه العلمية ومداركه …. فسعى إلى نشر معارفه الحديثة بين قومه ، وسلك مسلك العرب في كثير من فنون التداوي ، فنال شهرة واسعة .
ومن أجل إعطاء صورة عن المستشفيات لدى الإفرنج في عهد صلاح الدين ننقل قولاً لمايرهوف حيث يقول : (( ولنا أن نميل إلى الاعتقاد بأن الفضل في بناء مستشفيات أوربا خلال القرن الثالث عشر ، تلك المستشفيات التي خرجت من احتكار رجال الدين ، إنما يعود بعضه إلى تأثير الحروب الصليبية . لقد كانت تقليداً بلا ريب للبيمارستانات التي أنشأها معاصرهم السلجوقي الملك نور الدين زنكي في دمشق وسلطان المماليك في القاهرة ( المنصور قلاوون ) وقد بقي المستشفى مثار لإعجاب السياح الأوربيين في القرون التي تلت … أسس البابا ( أنوسنت ) الثالث في رومه في مفتتح القرن الثالث عشر مستشفى القديس
( سبيريتو ) ، وسرعان ما انتشرت شبكة من المستشفيات أمثاله في غربي أوربا . فالمستشفى والملجأ المسمى ( لكانز فان ) أسسه ( لويس التاسع ) في باريس بعد عودته مقهوراَ من حملته الصليبية ( 1254 – 1260 م ) وكان قد خصص بالأصل لإيواء ثلاثمائة أعمى فقير ، ثم ألحق به مستشفى لأمراض العين ، وهو يعد الآن من أكبر مستشفيات عاصمة فرنسا)) [21].
وفي الوقت الذي كان في كل مدينة عربية مستشفى متطور متكامل (( يذكر مؤلف أوربي أنه لم يكن لدى الصليبيين غير مستشفى فرسان القديس يوحنا في القدس )) [22].
وما كاد الصليبيون يصلون إلى أوطانهم ويلملموا شملهم وينقهون من أتعابهم وجراحاتهم حتى التفتوا إلى نشر ما تعلموه من العرب بين مواطنيهم . فأسس لويس التاسع أثر رجوعه إلى باريس سنة 1260 مستشفى تقليداً لمستشفيات سوريا ، وأسس البابا أنوسنت الثالث مستشفى آخر على نفس الطراز [23].
وأخيراً وليس آخراً نقول بأن المرضى والأطباء من المحاربين العائدين ساهموا أيضاً في نقل كثير من بدائع الفكر ومقومات الصنعة الطبية العربية إلى الغرب ، وكان المحط الرئيسي لهم لدى العودة مدينة ساليرنو حيث أفاد ذلك في رفع عملية التقدم الطبي في مدرستها ومستشفاها وأطبائها ومن ثم انعكس ذلك على النهضة الطبية في أوربا .
وبعد كل ما سبق نخرج بالنتائج التالية :
1 – كانت البلاد العربية في أواخر القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي ملئ بالعلماء والأطباء على خلاف من يقول بأن الحضارة العربية خبت جذوتها منذ القرن الثالث
الهجري / التاسع الميلادي . وكان لبعض أولئك الأطباء اكتشافات وإضافات هامة في حقل الطب .
2 – أثبت البحث أن الطب والمستشفيات عند الإفرنج في عصر صلاح الدين ( القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي ) كان متخلفاَ وأن الأطباء كانوا جاهلين . الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء إلى الأطباء العرب لمعالجة مرضاهم .
3- كان صلاح الدين واحداَ من أكثر الحكام في زمانه اهتماما بالعلم والعلماء والأطباء وبناء المدارس والمساجد والمستشفيات ، وكل ذلك دليل على كونه كان رجل علم بجانب كونه بطلاَ حرر أرض المسلمين من الغزاة الصليبيين .
المصادر :
[1] - محمد ، الدكتور محمود الحاج قاسم : الطب عند العرب تاريخ ومساهمات ، الدار السعودية للنشر – جدة 1987 ، ص 317 .
[2] - عيسى ، الدكتور أحمد : تاريخ البيمارستانات في الإسلام ، دار الرائد العربي بيروت ، الطبعة الثانية 1981 ، ص 230 . نقلاً عن عقد الجمان للعيني في دخول صلاح الدين للقدس .
[3] - المصدر نفسه : ص 232 .
[4] - عيسى ، الدكتور أحمد : تاريخ البيمارستانات في الإسلام ( مصدر سابق ) ، ص 76 . نقلاً عن صبح الأعشى ج 3 ، ص 40 .
[5] - المصدر نفسه : ص 77 نقلاً عن السلوك للمقريزي ص 87 .
[6] - رحلة ابن جبير : دار التراث بيروت 1968 ، ص 24 .
[7] - عيسى ، الدكتور أحمد : تاريخ البيمارستانات ، ص 82 ، نقلاً عن المقريزي ، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك .
[8] - المصدر نفسه : ص 226 .
[9] - نوري ، دريد عبد القادر : سياسة صلاح الدين الأيوبي ، رسالة ماجستير ، مطبعة الرشاد بغداد
1976 ، ص 432 ، نقلاً عن ربيع النظم المالية .
[10] - رحلة ابن جبير : ص 15 .
[11] - محمد ، الدكتور محمود الحاج قاسم – انتقال الطب العربي إلى الغرب معابره وتأثيره ، دار
النفائس ، بيروت 1999 ، ص 66 – 67 .
[12] - التكريتي ، د . راجي عباس : الإسناد الطبي في الجيوش العربية الإسلامية ، دائرة الشؤون
الثقافية ، بغداد 1984 ، ص 181 .
[13] - مايرهوف : ص 500 .
[14] - ابن منقذ ، أسامة : الاعتبار ، حرره فيليب حتي ، مطبعة جامعة برنستون ، الولايات المتحدة الأمريكية 1930 ، ص 132 – 133 .
[15] - هونكه – زيغريد : شمس العرب تسطع على الغرب ، نقله للعربية فاروق بيضون ، وكمال دسوقي منشورات المكتب التجاري – بيروت ، الطبعة الأولى 1964 ، ص 216 – 217 .
[16] - المصدر نفسه : ص 137 – 138 .
[17] - هونكة – زيغريد : شمس العرب ( مصدر سابق ) ص 218 – 220
[18] - حسين ، د . محمد كامل : في الطب والأقرباذين ، فصل في كتاب أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية ، ص 285 .
[19] - بن شداد ، بهاء الدين : النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال ، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، الطبعة الأولى ، 1964 ، ص 158 .
[20] - التكريتي ، الإسناد الطبي ( مصدر سابق ) ، ص 182 .
[21] - مايرهوف ، ماكس : العلوم والطب ، فصل في كتاب تراث الإسلام ، ص 500 .
[22] - الجليلي ، د . محمود : تأثير الطب العربي في الطب الأوربي ، ص 192 .
[23] - السامرائي ، د . كمال : مختصر تاريخ الطب ، الدار الوطنية للتوزيع ، بغداد ، الطبعة
الأولى ، ج 2 ، ص 233 .
عودة الى الصفحة الرئيســة