( 1904-1908 )
الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
طبيب أطفال – الموصل
بداية أقول بأنني عندما كتبت عن المؤسسات الصحية في الموصل في نهايات الدور العثماني في كتابي (( تاريخ الطب في الموصل عبر العصور ))[1] لم أكتب عن هذه المستشفى لأنني حينها لم أعثر في المصادر إلى لما يشير إليها . وقبل أيام وردتني رسالة[2] مرفق بها :
كتاب بعنوان (( الموصل في مستهل القرن العشرين )) وهو ترجمة لكتاب بعنوان (Behind the Veil in Persia and Turkish Arabia), من تأليف السيدة م. إي. هيوم- غريفيث (M.E. Hume-Griffith) وهي زوجة الطبيب البريطاني ( الدكتور غريفيث A. H. Griffith) الذي رافقته لمدة ثمان سنوات ( 1900- 1908 ) قضيا أربعاً منها في بلاد فارس ، وأربع سنوات (1904 لغاية 1908) افتتح زوجها وهي معه مستشفى ( الجمعية التبشيرية الكنسية الإنكليزية ) في مدينة الموصل . وكتب الدكتور غريفيث الفصل الثالث عشر من الكتاب والمعنون ( العمل في بعثة طبية رائدة في الموصل ) . وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الأستاذ صباح صديق الدملوجي ، ونشره مع النص الإنكليزي إلكترونياً على صفحات الإنترنيت جزاه الله خيراً . وبامكان القارئ الكريم تحميل و قراءة الكتاب من : موقع بيت الكتاب
مكان المستشفى والأطباء اللذين عملوا فيها : لم يذكر في الكتاب محل وجود المستشفى بالموصل ، ولمعرفة ذلك يقول الأستاذ صباح الدملوجي في مقدمته (( أن الدكتور ابراهيم العلاف أفادني مشكورا بأن المستشفى مذكور في رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب في جامعة الموصل سنة 2010 من قبل الست نادية مسعود خليل الجراح بعنوان (الخدمات الصحية في الموصل في العهد الملكي 1921-1958) تقول عنه في (ص 13 )أنه كان في محلة شهر سوق في دار مستأجرة تعود إلى أحمد بك الجليلي - والصحيح أنها في ذلك العهد كانت دار أبيه أيوب بك الجليلي-. كما تذكره د. لمى عبد العزيز في مساهمتها في (ذاكرة عراقية) لجريدة المدى تحت عنوان (الخدمات الصحية في العراق 1869- 1914) فتقول (اما بالنسبة لولاية الموصل ، فقد امتد اليها نشاط هذه الارسالية سنة 1319 هـ / 1901 م عندما تم افتتاح احدى المستشفيات التي أسندت ادارتها الى الدكتور ستن H. M Sutton أعقبه الدكتور غريفث A. H. Griffith ))[3].
يقول الدكتور غريفيث عن ملاك المستشفى ((تألف ملاكنا في مدينة عظيمة سكانها مابين ستين إلى ثمانين ألف نسمة من زوجتي ومني ومن مساعدَين محليين جرى تدريبهما في بعثتنا الطبية في بغداد.)) [4] .
(( إلا أنه فيما بعد جرى في عهده توسيع المستشفى ، إذ وصل مجموع الأسرة (24) سريراً ، كما انضم للعمل في هذا المستشفى عدد من الأطباء العراقيين منهم الدكتور فتح الله ساعاتي ، والدكتور أبلحد عبد النور ، ويبدو أن الإقبال على هذا المستشفى كان ضئيلاً إلى الحد الذي اضطر القائمين على إدارته إلى إغلاقه سنة 1333 هـ / 1914 م(. الحقيقة أن سبب الإغلاق كان بالأحرى نشوب الحرب العالمية الأولى حيث أصبح العثمانيون والإنكليز على طرفي النزاع. )) [5]
مكونات وأجنحة المستشفى :تقول السيدة غريفيث (( قمنا عند وصولنا الموصل باستئجار دار ذات فنائين في وسط المدينة. استخدمنا الفناء الداخلي لسكننا وجعلنا الخارجي مستوصفا ومستشفى صغير. لم يبدُ أي شيء مشجع في البداية فالدار كانت قديمة وتبدو كأنها خربة. مع ذلك حولنا الإسطبل الكبير إلى غرفة انتظار للمرضى كما رممنا بقية الغرف وحولناها إلى غرفة عيادة وصيدلية وقاعة عمليات وأجنحة للمرضى الراقدين وكلها من نوعية بدائية. )) وتقول أيضاً
(( كان على أوائل النساء الراقدات فيما كنا نسميه مستشفانا في الموصل أن يقنعن بغرفة خارجية تستخدم كجناح للنساء. كانت الغرفة الوحيدة التي وجدناها لهذا الغرض غرفة كبيرة كنا نستخدمها كبيت شعلة. قام زوجي بتنظيفها بصورة جيدة وتعقيمها ثم صبغها باللون الأبيض.))
ويقول الدكتور غريفيث (( سرعان ما أشغلت أسرتنا الستة جميعها ثم قمنا بإضافة ستة أسرة أخرى. قمنا في النهاية باستئجار أحد الدور في الجيرة لسكننا وحولنا بيتنا القديم ( أي الفناء الداخلي ) إلى مستشفى صغير للنساء والأطفال. استطعنا بذلك ايواء أربعة وعشرين مريضا وكان لكل واحد منهم صديق (مرافق) واحد على الأقل وغالبا ما كان لدينا خمسين شخصا في الموقع.))
(( كان على كل مريض يرقد في المستشفى جلب صديق (مرافق) ليساعد في تمريضه وذلك لافتقادنا إلاجهزة الطبية المناسبة والكادر التمريضي المدرب.))
إحصائيات المرضى المراجعين للمستشفى : يقول الدكتور غريفيث (( بدأنا نكتسب ثقة الناس تدريجا وبدأوا يأتون إلى العيادة بأعداد متزايدة. كنتَ ستجد في غرفة الانتظار خليطا من عدد في القوميات -- مسيحيون وإسلام ويهود وأكراد من الجبال وبدو من البادية ويزيديون ( ممن يدعون بعبدة الشيطان ) -- يشكلون حشدا متنافرا يصغون بهدوء ومن دون مقاطعة لقراءة وشرح للإنجيل ويدخلون إلى غرفة معاينة الطبيب الواحد تلو إلآخر لمعالجة أمراضهم المختلفة.)) وفي موضع آخر يقول
(( قد تكون إلاحصائيات التالية التي تخص العمل لمدة سنتين ذات فائدة من حيث تبيان الأثر بعيد المدى حتى لبعثة طبية سيئة التجهيز وتعاني من نقص الكادر:
عدد مراجعي العيادة الخارجية : 24519 ، عدد العمليات الجراحية المنفذة : 569 ، منها 197 عملية كبرى و372 عملية صغرى ، عدد المرضى الراقدين في المستشفى : 288
عدد القرى والبلدات (عدا الموصل)التي ينتمي إليها مرضى البعثة : 348
تثير الفقرة الأخيرة اهتماما ذا خصوصية, فباستثناء الموصل (التي يأتي منها غالبية المراجعين)، أرسلت 348 بلدة وقرية (بعضها على مسافة عشرة أيام من السفر) مرضاها إلى البعثة ومع ذلك فإن العمل بالكاد قد بدأ.))[6]
معلومات مهمة وردت في الكتاب :
1 – الطب والأطباء في الموصل في تلك الفترة : يقول الدكتور غربفيث (( لم يكن هناك قصور في عدد الأطباء في المدينة غير أنهم جميعا فيما عدا طبيبين أو ثلاثة أطباء من أطباء الجيش التركي وطبيب أو طبيبين يحملون شهادات من جامعة اسطنبول كانوا دجالين من الطراز الأول. فكل عجوزه في المدينة تعتقد أنها مؤهلة لمعالجة أمراض العيون, ويعمل الحلاقون كجراحين كما توجد وفرة في عدد مجبّري الكسور, أما الأطباء التقليديين الذين ورثوا خبرتهم عن أسلافهم فهم رغم منعهم من ممارسة مهنتهم من قبل الحكومة التركية لا زالوا يفلحون في زيارة العديد من الدور ليلا بصفة أصدقاء ويربحون ما يكفيهم من المال لتدبير معيشتهم. يصرف الآباء الدومينيكان ( والذين لهم بعثة كبيرة في الموصل ) العديد من الأدوية المجانية كما يوجد معهم طبيب مؤهل الآن. رغم وجود مجال كبير للتطبيب في الموصل, إلا أن إجراء الجراحة أمر نادر, وهو ما يعطي المجال للطبيب الأوروبي ليتدخل فجراحة الممارس العربي بدائية جدا.)) [7]
2 – العمل التبشيري للإرسالية : مما لا شك فيه أن الغاية الأساسية من عمل البعثة هو القيام بالعمل التبشيري وأن المستشفى ومعالجة المرضى كانت الوسيلة لتحقيق ما جاؤا من أجله . يقول الدكتور غريفيث كما ذكرنا سابقاً ((بدأنا نكتسب ثقة الناس تدريجا وبدأوا يأتون إلى العيادة بأعداد متزايدة. كنتَ ستجد في غرفة الانتظار خليطا من عدد في القوميات -- مسيحيون وإسلام ويهود وأكراد من الجبال وبدو من البادية ويزيديون ( ممن يدعون بعبدة الشيطان ) -- يشكلون حشدا متنافرا يصغون بهدوء ومن دون مقاطعة لقراءة وشرح للإنجيل ويدخلون إلى غرفة معاينة الطبيب الواحد تلو الآخر لمعالجة أمراضهم المختلفة.)) [8]
وفي موضع آخر من الكتاب يقول الدكتور غريفيث ((إن هذا العمل مع المرضى الراقدين في المستشفى هو الذي يقدم أكثر الفرص تشجيعا للطبيب العامل في البعثة الطبية التبشيرية. ففي هذا المستشفى الصغير كان هناك مرضى من كل صنف يرقدون جنبا إلى جنب وقد شفي العديد منهم من خلال عمليات جراحية وسيصغون لأي تعليمات يحصلون عليها. يسمع كل مريض قبل إجراء العملية له الطبيب وهو يتلو دعاء صغيرا يسأل فيه الله أن يبارك العملية ويكللها بالنجاح. يتلقى المريض يوما بعد يوم وأسبوعا بعد آخر تعليمات ويحصل على فكرة جديدة عن ماهية المسيحية وعندما يترك مستشفى البعثة ويعود إلى داره أكانت في المدينة أو في قرية جبلية بعيدة ستكون أي معارضة مريرة كان يحملها للمسيحية قد زالت وغالبا ما يقوم بإرسال مرضى آخرين للعلاج لدى البعثة الإنكليزية.)) [9].
وعلى الرغم من مساعيهما إلا أنه جاء في موضعين من الكتاب بأنهم لم يستطيعوا تنصير أحد من المسلمين أو اليزيدية .
وبجانب ما ذكرنا عن غاياتهم التبشيرية يقول الأستاذ صباح الدملوجي مترجم الكتاب
((لا مراء في أن أفكار السيدة غريفيث عن بعض التعاليم الإسلامية تشوبها أفكار مغروسة في ذهنها وهي زوجة من هو في الحقيقة مبشر كنسي إضافة إلى كونه طبيباً. لذا أرجو أن يؤخذ بعض ما تذكره هنا وهناك بما يخالف الحقيقة ضمن هذا المنظور. لكنها والحق يقال ليست كبعض الغربيين ممن يقتنصون الفرص أو يختلقون القصص للطعن بالتقاليد الإسلامية. اعتقد في الحقيقة أنها بعد قضاء فترة لا بأس بها في مجتمعات إسلامية شرقية قد وصلت إلى قناعة حول عظمة الإسلام رغم عدم تصريحها بذلك.))[10].
3 – الأمراض التي قاموا بمعالجتها في المستشفى : (( أكثر العمليات الجراحية التي يبرز لها طلب في الموصل هي عملية الماء الأبيض (إعتام عدسة العين = الكاتاراكت) وعملية إزالة حصاة المثانة، غير أن المرضى يأتونا وهم يعانون من عديد من الأمراض إلأخرى التي تتطلب علاجا خارجيا أو جراحيا. هناك انتشار كبير لمرض السل في المدينة حيث تساعد الحالة غير الصحية لظروف المعيشة التي يعاني غالبية السكان منها على انتشاره السريع. ومن الأمراض الشائعة أيضاً الجدري وحمى التيفوئيد, وما أن تشخص إصابة المريض بأحدهما بصورة أكيدة حتى يرفض المريض أو عائلته اعطاءه أي علاج طبي إضافي. يطلب من المريض المصاب بالتيفوئيد التقيد بنظام غذائي صارم جدا حتى يتعرق. وهذا ما يعني للتفكير المحلي أنتهاء أي خطر ويسمح للمريض بعد ذلك بتناول أي شيء أو نوع من الطعام وغالبا ما تكون النتائج كارثية. تنتشر أيضاً الملاريا والديزانتري والخراجات الكبدية, كما كان هناك انتشار وبائي لمرضى الطاعون والكوليرا إنما في سنين سابقة.))[11]
4 – الخرافات التي كان يعتقدها البعض من الموصليين :تروي السيدة غريفيث في كتابها عدداً من القصص والمعتقدات الخرافية ، فتقول :
المثال الأول :((يعتقد الموصليون اعتقادا راسخاً في الخرافات وهذا ينطبق بصورة خاصة على النساء. أحد الخرافات الغريبة تتعلق بالروائح. فالرائحة القذرة والخطرة التي يشعر المرء بها في معظم البيوت ليست مضرة من وجهة نظرهم غير أن الرائحة العطرة مكروهة من قبل النساء. إذا كنت من باب الصدفة قد استخدمت نوعاً من العطور (رغم إني كقاعدة حذرة من استخدامها) الاحظ إذا ما دخلت غرفة أن النساء كافة يضعن مناديلهن على أنوفهن. تبدو هذه العادة لأول وهلة عادة يعوزها الذوق غير أنك عندما تعرف ما تعنيه بالنسبة لهم ستعطيهم العذر. لديهم اعتقاد راسخ أن الروائح الزكية مجلبة للهم والمرض وأنها مميتة للامهات وللاطفال الصغار وهذا هو سبب خوفهم الكبير من العطور.))
المثال الثاني : تقول ((من المدهش رسوخ بعض المعتقدات الخرافية لدى الطبقة العليا في المجتمع. كان لدى زوجة أحد اغنياء التجار المسيحيين في الموصل إبن يعاني بصورة فظيعة من التهاب في عينيه. جلبته الأم إلى المستوصف لبعض الوقت لكنها عندما رأت أن علاجه كان يؤلمه ويجعله يبكي توقفت عن جلبه. سمعنا بعد ذلك أنها لجأت إلى الطريقة المتخلفة التالية لشفاءة. جلبوا خروفا وقاموا بذبحه وفتح احشاءه وقاموا بحشر رأس الطفل داخل جسم الخروف وهو لازال دافئاً وابقوه في هذا الوضع لنحو خمس عشرة دقيقة. هل يمكنك التفكير بطريقة أكثر إثاره للاشمئزاز والغثيان من هذه الطريقة؟ لكن هؤلاء الناس وهم من عائلة غنية ومؤثرة في المجتمع الموصلي اعتقدوا بالفعل أنهم سيشفون عيني الطفل باتباعهم هذه الطريقة. لا داعي للقول أن الطريقة هذه لم تؤدِ الغرض المطلوب وقاموا بعد بضعة اشهر بجلب الطفل ثانية إلى المستوصف وكانوا قانعين بتركه بين يدي الحكيم الإنكليزي الذي حقق شفاء عينيه التام بعد شهرين من العلاج.))
المثال الثالث : تقول ((كان هناك صبي يزيدي صغير في المستشفى مع أمه قمنا بإجراء عملية لاستخراج الحصى منه ونجحت العملية, لكنه اصيب باليرقان وتدهورت صحته. اُخبرت إحدى الأُمسيات أن امه اخذته إلى القرية وارسلت لنا رسالة تطلب من زوجتي ومني غسل ايدينا في الماء الذي جلبه الخادم لنا وستأخذ الأم الماء وستسقيه إلى ابنها العليل عّله يشفى .))
المصادر
[1] - محمد ، الدكتور محمود الحاج قاسم : كتاب تاريخ الطب في الموصل عبر العصور ، ا لصادر عن نقابة الأطباء – فرع نينوى ، سنة 2007 .
- [2] الرسالة مرسلة من الزميل الكريم الدكتور داؤد الثامري ( أستاذ أمراض الأطفال في جامعة بغداد سابقاً والمغترب في نيوزيلندا الآن ) ، فله شكري وخالص تقديري على هذه الهدية الثمينة .
[3] - غريفيث ، م . إي . هيوم : الموصل في مستهل القرن العشرين ( كتاب مترجم عن كتاب وراء الحجاب في بلاد العرب العثمانية ) ، ترجمه للعربية صباح صديق الدملوجي . ( مقدمة المترجم ) .
- [4] المصدر نفسه : الفصل الثالث عشر من الكتاب .
[5] - المصدر نفسه ( مقدمة المترجم )
[6] - المصدر نفسه ( الفصل الثالث عشر ) .
[7] - المصدر نفسه.
[8] - المصدر نفسه
[9] - المصدر نفسه .
[10] - الموصل في مستهل القرن العشرين ( مصدر سابق ) – مقدمة المترجم الأستاذ صباح الدملوجي .
[11] - المصدر نفسه .( الفصل الثالث عشر ) .