الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
نجد في القرآن الكريم آيات متعددة تتحدث عن أطوار نمو الإنسان من ذلك قوله تعالى: (( ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا )) سورة نوح: آية 13 – 14 .
وقال تعالى:(( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين )) سورة المؤمنون: آية 11 – 14 .
وفي آية أخرى يقول جلّ شأنه: (( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم )) سورة الحج .
هذه الآيات الكريمة معجزة من المعجزات في تناسقها وتتابع أجزائها ولا يستطيع أن يراها غير الطبيب الذي درس علم الأجنة وتفقه فيه، فهذه الآيات درس في علم الأجنة بليغ ، وتشريع دقيق [1] . والآن لنستعرض تطور الجنين كما ورد في الآيات السابقة :
أولا: أصل الإنسان : ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ))
لقد خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) من طين ثم خلق الإنسان من نسل آدم من نطفة مسلولة من مخلوق من طين، وما الطين إلاّ تراب وماء ومن الثابت علمياً أنه إذا تحلل جسم الإنسان أو الحيوان تحليلاً كيميائياً وجد أنه مركب من عناصر وأمشاج من جنس عناصر الأرض وأمشاجها.
ويقول تعالى في آية أخرى: ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)) ( سورة الأعراف آية 172 ) . إن الإعجاز في هذه الآية بين جلي حيث أن العلم الحديث وبعد تقدم علم تشريح الأجنة قدر أن يتوصل لهذه الحقيقة قبل سنوات ، فأصبح في حكم المؤكد بأن منشأ الخصيتين في الذكر والمبيضين في الأنثى ، في جسم الجنين هو جزء خاص في الظهر عند أسفل الكليتين تماماً ومنه تنمو هذه الأعضاء وتبقى حتى الأشهر الأخيرة من حياة الجنين في بطن أمه ثم تنحدر إلى أسفل إلى موضعها المعتاد، وهناك من يولد وخصيته غير نازلة وباقية في مكان إنشائها في الظهر .
وفي آية ثالثة يقول عزّ وجلّ: (( فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر))( الطارق : الآيات 5 – 10 ) . يقول أغلب المفسرين القدماء: (( إن هذا الماء الدافق يخرج من بين صلب الرجل ( وهو المني ) وترائب المرأة ( أي عظام صدرها ) وتبارك الله أحسن الخالقين.
أما التفسير الحديث وهو ما نميل إليه فهو، كما يقول الدكتور محمد علي البار في كتابه (خلق الإنسان بين الطب والقرآن): (( إن الخصية والمبيض إنما يتكونان في الحدبة التناسلية بين صلبه وترائبه … والصلب هو العمود الفقري … والترائب هي الأضلاع … وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط أي بين الصلب والترائب ثم تنزل الخصية تدريجياً حتى تصل إلى كيس الصفن ( خارج الجسم ) في أواخر الشهر السابع من الحمل … وبينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة ولا ينزل أسفل من ذلك … ومع هذا فإن تغذية الخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها … أي من بين الصلب والترائب …. ))[2] .
ثانيا: مـبـدأ خـلق الإنسان : (( ثـم جعلناه نطفة فـي قرار مكين ))
فسرت التفاسير النطفة بأنها ماء الرجل أو الأنثى، وهناك من يرى أن المقصود بالنطفة الحيوان المنوي في ذلك السائل ودليلهم قوله تعالى: (( وإنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى )) ( سورة النجم : آية 45 – 46 ). حيث فرق عزّ وجل بين النطفة والمني وبمعنى آخر بين الحيوان المنوي والسائل، وذلك في وقت لم يكن يعرف فيه أحد أن المني شيء والنطفة شيء آخر، وإنما كان المعروف أنه سائل أو ماء. ولم تميز النطفة من السائل إلاّ حوالي سنة 1680 م حيث اكتشفت هذه الحيوانات المنوية بالمجهر[3]، وهذه واحدة من المعجزات التي لا تحصى في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ومما يزيد هذا الأمر تأكيد أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم): (( ما من كل الماء يولد الولد )) رواه مسلم. وإنما يكون الولد من جزء يسير من هذا الماء. وهذا الأمر لم يعلم إلاّ في القرن العشرين حيث عرف أن الحيوانات المنوية إنما تشكل ½ بالمائة من مجموع المني … وأن جزءً يسيراً من هذا النصف بالمائة وهو الحيوان المنوي هو الذي يجعل الله له الحظ في تكوين الولد[4].
ويقول تعالى: (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ، إناّ خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً )) ( سورة الإنسان : آية 1 ) . لقد فسر معظم المفسرين النطفة الأمشاج بأنها أخلاط من مني الرجل وماء المرأة الممتزجين المختلطين، ففي اللغة مشج الشيء خلطه، وهذا ما أثبته الطب حيث أن باتحاد الحيوان المنوي للرجل مع بويضة الأنثى ينقل إليها ما فيه من صفات الذكر فينشأ الجنين حاملاً خواص الوراثة لكليهما، يشبه أبويه وأجداده جسماً وعقلاً. ويؤكد هذا التفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله اليهودي: (( يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ قال : يا يهودي من كل من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة )) من حديث القاسم حسنه أحمد.
أما القرار المكين الوارد في الآية فهو رحم الأم، حيث أنه حقاً لقرار مكين، متين. وعجيب في تركيبه ، متحصن قوي في موقعه ، إذ تربطه وتثبته ألياف وأربطة قوية ويحمله ويحفظه حوض من عظام متينة . كما وأنه إضافة لهذا الحصن الذي يستقر فيه ، فهو داخل الرحم محاط بظلمات ثلاث فهو كما قال تعالى : (( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث )) ( سورة الزمر : آية 6 ) قال المفسرون إن الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وأغشية الجنين .
وإذا دققنا النظر في جدار البطن وجدناه مكوناً من ثلاث طبقات ووجدنا عضلات جدار البطن
1 – العضلة المائلة الخارجية
Ext. Obique
2 – العضلة الداخلية
Int. Obique
3 – العضلة المستعرضة
Transversalis .
وكذلك جدار الرحم مكون من ثلاث طبقات الغشاء البريتوني والطبقة العضلية ثم الطبقة الداخلية لغشاء الرحم والمشيمة وأغشية الجنين مكونة من ثلاث طبقات:
1 – غشاء السلي المحيط بالجنين
2 – غشاء الكوريون أو الغشاء المشيمي
3 – الساقط وهو جزء من الغشاء الداخلي للرحم وبين الجنين والأغشية ماء وقاية له من الصدمات .
وحفظاً على درجة حرارة جسمه . والظلمة مهمة جداً في نمو الجنين حيث وجد أن الضوء يعيق مراحل النمو المختلف [5].
ثالثا: دور العـلقـة : (( ثـم خلقـنا النطـفـة عـلقـة ))
هناك تفسيران لما تعنيه هذه الآية الكريمة ، فالرأي الأول يقول : (( لما كان معنى ( العلق ) في اللغة هو كل ما علق ، فإن الآية تعني أن البيضة بعد أن تلقح باختراق الحيوان المنوي لجدارها تسير إلى الرحم ثم تعلق في الغشاء المخاطي للرحم وتنغرس فيه كأنها جسم معلق في داخل الغشاء المخاطي للرحم مستمسك به .
أما أصحاب الرأي الآخر فهم يقولون بأن الحيوان المنوي بعد أن يتحد بالبويضة حتى يصبح شكله كالعلقة ( حيث يكون شكله محززاً حلقياً كعلق البرك ) ودليلهم في ذلك الآية الكريمة في سورة اقرأ :
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق )) حيث أن فيها تأكيداً على وجود الحياة في العلق . وهذا الرأي الأخير هو الأرجح على ما أعتقد .
رابعا: دور المضغة : (( فخلقنـا العـلقـة مـضغـة ))
من الثابت علمياً بأن البويضة الملقحة سواء بعد أن تعلقت بجدار الرحم ، أو بعد أن صار شكلها كالعلقة تأخذ بالانقسام بسرعة وتتحول إلى مضغة خلال 15 – 20 يوماً مشكلة ثلاث طبقات من الخلايا تتكون منها كل أنسجة الجسم فيما بعد وهذا يعني أنها مخلقة لأن جميع الأنسجة والأعضاء تخلق منها كما جاء في قوله تعالى: (( ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة )) أما قوله عزّ وجل (( غير مخلقة )) فالمعنى أنك لو نظرت إلى هذه المضغة اللحمية في هذا الطور لرأيتها أمام العين غير مخلقة حيث لم تتميز فيها الأنسجة ولعدم تمام خلقها وإن كانت في الحقيقة مخلقة [6].
خامسا: دور تكوين أجهزة الجسم: (فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) .
وهكذا يخبرنا القرآن الكريم بما يؤكده العلم اليوم بأنه بعد دور المضغة وفي نهاية الأسبوع الرابع تظهر مراكز التعظم التي يتكون منها فيما بعد السلسلة الفقرية وبقية العظام ثم تقوم خلايا أخرى فيما بعد بإكساء هذه العظام بطبقات من اللحم والعضلات وخلال ذلك وبعده يتم تكون الأعضاء المختلفة وفي نهاية الشهر الرابع ينفخ فيه الروح ويتميز جنس الجنين ومع مرور الأيام يصبح بشراً سوياً ليولد في النهاية في أحسن تقويم ، قال تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)) (المؤمنون : آية 12 – 14 ) .
إن المذهل حقاً هو أن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة قد أكدت بما لا يدع مجالاً للشك المراحل التطورية للجنين بينما لم تعلم البشرية شيئاً من هذه المراحل إلاّ في العصور الحديثة، وكان أول ذكر لهذه المراحل التطورية للجنين هي نظرية وولف ( 1721 م ) التي لم تقبل في الدوائر العلمية إلاّ في أواخر القرن التاسع عشر وتأكدت بما لا يقبل الشك في القرن العشرين . وهنا لابد من الإشارة إلى إعجاز أخر في هذه الآية حيث أن في المراحل السابقة لتكون الجنين هناك تشابه كبير في خلق الإنسان وخلق الحيوان ، وعند تصوير مرحلة بداءات الأعضاء لأجنة الإنسان والحيوان ( كالسمكة والفأر والقرد مثلاً ) فإنه يصعب أن نفرق في الشكل بينهم ، فالكل في البداية طريقة تكوينه واحدة وشكله الخارجي واحد حتى أننا نجد تكوين الخياشيم في الإنسان كالحال الموجودة في بقية الحيوانات .
فقوله تعالى : (( ثم أنشأناه خلقاً آخر )) أي أنشأناه إنساناً ذا صفات وخصائص متميزة وحولناه من صفة جنين الحيوان إلى جنين إنسان . تلك الخليقة المتميزة صاحبة الارتقاء والكمال والتكريم (( ولقد كرمنا بني آدم )) [7] .
المصادر :
[1] - الصفار ، عبد الرزاق قاسم : تربية الطفل ورعايته في الإسلام – بحث قدم للحلقة الدراسية حول الطفل في الخليج العربي ، البصرة 13 – 15 / 1 / 1979 ، ص 12 .
[2] - البار : د. محمد علي ـ خلق الإنسان بين الطب والقرآن ، الدار السعودية للنشر ـ جدة ، الطبعة الأولى
1980 ص 52 .
[3] - الغوابي ، الدكتور حامد : بين الطب والإسلام – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1967 ص 13 .
[4] - البار ، د . محمد علي : الوجيز في علم الأجنة القرآني ،- الدار السعودية للنشر ، الطبعة الأولى 1405 هـ / 1985 م ، ص 4 – 15 .
[5] - البار ، د . محمد علي – الوجيز في علم الأجنة القرآني ، الدار السعودية للنشر ، الطبعة الأولى 1405 هـ / 1985 م .
[6] - الغوابي ، الدكتور حامد : بين الطب والإسلام – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة 1967 ، ص 26 .
[7] - كريم ، د . صالح عبد الكريم : الهندسة الوراثية وتكوين الأجنة الحقيقة والمستقبل – دار المجتمع للنشر والتوزيع ، جدة ، الطبعة الأولى 1994 ، ص 58 .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة