نظريات ودوافع السلوك الإجرامي في التراث العربي الإسلامي
ووسائل الوقاية منه
الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
اهتم المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمون بالعوامل المؤثرة في سلوك الأفراد والمحددة لأنماط هذا السلوك وأهدافه ويمكن إيجاز آرائهم في أربعة أنماط من التفاسير :
1 :النظرية الجغرافية في دوافع الجريمة :
تعتمد هذه النظرية على فرضية أن للبيئة الجغرافية تأثيراً في النشاط البشري والسلوك الإنساني . وأول من أشار لذلك كان إخوان الصفا قبل مونتيسكو حيث جاء في رسائلهم تحت عنوان
(( تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق )) (( إن تراب المدن والقرى يختلف ، وأهويتها تتغير من جهات عدة … )) إلى أن يقولون (( وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وقواهم وعاداتهم وآرائهم … لا يشبه بعضها بعضاً ….. )) [1] .
وحدد ابن خلدون تأثير العوامل الجغرافية في طبيعة الفرد بشكل أدق عندما تكلم عن سكان المناطق المعتدلة طبيعة ومناخاً بأن (( سكانها من البشر أعدل إحساساً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً … أما الأقاليم البعيدة عن الاعتدال فأهلها أبعد عن الاعتدال في جميع أحوالهم ، وأخلاقهم )) [2].
غير أن رغم وجاهة الاتجاه الجغرافي لتفسير أسباب الجريمة ، وتأثير العوامل الجغرافية في الأخلاق وطريقة السلوك واعتزاز الإنسان بسبق إخوان الصفا والعلامة ابن خلدون في الإشارة إلى هذا الأمر وتوجيه الانتباه إليه ، فمن الحق أن نذكر أن هذا الاتجاه لم يستطع أن يقدم تفسيراً علمياً كاملاً لأسباب الجريمة [3] .
2 . النظرية الأنثروبولوجية لدوافع الجريمة :
ترتكز هذه النظرية على فرضية أن هناك علاقة بين خصائص الجسم وملامح الشكل ( الهيئة ) وبين طبيعة خُلق الفرد وسلوكه .
وقد اهتم الكثيرون من علماء المسلمين بذلك إلاّ أن أكثرهم اهتماماً بهذا الأمر كان الفقيه المؤرخ ( أبو الفرج بن الجوزي ) من أبناء القرن السادس الهجري .
(( لقد كانت المظاهر الفسيولوجية تحمل – عند أبي الفرج بن الجوزي – مؤشرات لصفات عقلية ونفسية وخلقية ، إنها قد تحمل مؤشرات لانحطاط العقل أو رداءة الخلق ، أو تنم عن ضعف يتميز به الإنسان أمام إغراءات الجريمة .
واهتم اهتماماً خاصاً بشكل الرأس وهيئة الدماغ ، وهو ما عرف فيما بعد بـ (فراسة الدماغ ) أو علم دراسة الجمجمة )) .
ولقد صار ما ذهب إليه ابن الجوزي وأمثاله من الربط بين الحالة الجسمية أو تركيب الجسم وملامح الهيئة وبين السلوك بمثابة المقدمة لعلم الأنثربولوجيا الطبيعية في العصور الحديثة . واستخدمت الفراسة الجنائية التي تعنى بالسلوك الإجرامي عن طريق دراسة ملامح الإنسان الظاهرة للكشف عن الجريمة .
غير أن هذا الفرض لم يثبت أمام اكتشافات علم النفس الحديثة . إلاّ أنه على الرغم مما يوجه إلى هذا الاتجاه من نقد فإن جهود أبو الفرج بن الجوزي قد لعبت دوراً هاما في تاريخ الاختبارات العقلية ، وكانت مقدمة لحركة قياس القدرات العقلية [4] .
3 . النظرية الوراثية لدوافع الجريمة :
تعتمد هذه النظرية على أن السلوك ينتقل إلى الإنسان بالوراثة ، فالناس كما يرثون الصفات الجسمية يرثون أيضاً الخلق والطبع وفي بعض النصوص الإسلامية نجد إشارات لمسألة توارث الصفات العقلية والخلقية كتوارث بعض الصفات الجسمية من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إن الود يتوارث )) رواه البخاري .
وقول عمر(رض) (( لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلاّ خرج حائقاً (أي أحمق غبياً) ))
إن هذه النصوص وغيرها تنبه إلى أهمية عامل الوراثة في انتقال السلوك من الآباء إلى الأبناء في ذلك السلوك الحسن أو السلوك الإجرامي كما توجه الأنظار إلى إمكانية ربط الجريمة
بالوراثة ، ولقد ذهب إلى ذلك حديثاً أصحاب ما يعرف باسم (( النظرية الحيوية )) ويرى أصحابها (( أن السبب الأساسي للجريمة هو وجود صفات أصيلة في الفرد تأتيه بالوراثة )) [5] غير أن هؤلاء لم يستطيعوا تفسير كيفية انتقال الصفات الإنحطاطية المفضية للجريمة .
4 . النظرية البيئية لدوافع الجريمة :
مهما كان الخلاف حول دور الوراثة في انتقال السلوك أو في توريث الأفراد الاستعداد للجريمة فلا يستطيع الإنسان أن ينكر عامل البيئة ، وذلك لأن لعناصر البيئة المحيطة بالحدث أثراَ بالغاَ في تحديد سلوكه الاجتماعي وتفكيره وعواطفه ومواقفه .
إن هذه النظرية تطرح تصوراَ وتفسيرا َمتسعا َوأكثر شمولية من غيره من المذاهب والآراء في تفسير ظاهرة الجنوح والجريمة ، وهي تبدأ بتحديد موقع الإنسان وحركته بين ثلاث نقاط إشعاع مؤثرة ، هي البيت والمدرسة والجوار أو المجتمع والتي تؤثر مع عوامل أخرى في تحديد حجم ظاهرة الجنوح والجريمة .
ولعل ذلك ما نبهت إليه التربية الإسلامية حين أوكلت إلى عامل البيئة دوراً لا يُنكر في تقويم السلوك وتهذيبه وصقله. فأحس فلاسفة التربية العرب والمسلمون بأهمية المرحلة الأولى من الطفولة في التربية الخلقية وتعويد الأطفال العادات الحسنة من الصغر ، واتفقوا جميعاً على ضرورة العناية بتربية الأطفال تربية كاملة في أول مرحلة من حياتهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعضاَ ما ذكروه في هذا الباب:
يشير أبو حامد الغزالي إلى ذلك في إحيائه عن الطفل فهو يقول :
(( إن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب ، وإن عود الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك )) [6] .
ويقول ابن مسكويه في فصل : (( تأديب الأحداث والصبيان خاصة )) (( إن نفس الصبي ساذجة لم تنقش بعد بصورة وليس لها رأي ولا عزيمة تميلها من شيء إلى شيء ، فإذا نقشت بصورة وقبلتها نشأ عليها واعتدادها ، فالأولى بمثل هذه النفس أن تنبه أبداً على حب الكرامة ))
ويقول ابن الجزار القيرواني في كتابه سياسة الصبيان وتدبيرهم : (( وقد نرى من الصبيان محباً للكذب وترى منهم محباً للصدق ويرى فيهم اختلاف في الأخلاق ومضادة كثيرة بالطبع فما معنى ذلك ، ويحبذ أن يؤخذ الأطفال بالأدب منذ الصغر وأنت ترى منهم هذا بالطبع من غير تعليم ولا تأديب افترى الأدب ينقل الطبع المذموم إلى الطبع المحمود ؟ )) .
(( فنقول لقائل هذه المقالة ، أما ما ذكرت من طبائع الصبيان واختلافهم وقولك افترى الأدب ينقل الطبع المذموم إلى الطبع المحمود ؟ فلعمري أنه لكذلك ، وإنما أوتي صاحب الطبع المذموم من قبل الإهمال في الصبيان وتركه ما يعتاد مما تميل إليه طبيعته فيما هي مذمومة أو يعتاد أشياء مذمومة أيضاً لعلها ليست في غريزته ، فإن أخذ في الأدب بعد غلبه تلك الأشياء عسر انتقاله ولم يستطع مفارقة ما اعتاده في الصبا )) . (( فلذلك أمرنا نحن أن يؤدب الصبيان وهم صغار لأنهم ليس لهم عزيمة تصرفهم لما يؤمرون به من المذاهب الجميلة والأفعال الحميدة والطرائف المثلى إذا لم تغلب عليهم بعد عادة رديئة تمنعهم اتباع ما يراد بهم من ذلك )) [7].
الجزء الثاني : وسائل الوقاية من السلوك الإجرامي :
إن للتربية الخلقية التي تبعد الطفل عن الانحراف والسير في الطرق التي تفضي إلى الجريمة في الإسلام وسائل منها :
أ - الطــريقــة المبـاشـرة وغير المباشرة : وهي طريقة الوعظ والإرشاد والنصح ، وذكر الفوائد والمضار والحث على التحلي بمكارم الأخلاق وتجنب الرذائل )) [8]. هذا التوجيه أو النصح المباشر ضروري ليتعلم الطفل كيف يسلك سلوكاً يتفق مع جنسه ومرحلة نموه ومتطلبات حياته اليومية دون انحراف عن القواعد والأعراف الاجتماعية .
والطـريقـة غيـر المباشـرة : هي طريقة الإيحاء . كأن يلقن الأطفال أحسن الشعر في الحكم وأحسن النصائح والأخبار ويمنعوا النظر في الشعر السخيف وقد ثبت في علم النفس ما للطريقتين من أثر كبير في تربية الطفل [9].
وأول ما هو مطلوب هنا رعاية عقيدة الإيمان في نفوس الأبناء . يوصى الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين كغيره من المربين المسلمين (( بتعليم الطفل القرآن الكريم وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وبعض الأحكام الدينية )) .
كما أكدوا على اصطحاب الطفل إلى المساجد لتنطبع في شعوره كل تفاصيل العبادات التي تؤدى في المساجد وتختلط اختلاطاً تاماً بوجدانه . وأحبوا من الأب أن (( يحمل الصبي على صحبة الأشراف والعلماء )) ليتعلم ما هو متوقع من هؤلاء الأشراف والعلماء .
ب - المــحـاكـاة والقدوة الصالحة : إن للمحاكاة أثراً كبيراً في التربية الخلقية والعقلية وذلك لأن التقليد عامل رئيسي في المرحلة الأولى لتكوين العادة ، فالطفل يرى الشيء يفعل أمامه فيحاكيه ويكرره حتى يصير عادة له ، لهذا أوصى ابن سينا بما ينادي به علم النفس اليوم بأن المقلد يجب أن يكون قدوة طيبة ونموذجاً حسناً ، حتى لا يترك أثراً سيئاً في نفس الطفل المقلد حيث ثبت في علم النفس أن القدوة تبني الطفل إن كانت خيرة صالحة ، وتهدمه إن كانت فاسدة لأنه بطبيعته يحاكي ما يحدث في المجتمع الذي يحيط به ، حسناً كان أو قبيحاً فهو يحاكي من يعيشون معه أو يتصلون به من حيث لا يشعر أو يشعرون .
ج - اختـيـار أصدقـاء الـطـفـل :
أوصى ابن سينا باختيار البيئة التي تتصل بالطفل وخاصة اختيار الأطفال المهذبين الذين يختلط بهم في المدرسة يقول في ذلك : (( أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم مرضية عاداتهم ، لأن الصبي عن الصبي ألقن ، وهو عنه آخذ وبه آنس )) . ويقول الغزالي في ذلك (( واصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء )) .
ويؤكد على إبعاد الطفل عن الصبية المتنعمين والمترفين لأن النعيم والترف والرفاهية لا تدوم .
وحذروا من صحبة الطفل للمجرمين والفساق والسفهاء والجهلاء حيث يمتص الطفل من مخالطيه قيمهم ومعاييرهم .يقول ابن الجوزي : (( والطبع يسرق من المخالطة )) وتلك حقيقة تربوية تتعلق بطبيعة الإنسان الذي يولد ولديه حاجة نفسية لأن يشبه الأشخاص الذين يخالطهم )) [10].
د – إثــابــة الــطفــل : أقرت التربية الإسلامية إثابة الطفل على سلوك حسن يأتيه ، وتأييده وتشجيعه عندما يتصرف وفق ما هو متوقع منه ، وذلك لأن الثواب يشجع الاستجابات المحببة للثواب ويعزز السلوك المطلوب وبمثل هذا نادى
الغزالي ، والعبدري ، وكثيرون وعلى سبيل المثال
يقول ابن مسكويه : (( ويمدح هو( أي طفل ) إذا ظهر شيء جميل منه … ثم يمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل ، وفعل حسن ، ويكرّم عليه )) [11] وفي تبيان الغاية من إثابة الطفل كما يقول القابسي : (( ليعرف وجه الحسن من القبيح فيدرج في اختيار الحسن )) [12].
هـ – عـقـوبـة الطـفـل وتـأديـبـه : إن الغرض من العقوبة في التربية الإسلامية هو الإرشاد والإصلاح ، لا الزجر والانتقام ولهذا حرص المربون من المسلمين على معرفة طبيعة الطفل ومزاجه قبل الإقدام على معاقبته وشجعوه على أن يشترك بنفسه في أن يصلح الخطأ الذي اخطأه . كما أجمعوا على أن الوقاية خير من العلاج ، ولذلك نادوا باتخاذ كل وسيلة لتأديب الأطفال وتهذيبهم من الصغر لكي لا يكون حاجة إلى عقابهم ، وخير مثال لما ذكرنا هي الصورة الكاملة في تربية الوليد والتي ذكرها ابن سينا في كتابه : (( السياسة )) . فقد سبق بذلك ابن سينا فلاسفة التربية في القرن العشرين في المناداة بالعناية بتربية الطفل تربية حقة منذ السنوات الأولى من طفولته ، كما أن آراءه في العقوبة من حيث عدم معاملة من يستحقون العقاب من الأطفال معاملة واحدة ، ومراعاة الحيطة والحذر عند الحكم على الطفل في غاية الحكمة .
وللغزالي أيضاً هنا رأي جدير بالذكر حيث يقول : (( ولا تكثر القول عليه بالعقاب في كل حين فإنه يهون سماع الملامة ، وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه )) .
أما ابن الجزار فإنه يؤكد نفس المعنى في قوله : (( فأما إن كان الصبي طبيعته جيدة أعني أن يكون مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة والألفة محباً للصدق فإن تأديبه يكون سهلاً وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة من غيره فإن كان الصبي قليل الحياء مستخفاً للكرامة قليل الألفة محباً للكذب عسر تأديباً ، ولابد لمن كان كذلك من إرغاب وتخويف عند الإساءة ، ثم تحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف )) [13].
المصادر :
[1] - إخوان الصفا وخلان الوفا : عني بتصحيحها خير الدين الزركلي – المكتبة التجارية – مكتبة القاهرة الحديثة للطباعة – القاهرة 1972 ، ص 18 – 19 .
[2] - ابن خلدون ، عبد الرحمن بن محمد : مقدمة ابن خلدون – المطبعة البهية المصرية ، القاهرة ص 71 ، 75.
[3] - الدكتور حسن إبراهيم عبد العال : أثر التربية الإسلامية في الحد من الجريمة – مجلة رسالة الخليج العربي العدد 14 السنة 5 ، 1405 هـ = 1985 م .
[4] - الدكتور حسن عبد العال : المصدر السابق .
[5] - المصدر نفسه .
[6] - الغزالي ، أبو حامد : إحياء علوم الدين ج 3 ص 72 .
[7] - القيرواني ، ابن الجزار : سياسة الصبيان وتدبيرهم ، تحقيق محمد حبيب الهيلة ، مطبعة المنار – تونس 1968. ص 135 – 138
[8] - الأبراشي : التربية الإسلامية وفلاسفتها ، ص 115 .
[9] - الأبراشي : المصدر نفسه ، ص 116 .
[10] - عبد العال ، الدكتور حسن إبراهيم : التعلم عند الخطيب البغدادي ، مقال مجلة رسالة الخليج العربي ، العدد 10 ، 1983 .
[11] - ابن مسكويه ، أبو علي أحمد بن محمد : تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ، القاهرة 132 هـ ، ص 20 .
[12] - القابسي ، أبو الحسن علي بن محمد : الرسالة المفضلة لأحوال المتعلمين وأحلام المعلمين ، ملحقة بكتاب التربية في الإسلام للدكتور أحمد فؤاد الأهواني ، الطبعة الثانية بمصر 1975 ، ورقة 58 ب .
[13] - القيرواني : سياسة الصبيان وتدبيرهم ( مصدر سابق ) ، ص 138 .
للعودة الى الصفحة الرئيسة