الدكتور محمود الحاج قاسم/ باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
لا يمل الباحث أو المنقب في بطون كتب التراث الطبي العربي الإسلامي الغزير ، لأنه كلما تعمق في ارتياد هذا التراث كلما عثر على المزيد من الكنوز والدرر التي تشهد ببراعة أهل هذا التراث وأصحابه ، وكلما تأكد له سبقهم في اكتشاف كثير من الحقائق ووضوح كثير من النظريات والقوانين العلمية التي يدعي الغرب ابتكارها . ومجال معالجة السرطان أحد المجالات التي أدلى الأطباء والعلماء العرب والمسلمون بدلوهم فيها ، وقد تناولنا أساليب معالجة السرطان من الناحية الدوائية بالتفصيل في كتابنا :
(( السرطان في الطب العربي الإسلامي )) .
في بحثنا هنا سوف نتناول الوسائل غير الدوائية التي تخفف من وطأة مرض السرطان والتي اعتقد الأطباء العرب والمسلمون بجدواها وتعاملوا بها مع مرضاهم ، وهذه الوسائل يمكن حصرها في الأقسام التالية :
القسم الأول – العـلاج الروحـي :
1 – الإيمان وعـلاقـتـه بالشـفاء :
قال تعالى : ((وإذا مرضت فهو يشفين )) سورة الشعراء : آية 80
أكد الأطباء والعلماء العرب والمسلمون الحقيقة التي يقرها العلم الحديث اليوم والقائلة بأن الإيمان له علاقة وثيقة بالشفاء فالقوى المناعية في الإنسان عندما تضعف يقابلها عامل آخر لا يضعف بأي حال من الأحوال ، وهو عامل الإيمان .
وأن المعادلة التالية توضح أن ( الثقة + القدرة = الشفاء ) .
وكلمة هو في الآية السابقة تعبر عن الثقة … وكلمة يشفين تعبر عن القدرة .
كما أثبتت الأبحاث مؤخراً أن كثيراً من الأمراض المستعصية ( مثل بعض أنواع السرطان ) ما هي إلاّ أعراض بدنية تعبر عن حالات نفسية ناشئة عن اضطراب نفسي مثل القلق والخوف والغضب ، أدت إلى صدور أوامر من العقل الباطن للأعضاء المصابة كوسيلة من وسائل تدمير النفس والرغبة في إنهاء الحياة ، بينما الصراع من أجل الحياة ينبع من داخل الإنسان لأنه خلق ولديه الوسائل الدفاعية التي لو استخدمت الاستخدام الصحيح لأمدته بقوة هائلة تؤدي به الشفاء ، بل وتقيه المرض [1].
لذا نجد أن الإيمان بالله ، وقدرته له تأثير عظيم في نفسية المريض ، ويساعده على الشفاء ، وعليه فمن الواجب الأخذ بكل ما من شأنه تقوية إيمان المريض وأن لا يلجأ إلى ذلك عند المرض فقط بل من الحكمة شحذ إيمانه قبل الإصابة بالمرض ليكون له خزيناً يعينه في ساعة المرض .
2 – الــدعــاء :
إن الاستغاثة بالله تعالى واستمداد العون منه ركن أساسي آخر من أركان العلاج الروحي للأمراض المزمنة ( كالسرطان وغيره ) قال تعالى :
(( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) المؤمنون : آية 60 .
وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له ضع يدك على الذي تألم من جسدك
(( وقل باسم الله ثلاث مرات ، وقل سبع مرات أعوذ بالله وقوته من شر ما أجد وأحاذر)) .
قال فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم .
فالدعاء الصادق الدائم النابع من القلب والوجدان إلى الله تعالى عند إصابة الإنسان بكرب أو
بلاء أو كارثة يثير ويفجر قوى سرية في جسم الإنسان تقوى بها مناعته ، وذلك بفرز
هرمونات ومواد كيميائية داخلية تضفي عليه حيوية عجيبة ، كما وأن الدعاء (( يشبه
المنهج الذي يستخدمه علماء النفس في الوقت الحاضر ويطلقون عليه الإيحاء الذاتي
Auto-Suggestion
وفيه يردد المريض كلمات يشجع بها نفسه بأنه أصبح أكثر قوة وصحة ، وأنه يشفى من علته تدريجياً ، وذلك حتى يقنع بهذه الفكرة فتتحسن حالته الصحية )) [2] .
وهناك حالات كثيرة مسجلة لمرضى ( كان شفاؤهم من المستحيلات ) إذا بالتأثير النفسي المنبثق من الإيمان الكامل بالله والدعاء الصادق والتوجه إليه يطلب الشفاء يحقق الخلاص من هذا الداء الوبيل .
3 – الــرقــى :
الرقية : هي قراءة تعويذة أو دعاء على المريض [3] أو ما يسمى بالعزامة .
والرقى المكروهة في الإسلام هـي :
1. الرقى بما لا يعرف معناه .
2. رقى بغير كلام الله وأسمائه وصفاته .
3 الرقية المستعملة في مرض ما ،لتحل مكان الدواء المادي المعروف المفيد الميسر ، فإن إهمال الدواء المادي الذي يغلب على الظن فائدته مكروه متناف مع تعاليم الإسلام .
أما الرقى الجائزة في الإسلام واستناداً إلى مجموعة الأحاديث الواردة في الرقى ، اشترط العلماء لجواز الرقى ثلاثة شروط :
1.أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته .
2.أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى .
والغاية من الرقية حينئذ هي بعث الأمل والطمأنينة في المريض وتحريك إيمانه واتكاله على الله تعالى في نجاح الدواء المادي ، فتقوى معنوياته ويزداد أمله في بلوغ العافية وخاصة عندما يرقيه من يعتقد بصلاحه أو يثق بأهليته للرقى .
ولقد كان الرسول قدوة المؤمنين في الجمع بين الدواء المادي والدواء الروحي ، دون إهمال للأدوية المادية ، فقد وردت آثار صحيحة برقى عامة من القرآن الكريم هي (( فاتحة الكتاب ، والمعوذات وهي ( الإخلاص ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس) )) . روى البخار ومسلم عن عروة عن عائشة ، قالت :
(( كان رسول الله ينفث على نفسه في المرض الذي توفي فيه بالمعوذات )) .
وروى مسلم عن عائشة ، قالت : كان رسول الله إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات ، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيده نفسه ، لأنها كانت أعظم بركة من يدي )) .
ووردت آثار صحيحة برقى نبوية نذكر واحدة منها ، عن عائشة أن رسول الله
كان إذا عاد مريضاً يقول : (( أذهب البأس رب الناس ، اشفي أنت الشافي ، لا شفاء
إلاّ شفاءك شفاءً لا يغادر سقماً )) رواه مسلم .
هذا وقد لا يوصل بالرقية إلى النتائج الحسنة لحكمة يريدها الله سبحانه ، كما هو الحال بالدواء المادي ، فتكون الرقية كالدعاء الذي قد يستجاب عاجلاً أو آجلاً أو يدخر ثوابه إلى الآخرة .
3 – الــصــدقــات :
الإنسان الذي يسدي الخير ، ويقوم بإعطاء الصدقة – إضافة للزكاة المفروضة –
لأخيه الفقير ويصنع المعروف لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية لاشك يكتسب محبة
مجتمعه ، ونفسه التي تشعر بأنها تؤدي للغير نفعاً تنشرح وتصفو وقلما تضطرب ، ونتيجة
لذلك ترتفع لديه قوة المناعة الذاتية ضد الأمراض ويجنب نفسه سوء العاقبة كما أكد
ذلك رسول الله في قوله : (( إن الصدقة تطفئ غضب الرب ، وتدفع ميتة السوء )) رواه الترمذي وحسّنه . وميتة السوء = سوء العاقبة .
ويقول العالم الفرنسي دريزر : (( إذا شاء الرجل أن يستخلص من الحياة المتعة الفعلية فعليه أن يساهم في اجتلاب المنفعة للآخرين فإن متعة الشخص تعتمد على متعة الآخرين ومتعة الآخرين تعتمد على متعته )) .
كما وأن الرسول أرشدنا إلى التصدق على الفقراء باعتبار ذلك طريقاً لاستجابة الدعاء وطلب الشفاء من الله سبحانه ، عن الحسن البصري قال : (( قال رسول الله حصنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع )) رواه أبو داؤد والطبراني والبيهقي .
ومن ضمن ما أثبتته الدراسات الميدانية في علم النفس أن الزكاة والصدقة تجعل الإنسان يتحلى بصفات البر والإحسان وتنمي فيه مشاعر المشاركة الوجدانية والرضا والسعادة وراحة الفكر والضمير ، بينما نجد الآخرين الذين يقعون تحت سيطرة حب المال ينتابهم القلق والتوتر والسهر المستمر الذي يؤدي بهم إلى التعب الفكري والجسدي ومن الإصابة بمختلف الأمراض ومنها السرطان.
4 – الـدعـوة إلـى الصبر والتسليم بقضاء الله وعدم اليأس :
من الحقائق المسلم بها بأن الإسلام قد نادى عند وقوع المحن والإصابة بالمرض إلى عدم
الذعر والانزعاج والتزام الصبر والرضا بقضاء الله وقدره وترك اليأس وأن يكون للمصاب
من طول العناء حافزاً على الرجاء ، فإن الله تعالى يقول : (( إن مع العسر يسراً ))
، ويقول رسول الله : (( ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلاّ كان كفارة لذنبه حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها )) رواه البخاري .
ورفع روح المريض المعنوية في الإسلام لا تبدأ أثناء مرضه بل أن مقوماتها تغرس منذ نعومة أظفاره … فهو يربى على التسليم بقضاء الله خيره وشره وعلى اليقين بأن جزاء الصابرين بغير حساب ، وتسعى العبادات إلى ربطه بخالقه في الشدة والرخاء ونتيجة لإيمان المريض المسلم بذلك كله نجده يقابل المرض بمعنويات عالية تخفف من معاناته في رحلته مع المرض وتمنحه القوة والعزم والجلد وتساعده على سرعة الشفاء .
بينما نجد المريض غير المؤمن عند ابتلائه بمرض مزمن وهو في أرذل العمر يحس أن المرض قد حطمه فتتحطم نفسيته ويعتقد أنه مقبل على مجهول لا يدري عنه شيئاً وينتابه شعور نفسي أنه قد فقد كل شيء لذا فهو لا يستطيع أن يمتع نفسه أو يستمتع بهذه الحياة التي لا يملك سواها .
أما إذا أظلمت الدنيا أمام المريض المؤمن في ساعة ضعف وشعر بقسوة مرض عضال وانقبضت نفسه وطغت عليه موجة من اليأس والكآبة نجد الطبيب المسلم – وكجزء من العلاج – يؤدي دوره الإنساني فيقوم بواجب التذكير بأن المرض امتحان من الله سبحانه وتعالى للإنسان وزكاة عن صحته وغفران لآثامه وأنه لا يأس أبداً من شفائه لأن الرسول
يقول : (( إن الله لم ينزل داءً إلاّ أنزل له الدواء فإذا أصاب الداء الدواء برأ بإذن الله )) وإذا كان العلم لم يتوصل بعد إلى اكتشاف علاج لمرضه اليوم فربما يتوصل إلى ذلك غداً وكم من أمراض كانت مهلكة في فترة معينة إذا بها تصبح غير ذلك في فترة أخرى .
وقد أدرك العلماء والأطباء جدوى الصبر في معالجة المصاب ببلاء أو مصيبة فيقدم أبو زيد البلخي في كتابه (( مصالح الأبدان والأنفس )) نصائحه بترويض الإنسان نفسه على تحمل الصعاب فيقول : (( عليه أن يفكر في طبيعة هذه الدنيا وأنه لا يصفو فيها لأحد عيش على حساب ما يحب أو يرد ، فليرض بما يخلص له من سعادتها وهو إذا لم يمرن نفسه على الصبر فإن الجزع مصيبة عظيمة أيضاً .
فإذا راض نفسه على التجلد والاحتمال تغلب على المصائب … وأيضاً يجب أن يتأسى بغيره ممن أصابه ، وليدرك أيضاً أنه ربما كان يمكن أن تكون مصيبته أعظم مما وقع له ، وأنه مهما كانت المصائب فإن الأيام لابد أن تخفف من آلامها )) [4] .
وهكذا يريد البلخي من الحزين ( المصاب بمرض أو بلاء ) أن يعزي نفسه بنفسه وأن يتصبر ويتبصر ليهون على نفسه المعاناة .
القسم الثاني – العــلاج النـفـسـي :
1 – المساندة العاطفية: يؤكد الطب الحديث على الشعور بالانتماء من الحاجات النفسية الأساسية التي يحتاجها الإنسان وأن للمساندة العاطفية تأثيراً عظيماً في تخفيف ألم ومعاناة المريض وهذا ما حرص عليه المجتمع الإسلامي حيث أكدت الشريعة على إشعار المريض المسلم أنه جزء من أمة تحس بآلامه وتشاركه مصائبه … فإذا أصابه مرض ميئوس من شفائه كالسرطان وغيره وأخذ يعاني من آلام المرض المبرح وهو على فراش الموت ، كان الناس من أهله وأصدقائه حوله يهتمون بأمره ويعودونه في مرضه لا مجاملة منهم وإنما حق مفروض عليهم ومعروف أن أشد ما يؤلم المرضى وهم على فراش الموت – في البلاد التي يعيش أفرادها حياة مادية بحتة – إحساسهم بالوحدة فلا أحد يحس بهم أو يزورهم وإن زارهم لا يكلف نفسه عناء رؤيتهم فلربما ترك باقة زهر أو بطاقة تحية مع الممرضة أو مع من يرافقهم وهذا وضع يختلف تماماً عن وضع المؤمن الذي فصلت له الشرائع السماوية ما بعد الموت ووصلت بينه وبين غيره بآصرة الإيمان .
يقول (ص) في حق المريض على الصحيح بالعيادة والزيارة : (( أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني )) رواه البخاري .
وتدعيماً لشعور المشاركة الوجدانية ، في حال حلول المصائب بالناس يقول النبي : (( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) رواه مسلم . ومثل هذا التعاون يبعد عن المريض شبح الحزن والاكتئاب .
وعن أبي هريرة( رض ) من حديث طويل قال ، قال رسول الله : (( إن الله عزّ وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت ولم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ ))
رواه مسلم وروى ابن ماجة في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله : (( إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل ، فإنه لا يرد شيئاً ، وهو يطيب نفس
المريض )) .
يقول ابن القيم : (( في هذا الحديث نوع شريف جداً من أشرف أنواع العلاج ، وهو الإرشاد
إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة وتنتعش به القوة … فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها )) ((وتفريج نفس المريض ، وتطيب نفسه ، وإدخال ما يسره عليه ، له تأثير عجيب في شفاء علته ، وخفتها )) [5].
وهذا القول لازال علماء النفس اليوم يؤيدونه فإن زيارة المريض والحديث معه يخفف الكثير من معاناته ويرفع من معنوياته في تحمل آلام المرض وقد يكون ذلك سبباً في برئه وشفائه بإذن من الله .
2 – الإيحــاء الـنــفـسـي :
(( إن الكيفية التي تؤثر فيها الحالة النفسية على السرطان غير معروفة بصورة واضحة وقطعية ولكن هناك الدلائل الكثيرة التي تشير إلى أن ذلك يتم بواسطة جهاز المناعة الذي يتأثر بشكل واضح في الحالة النفسية . وتأثير النفس على الخلايا القانعة الطبيعية ، وهي الخلايا التي تهاجم الأورام السرطانية ، وتأثير الحالة النفسية على هذه الخلايا التي هي جزء من جهاز المناعة قد يكون هو السبب في تغير طبيعة السرطان بتغير الحالة النفسية )) [6].
لقد تنبه الأطباء العرب والمسلمون منذ أمد بعيد إلى العلاقة التفاعلية الوثيقة بين الجسد والمؤثرات النفسية فطبقوا ذلك على مرضاهم وفي ذلك يقول الرازي : (( ينبغي على الطبيب أن يوهم المريض أبداً بالصحة ويرجيه لها وإن كان غير واثق بذلك ، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس )) [7]. وهناك من يشير إلى أن ابن ماسويه سبقه بذكر هذا القول في كتابه النوادر الطبية الذي لم نطلع عليه .
وكلمة ( يوهم ) هنا مساوية لمدلول كلمة ( الإيحاء النفسي ) أما كلمة ( مزاج ) فتعني في المفهوم الطبي الحديث ( التفاعلات الكيميائية الحياتية في الجسم ) وأما كلمة ( أخلاق ) فتعني بالمفهوم الحديث (الانفعالات النفسية ) .
ويقول اسحق بن عمران مخاطباً الطبيب : (( وواس المتألم وشجعه وعلله بالشفاء ، حتى ولو كنت متأكداً من عدم حدوثه ، فلربما ساعدت بتقوية روحه المعنوية على برئه )) .
ويقول الزهراوي في المقالة الأولى من كتابه التصريف في قسم (( فصول عامة يستعان بها في الطب )) : (( ثلاثة أرباع العلاج في حفظ قوة المريض لئلا تسقط قبل المنتهى ، فعده بما يشتهي إذا خفت هبوطها إذا لم يكن في ذلك كبير مضرة وطيب بكل ما ترجو أن يدخل عليه منه الراحة والسرور والفرح وعده بالفرح المعجل ، وهون عليه المرض ورم إثبات ذلك في نفسه ، واضرب له الأمثال بأن تقول له أن فلاناً تخلص من مرضه الذي كان أعظم من مرضك )) .
وقول ابن القيم في ذلك قد سبق ذكره .
والعلم الحديث يريد أقوال الأطباء العرب فيما ذهبوا إليه من أن التشجيع النفسي خير علاج لرفع معنويات المريض وتماسكه النفسي وتشبثه بالحياة ، وتجارب البشر على مر
السنين ، أكدت وتؤكد على ذلك .
3 – الوسائل الترفيهية والاجتماعيـة :
وهذه الوسائل والتي تشمل ( السفر ، تبديل البلد ، الغناء والتماس والفرح ، والتنزه والمشي في الهواء الطلق والحدائق والغابات والسواحل ) مارسها الأطباء العرب والمسلمون في معالجة الأمراض المزمنة (والسرطان أحدها ) .
يقول الرازي : (( إذا أزمن بالمريض المرض وطال فانقله إلى بلد مضاد المزاج لمزاج
علته … )) [8].ويقول ابن سينا : ((ومن مسكنات الأوجاع المشي الرقيق الطويل الزمان
… والغناء الطيب خصوصاً إذا نوم به والتشاغل بما يفرح مسكن قوي للوجع )) [9].
وقد مارس الأطباء معالجة الأمراض بالموسيقى في المستشفيات لأنها تخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض وكان كل لحن وإيقاع له أثره الخاص في النفس ، وأن بعض النغمات كانت تخصص لأوقات معينة من النهار والليل .
يقول ابن طرخان الحموي في كتابه (الأحكام النبوية في الصناعة الطبية )
(650 –720هـ) :
(( السماع المطرب طب للأنفس الإنسانية وراحة للقلوب البشرية ، وغذاء لأكثر الأرواح
… وسبب لسرور الإنسان )) [10].
وكانت مارستان ( مستشفى ) قلاوون في مصر( 1281 م ) تعزل المؤرقين من المرضى في قاعة منفردة يشنفون فيها آذانهم لسماع ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون باستماع القصص التي يلقيها عليهم القصاص )) [11].
القسم الثالث – العـلاج الفيزيائـي للألــم : تكلم الأطباء العرب عن العلاج الفيزيائي للآلام بشكل عام ولاشك بأن آلام السرطان كانت من جملة تلك الآلام ووسائلهم في ذلك كانت :
1 – الـرياضـة والتـدليـك : يقول ابن سينا : (( ومن مسكنات الأوجاع المشي الرقيق
الطويل الزمان )) [12].
ويقول الجرجاني : وينفع في جميع أنواع الصداع مع مادة أو بخارات أن يستعمل في أوله السكون والدعة والنوم وفي آخره عندما تنتهي العلة ويأخذ في الانحطاط أن يستعمل المشي والرياضة أكثر )) [13].
ويضع ابن سينا القواعد الأساسية للتدليك كوسيلة لتخفيف الآلام يقول : (( الدلك منه صلب فيشدد ومنه لين فيرخي ومنه كثير فيهزل ومنه معتدل فيخصب … وأيضاً من الدلك ما هو خشن أي بخرق خشنة … ومنه أملس أي بالكف أو بخرقة لينة … والغرض من الدلك تكيف الأبدان المتخلخلة وتصليب اللينة … ومن الدلك دلك الاستعداد وهو قبل الرياضة ويبدأ ليناً ثم إذا كاد يقوم إلى الرياضة شدد ، ومنه دلك الاسترداد وهو بعد الرياضة ويسمى الدلك المسكن )) [14].
2- الـتـبريـد : يذكر ابن سينا بأن للثلج والماء البارد خاصية في تخدير الآلام فيقول : (( والمخدرات أقواها الأفيون … )) إلى أن يقول (( ومن هذه الجملة الثلج والماء البارد
)) [15].(( والثلج والماء الشديد البرد من جملة المخدرات إذا كثر صبه على العضو وترك فيه )) [16].
3- الاستحمام بالمياه الساخنة والمعدنية: يقول الجرجاني في فائدة الحمام الساخن : (( فصار الحمام يفيد البدن بمائه وهوائه التسخين والترطيب وتحليل الفضلات وتوسيع المنافس وغسل الأوساخ وإنضاج الأخلاط ودفعها إلى خارج وتسكين الأوجاع وفش البخارات والرياح وتليين الجفاف … ومن منافعه أنه يجلب النوم )) [17].
ويقول المجوّسي : (( فأما ما يفعله الاستحمام بالماء في البدن فإن الاستحمام بالماء إما أن يكون بالماء العذب وإما بغير العذب والاستحمام بالماء العذب إما بالحار وإما بالبارد فأما الاستحمام بالماء الحار إذا كانت حرارته ليست بالقوية فإنه يسخن ويرطب ويفتح المسام))
[18].
ويقول ابن سينا : (( وللحمام فضول من جهة المياه التي تكون فيه … )) (( والمياه النحاسية والحديدية والمالحة أيضاً تنفع من أمراض البرد والرطوبة ومن أوجاع المفاصل والنقرس …))(( وأما المياه الكبريتية فإنها تنقي الأعصاب وتسكن أوجاع التمدد والتشنج)) [19].
4 – التعرض للشمس والاندفان بالرمل : يقول ابن سينا : (( وأما التضحي إلى الشمس الحارة وخصوصاً متحركاً حركة شديدة كالسعي والعدو مما يحلل الفضول … ويحلل الصداع … وينفع أوجاع الورك والكلى … وأقوى الرمال في نشف الرطوبات من نواحي الجلد رمال البحار وقد يجلس طيباً وهي حارة وقد يندفن فيها وقد ينثر على البدن قليلاً قليلاً فيحلل الأوجاع )) [20].
وفي الختام نقول لو حاولنا عقد مقارنة منصفة بين ما ذكرناه من الوسائل غير الدوائية التي كان الأطباء العرب والمسلمون يعالجون بها الأمراض المستعصية كالسرطان موضوع بحثنا وبين ما نقوم به في الطب الحديث لوجدنا أن الفلسفة لازالت واحدة لم تتغير حيث أننا كل ما نقدر عليه اليوم هو تخفيف ألم المريض ومحاولة إشغاله وزيادة صبره ، ليقضي أيامه الأخيرة منتظراً الأجل المحتوم بشجاعة وقوة إرادة أو حتى أن يهيئ الله سبحانه وتعالى من يكتشف علاجا يخفف عنه أو ينقذه مما هو فيه .
الــمــصــادر :
[1]- عبد العزيز ، د. محمد : بحث قدم للمؤتمر الطبي الأول بالأزهر (مجلة الوعي الإسلامي أبريل 1986).
[2]- عيسوي ، د. عبد الرحمن : الإسلام والعلاج النفسي الحديث – دار النهضة العربية ، بيروت ، بدون تاريخ ، ص 247 .
[3]- للمزيد من التفصيل يراجع الدكتور محمود ناظم نسيمي – الطب النبوي والعلم الحديث ، الشركة المتحدة للتوزيع ، الطبعة الأولى 1984 ، الجزء 3 ، ص 155 - 158 .
[4]- أبو ريدة ، د. محمد عبد الهادي – الصحة البدنية والنفسية في الإسلام – المؤتمر العالمي الرابع للطب الإسلامي 1986 ، ص 653 – 655 .
[5] - الجوزية ، ابن قيم : الطب النبوي ، مطبعة الوسام ، بغداد 1945 ، ص 92 .
[6]- الجلبي ، د. قتيبة سالم : علاقة السرطان بالجانب النفسي للمريض – مقال مجلة الفيصل ، العدد 149 ، السنة 1989 ، ص 69 .
[7]- الرازي ، أبو بكر محمد بن زكريا : الحاوي ، ج 12 ، ص 19 .
[8]- الرازي : المصدر نفسه ، ج 1 ، ص 68 .
[9]- ابن سينا ، أبو علي الحسين ابن علي : القانون في الطب ، ج 1 ، ص 220 .
[10]- النسيمي : الطب النبوي والطب الحديث ( مصدر سابق ) ج 1 ، ص 74 .
[11]- الشطي ، شوكت : موجز تاريخ الطب عند العرب – مطبعة جامعة دمشق 1959 ، ص 37 – 38 .
[12]- ابن سينا : القانون ، ج 1 ، ص 220 .
[13]- الجرجاني ، أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي : المائة في الطب – مخطوط ، مكتبة أوقاف الموصل رقم 23 / 6 خزانة داؤد الجلبي ، ص 451 .
[14]- ابن سينا : القانون ، ج 1 ، ص 161 .
[15]- ابن سينا : القانون ، ج 1 ، ص 450 – 220 .
[16]-
ابن هبل ، مهذب الدين أبي الحسن علي ابن أحمد : المختارات في الطب ، مطبعة جامعة المعارف الإسلامية – حيدر آباد – الدكن ، 1362 هـ ، الطبعة الأولى ، ج 1 ، ص 314 – 315 .
[17]- الجرجاني ، أبو سهل عيسى بن يحيى : المائة في طب ، مخطوط ، مكتبة الأوقاف بالموصل ، رقم 23 / 6 ( خزانة داؤود الجلبي ) ص 165 .
[18]- المجوسي ، علي ابن العباس : كامل الصناعة في الطب ، المطبعة الكبرى بالديار المصرية 1294 هـج 1 ، ص 175 .
[19]- ابن سينا : القانون ، ج 1 ، ص 103
.
[20]- ابن سينا : القانون ، ج 1 ، ص 104
.
للعودة إلى الصفحة
الرئيسة