أدب الحديث في المجالس
نايف عبوش
فعندما نتحاور، ونتسامر في اي شأن، فان اول ما ينبغي عرفانه هو تقرير حق الاختلاف، وحق الاتفاق، وحق الاحتفاظ بالرأي، ومراعاة اعطاء الاولوية في التحدث لكبار السن، ووجهاء القوم، والعوارف، كمعايير اعتبارية متناقلة تعارفوا عليها. وفي حوار المجلس قد نجد انفسنا نختلف، او قد نتفق بمقتضى ظروف كل حوار في حينه. ولهذا فمن الطبيعي ان تكون لنا في اي حوار رؤى مختلفة، وآراء متباينة، ووجهات نظر متنوعة، تبعا لتفاوت القناعات، والخلفيات، والتراكم العلمي، والمعرفي لكل واحد من الحضور، وعلاقة ذلك بالموضوع المطروح للنقاش، فليس بالضرورة ان نكون متفقين جميعا في كل نقاط الحوار. وفي الحوار الحضاري عادة ما يفرض الرأي الحصيف المناسب نفسه على الحضور من بين وجهات النظر المتبادلة، من خلال ما يستولده في خضم دوامة النقاش من اصطفافات ايجابية مضافة حوله، ترسخ قناعة الحضور بقبوله الجمعي، فعادة ما يقف كل فرد على منظور خاص به، ويقدم رأيا مختلفا، وتجتمع في النهاية النقاط الإيجابية من كل رأي حول ارشد الكلام، ليتم الخروج برأي قويم شامل، يمثل وجهات نظر كل الاطراف المتحاورة.ـ
لذلك فان من تقاليد الكلام في المجلس أن يترافق حديث المتكلم بصمت المستمع، وأن يرقى هذا الصمت الى مستوى الاصغاء المتأمل الذي يليق بأهمية الحديث، حيث أن حوارات الهرج والمرج التي لا تلتزم بآداب الإصغاء، تقود بالمحصلة الى فشل الحوار، بتصعيد التناقضات، والتقاطعات، ناهيك عما تسببه من افساد في الود، وما تفضي اليه من حساسية لا ضرورة لها بين زملاء الحوار في المجلس، وتخلق اجواء متشنجة تفسد نشوة الالفة.ـ
فعندما يصغي السامع الى المتحدث بجدية تامة في المجلس، ويعطيه وقته الكافي في ايضاح رؤاه، ويركزانتباهه، وفكره في متابعة الحديث، فانه يعكس تقديره الشخصي، واحترامه للمتحدث، ويجسد في ذات الوقت، موقفا حضاريا متنورا، وهذا يتطلب بالطبع ان يكون الحديث بمستوى الإصغاء، ويتلافى الاستخفاف بمشاعر الآخرين لأي سبب، والا فإن المتحدث المتنطع يسيء للمصغين للحديث، بعدم احترام الوقت، والاستخفاف بإصغاء متلقي حديثه، حيث يكثر عندذاك ،لمزه من الحضور بالثرثرة، وعدم فسح المجال للآخرين بالمشاركة، حتى قالوا في ذلك (يحصد ويغمر)، والتعبير ريفي شعبي معروف الدلالة في الاشارة الى تلك الحالة. ونفس الشيء يذكر في استهجان اشتطاط الحديث عن غرضه، حيث غالبا ما ينبه المتحدث المشتط من ارشد الحضور رايا الى ذلك الحال، بعبارة (على هونك)، وهي تعني على رسلك، بما يفيد التنبيه للخلل، وطلب العودة الى صلب الموضوع. وهكذا فعندما يكون هناك حديث لمتكلم في مجلس ما، او اي محفل آخر، فلا بد أن يقابل هذا الحديث من المتلقين بصمت يليق به.. فليس من آداب حديث المجالس، ولا من قيم الحوار فيه المقاطعة، وقطع تسلسل الأفكار، بل لابد من استماع جيد للمتحدث، وبإنصات جيد، وانتباه جيد ايضا، بما يضمن تحقيق (استيعاب طروحات المتحدث) على افضل نحو، ويعكس (احترام الصامت) للمتحدث. فالحوار الجيد لا يكون فاعلا بدون استيعاب جيد. فلا معنى في حديث المجلس اذن لأي حوار بدون إصغاء، ولا حديث متوخى فهم مقاصده على نحو جيد، بدون صمت وإصغاء، وإذا ما اختلت الية التوازن في حوار المجالس، بحيث افتقر الى لياقة الإصغاء، او اختل الصمت، فشوش على الحديث، فلاشك اننا سنكون ازاء حوار فاشل، حتى لو كنا نتحدث مع بعضنا البعض همسا، او نتجاذب حديثا على قارعة الطريق
للعودة إلى الصفحة الرئيسة