نايف عبوش
احتل المكان بشتى صوره، مكانة رمزية كبيرة في ذاكرة الشعراء. ولا غرابة في ذلك، فالانسان منذ الصغر يتعلق بكائنات فضاءات بيئته المحيطة به، ويتفاعل وجدانيا مع حيزها الحاضن له بشكل مباشر، باعتبارها واقعا رمزيا محسوسا متساكنا في اعماق ذاته. لذلك يبقى عنصر المكان مهما في ثقافة التراث الشعري، بل ويأتي في سياق الثقافة الطللية للموروث العربي، شعرا، ونثرا، وغناءا، وأمثالا، كما تعارف على ذلك الباحثون، والنقاد.
وفي اطار ذات السياق تأتي قصيدة الشاعر معد الجبوري (ام الربيعين)، نابضة بكل معاني التواشج الوجداني مع مدينته الموصل الحدباء:
يا نينوى الموصل الحدباء ، يا ألَقِي
ونبضَ صوتيَ في سَهْلٍ وفي حَزَنِ
فتتدفق صورا شعرية مدهشة حينما نجد قريضه فيها يتناغم مع (توحد سوائي) بين عين المدينة، وذات الشاعر، في جدلية متواشجة، مزدانة بومضات موحية شفافة في مثل قوله في بيت من تلك القصيدة، يسكنه هذا التوحد العجيب، حيث يتخذ المكان بعده المركزي في ذاكرته الشعرية، باعتباره بؤرة إنتاج الصورة الرمزية المستجيبة لانثيالات الذاكرة عن المكان، فيتجلى عنده احساس بالسوائية المطلقة، متخطيا بذلك كل حواجز التحايث المألوفة بين الذات والموضوع:
سِيَّان: أسكُنُ في عينيكِ ، مُتَّشِحاً
بِزهوِ عينيكِ ، أو عيناكِ تَسكُنُنِي
وكيف لا يتناغم هذا الشاعر المبدع مع هذا الجو التعبيري من التوحد المتساكن عضويا ذاتا وموضوعا، وهو من ظلت أم الربيعين تسكنه في أعماقه، وتتجسد في نتاجه الشعري الأدبي، رموزا، وبوابات، وامجادا:
أسـوارُها قِمَمٌ ، أحجارُهـا رُقُمٌ
ظلت تشـعُّ ، وما آلَتْ إلى دِمَنِ
ورغم تداعيات الزمن المتسارعة ، التي تعمل على تنحية الكثير من تجليات التوحد المتساكن مع بيئة الانسان في الحياة المعاصرة، التي كانت يوما ما مبعث استلهام في تفريغ هموم ناسها..الا انها عجزت عن طمس تلك الومضات في ضمير الشاعر معد الجبوري،حيث ما برحت تلك التجليات متدفقة بوضوح في وجدانيات شعره عندما يتغنى بها بشجن جلي:
لو غِبتِ عني فروحي نَوْحُ صادِحَةٍ
تظلُّ تشهقُ مِنْ شَجوٍ ومِنْ شَجَنِ
في اشارة صريحة الى حضور الموصل الدائم في ضميره. ولا يخفى كم هو موحي، ومؤثر هكذا مشهد في مشاعرمتفاعلة عاطفيا مع عنصر المكان، ومتوحدة عضويا معه..مع ان الكثير منها اليوم شأنها شأن عناصر التراث الأخرى طالها العبث،والمسخ، والإقصاء لأسباب كثيرة،ولكنه وهو من عاش تلك الصورة بتفاعلاتها الحسية البدئية، لا زال يسترجعه بعاطفة وجدانية تنبثق من قعر ذاكرة امسه، لتتواصل مع راهن حاضره..حيث يجد نفسه حاضرا في كل منعطفات فضاءات مدينته الساحرة،منذ ان ارتبط مكانها في مخياله بالأحداث، والوقائع، والمعاناة، المتصلة بتجربته الشخصية اتصالا عضويا لا تنفصم عراه:
في كُلِّ مُنعطَفٍ ، لي منكِ بحر هوًى
تجري بما تشـتهي في لُجِّهِ ، سُفُني
فلم يفلح توالي السنين، ولا ارهاصات الظروف الضاغطة في ابعاد مدينته عن حسه، ولا ابعاد ذاته عنها:
دارَ الزَّمانُ، ومَنْ داسُوا على كَبِدِي
ظنُّوا بِأنَّ جراحي ، عنكِ تُبعِدُني
ولعل اللقطات المتعددة من المشاهد،والصور المتراكمة في ذاكرته المرهفة الحس، تجمعها معه اصرة فضاء مدينته في مشهد تكوين تدفقات منثالاته التي حوتها بنية قصيدته، وهو ما جعل المكان متجسدا بمدينته فضاءا روحيا حركيا، وجماليا حسيا، يسكن دواخله برمزية درّية:
تضمُّ وجهَكِ أضلاعي ، وقَدْ نَثَرَتْ
دُرَّ الحَنايا لَهُ ، يا دُرَّةَ المُدُنِ
ويأتي حرصه الشديد على سلامة مدينته الموصل الحدباء، ورفضه العبث بكيانها، والمس بمقدراتها، انعكاسا بينا لا متعاضه من محاولات تقطيع أوصال مدينته، بأراجيف، وأطماع، وفتن عاصفة، بدوافع شتى، لا تنطلي على لبيب:
حَصَّنْتُ وجهَكِ بِاسمِ اللهِ مِنْ حَسَدٍ
و مِنْ أراجِيفِ أطمَاعٍ ، ومِنْ فِتَنِ
وخلاصة القول فان الشاعر معد الجبوري بما يمتلك من موهبة فطرية متوقدة، وخيالا خصبا،وتجربة غنية،تمكن من استيلاد هذه القصيدة الابداعية في لحظة انقداح ومضة حسه المرهف عن مدينته في اخاديد وجدانه، فنقل أحاسيسه المرهفة التي عاشها في تلك اللحظة عبر هذه القصيدة، الى وسطه من المتلقين، لكي يجعلهم يعيشوا معه تلك المشاعر التي عبّر عنها بتفاعل وجداني، باعتبار انه لا يكتب لنفسه فقط، بل وللآخرين في نفس الوقت. ولاشك ان ما تفتقت به قريحته من صور وجدانية عن مدينته الموصل الحدباء التي نعتها بدرة المدن،تظل فيضا من مخياله المبدع، المتفاعل بحس وجداني تلقائي مع مدينته على الدوام.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة