نايف عبوش
في بداية الموسم الشتوي من كل عام، كان الناس في الريف ايام زمان، والى فترة نهاية خمسينات القرن الماضي، ينتظرون نزول المطر بفارغ الصبر، لأنه كان مصدر الخير والعطاء في حياتهم. فكان الاطفال قد اعتادوا ان يرددوا بفرح غامر عند رؤية السحاب يتجمع في السماء في اول الموسم اهزوجة متداولة
(أم الغيث غيثينا.. بلّي بشيت راعينا..راعينا حمد أكرع.. لو سنتين ما يزرع)
وبشت الراعي في العامية، هو عباءته الصوفية الشتوية التي تحميه من المطر، وبرد الشتاء القارص. وفي مثل هذا المطر المتهاطل هذه الايام الذي يغاث الناس فيه في اول الموسم، كانت عادة الناس في ريف الديرة وقرى اطرافها ، المبادرة الى القربان بقصد التقرب الى الهي تعالى بالفطرة، وشكره على هذا الغيث، بما كانوا ينعتونه (الكران) يومذاك.. حيث كان الملاّ او اي رجل معتبر، يصعد ربوة القرية (تل صغير) او اي مرتفع فيها، فيدعو الناس للقربان بصوت عالي (كربان لوجه الله..)..فيتداعى القوم لذبح القرابين كل بوجده..بما يعنيه الغيث من السماء لهم من احياء للأرض، وانبات للزرع، ودر للضرع، حيث يتطلعون الى ان يعم الخير الجميع في هذا الموسم.
وعند نزول المطر لأول مرة، ترتسم البهجة على وجوه الناس، ويردد الصغار أهازيج اعتادوا ان يتغنوا بها ابتهاجا بنزوله على ديرتهم، حيث يتجمعون تحته، وتبتل رؤوسهم بزخاته، وهم يرددون
(مطر...مطر.. عاصي...طول شعر راسي)
في حين عند توقف المطر، وظهور الشمس، وتجلي قوس قزح يرددون
(طلعت الشميسة...على كرعة عيسة...عيسة بالمدينة... ياكل حبة وتينة)
كإشارة تيمّن متفائل الى استفادتهم من الرزق الذي جلبه المطر لهم، بما يعنيه لهم من كلأ لرعي المواشي، ووفرة الحبوب، وطحنها بالرحى لعمل الخبز. وكان الغرض من القربان بالإضافة الى ما يرمز له من معاني التقرب الى الله تعالى بالفطرة، وشكره على ما انعم عليهم بهذا الغيث بعد جفاف الصيف، يحمل دلالات ان يأكل الجميع اللحم، ميسورهم، ومعوزهم، بل حتى عابر سبيلهم ، فمن كانت ذات يده قصيرة من ابناء القرية، فان الاخرين سيتكفلون بطعمته من القرابين. انها عادات حميدة تحمل معنى التكافل الاجتماعي، والطيبة الريفية في ذلك الماضي الجميل، لكنها انقرضت من الوجود اليوم مع الحداثة، ولم تبق منها الا الذكرى في مخيلة مجايليها
للعودة إلى الصفحة الرئيسة.