نايف عبوش
في حوش بيت الطين الذي يتوسط القرية يوم ذاك، كانت ثمة شجرة زعزور قائمة، وارفة الظلال، متشابكة الأغصان، وتتدلى منها عناقيد ثمرة الزعرور، فكان الصبيان يقطفونها بأيديهم، ويلتقطون من تحتها ما تساقط منه وقت نضوجه، في حين تنقر الطيور منها ما هو مقسوم لها. ومع أن دور القرية كانت تضم العديد من أشجار التوت، والغرب، والدفلا، إلا أن تلك الشجرة كانت من أكبر تلك الأشجار حجما، فظلت الذاكرة الجمعية للناس تختزن صورتها في الاعماق بمرور الزمن. تلك الشجرة الباسقة المهيبة عايشها جيل تلو الاخر، فأمضوا معها أجمل أيام طفولتهم، وصباهم، حيث كانت بما هي ايكة ملتفة، وكرا للعصافير، والزرازير، واليمام، وغيرها من الطيور، وتحط في أعاليها أحيانا طيور نادرة. لكن اللقلق اعتاد ان يبني عشه في أعلاها، امنا مطمئنا، لكونه في بخت اهل الدار، فتبيض انثاه بيوضها في الربيع، وتحتضنها للتفقيس، وترعى فراخها حتى تتمكن من الطيران، ثم تعود ادراجها مهاجرة من حيث أتت في نهاية الموسم، بانتظار العودة الى العش مرة اخرى في اوائل ربيع العام القادم. كان جذع الشجرة ضخما، وبعض فروعه مجدولة، وملتوية، وتغري صبيان الجيران، واطفال القرية باللعب حولها، والاستمتاع بطقطقة صوت اللقلق وهو يطعم اطفاله بمنقاره الطويل، وكان البعض منهم يتسلقها، وحيث يدنو من عش العصافير، او الحمام، يمد اصابع كفه بمهارة، وهدوء داخله، فيمسك ما يمكنه ان يقبضه منها، وينزلها من العش ليتسلى بها، ثم يذبحها، ويشويها فيأكلها. وظلت صورة تلك الشجرة عالقة في ذهن الجيل الذي عايشها حتى بعد ان زالت من الوجود، بعد ان رحل صاحب الدار، وبدلها بدار أخرى، ليطال العبث تلك الشجرة، ويتجرأ المارة عليها بالقص منها، وكسر أغصانها، حتى تآكلت بمرور الزمن، وانتهت من الوجود تماما، لكنها ظلت مثابة بارزة للاستدلال حتى الآن، ليقال عند شجرة الزعرور. هكذا اذن تظل عناصرهوية المكان من الشجر، والنهر، والوهاد، والتلال، عصية على النسيان، وحاضرة في ذاكرة الجيل الذي تعايش معها، حتى وان توارت من الوجود.
من وحي مقدمة قصيدة (تلك الشجرة البعيدة) للشاعر معد الجبوري المنشورة في موقع بيت الموصل بتاريخ 3\5\2014
للعودة إلى الصفحة الرئيسة