نايف عبوش
هاتفني زميل لي من ايام الدراسة المتوسطة مساء ذات يوم، بعد طول فراق، وكنت ساعتها مضطجعا في فراشي، وسنان العينين، أتأمل في تخاطر غريب، مشاهدا من حياتنا الراهنة المثقلة بكل ارهاصات استلاب الحداثة الذي ينغص علينا ما افرزته العصرنة من معطيات ايجابية، مقارنة بمفردات حياتنا البسيطة ايام زمان. ومع أن لكل إنسان، قدّر له أن يعيش حياته على طبيعتها، ذكرياته الخاصة به، وبغض النظر عن خزين ذكرياته المتراكمة عنها في مخيلته...فلا شك ان طريقة استرجاع تلك الذكريات، هي النكتة التي تثير الانتباه، في تعاطي المرء مع ذكرياته، إذ يبقى هو الشخص الوحيد القادر على الدخول إلى مكنونات ذات صدره، والتنقيب في دهاليز ذاكرته، لتثوير مكنوناته منها، واسترجاعها، والتفاعل الحسي المرهف معها، كلما اضطرته معمعة الحياة وضغوطها، للعودة لها، للاستعانة بتجربته الماضية على شظفها. ومع ان البعض منا، عندما يسترجع ذكرياته، يسترسل مليا في تصفح ملف ذكرياته المطوية في سجل مخياله، حتى تطغى عليها مسحة الانشراح، ليتخذ منها واحة وارفة للحبور، بعيدا عن ارهاصات واقعه المؤلم، فأننا نجد البعض الآخر، يحس بعاطفة جياشة، يشعر معها وكأنه لازال صبيا يطارد على عصاه، مع صبية الحي، كما يقولون، مع انه قد بلغ من العمر عتيا، وطوحت بملامح محياه الأيام، بينما نجد البعض الآخر، تطغى على استرجاعه ذكرياته الغابرة، مسحة التشاؤم، لتتمظهر في تجاعيد وجهه ملامح الوجوم، تعبيرا عن حياة مؤلمة، عاشها ببؤس، وعانى شقاءها بقساوة ردحا من الزمن، بقياس كل ما ينعم به اليوم من رخاء ويسر، مما يعطي الانطباع بان الية استذكار مراحل حياتنا الماضية غالبا ما تكون متماثلة وجدانيا الى حد كبير مهما تباينت تجاربنا الشخصية، لاسيما اذا ما جرى استرجاعها بشيء من العاطفية المحضة، والتلقائية العفوية، التي تأخذنا في صورها الوجدانية المركبة، في رحلة من الانزياحات العاطفية المتخارجة عن حقيقة تلك الذكريات بشيء من الحس المرهف، الذي يتخطى احباطات الحال المرهق بسلاسة. وعندما سألت زميلي عن حاله، في اطار تبادل التحايا معه، استرعى اهتمامي ما اجابني به بصريح القول من (اننا يا اخي انما نعتاش اليوم على ما يختزنه عقلنا الباطن من ذكريات الماضي) استشعارا للسعادة، لكي نتجاوز بها تعاسة غربة الحاضر، وصعوبات الحياة، بعد هذه الرحلة الطويلة من العمر. وبذلك فقد ادهشتني بحق عاطفته الجياشة، وطريقة تعبيره بهذه التلقائية عن ما يجول في خاطره، وما يكابده من معاناة العزلة بفجوة الجيل في حياته الراهنة، التي يسعى لتجاوز مرارتها بلجوئه لإعادة إنتاج صور الماضي، واستيلادها بذهنه بطريقة وردية، ليشاطر زملاءه الاحساس بوحدة المعاناة، ويشاركهم الحنين الى الذكريات، رغم كل الفوارق الشخصية في معايشتها.
وبغض النظر عن التفسيرات النفسية لمثل هذه الظاهرة من الحنين الى الماضي بهذه الطريقة الوجدانية المؤثرة، التي عكستها عبارة زميلي لي، ومن دون الحاجة للدخول في تفاصيل التأويلات العلمية البحتة لها التي غالبا ما تختزلها في نوستالجيا باهتة، فأنه يبدو ان هذه الظاهرة تظل حقيقة انسانية ماثلة بيننا نعيشها بين الحين والآخر، فلطالما شعرنا اننا نقتات فعلا على تخوم حافات ذكرياتنا، كلما سنحت لنا الفرصة بخلواتنا الفردية بالعودة الى تلافيف الذاكرة،والتسكع في وهادها السحيقة، تلمسا لبصمات ماضينا الجميل التي تغمرنا بجرعة سعادة معنوية، كلما هربنا اليها من صخب حياتنا المعاصرة، حتى وان بدت لنا سعيدة في كثير من جوانبها، وطافحة بالرفاهية
للعودة إلى الصفحة الرئيسة.