سمير عبد الرحيم
فقيد الثقافة والاعلام
بقلم : احمد عبد الله الحسو
العراق المعاصر مهجر متصل يحمل غربة ابنائه على ارضه، وغربتهم في غيرها من بلاد الله ...يترحلون ويرحلون هنا وهناك وهم يحملون عذاباتهم، فهل الى مستقر آمن من سبيل؟ وهل ثمة نهاية لهذه المعاناة ؟ ترى متى يعود العراق الى نفسه فيضم ابناءه الى ابنائه؟
ذلك ما انتابني وانا افاجأ قبل ايام باخبار آخر الراحلين الصديق العزيز والمترجم القدير ورجل الثقافة والاعلام سمير عبد الرحيم الذي رحل فجر يوم 27\ 1\2014 بعيدا عن العراق وعن مرابع طفولته وشبابه في الموصل .
دور المرحوم سمير الجلبي
في مجال الاذاعي والاعلامي
كانت اول لقاء لي بالفقيد في دار الاذاعة العراقية في الصالحية عندما انضم في السادس من تشرين الثاني من سنة 1958 مع كوكبة من المذيعين الى اذاعة بغداد بينهم سنان سعيد ( رئيس قسم الاعلام بجامعة بغداد رحه الله ) و حبيب محمد كريم (شخصية قيادية في كردستان) ورجاء عبد الرحيم (استاذ في جامعة بغداد) و نجلاء فضلي ( مدرسة لغة عربية ) ورياض الياور ( قنصل في وزارة الخارجية ). ويبدو لي انه كان الاصغر بيننا -نحن مذيعي تلك الحقبة - فهو ممن ولدوا في 16 حزيران 1940؛ اي انه مارس العمل الاذاعي وهو في الثامنة عشرة من العمر.
بعد مرور اكثر من نصف قرن جمعنا وجودنا في المهجر ليعيد الينا ذكريات لعل اهمها الى الذهن عندما كنا نلتقي في قراءة نشرات الاخبار في ستوديو المذيعين. فبدأنا نتراسل و نستعيد ذكرياتنا، وكان فرحه كبيرا عندما اعلمته انني وبعض الاصدقاء نقوم بجمع معلومات في اطار مشروع للكتابة عن تاريخ اذاعة وتلفزيون بغداد، فكتب الي عن برنامجه الاسبوعي : ركن الجزائر والذي كان يقدمه ابان ثورة الجزائر وانه اذاع في احدى حلقاته النشيد الوطني الجزائري فنال شرف اذاعته لاول مرة من اذاعة بغداد . كما تحدث لي عن برنامج يحمل اسم: بريد المايكروفون حيث كان يجيب فيه على اسئلة المستمعين، اضافة الى تقديمه برامج في سلسلة (حول العالم ) عن بولندا وتونس وزلزال أغادير ولبنان والهند.
و مما جاء في احدى رسائله حديثه عمن زاملهم في اذاعة بغداد من المذيعين حيث قال :
( سبقني في العمل في الإذاعة أحمد الحسو وكان طالبا في قسم التاريخ في دار المعلمين العالية ثم نال درجة الدكتوراه من بريطانيا وعمل في جامعة الموصل وعدة جامعات عربية، وصلاح نيازي وكان آنذاك طالبا في قسم اللغة العربية بدار المعلمين ونال الدكتوراه من بريطانيا التي هاجر إليها عام 1963 ، والمرحوم حميد الهيتي وكان طالبا في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية ونال الماجستير من جامعة القاهرة وتولى عدة سنوات عمادة كلية الآداب بالجامعة المستنصرية وهي الكلية التي عينت مدرسا فيها عام 1975 ، وعربية توفيق لازم من طالبات قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية وقد نالت الدكتوراه من مصر وتولت التدريس في جامعة بغداد
وكان من المذيعين الذي عملت معهم كذلك المرحوم قاسم نعمان السعدي وموحان طاغي وطارق حسين ومشتاق طالب.).
تلك كانت لمحة عن نشاطات فقيدنا العزيز سمير الجلبي في مجال الاذاعة والاعلام ابان شبابه المبكر
دور الفقيد في المجال الاكاديمي
وفي حركة الترجمة
ابتدأت رحلة سمير الجلبي في المجال الاكاديمي في دار المعلمين العالية( كلية التربية تاليا ) بجامعة بغداد وفي فسم اللغات الأجنبية حيث حصل على درجة بكالوريوس ثم التحق بجامعة ويلز في بريطانيا وحصل منها على شهادة الماجستير عام 1975 . عين بعد ذلك مدرسا للغة الانكليزية والترجمة في الجامعة المستنصرية وأوفد ثانية إلى بريطانيا ليحصل على درجة اخرى للماجستير في الترجمة عام 1983 ، ولدى عودته الى العراق عين مديرا للترجمة والنشر في دار المأمون ثم احيل على التقاعد عام 1989 ،بعد حصوله على درجة خبير في الترجمة.
اتسم العقدان الاخيران من حياته بعد التقاعد بنشاط ملحوظ فقد عمل في اكثر من مجال، ومن ذلك تدريسه في كلية المنصور الجامعة ثم انتخابه مديرا لمؤسسة الموسوعة العربية التابعة لألكسو حيث امضى سنتين من عمله على راسها في تونس وسنتين اخريين في المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت
ثم عمل سنة 2002 في وزارة الخارجية القطرية بمدينة الدوحة فامضى في عمله هذا ثماني سنوات ثم انتقل بعدها( 2010) للاستقرار في العاصمة الاردنية عمان وبقي فيها - رحمه الله - حتى وافاه الاجل .
ان من يقرأ اسهامات وترجمات الفقيد الجلبي يتضح له ان كان يتحرك في اتجاهين ، اولهما الادبيات التي تخص تاريخ العراق القديم وثانيهما تاريخ مدينة الموصل التي نشأ وعاش فيها وقال عنها : (أعتقد أن كل موصلي عليه أن يبذل كل جهد ممكن في إبراز دور الموصل والموصليين في بناء العراق قديما وحديثا ) .
وحين لاحظ الفقيد ان الكتب المنشورة عن تاريخ العراق القديم وآثاره باللغتين العربية والانكليزية قليلة مقارنة بعدد الكتب المنشورة عن مصر القديمة.، فكر بالمساهمة في نشر المعلومات عن مدينة بابل عبر الترجمة فافاد من عمله مديرا للترجمة في دار المأمون للترجمة والنشر في عقد الثمانينات من القرن العشرين واقترح على دائرة الآثار والتراث ترجمة كتاب :
"Babylon" by Professor Joan Oates (1979)
وقام بترجمته سنة 1986 تحت عنوان : بابل – تاريخ مصور"
كما قام رحمه الله بترجمة مائة وعشرين بحثا وتقريرا مما قدم في ندوتين آثاريتين دوليتين عن بابل وآشور عقدتا عام 1978 و و1979 وتم نشرها في مجلة سومر العريقة التي تصدرها دائرة الآثار والتراث في الاعداد : 35 و 40 و 41 و42.
دور الفقيد الجلبي
في مجال النشر الالكتروني
كان الفقيد الجلبي خلال السنوات الاربع التي سبقت وفاته على تواصل مع وسائل الاتصال الالكتروني وقام بنشر عديد من مقالاته وترجماته في مواقع عديدة وقد تركز اسهامه هذا بعد تبني ثلاث مواقع الكترونية لاعماله وترجماته، وهي مواقع: بيت الموصل ، وبيت الكتاب ، ومركز الحسو للدراسات الكمية والتراثية ، وتجلى ذلك بنشر موسوعته التاريخية الرقمية في حلقات متصلة شهريا وباسلوب وتصميم ناجحين، كما ترافق معه نشر عديد من كتاباته وترجماته ، ويجدر بي ان اشير هنا الى حادثة لها دلالتها الكبيرة فقد كان الزملاء في هيئة التحرير معتادين على ان يصلهم حلقة جديدة من الموسوعة مع بداية كل شهر فاذا هم يفاجأون بتسلم حلقات عديدة لاشهر عدة فلما استفسروا من المرحوم سمير الجلبي ، كتب اليهم يقول : انه مريض وانه خشى ان يحصل له ما قد يحصل، فآثر ان يرسل اقصى حد من الحلقات . وكانه يقول لهم ان الموسوعة امانة بين ايديكم .
وثمة امر آخر كان للفقيد دولره الايجابي فيه فقد كان مركز الحسو للدراسات الكمية والتراثية يشكو من عدم وجود ترجمات باللغة العربية للادبيات الخاصة بالمنهج الكمي فكتب اليه ان كان يود الاسهام بترجمة بعض المصادر في هذا المجال ، فجاء جوابه ايجابيا ومشجعا يقول : انا على اتم الاستعداد للمساهمة وترك لنا ان نختار المصدر الانسب لكي ننفذ المشروع ، بيد ان حكم القدر حال دون تنفيذ هذا العمل ليبقى امانة واملا قد ينفذه رجال لهم حرص الفقيد الكريم وعشقه للمعرفة .
ولعل خير ما يعطي صورة عما كان يفكر فيه الرجل ما جاء في رسالة وصلتني منه مؤخرا فقد قال: (أثناء عملي مقررا لدراسات بيت الحكمة في الأعوام 1996-1998 اقترحت تكوين مكتبة في بيت الحكمة تضم كل ما كتب ونشر عن بغداد باللغة العربية واللغات الأجنبية في العصور المختلفة من كتب ومقالات وبحوث وأطروحات وندوات، الخ. وقد بذل بيت الحكمة في تلك السنوات جهودا لاقتناء الكتب، عن بغداد والعراق، وبدأ بالبحث عنها وشرائها مباشرة من مكتبات شارع المتنبي وراح أعضاء اللجنة المكلفة يتجولون فيها أيام الجمعة للبحث عن الكتب التي أودعت في مكتبة بيت الحكمة الجديدة وآمل أن تلك الكتب ما تزال هناك !ـ
وقد عثرت اليوم وأنا أتجول في الانترنت على كتاب بالإنكليزية عن الموصل وخطرت لي فكرة تجديد الاقتراح بدعوة مركز دراسات الموصل في جامعة الموصل إلى إطلاق حملة مفتوحة لاقتناء كل ما نشر عن الموصل من مطبوعات باللغات كافة ومنها اللغات القديمة واللغات المحلية، بما فيها اللغات العراقية، من نسخ ورقية أو الكترونية أو مخطوطات والدعوة إلى التبرع بها واختيار الجيد من المطبوعات باللغات الأجنبية لترجمتها إلى العربية وترجمة البعض من المؤلفات عن الموصل بالعربية للنشر باللغات الأجنبية وإشراك أساتذة جامعة الموصل وغيرهم في الترجمة. ويمكن وضع خطة خمسية وخطط سنوية لتنفيذ المشروع).
ذلكم هو فقيد الثقافة والاعلام سمير الجلبي
رحمه الله وتغمده بالرحمة والرضوان
للعودة إلى الصفحة الرئيسة