بقلم: احمد عبد الله الحسو
جانب من مذكراتي عن بيت كان يسكنني واسكنه وعن جيرة يعذب الحديث عنها، اهديها الى الاعزاء اسرة بيت الموصل بمناسبة عيد الفطر مع تمنياتي الطيبة لهم ولام الربيعين والى كل اولئك الطيبين الذين عرفتهم قبل ما يزيد على نصف قرن .ه
***
بيت كان يسكنني و اسكنه
يتكئء في يمينه على مبنى جامع شهرسوق ويطل في جهته اليسرى
على دير مار بيثون
في جنباته تعلمت نطق حروف الهجاء
وفي افيائه تادبت بادب يحترم الاخر ، وتعلمت الا اعيش بالخبز وحده
ثمة باب خلفي كنت ادلف واخوتي منه ، الى باحة الجامع فنستظل بظل اشجارها الوارفة
كان اخي الكبير ابو مازن يتسلق شجرة التوت المتناهية في الطول ، ويبني كالطيورعشا له فيها
ما زالت صورته عالقة بذهني يجلس على متكئه اعلاها وهو ممسك بكتابه
لم اكن اقوى على محاكاته
كنت كظله في صعوده ونزوله اخر النهار وكنت اسائله
عما يقرؤه وهو في عشه بين اوراق التوت
هنالك عرفني على جبران خليل جبران وغيره من ادباء المهجر..ه
سمعت منه
اسم المنفلوطي والرافعي وابي تمام والسريِّ الرَّفاء...ه
وحفظت قول الشاعر:ه
اعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
عرفت كيف اعشق الكتاب واعتبره حلمي
من اجل عوالمه الوسيعة ،ه
عبرت الحواجز يوما وانتقلت من بلد الى بلد
لكن قلبي ظل متعلقا بذات البيت
نصف قرن من البعد كان كافيا كي يطلق كوامن الشوق
ها أنذا اطوي المسافات ثانية فأَقف قبالته
ولجت الى باحة الجامع اتحسس في ثناياها مواضع طفولتي
هاأنذا استمع الى تكبيرات العيد
اكاد اراني وانا ادلف الى دواخل المنارة
اصعد بحذر درجة درجة
حتى اذا تلالأت النجوم امام ناظري حلقت منسابا مع جلال الليل
يا راحلين الى منى بقيادي هيجتموا يوم الرحيل فؤادي
انني مغرق في صمتي ولكني استمع اليَّ
الصوت لا ينتهي
والحلم يظل خالدا
***
تركزت عيناي على الباب الخلفي الذي ذكرت
بقيت جامدا لا اكاد اتحرك
كانت الغرفة التي يؤدي اليها هي موضع ذكرياتي
عبرها وفيها اكاد اسمع اصوات اخوتي
هنا كان يجلس والدي الى اصحابه
قاسم الجليلي ..احمد سعيد .. امين الرمضاني .. علي بن حسين
هنا اشتدت جلسات جدل عنيف عن اول كتاب استطاع ان يثير جدلا
.اسمه : ( هذي هي الاغلال ) ه
وهنا ايضا تعلمت ادب الحوار واحترام الاخر
ظل ذهني يسرح مستعيدا صورا لا نهاية لها وانا ما ازال قبالة الباب ذاته
اتأمله واحس به يتامل ،هو الاخر، فيَّ
انه يذكرني بمرافقتي له مع لحظات الفجر الاولى من شهر رمضان متجها ال منارة الجامع لكي اصدح بصوتي
(احترام ...امة محمد ...احترام)
او لا نغمر مع جلال الليل الموصلي مرددا :ه
طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا وبت اشكو الى مولاي ما اجد
ظلت الصور تترى
وظللت في مكاني متاملا
هنا فتح الباب وخرج منه طفل في مثل عمري يومئذ
في لحظة ذهول شعرت انني هو
نظر اليَّ نظرة عابرة
ثم اقفل الباب بهدوء
كأنَّ شيئا لم يكن
اواه
كم كنت اتمنى لوان جدران الغرفة ونوافذها حدثته عني
حدقت فيما حولي
لم اجد المصلين كما كنت اعرفهم
عبد الخيرو ...ملا حامد...واخرون غيرهم ...
كل شيء غريب عني
ليس ثمة ثمرات تين متساقطة
ولم تعد شجرة التوت وارفة
الخضرة من حولها صارت ارضا صماء
لقد نضبت كما نضب عشاقها
لم اعد اسمع صوت العصافير
لكني سمعت -مع ذلك - همسا حزينا يقول :ه
كـأنَّ صـَوتاً يـُناديـني ، وأسـمَعـُه
ياحارِسَ الدّار.. أهلُ الدارِ لن يـَصِلوا *
________________________________________
البيت هو للشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد
*******
الكاتب: أ.د. احمد عبدالله الحسّو
تعليقات الزوار
خالد الخريسات - March 19, 2013, 10:36 am
الاستاذ الفاضل كلمات رائعة وجميلة لكنا لا نستطيع الا طي المسافات حين يسر الشوق خطوطه علينا لنسافر عبر اثير الذكريات الى اماكن عشنا اجمل لحظات عمرنا فيها ، لقد وصف المكان باحساس مرهف ناجم عن مخيلة ما زالت تعيش تلك اللحظات بادق تفاصيلها لك مني اارق تحية واحترام وتقدير .
رفل احمد الحسو - August 24, 2012, 3:04 am
الله ياوالدي العزيز كلام رائع جميل دقيق بوصفه، يجعلني وكأني اعيش معك لحظة بلحظة تلك الايام الجميلة، ننتظر منك المزيد فهي ذكرياتٍ ممتعة للغاية.
د.سوسن الفاخري - August 23, 2012, 3:16 pm
استاذي الفاضل ...كلمات بسيطة سطرت فيها تاريخا يصف البشر والحجر ...الروح والفكر ..الادب والشعر ...الزمان والمكان...الفرح والحزن ..التغيرات الزمانية على المكان...والاجمل من هذا كله ان احساسك الصادق بما تصف نقلنني معك في رحلة ذكرياتك فتعرفت على المكان والزمان والاشخاص...اضفت الروح والحياه للكلمة لدرجة شعرت اني اشم رائحة وعبق المكان ...هكذا انت دوما استاذي صدق روحك ينعكس على كتاباتك...باختصار هذا هو التوثيق الصادق الشامل للتراث...اشكرك استاذي اسعدتني جدا كما اسعدت من قرا لك بروعة ما كتبت ...دمت لنا ومزيد من العطاء ان شالله ...وفقكم الله ....
د. أحمد حامد المجالي - August 23, 2012, 12:25 am
في غاية الروعة كنت وما زلت، فما أجملها من ذكريات كيف لا وهي التي شكلت المتميز في فنه وعطائه لك مني ومن طلبتك في جامعة مؤتة عظيم الامتتنان والتقدير
د. حنان الخريسات - August 23, 2012, 12:17 am
استاذي الفاضل الدكتور احمد الحسو تمنياتي بعيد سعيد ، حقيقة انها ذكريات جميلة ورائعة يخطها قلمك أتت كمقتطفات ايضا جميلةتخرج من حقيبة مليئة بالمثيرات التي تثير الشجن بالعودة الى مكان تحن اليه رغم وحشته لبعد المسافات . تمنياتي بتألق دائم .
امجد محمد سعيد - August 22, 2012, 11:49 pm
اخي الاستاذ احمد الحسو لقد لمست بيدك جرحا في قلبي لن يندمل ابدا يا صديقي العزيز كم الف مرة مررت ببيتك وانا عائد الى بيتي في شهر سوق . كان على طريقي الى مدرسة النجاح الابتدائية والى متوسطة المثنى والى الاعدادية السرقية ناهيك عن الاف المرات غير المحسوبة . اي شيئ تكتبه لن يكفي ابدا . لقد دخل المكان الموصلي وخاصة شهر سوق في اعماق قصائدي عشرات المرات وما زلت احس ان كنزا بجانبي ينبغي ان افتحه مرات ومرات لانهل منه ما اشاء. اخي الدكتور الحسو ان اهل الدار قد وصلوا ولكنهم رحلوا وكأن المدينة رحلت فيهم وكأن المدينة مدن لكل فرد مدينته التي جاءت به وسترحل به ايضا .امجد محمد سعيد
د كنانه محمد ثابت - August 22, 2012, 6:58 pm
اطيب تحية في هذه الايام الكريمة لاخي العزيز دكتور أحمد الحسو أبو نمير وقد ابدع بالتعبير عن ذكرياته لايام خلت وامكنة تغيرت عبر عنها كعادته فأختار من الكلام اعذبه ومن الشعر اروعه كلنا تهيج بنا ذكريات الماضي الجميلة التي لازالت حلاوتها في الذاكرة ولكن هل نقدر ان نعبر عنها كما فعل الدكتور أحمد أشك في ذلك حفظك الله ياأبا رفل وادام عليك الصحة والعافية مع اطيب سلام لك ولكافة الاخوة المساهمين
د نبيل نجيب فاضل حديد - August 22, 2012, 12:40 am
كأنك تحدثت نيابة عن البشرية كلها حين تقف الكهولة أو ما وراءها بأزاء ملاعب الطفولة وسنوات العمر الأولى التي غادرتها منذ زمن.. ذكريات اسماء ووجوه وأحداث لا حصر لها تجتمع على القلب جملة واحدة فتجاوز قدرته على الوجيب إلى العيون لتستدرها أدمعاً. كل شئ في مثل هذه اللحظات يشي بأن الكثير قد مضى وأن الأقدار قد وضعتنا في سبيل معلوم..عزاؤنا الوحيد هو رحمة الله والباقيات الصالحات.. دمت بكل خير في كل عام.
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد - August 21, 2012, 5:28 pm
كم انت رائع ايها الشاعر المؤرخ الجليل الأستاذ الدكتور أحمد عبد الله الحسو وكم هي جميلة حَقِيبَة ذِكْرَيَاتك... إنها حَقِيبَة احتفظت بها أكثر من نصف قرن، وهي ذِكْرَيَات مخزونة في ذاكرتك... تشمل كل ما يطيب ويسرّ.. فيها قصص وتجارب وفيها أوراق وأقلام .. وفيها أصدقاء وأحبة .. وفيها فراق وألم ... وفيها مدارس ومساجد... فيها شعر ونثر ... فيها كل ما هو أصيل ونقي فيها ذِكْرَيَات رائعة. كما عرفت المنطقة آنذاك أجمل صوتين في أداء التكبيرات والقصائد الخاصة بالتمجيد في رمضان والعيدين أولهما صوت الشيخ المقري والمفهرس المعروف المرحوم الأستاذ سالم عبد الرزاق الذي عرفته منارة جامع الجويجاتي أبان شبابه متألقا، وثانيهما هو الشيخ المقري الحاج بشير محمد الذي ظل يصدح بصوته العذب وهو يعتلي منارة جامع عمر الأسود (جامع شهر سوق) وقد كان له تأثيره الكبير على عدد من شباب المحلَّة الذين كانوا يرافقونه في الإلقاء ويحذون حذوه ومنهم مقامك الكريم الأستاذ الدكتور أحمد عبد الله الحسو (حفظه الله) الذي حدثنا عن ذِكْرَيَاته: حينما كان في السابعة من عمره وبرعاية الحاج بشير (رحمه الله) وتشجيعه بالصعود على منارة جامع شهر سوق في أواخر الليل في رمضان المبارك لكي يطلق صوته الجهوري بنداء إلى الله العلي القدير في قصيدة معروفة تقول: طرقت باب الرجا والنّاس قد رقدوا..... وبت أشـكو إلى مولاي ما أجد. وفي ليالي العيد كان تيدد مع (الحاج بشير) رحمه الله: يا راحلين إلى مِنى بقيادي .... هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي. ألا تستحق هذه الذكرات أن توثق في كتاب. لقد اسعدتني مقالتك الفواحة كالنرجس في الربيع، بارك الله فيك وحفظك ذخراً للموصل والموصليين، وكل عام وانت بألف خير
الاستاذ الدكتور رياض حامد الدباغ - August 21, 2012, 4:17 pm
شكراً جزيلاً على رقة التهنئة ,وعلى حديثكم العذب والذي يدخل القلب بلا استئذان . وكل عام وانت والعائلة الكريمة بالف خير داعيا من الله ان يعيده على الجميع بالخير والبركة ويعود العراق بلدا للجميع دون تفريق ..وما ذلك على الله ببعيد ..... أخوكم الدكتور رياض حامد الدباغ
المهندس حسن ميسر صالح الأمين - August 21, 2012, 4:14 pm
الأستاذ الفاضل الدكتور احمد الحسو المحترم بمناسبة عيد الفطر السعيد اتقدم لشخصكم الكريم بأرق التهاني وأجمل التبريكات سائلاً المولى عز وجل يجعلكم من سعداء الدارين قريروا العينين لا تشكون هماً ولا حزناً ولا دين أسأل الله لكم حياة عامرة بالخيرات والبركات والتوفيق وعيدكم مبارك وكل عام وانتم بألف ألف خير المهندس حسن ميسر صالح الأمين الإمارات - آب 2012
معد الجبوري - August 21, 2012, 4:08 pm
لقطة تذكر حالمة تحوم حول بيت الطفولة في تلك المحلة العريقة البعيدة القريبة (شهر سوق) لقطة تتشح بأسى شفيف تثيره الذكرى وكر الأيام، عبر لغة موجزة موحية هي لغة الخلق والابداع لشاعر رائد وكاتب قدير هو الأستاذ الدكتور أحمد الحسو .. بارك الله بك عزيزي الدكتور ولا بد لمشروعك هذا أن يتواصل لنرى المدينة من خلالك ونراك في المدينة بعد طول غربة ... وكل عام وأنتم في تألق وعطاء لا ينضب، مع أجمل تنحياتي .... معد الجبوري
صديق الجماس - August 21, 2012, 4:07 pm
تحية طيبة لك سيدي الكاتب وعيدا سعيدا . وقفت في ( مرثيتك ) واقول مرثيتك لانك من حر الشوق والذكرى تبكي الاطلال والزمن الجميل وتبكي دهرا لن يجود الزمن بمثله , وقفت فيها على صورة وجدانية رائعة , عرفت منها سر صمتك الحكيم وندرة ما تكتب في هذا الموقع . وان الذي استنطقك في هذه البانوراما الرائعة شعور خالص وهاج وهو الذي كتب ولم تكتب لذلك خرجت قصيدتك قصتك روايتك مقامتك ناصعة ورائعة وتفيض بالوجد . يطربني هذا الشعور الجميل الذي طرقني بدون استئذان واغمض عيني لبرهة ليريني شريط سينمائي معتق من غير عيون . الشعور الجميل والاحساس الصادق يأتي دون ان تعرف قوالبه اللفظية ولا الموضوعة . والبلبل حينما يغرد ويشدوك تغريده لاتعرف من اين اتي ولا يهمك كذلك ان البانيا ام محليا . انت تقول وذاكرتك تستعر اشتعالا , كما انك تحرق مخيلتنا لاننا قرأنا مقالتك عبر المخيلة . اتمنى عليك ياسيدي ان نقرأ المزيد من هذه الوصلات الادبية . كما احب ان الفت عنايتك . ان اسلوب العرض هذا قد غاب عنا وكدنا ننساه منذ طه حسين حسين والمازني والرافعي والمنفلوطي . ولانك من جيل لازالت بذرات هؤلاء لم تجف فيه بعد . لذلك تطابقت صورة قلمك للذكرى مع ذكرى قديمة فكانن وصفك بالاسود والابيض كذلك مثلما هو الزمن الذي تنعيه وتصفه بتلك الفترة . فقرأناه قديما لفظا ومعنى وتصورا وادوات . ولا يعني هذا ان الاسلوب القديم الوصفي سيئا ابدا بقدر ما يعني اننا بحاجة هذه الايام الى هذا الوضوح الممتنع ( السهل الممتنع ) بدل الغموض والايهام والغنوصية . كان موضوعك قويا حيث استعنت بالالفظ الواضحة السهلة والمؤدية الى المعنى تماما . بخلاف ما نشهده من كتابات تعقيد الالفاظ لمداراة القصور الواضح في المعنى او سخافة الفكرة . شكرا لك سيدي ولقلمك ولرائع ذكرياتك . واتمنى ان اقرأ لك دوما .
د. حكمت الحلو - August 21, 2012, 4:01 pm
ما اجمل ذكريات الطفولة التي كلما شاخ الانسان ازدادت حضوراً وعذوبة ، لقدت هيّجت يا سيدي لواعج دفينة وأشجاناً نائمة ، نحو امكنة لا يمكن لها ان تنمحي او تزول فرغم الوحشة التي تلف المكان الذي نعود اليه إلا ان الذكريات ما تبرح منثالة سخية تثير في المرء الحنين وتدفعه للالتصاق بهذا المكان الأليف ، ولعل أقوى الفة هي مع المكان قبل الانسان لثبات الاول وزوال الثاني ، شكراً لك استاذنا الكبير على هذا المقال الرائع وكل عام وانت موفور الصحة مزداناً بالوقار.