العراق ... الى اين ؟
أ.د. احمد عبدالله الحسّـو
استجابة لدعوة البروفسور د. عبد الاله الصائغ
نشر الاستاذ الدكتور عبد الاله الصائغ مقالا في موقع النور بتاريخ 12/07/2014 تحت عنوان
(من يساعد الصائغ في قراءة الكوارث التي حاقت بالشعب العراقي )
وفي هذا المقال قراءة متواضعة لذلك
شكرا للصديق الكريم الاستاذ الدكتور عبد الاله الصائغ على تحليله للواقع العراقي المعاصر، ودعوته المثقفين الى مناقشة ما طرحه بصدد الوضع الخطير والكارثي الذي حاق بالعراق والعراقيين اليوم ،وحسنا فعل إذ ربط ذلك بجذور موغلة في اعماق التاريخ ، فحدثنا عن ماساة الانسان العراقي في العصور القديمة كما تعكسها شريعة حمورابي التي نصت على (معاقبة المتهم بالخازوق) وحظرت (..على الزوجة ازعاج زوجها ،والعبد ازعاج سيده ،والفلاح ازعاج الاقطاعي، والا اجلست الزوجة ،واجلس العبد، والفلاح، على خازوق!) ؛ واحسب ان الدكتور الصائغ اراد بذلك ان يقول إِن النزوع الى التطرف في العراق موغل في القدم، وان فلسفة العقاب بالخوازيق ظلت تفعل فعلها بعد حمورابي في العصر الوسيط والحديث والمعاصر.وليس من شك انها كذلك، وان كانت قد اخذت اشكالا مختلفة .
ليسمح لي الصديق الكريم ان ابدأ من حيث بدأ فانتقل الى العصر الوسيط والى القرن الرابع الهجري على وجه التحديد لنقف على اشكال مختلفة عن خوازيق حمورابي ولما هو اشد منها ضراوة وتاثيرا .
لنقرأ ما قاله فيلسوف ذلك العصر واديبه الكبير ابو حيان التوحيدي (310 -414 هـ)،عندما سأله يوما متسلط قاهر،كان قد ضاق ذرعا بنقد العامة من ابناء شعبه له،وللسلطة التي يمثلها، وكان قد هَمَّ (بقطع السنة وايد وارجل وتنكيل شديد...)(1)، فاراد ابو حيان – وكان اذ ذاك مقربا منه - ان يحول بين الرجل وبين ان ينفذ وعيده، فنقل اليه صورة عن مظالمهم وخاطبه كما لو انه واحد منهم فقال :
( ولم لا تسمع كل غث وسمين منا ،وقد ملكت نواصينا ،وسكنت ديارنا، وصادرتنا على اموالنا ، وحلت بيننا وبين ضياعنا ،وقاسمتنا مواريثنا ، وانسيتنا رفاغة (رفاهية ) العيش ،وطيب الحياة ،وطمأنينة القلب ، فطرقنا مخوفة ، ومساكننا منزولة(2) ،وضياعنا مُقْطَعَة ، ونعمنا مسلوبة ، وحريمنا مستباح ،ونقدنا زائف، وخَراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس، وشرطينا منحرف ، ومساجدنا خربة ، ووقوفها منتهبَة، ومارستاناتنا خاوية، واعداؤنا مستكلبة، وعيوننا سخينة، وصدورنا مغيضة، وبليَّتُنا متصلة، وفرحنا معدوم)(3) .
انها صورة قاتمة تضعنا امام اناس انتزعت منهم اسباب الحياة وغادرهم فرحهم ،وامام طاغية اعتاد ان يعاقب من يخالفه بقطع السنةٍ وايدٍ وارجل، وكان ينوي ان يطبق عقوبته هذه وينكل بهم لانهم تجرأوا فعبروا عن شكواهم مما ابتلوا به ، بل انه صب جام غضبه على ابي حيان نفسه ، بعد ان كان قد استدرجه ليسترق منه حقيقة ما يفكر به هؤلاء المظلومون ، فانزوى الرجل – او اجبر على الانزواء - وعاش بُعَيْدَ ذلك احلك ايام حياته(4) .
ان هذه الصورة المؤلمة يمكن ان نجدها متكررة في حالات كثيرة يمكن الرجوع اليها في ما كتبه : ابن الاثير وابن الجوزي وابن كثير وغيرهم من المؤرخين في يومياتهم ، وهي جميعا تؤكد ان التطرف في العصر الوسيط صار نهجا و تطور الى ثقافة تؤسس للاستبداد ، وتعمل على اشاعة قيمه بين الناس . وكان اخطر جوانب ثقافة الاستبداد هذه انها اتكأت على تراث الامة وانتقت منه ما يحقق اهدافها متجاوزة قيم الشورى والعدالة واحترام حقوق الانسان والمساواة ، والتعايش مع الغير ، لصالح قيم الاستبداد والطغيان .
ولعل اخطر ما افرزه هذا الانتقاء هو تبنيها للنزعات الطائفية الضيقة وتسييس وجهات النظر والرؤى المختلفة بين مذهب وآخر، واتخاذها وسيلة لضرب ابناء البلد الواحد ببعضهم ، فاختلط الحابل بالنابل ،وامتزج الخطأ بالصواب ، بل وقلبت المفاهيم ، وتجذرت في حياة الناس على مستوى المدينة والقرية والبادية وعلى مستوى الاسرة والقبيلة والدولة ، وصار الانتماء الى هذه الجهة او تلك اكبر واهم من الانتماء للامة وللوطن ،ووهنت مؤسسات الدولة ، و احترب الناس وصاروا ؛كلٌ يرى الآخر من زاويته هو، وانتهت البلاد الى واقع هش اتسع فشمل المحيط الحيوي للعراق وصار حاضنة ملائمة و مرتعا خصبا لكل فكر طاريء ولكل طامع وغاز لا يرحم ؛ و ذلك ما حصل فعلا فقد انهارت الدول امام جيوش المغول الذين درجوا على ان يواصلوا غزواتهم دونما مقاومة جادة منذ سنة 617 هـ حتى سقوط بغداد ثم الموصل وحلب ودمشق بين سنتي (656 -658هـ )، ثم توالت الانهيارات والنكبات بعد ذلك حتى نهاية العصر الوسيط مما لا مجال لتفصيل احداثه واشكالاته في هذا المقال المقتضب .
في ظل هذه التركة الثقيلة،وتحت وطأتها نشأ العراق الحديث فكان بكل كياناته السياسية (1921 -2003 م ) اسيرا لثقافة الاستبداد والطغيان والطائفية بدرجات متفاوتة بين كيان وآخر،ذلك ان الحكام لم يتعاملوا معها تعاملا موضوعيا و لم يمتلكوا الجرأة على تفكيكها وايجاد الحلول الجذرية لها ، فظل المجتمع في الظاهر موحدا وفي الباطن ممزقا .
ان عمرا طويلا من ثقافة مستبدة مستشرية على كل المستويات التي اشرنا اليها آنفا؛ (اعني : مستوى المدينة والقرية والبادية وعلى مستوى الاسرة والقبيلة والدولة )، كان من المفترض ان تواجه بثقافة بديلة وفلسفة تربوية وطنية ،عبر منظومة من الاصلاحات و الافكار والمواقف والاجراءات التي تكفل عودة العراقيين الى لحمتهم، وتجمعهم على القواسم المشتركة بينهم، وتغذي روح المواطنة فيهم بعيدا عن اية فواصل دينية او مذهبية او اثنية ، وهو ما لم يحصل مع الاسف ، بيد ان ما يقتضي اسفنا اكثر من ذلك ان الغزاة الجدد الذين غزوا العراق وهيمنوا - بفعل جبروتهم وآلتهم العسكرية - على مقدراته سنة 2003 م ، هم من درس هذا الواقع، وهم من عرف ان إحكام سيطرته على العراق تكمن في إِذكاء ثقافة الاستبداد و سلاح الطائفية وإحيائها، وقد فعلوا، رغم ان فعلهم هذا، جاء في اطار الدعوة الى اقامة نظام ديموقراطي، وما كان ذلك بغريب،فان لكل ظاهر باطنا ، وهو في هذه الحالة كان على النقيض من بواطن الامورالتي كانت لها الغلبة عن قصد واصرار
لقد عاش العرق احد عشر عاما اعقبت الاحتلال البغيض حياة قاتمة ،اهدرت فيها كرامة الانسان، وتفشى في ظلها سونامي الجهل ،وجر ذلك الى مظالم ومواقف وسياسات تتناقض مع حركة التاريخ ؛ إذ اثيرت الكوامن وظهر على السطح ما كان مخفيا، وأُلْبِسَ لبوسَ الدين، واستفحل تيار طائفي مُسَيَّسٌ ليس من الدين او المذهب –ايِّ مذهب - في شيء ، وها اننا اليوم : سنة وشيعة ، عربا واكرادا ، مسلمين وغير مسلمين ، نساء ورجالا، شيبا وشبانا، بل واطفالا ،نعيش احلك ايامنا ، جراء استفحال جديد ومُرَكَّب لثقافة الاستبداد ولسرطان الطائفية ، وجراء افراغ العراق مما تبقى من عوامل القوة فيه ،وجعله بابا مفتوحا على مصراعيه للغزاة والطارئين وبصورة تدعو الى الاستغراب.
وبعد: فان ما حصل ويحصل اليوم في العراق هو ثمرة طبيعية نجمت عن ماض سحيق تمسكنا بسلبياتِه وبما الحق به او اقحم فيه، فصارت في نظرنا حقا ، واغمضنا عيوننا عن المبادئ السامية فيه وعن ايجابياته ، فغابت عنا شخصيتنا الحقيقية، وصرنا نمارس بوعي وبلا وعي ثقافة الاستبداد والطائفية فنظلم بعضنا بعضا ، بل وكنا ظالمين لانفسنا لاننا تجاوزنا ما فطرها الله عليه من خير وانسانية وحب للحياة الى ممارسة سياسة لا رحمة فيها . .
وبعد ، فاننا بحاجة ماسة الى مواجهة سونامي الجهل المحيط بحياتنا؟والى ان نتخلص من ثقافة الاستبداد والطائفية ؟
نحن بحاجة الى ان نفتح عقولنا ونصغي باحترام الى بعضنا دونما تحيز لوجهة على حساب اخرى؟
نحن بحاجة الى ان نزرع في اطفالنا وفي انفسنا القدرة على الاصغاء والاستماع الى لغة الآخر مهما بلغ تناقضها مع ما نراه ،بعيدا عن لغة الاتهام والتعصب.
نحن بحاجة الى ان ياخذ كل ذي دين ومذهب حقه في ممارسة شعائره ومعتقداته .
نحن بحاجة الى الغوص في تراثنا الغني والعريق والمتنوع ،بحثا عن القيم النبيلة المشتركة فيه والخروج من ذلك بميثاق شرف وطني؟
نحن بحاجة الى دراسة الخطاب الاعلامي في تاريخنا الوسيط والحديث والمعاصر وعلى مستوياته المختلفة ؛ دينيا ومذهبيا و قوميا ،لتشخيص مواضع القوة والصواب فيه من جهة ،ومواضع الاثارة والدفع نحو الاحتدام والتصارع من جهة اخرى؟ ومن ثم الخروج بمباديء تجعله عاملا من عوامل توحيد المجتمع وليس العكس. ان ثمة اوزارا كانت من صنع التعصب والجهاله في ماضي كل الشعوب والدول ، وهي ما يجب ان نزيحه عن كواهلنا لكي نعيش بسلام .
ترى كيف نحقق ذلك ، وهل لامن سبيل اليه ؟ هل ننتظر حلا سياسيا ؟
كم نتمنى لو ان السياسيين رجعوا الى انفسهم وانحازوا الى الشعب، واتجهوا - كما دعا اليه الاستاذ الصائغ – نحو تنمية الروح الوطنية وتجاوزوا النزعة الطائفية ..
كم هو جميل لو انهم اعادوا النظر في الدستور وافادوا في ذلك من الخبراء والحكماء .. كم هو جميل لو انهم ادركو ان من يجب ان يكون له دوره الكبير في قيادة البلد هم علماؤه ومثقفوه وحكماؤه وانهم يجب ان ياخذوا مكانتهم في العملية السياسية .
كم هو جميل لو انهم اقتربوا من روح الديموقراطية بحق، فاخذ كل ذي حق حقه ..
كم هو جميل لو انهم ادركوا ادراكا حقيقيا يتجاوز القول الى الفعل، ان فئات المجتمع بقومياتهم واديانهم ومذاهبهم متساوون في الحقوق والواجبات..
كم هو جميل لو ان ارباب السلطة طبقوا سياسة الفصل بين السلطات تطبيقا حقا وفعليا.. كم هو جميل لو انهم حاوروا ابناء الوطن واصغوا الى احتياجاته وازالو مظالمهم
تلك آمال نتمناها ولكن الظروف والملابسات والعوامل المؤثرة داخليا وخارجيا لا تشجع على ان نتوقع تحقق هذا الامل ، بيد ان ان ثمة دورا آخر يجب القيام به ؛ ونعني به ما يمكن ان يقوم به المثقفون ورجال الفكر وشباب الامة من رجال ونساء ،وهو ان يصار الى تخليص المجتمع - والدولة جزء منه - من قيم الاستبداد والطائفية .
ان مهمة كهذه لا تتأتى بخطاب استنكار ولا بمجرد دعوة الى المساواة بين الناس ،ولا بكتابة مقال يدعو الى احترام حقوق الانسان،ولا بدعوة الى مجرد الدعوة الى احترام معتقدات الغير وارائهم ، بل بقيام حركة مناهضة للقِيَم المدمرة السوداء، يساهم فيها مفكرون ومثقفون ورجال دين متنورون ومتخصصون تربويون وفنانون واعلاميون من الرجال والنساء، يكون من اهم اهدافها تفكيك ثقافة الاستبداد ومرتكزاتها الطائفية ،وتتبع جذورها المولغة في قيمنا ومفاهيمنا وعاداتنا وامثالنا وفي عقلنا الجمعي، ومن ثم تفنيد مضامينها والخروج من ذلك بنظام تربوي ثقافي جديد ،و منظور ديني متسامح يضع القيم الانسانية نصب عينيه ويحترم مشاعر وعقائد الاخرين بالرغم من الاختلاف معها ، لتأمين عدالة اجتماعية شاملة لا تستثني احدا ، نظام يستنطق عناصر القوة والانسانية في تراث الامة ،ويرسخ لقيم الحرية والديموقراطية الحقة. كما ان من مهمة حركة كهذه ان تؤسس الى فلسفة تربوية ثقافية حرة، والى خطاب تربوي موحد يجري مجرى الدم في العروق ويسري على لسان الام والاب والمدرس وابن الريف وابن البادية ، وينعكس أثره على الدولة وعلى مؤسساتنا الاعلامية والتربوية بما يجعله معبرا عن روح الامة .
ان امما غيرنا اعتادت ان تخضع نظامها التربوي وفلسفتها الاجتماعية كل عشر سنوات للنقد والتقييم فهل نحن مستعدون ان نعيد النظر فيهما بعد مرور مئات السنوات؟
اننا بحاجة الى ان نؤمم انفسنا وعقولنا من اجل هدف كهذا ، ولوفعلنا لخدمنا العراق ودول الجوار في محيطنا الحيوي و لخدمنا وطننا العربي المبتلى بما نحن به مبتلون ولمهدنا الطريق لاستعادة وأداء دورنا الحضاري وطنيا وقوميا وانسانا ،فهل نحن فاعلون ؟
(1) نص ما قاله الوزير المتسلط لابي حيان : فقد والله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامة.. واني لاهم في الوقت بعد الوقت بقطع السنة وايد وارجل وتنكيل شديد... ولقد تعايى عليَّ هذا الامر واغلق دوني بابه وتكاثف عليَّ حجابه
اعتاد الجند كلما مروا في قرية او مدينة بهدف الغزو، النزول والسكنى في بيوت الناس .(2)
(3) انظر: ابوحيان التوحيدي : الامتاع والمؤانسة ،(ج3/ 88 )، تحقيق احمد امين واحمد الزين ،القاهرة 1944 .
(4) انظر عن ذلك المصدر نفسه ، ج3/ 226-230 .
------------------------------------------------------------------------------------------------------
تم نشر المقال في موقع النور بتاريخ 07-08-2014 - الرابط : العراق الى أين
عودة الى الصفحة الرئيسة