تجربة الدكتور علي نجم عيسى في
انقاذ وثائق تعود لمدارس موصلية؛ تجربة رائدة
بقلم: أ.د. احمد عبد الله الحَسُّو
سبق للكاتب ان نشر مقالا بهذا العنوان قبل أشهر (2019) على صفحته في موقع (فيس بوك)ـ
وقد أجرى عليه إضافات بما يتلاءم مع مستلزمات النشر في بيت الموصل. ـ
لابد لي وانا استعرض تجربة الدكتور علي نجم عيسى الرائدة في انقاذ وثائق ذات أهمية في تاريخ الموصل الثقافي ان أقدم لذلك بالعودة بالذاكرة الى سنة 1980، عندما اشيع ان رئاسة محاكم الموصل تنوي احراق ما هو مكدس من سجلات المحاكم الشرعية القديمة لديها، مما دعا الكثيرين الى المناداة بضرورة قيام مؤسسات علمية معنية بالتراث بتسلمها والحفاظ عليها لأغراض بحثية، بيد ان أحدا لم يفعل ذلك - على قدر علمي - واغلب الظن انها أُتْلِفَتْ، وهو أمر له ما يماثله في دوائر أخرى عبر السنوات التالية، بسبب غياب تشريع يحدد أسلوب التعامل في مثل هذه الحالات في كل دوائر الدولة، باستثناء مبادرات محدودة بذلتها مؤسسات معينة كالأمانة العامة لمكتبات جامعة الموصل والمكتبة العامة ومكتبة الأوقاف المركزية ، بيد ان الطامة الكبرى التي اصابت التراث ترافقت مع الاحتلال البغيض سنة 2003 واستمرت بعده ، فقد استبيح العراق كما لم تشهده حرب من قبل، وأصاب الموصل ما أصاب غيرها؛ تهديما وقتلا واستهانة بكل القيم والأعراف، وأصيب التراث والوثائق والسجلات في مقتل، حتى كان من الطبيعي ان تشهد بعضها مرميا على قارعة الطرقات وقد كان لكاتب هذه السطور حظه منها فقد عثر صديق على اضبارته الرسمية مرمية في أحد شوارع الموصل.
ضمن هذه الكارثة التراثية المزمنة التي لم يلتفت أحد لمعالجتها، وفي إطار جمعه للمادة العلمية اللازمة لكتاب كان يخطط لإنجازه عن مدارس الموصل وما يجاورها، يبرز دور الدكتور علي نجم عيسى الذي اثاره النقص الكبير في المعلومات عنها، فبدأ مع سنة 2009 م يبحث في سجلات مديرية التربية، ثم في سجلات كل مدرسة، ولقد هاله وأضناه ان ثمة عقبات روتينية كبيرة كانت تحول بينه وبينها مما جعله يستعين بزملائه في مجال التعليم لكي يصل اليها ويصورها.
ومع انه حظي بعديد منها، الا ان الكثير منها أيضا كان قد غاب لسبب أو لآخر، بل ان بعض الكتب الرسمية والمخاطبات ذات القيمة مع سجلات كانت موجودة قبل سنة 2003 في مديرية التربية القديمة
قرب مدرسة الفتوة في الطابق الاسفل، غرقت معظمها بالمياه ثم أحرق ما تبقى منها
كان الدكتور علي محظوظا، اذ قادته الصدفة يوما الى مكان للنفايات، فاذا هو- وجها لوجه - امام اكداس من السجلات مرمية فيها، فلما تفحص بعضها وجد انها سجلات ووثائق وصور لبعض مدارس الموصل، وهنا شمر عن ساعديه وبدأ حملته النبيلة في انقاذها، وحملها الى مكان آمن في مزرعة له، ثم بدأ بترميمها وحمايتها ، ثم حملها مجموعة فمجموعة، الى مكاتب الاستنساخ لتصويرها، وكان من أهم ما أنقذه هو سجلات المدرسة العراقية ومدرسة الوطن ومدرسة اليقظة ومدرسة الحرية والثانوية الشرقية ومدرسة المثنى، ـ
وهي التي تشكل اليوم كنزا معرفيا له وللباحثين في التاريخ الثقافي لمدينة الموصل ومحيطها الغني بمدارسه، والذي كان من أولى ثماره ما أصدره الدكتور علي نجم عيسى سنة 2014 تحت عنوان: مدارس الموصل - دراسة تاريخية حضارية
من أهم ما يميز النهج الذي سلكه المؤلف في كتابه هذا ، أمران: أولهما انه قدم صورة شاملة عن حركة التعليم شملت المدارس الاسلامية ومدارس الطوائف الدينية والأجنبية في الموصل وفي اطرافها؛ وهو أمر محمود ان يجد القارئ كتابا بهذا الشمول وان يقف على تصورعن واقع واتجاهات التعليم، وثانيهما استهلال المؤلف لكتابه بربط نشوء المؤسسات التعليمية في العراق - والموصل ومحيطها جزء اصيل فيه – بتاريخ اكتشاف الكتابة فيه سنة ٣٥٠٠ قبل الميلاد، والتأكيد على ان جذور التطور التعليمي في الموصل، مرتبط بظهور أقدم مكتبة في التاريخ الإنساني على أرضها؛ وهي مكتبة آشور بانيبال التي كان جيلنا محظوظا ان يعثر علماء الآثار على جانب من مكتنزاتها وتعداده ثلاثين ألف وعاء معرفي مدون على ألواح طينية فيها. ـ
ان تركيز الباحث على هذه العلاقة بين (المكتبة الأم) – أعني مكتبة آشور - وما تحمله من دلالات، وبين المؤسسات التعليمية في عصرنا، جاء بمثابة تذكير بان ثمة ما يجب فعله تجاه هذه المكتبة ذات التاريخ العظيم، تتمثل بقيام مشروع وطني تسنده مؤسسات عالمية ، يعيد مكتبة آشور بانيبال صرحا عالميا ورمزا معاصرا يرفع شعار المعرفة، على غرار مكتبة الإسكندرية في كنانة الله؛ مصر، وانني اذ أقول هذا أجد في جامعة الموصل وقيادتها الشابة والطموحة خير من يتبنى ذلك. ـ
وأرجو هنا ان يسمح قارئ مقالي هذا أن استطرد قليلا فأُذَكِّرَ بكلمة لي القيتها في مناسبة من مناسبات الاحتفال بتأسيس جامعة الموصل سنة 1967، وبحضور شيخنا واستاذنا الدكتور عبد العزيز الدوري رئيس جامعة بغداد – رحمه الله - قلت فيها: (اننا نقف اليوم قبالة اسوار نينوى ومكتبتها الشهيرة؛ مكتبة آشور بانيبال، وذلك هو الذي يفسر لماذا اختير ذات المكان موقعا لجامعة الموصل الحالي. انه استمرار وتواصل من اجل المعرفة)، وتلك لعمري امانة حملتها الجامعة وجاء انشاؤها لمبنى يحمل اسم (مكتبة آشور) في الحرم الجامعي انسجاما مع هذا التواصل المعرفي، متمنين لمشروعها هذا ان يكتمل وان يكون مَعْلَمَا موصليا وعراقيا وعالميا شامخا. ـ
نظرة تقييمية
لقد فتحت تجربة الدكتور علي نجم عيسى في انقاذ وثائق مدارس الموصل، آفاق جديدة أمام الباحثين والمؤسسات التعليمية والتربوية من ناحيتين:
أولا: تضمنت الوثائق المشار اليها، معلومات غنية فيما يخص العملية التعليمية والحياة الاجتماعية والتطور المعرفي لكل طالب شهرا فشهرا، وتضمنت: المواد التي درسها الطالب والدرجات التي حصلها، ونجاحه او فشله، ثم صورة له مرفقة بعلاماته الفارقة، واحواله الصحية، وسيرته في المدرسة وخارجها، وذكر المهنة التي شغلها بعد مغادرته للمدرسة، كما تضمنت اسم الأب والشهرة ومهنة الأب، ورقم دار السكنى، ومسقط الرأس وتاريخ الولادة، كما تضمنت جنسية الطالب وتبعيته ودينه (انظر النماذج المرفقة). ـ
ثانيا: نبهت التجربة الى ما يصح ان نطلق عليه: مجزرة التراث؛ يوم صبت لعنة الحرب وجهالة الجهلاء جام حماقتها وأطلقت يد الهدم في تراث الموصل ونينوى؛ فإذا هو بين مهدم أو محترق أو مسروق أو مرمي على ارصفة شوارع المدينة وفي مكبات النفايات، مما أفقد العراق وبأسف كبير - معظم إرشيف مؤسسات مدينة الموصل، و بين ذلك ،كنوز مكتبة جامعة الموصل المركزية، ومكتبة مركز الدراسات الإقليمية فيها، و بيت الفن ومرسم جامعة الموصل اللذين كانا يحتويان على لوحات فنية ذات قيمة عالمية ، وكنوز مكتبة الأوقاف المركزية ومكتبة المدينة العامة ( مكتبة غازي سابقا ) وكنوز متحف الموصل، ومعالم المدينتين التوأمين الآثارية ؛ الموصل ونينوى. وهو أمر يتطلب تحركا جديا في ثلاث اتجاهات: ـ
ـ 1 : البحث عما تبقى من التراث حتى ولو كان ركاما. ـ
ـ 2 : استرجاع ما تمت سرقته مما يتواجد الآن في الأسواق السوداء. ـ
ـ 3 : الحفاظ على ما سلم من الوثائق المحفوظة في دور العقار والمحاكم الشرعية والمدنية
والأوقاف والمكتبات والمساجد والكنائس ودور العبادة الأخرى والوثائق الخاصة بالأسر الموصلية. ـ
وتلك - لعمري - مسؤولية كبرى يقع تنفيذها على عاتق أكثر من جهة على المستويين الوطني والمحلي، وفي المقدمة منها، المكتبة الوطنيّة التي يؤمل منها تفعيل، القوانين والانظمة المقررة من قبل الدولة من جهة، وإغناؤها وتحديثها من جهة أخرى بما يتلاءم مع المستجدات وبخاصة إبان الحروب ، اما على الصعيد المحلي فان الدور الأكبر يقع على عاتق مديرية الآثار العامة والدوائر التي تمثلها في الموصل، كما يمكن ان تقوم الأمانة العامة للمكتبات (وهي السباقة في مجال حفظ التراث منذ تأسيسها) ومراكز البحوث في جامعة الموصل، وبخاصة مركز دراسات الموصل ومركز الدراسات الإقليمية والمكتبة المركزية العامة ومكتبة الأوقاف المركزية بدور كبير في تحقيق هذا الهدف. ـ
نظرة نقدية
أشار المؤلف الفاضل في مقدمة دراسته، ان الكتاب جزء من مشروع كبير يوثق ويؤرخ لكل المؤسسات التدريسية في الموصل وفي محيطها الحيوي دونما استثناء، بهدف تقديم صورة متكاملة للمدارس الموصلية ككل، وعن كل منها منفردة ؛ نشأة وتطورا عبر العصور، مما يبشر بمشاريع عدة نتوقع ان نرى بينها صورة توثيقية للتطور التاريخي لكل مؤسسة تعليمية، ولكوادرها الإدارية والتعليمية ومستوياتهم العلمية ومناهجها وتوجهاتها التربوية والشخصيات التي دَرَسَتْ او دَرَّسَتْ فيها من الرجال والنساء، ولعل في مقدمة ما نرى ضرورة استكماله، هو واقع المدارس خلال الحقبة التي اعقبت العهد الأتابكي وسبقت العهد العثماني ؛ فقد اقتضب المؤلف في حديثه عنها واكتفى بالقول أن مدارسها (ظلت قائمة – أي بعد العهد الأتابكي - الى فترة الحكم العثماني)؛ وتلك لعمري حقبة متسعة تشمل عهود: الدولة البدرية (نسبة الى بدر الدين لؤلؤ الذي أرى الا يعامل عهده باعتباره جزءا من العهد الأتابكي نظرا لخصوصيته وتباينه عنها) والدولة الإيلخانية (التي سيطرت على الموصل وشمالي العراق من سنة 659 واستمرت تحكمه حتى سنة 736هـ)، ثم الدولة الجلائرية (736- 814) فدولة قرة قوينلو (814-872) ودولة آق قوينلو (872-914) ثم الصفويين بين سنتي 1508م (ربما 1510م) وحتى استيلاء العثمانيين عليها اواخر سنة 1516م، ـ
ليس من شك ان متابعة أوضاع مدارس الموصل في هذه الحقب التاريخية – وبخاصة خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع الهجري والعقدين الأولين من القرن العاشر الهجري، ليس أمرا سهلا، بسبب اعمال التخريب التي تعرضت لها المدينة ومحيطها ؛ وبخاصة في عهد حكام دولتي قرة قوينلو وآق قوينلو ، ولكنني – مع ذلك - ارى ان ثمة مجالا واسعا للحصول على معلومات عن واقع المدارس آنذاك من خلال كتب التراجم و المشيخات ومعاجم الشيوخ، وكتب الطبقات والكتب البلدانية ، واذكر على سبيل المثال ان مسحا لأعداد المثقفين من فقهاء وأدباء وعلماء أجراه كاتب هذه السطور، اظهر ان 114 منهم كانوا مقيمين في الموصل خلال العهد الإيلخاني (659-736هـ)، وانهم تلقوا العلم فيها ومارسوا انشطتهم العلمية على أرضها ؛ ومن هؤلاء الفقيه الشاعر محيي الدين الشيباني الشهرزوري الموصلي (ولد سنة 698هـ وكان حيا سنة 738 هـ)، خطيب الموصل على مدى عشر سنوات وسليل أسرة قال عنها
ودارنا الموصل المحروس جانبُهَا كنا أُولي عزها قدما أبا عن أبِ
وقد ولدت بها يوم العَرُوبَة في إهلال ذي القعدة المشهور في العربِ
في عام ثامن تسعين وستِّ مِيء لهجرة المصطفى الهادي النبي العربي
وان ترد نسبي للأم، والــدها مـــن آل كُســـَيْرَات ذوي الحسبِ
وكلهم من بني شيبان فاجتمعت لي الخؤولة والأعمام في النسبِ
وبيتنا فيه من قد جاوزوا عددا سبعين كانوا قضاةَ الناس في الحقب
وكم لنا غيرهم من كلِّ مشتهر بالديـــن والعلم والإحســـــان والأدب
ليس من شك ان الشخصيات المشار اليها والتي نشأت في الموصل وعاشت فيها وتخصصت بعلوم وآداب تلك الحقبة، درست في مدارس الموصل أو في غيرها، مما يتطلب إجراء مسح واسع ودقيق لما أشرنا اليه من مصادر . وقد يصل الباحثون الى كثير مما نجهله اليوم .
تحية للمؤلف الفاضل ، وشكرا له على مبادرته القيمة . ـ
عودة الى الصفحة الرئيسة