بيت الموصل bayt al mosul
  • الصفحة الرئيسة
  • ثقافة
    • شـــعر
    • قصة
    • ادب
  • تراثيات
    • نوافذ
  • تاريخ
  • بحوث
  • علوم
    • برامج تعليمية
    • افلام علمية
  • فن
    • الرسم والنحت
    • صوتيات و مرئيات >
      • طب
    • صفحة التصوير الفوتوغرافي
    • السينما و المســرح
    • الفن المعماري
    • الخط العربي
    • موسيقى >
      • الموسيقى العربية
  • اتصل ينا
    • اتصل بنا - بريد الزوار
    • صور وتعليقات من الزوار
    • نافذة على بيت الموصل
    • المحرر الإعلامي
    • تهاني القراء و الكُتّاب
    • احصائيات بيت الموصل
    • مواقع صديقة
  • اصدارات

احتلال الموصل عام 1918

15/7/2014

1 Comment

 
احتلال الموصل عام 1918
جرترود بيل

ترجمة: صلاح سليم علي

شاهد الملحق المصور
Picture
الاعلى : منظر في بغداد - الاسفل : بيت النقيب - بغداد
Picture
جرترود بيل
Picture
جرترود بيل مع لورانس العرب
Picture
ضباط بريطانيون : الموصل
Picture
الجنود الهنود - الجيش البريطاني في العراق


مقدمة المترجم:

تكرر عبر التاريخ غزو الموصل بدءا بغزو نينوى في اواخر القرن السابع ق.م. وانتهاءا بالإحتلال الأميركي عام 2003..وبين هذا وذاك لم تسلم الموصل من الغزوات التي تعرض لها العراق ولعل اكثرها عنفا وتخريبا الغزو المغولي الذي اسقط بغداد فغزوة تيمورلنك والغزو الفارسي على عهد نادر شاه..وفي كل مرة تتعرض الموصل لغزو بربري يهلك الحرث والنسل وينشر الذعر والخوف والفوضى ويخرب التجارة والعمارة، تعود الموصل الى نضارتها وحيويتها فتزرع الارض وتبعث الحياة وتعيد عمارة الارض وازدهارها، بينما لا يتبقى من الغزو الاجنبي سوى صفحات سوداء في كتب التاريخ وبصمات باهتة دامية في الذاكرة..

وفي كل مرة تتعرض فيها الموصل للغزو نتعرف على ظواهر تتكرر هي الأخرى اولاهما ان الغزاة لايفرقون بين سكان الموصل بل يستهدفون المسيحي والمسلم والعربي والكردي والطفل والمسن والمرأة والرجل والجامع والكنيسة فلايميزون بين الناس في وقع حد سيوفهم وقسوة سنابك خيلهم وعشوائية نار رصاصهم بل يستهدفون سكان الموصل كلهم، والظاهرة الثانية تتمثل بتآزر اهل الموصل وتعاونهم بالتصدي للغزاة، أما الظاهرة الثالثة فتتمثل بالقسوة المفرطة من جانب القوى الغازية التي تستهدف حرق كل شيء وتهديم كل عمارة وإنهاء كل حياة..

وتتشابه اهداف الغزو على اختلاف العصور والغزاة .. فاهداف الغزو هي عينها اهداف الاستعمار وتتلخص بالمصالح الاقتصادية والستراتيجية..فضلا عن الميول التوسعية والامبريالية ... باستناء الغزو الميدي البابلي الذي تدخل فيه الدوافع الوجودية .. اي الحد من الخطر الآشوري الذي قد ينبعث مع اي ملك قوي فيكتسح الشرق الأدنى بأسره....ونلاحظ في حالات غزو الموصل ايضا ان معظم الغزوات تحدث بغتة فتسقط الموصل بيسر والسبب في ذلك عدم استقلال الموصل في حالات الغزو تلك وارتباطها بدولة تمر في حالة افول او ضعف  أو إئتمار دولي واقليمي كما حدث في اثناء الغزو المغولي الاول والثاني والغزو الفارسي الساساني فالصفوي فالتركي ..فالغزو البريطاني فالأميركي البريطاني..وعندما تكون المدينة يقظة ومستقلة ويكون لها جيشها وقيادتها وإرادتها، كما في حالة غزو الموصل على عهد نادر شاه لايتمكن العدو من اقتحام اسوارها اواحتلالها أوالحاق الهزيمة بها..

ويختلف الغزو الأجنبي في العصر الحديث عنه في العصور القديمة والوسطى، في كون الغزو الحديث غالبا مايكون لتحقيق اهداف ستراتيجية تتجاوز المدينة بذاتها الى المنطقة بأسرها أي تكون المنطقة المستهدفة أوسع والأهداف تتجاوز منطقة العمليات الى اقاليم ودول أخرى. وغالبا ماتكون الأهداف المتوخاة من الغزو مركبة اقتصادية وستراتيجية  ووجودية في الوقت نفسه..كما في غزو العراق من قبل قوات التحالف...وفي مطالعتنا التاريخ الحديث نجد ان الغزو البريطاني للموصل يعد نموذجا للغزو ذو الأهداف المتعددة ..اذ هدفت بريطانيا من غزوها الموصل عام 1918 التوسع الى الحدود الفارسية التركية لحماية مصالحها في بلاد فارس والقفقاس من اي هجوم قد تشنه تركيا ضمن دول الحلف [المانيا والنمسا والمجر] عليها، وضمان استقرار الاوضاع في العراق الذي كان محمية بريطانية مهمة في الطريق الى الهند فضلا عن حماية آبار النفط في ايران والعراق وتأمين خط سكك حديد باطوم - باكو..ولكي ترضي كل من تركيا وفرنسا في ضمها، بمساعدة عصبة الامم، الموصل الى العراق، وعدت الجانبين بربع انتاج حقول عين زالة من النفط بمقدار 25% لكل منهما..وبخاصة أزاء التزام بريطانيا بإتفاقية سايكس - بيكو التي قضت بجعل الموصل تحت الإدارة الفرنسية..وتلك فقرة لم تأت في مصلحة بريطانيا لأكتشاف النفط في نينوى بعد التوقيع على تلك الإتفاقية بمشاركة روسيا..مما جعل بريطانيا تمضي قدما في سبيل احتلال الموصل..وكانت سياسة وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد كورزون تهدف الى السيطرة على منابع النفط من عبادان الى باكو مرورا بالعراق لتأمين  المصالح البريطانية في بلاد فارس وبلاد الرافدين ووسط آسيا والقفقاس أزاء التطلعات الروسية – البلشفية في وسط آسيا وبلاد فارس والطموحات الألمانية بالوصول الى المياه الدافئة.. ولاسيما في أثناء الحرب العالمية الأولى..وكانت بريطانيا قد عقدت اتفاقية مع روسيا عام 1907 قسمت مناطق نفوذ الطرفين في بلاد فارس وبينما كانت روسيا تتطلع الى مكتسبات على الأرض، كانت بريطانيا تريد الحفاظ على مصالحها التجارية والنفطية منذ 1910 في بلاد فارس التي سمتها لاحقا أيران وبلاد الرافدين التي سمتها العراق..وكان اكتشاف النفط جعل بريطانيا تبدل وقود سفنها الى الهند من الفحم الحجري الى النفط..مما اعطى النفط اهمية ستراتيجية وحيوية اولى بالنسبة للأنكليز وتبعا لذلك تغيرت توجهاتهم السياسية جملة وتفصيلا..فاشترت بريطانيا 51 % من حصص شركة النفط الأنكلو- فارسية فضلا عن حصول الشركة نفسها على امتيازات البحث عن النفط واستثماره في عموم بلاد فارس..

ووجه سقوط روسيا القيصرية وقيام روسيا الشيوعية ضربة الى الوفاق الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في وقت كان تحالف تركيا والمانيا يهدد المصالح البريطانية في منطقة القفقاس مما دعى بريطانيا الى تشكيل قوة بقيادة دنسترفيل سميت بقوة دنستر اوكلت اليها مهمة احتلال حقول نفط باكو وتم لها ذلك مؤقتا  في أيار عام 1918 غير ان القوات التركية ارغمت الأنكليز على الإنسحاب الى بلاد فارس، وبعد توقيع تركيا على اتفاقية هدنة مدروس في 30 تشرين الثاني عام 1918 سيطرت بريطانيا على حقول باكو وكرست فرقة عسكرية كاملة لحماية خط سكك وانبوب نفط  باطوم – باكو خوفا من سيطرة البلاشفة على نفط باكو وهذا ماحدث بالفعل بعد سنتين عندما غزا الجيش الأحمر باكو..وكان انشغال البريطانيين في أئربيجان والقفقاس في رأي جرترود بيل سببا في تأخير غزو الموصل واحتلالها ويبدو ان قرب باكو من الجبهات الألمانية – التركية وضعها على سلم اولويات الخارجية البريطانية..هذا يؤشر الى ان المخطط البريطاني يعتمد على ستراتيجية شمولية في تحركاته مقرنا السياسة بالدبلوماسية والدبلوماسية بالحرب مع اخضاع الخطة للمتغيرات الاقليمية والمحلية كما في حال الثورة الشيوعية وعرض لينين للسلام وانسحاب الجنود الروس من جبهات القتال..وفيما ياتي ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين) والمعنون "احتلال الموصل" ..ونترجمه رغبة بتوضيح قرائن تاريخية محددة تميط اللثام عن ثوابت اجتماعية وحضارية واثنية مهمة تتعلق بسكان الموصل وبطبيعة تعامل المحتل مع اهالي المدينة العزل ولاسيما في ضوء ماتسقطه هذه المعلومات من ضوء على طبيعة الإحتلال الأميركي الغاشم وماحدث بعده من اختراقات محلية ماتزال الموصل تعيش في غمارها...ويبدو ان المندوب السامي كلف جرترود بيل بتأليف هذا الفصل لمعرفتها الجيدة بالموصل وبمنطقة نينوى وشمالي العراق التي زارتها عدة مرات وعرفت بحبها للعراق مما دعاها الى تاسيس مكتبة السلام [المكتبة الوطنية في بغداد] ، والمتحف العراقي والنادي المعروف بإسمها [نادي العلوية] وكانت قد زارت الموصل عام 1909 وصورت معالمها التراثية والحضارية وتشكل تلك الصوراحدى مجموعات ارشيفها المصور عن الموصل عام 1909 .وفيما يأتي ترجمة لوصفها احتلال الموصل، بتمامها:

احتلال الموصل عام 1918


(تأخر المضي بالحملة في بلاد الرافدين قدما في ربيع عام 1918 بسبب ضرورة حماية شمالي بلاد فارس من هجوم تركي [محتمل]، إلا أن هزيمة الترك في غزة في خريف عام 1917 انهى خطر قيام الترك وحلفائهم الألمان بهجوم على بلاد الرافدين، ويسر على قواتنا احتلال خانقين [ اي استئناف الحملة في بلاد الرافدين] في كانون الأول [1917] وفي مطلع أيار عام 1918 تم تحقيق المزيد من التقدم..قد كان القائد العام السير وليم مارشال الذي أعقب السير ستانلي مود بعيد موته في تشرين الثاني 1917 [توفي مود بسبب اصابته بالكوليرا اثر شربه لحليب ملوث في بغداد في 18 تشرين الثاني  1917، ودفن بمقبرة الانكليز في الوزيرية وفي مكان قريب من قبر جرترود بيل التي ماتت بعده بتسع سنوات عام 1926]..يأمل ان يصل الزاب الأسفل قبل تصاعد حرارة الجو ثم يشرع من ذلك الموقع الممتاز بالتوجه الى الموصل في موسم الخريف..وهكذا فقد تم احتلال كفري والطوز [طوزخرماتو] وكركوك بنجاح، كما استقبلت قواتنا بحفاوة من قبل الأهالي وهم باستثناء كركوك أكراد في معظمهم..وقد عمل حميد بيك طالباني في منطقة كفري بتكريس جهوده في صالحنا [ هو الشيخ حميد بن الشيخ عزيز طالباني غادروا مع قبيلتهم  كركوك الى خانقين تفاديا للتصادم مع التركمان الذين يشكلون الأكثرية التالية للعرب والمسيحيين في المدينة ويبدو ان اسرة الشيخ حميد الطالباني فضلت البقاء في كفري]، وسكان كركوك في أكثرهم من الدم التركي، وليس العثماني، كونهم يعودون بجذورهم الى المستوطنين التركمان [الذين وفدوا العراق] على عصر السلاجقة. مع ذلك فإن تأسيس الوجود البريطاني لم يمر بحالة أفضل وأكثر ارتياحا في اي مكان منه وسط هذه الأقوام [غالبا ما تناصب الأقليات العداء لنظم الحكم القائمة في مواطنها وترحب بالأجنبي كمحرر لها] اما العنصر المسيحي المعتبر فقد رحبوا بنا بحماس وتعاون المسلمون معنا بإخلاص في تنظيم المدينة [لم تحدد أية مدينة بالإسم وأرجح انها تقصد كركوك]..والى الغرب في كردستان السورتي [لعلها تقصد أكراد السوران أو أكراد الجنوب تمييزا لهم عن البهدينان او اكراد الشمال في حكاري وسيرت]  فقد تم عقد اجتماع ضم الشيوخ [الأغوات] والأعيان في السليمانية واتخذ قرار بتشكيل حكومة كردية مؤقتة يترأسها الأغا المحلي المعروف الشيخ محمود البرزنجي [هو محمود الحفيد ابن الشيخ سعيد نصب نفسه ملكا على كردستان وشارك في التصدي للإنكليز في جنوبي العراق وقصة منديله الذي وضعه في يده لتفادي لمس يد الضابط الإنكليزي الذي مدها لمصافحته مشهورة في الأدب الشعبي]على ان تتخذ موقفا وديا تجاه البريطانيين.

وكان الشيخ محمود قد ارسل رسائلا زعم فيها انه يمثل الأكراد الجنوبيين وعرض علينا زمام الحكومة او ان يقوم بتمثيلنا في حكومة. وسيان بالنسبة للعسكريين او للأطراف المدنية في القوة [البريطانية] فقد كانت خيبة امل مرة عندما يكون من المستحيل الإستفادة من وضع واعد كهذا.[لايوجد مصدر آخر يوثق موقف الشيخ محمود الحفيد هذا او يؤكد مصداقية ماذهبت اليه بيل وقد شارك الشيخ الحفيد في مقاومة الإنكليز فكيف يطلب ان يكون ممثلا لهم في حكومة كردية! ] وقد بات تحويل وسائط النقل المتوفرة كلها الى الطريق الفارسي [لحماية بلاد فارس من هجوم تركي الماني او تمدد روسي] لايحول دون اي تقدم [لقواتنا] بل ارغمنا على التخلي عن كركوك. وقد اعطينا السكان المسيحيين في المدينة خيار مغادرة المدينة الى ملاذ آمن في بغداد، فأختارت اعداد منهم مغادرة أراضيهم وبيوتهم في كركوك ليقوم الأتراك الذين قاموا باحتلال المدينة بنهبها بعد مغادرتنا لها ، بينما زحفت قوة عثمانية صغيرة باتجاه السليمانية حيث قمنا بتعيين الشيخ محمود ممثلا لبريطانيا هناك. فقام الأتراك بوضع المدينة [السليمانية] تحت الأحكام العرفية وأرسال الشيخ محمود الى كركوك..لكن الأتراك، على اية حال، لم يغامروا في التسبب في إثارة القبائل التي يمثل الشيخ محمود رئيسا لبضع عوائل فيها ويمارس تأثيرا كبيرا عليها فعمدوا الى اطلاق سراح الشيخ محمود فورا..وقد أدى انسحابنا [من كركوك] الى تغيير حتمي في التوازن في كردستان، ولكن الأتراك كانوا قد بلغوا دركا من الضعف لايقدرون معه الإستفادة من الفرصة التي وفرها [انسحابنا ] لهم.غير ان انتصار الحلفاء في فرنسا [معركة برودسيندا في 4 -10-1917] وانتصارالجنرال اللنبي في سورية في تشرين الأول [معركة غزة الثالثة في 31-10-1917]، اعادا التوازن لصالحنا. مع ذلك فإن قواتنا في بلاد الرافدين مازالت معرقلة بسبب النقص في وسائل المواصلات، وليس بمقدورنا التقدم بقوات كبيرة الى الموصل بطريق كركوك..إلا ان وحدة صغيرة تم ارسالها صوب التون كوبري [أي "جسر الذهب" وهي مدينة تركمانية صغيرة تقع على الزاب وتعد همزة وصل بين بغداد وكركوك والموصل وأربيل في قلب المثلث الآشوري] لحماية جناح القوات الرئيسة المتقدمة شمالا بمحاذاة دجلة.. فتم لقواتنا [البريطانية] أحتلال كركوك مجددا في 25 تشرين الأول..وبعد مواجهة عنيفة ارغمت الأتراك على مغادرة مواقعهم المستحكمة في وادي دجلة اسفل قلعة الشرقاط وقد تم اعتراض قواتهم من الشمال فاستسلمت القوة بأكملها في 30 تشرين الأول.وفي تلك الأثناء تمكنت القوة الشرقية [المرسلة الى التون كوبري]من ارغام العدو [التركي] على عبور الزاب الأسفل في الوقت الذي أضحت فيه قوة دجلة [القافلة الرئيسة] على بعد بضعة اميال من الموصل.

وكان القائد العام التركي علي احسان باشا [قائد الجيش التركي السادس] الذي بقي في المدينة [الموصل] مع عدد قليل من القوات قد أمر بإخلاء المخازن والسجلات كلها، ولكن في الأول من تشرين الثاني تم الرجوع عن هذه الأوامر فاعيدت السجلات ورجع الموظفون الى دوائرهم من نصيبين وزاخو ومن حيثما كانوا قد ارسلوا. وبعد عدة ايام من التفاوض حول ما اذا ترتب على علي احسان باشا الإستسلام وفق بنود الهدنة. وكانت اوامر قد وصلت من القسطنطينية [اسطنبول] حول إخلائه. فاحتلت الموصل من قبل قواتنا ورفع العلم البريطاني فوق بناية السراي في 8 تشرين الثاني. [ للإطلاع على مزيد من المعلومات ينظر "التشكيلات العسكرية في الموصل منذ أواخر العهد العثماني الى 1958" بقلم الدكتور ابراهيم خليل العلاف] ..وفي العاشر من تشرين الثاني، غادر علي احسان الى نصيبين وتولى مهام ادارة الموصل اللفتنانت كولونيل [ [جيرارد] لجمن بصفته اول ضابط [حاكم] سياسي لولاية الموصل..غير ان المستقبل السياسي للولاية [الموصل] لم يتضح [يتحدد] بعد فوفق اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916، التي يعددها الفرنسيون ملزمة بغض النظر عن التحول الجوهري للأوضاع التي تم عقدها خلالها بسبب الثورة الروسية، تقع ولاية الموصل بأكملها ضمن مجال النفوذ الفرنسي..وعلى هذا الأساس صدرت من حكومة جلالة الملك تعليمات بضرورة عدم شمول الموصل بنظام الحكومة المركزية المعمول به في ولاية بغداد..ويتوجب وضع [الكلمة التي استخدمتها بيل هي "ربط" ] الموصل تحت إدارة عسكرية [يؤكد الأنكليز في تقاريرهم على ان للموصل هوية عسكرية ولأهلها ميل قوي للأستقلال والقيادة مما جعلهم عصيون على الأنقياد أقوياء الشكيمة ليس من السهل بأي حال إرضائهم، كما في تقرير كرسته بيل لوصف الموصل حصريا، وهي تشاطر في رأيها في الموصل واهل الموصل موقف مارك سايكس الذي كان وراء تخلي بريطانيا عن الموصل لفرنسا ولعله وراء اقتراح وضعها تحت ادارة عسكرية صارمة كونه المسؤول الأول في حلقات صنع القرار الخاص بالشرق الأوسط في ذلك الوقت]..ولكن وبغضون اشهر ساد التفاهم ضمنا ان الإتفاقية [اتفاقية سايكس – بيكو] يجب ان تعدل بما يتعلق منها بولاية الموصل، على ذلك تم دمج الإدارة المدنية فيها بإدارة القسم الجنوبي من الأراضي [العراقية] المحتلة..

من الناحية الفيزياوية [شكل الأرض وتضاريسها]، تطرح ولاية الموصل متناقضات معينة لولاية بغداد. فهي تقع شمالي جبل مكحول الذي يعد امتدادا لجبل حمرين والطريق اليها يمر عبر مسافات طويلة من الأراضي الحجرية وهو تغير محبب بعد الطمي الرسوبي الممثل لجنوبي بلاد الرافدين. ومن الجهة اليمنى لدجلة  أي في الجزيرة، نجد ان الريف بأكمله ارض متموجة لاتقطعها سوى كتلة جبل سنجار..ومن الضفة اليسرى [الجانب الأيسر لدجلة]، تمتد السهول على مسافات متنوعة بدءا من النهر حتى حافات الجبال الكردية. وتقدم السلاسل الأقرب [الى المدينة]  من خلفية المشهد المنظور اليه عبر النهر من مدينة الموصل منظرا محببا لدى المشاهد الذي اعتاد على السهول الجنوبية لبلاد الرافدين..ولايرتفع اعلى جبال تلك المنطقة اكثر من 7000 قدم ولكنها شديدة الإنحدار وجرداء. وتشكل السلاسل المنفصلة وديان ضيقة ومتباعدة يترتب على الطرق فيما بينها اما ان تتسلق معابر عسيرة او تتبع طرقا وديانية متعرجة.. وفي التلال تتوفر المياه في اكثرها على مدار السنة اما الوديان فمكتظة بأشجار الفاكهة كالكروم والجوز واللوز وشجر الحور والصنوبر.. وتكثر على جوانب الجبال اشجار البلوط المتناثرة متمعجة الاغصان..ولكن في الجزيرة نجد ان المياه الوحيدة توجد في تلعفر وفي العيون المتدفقة في سفح جبل سنجار وعدد قليل من الينابيع، ومعظمها، كبريتي،  تنتشر في خط التلال الممتد من القيارة وحتى تلعفر..وهذه الينابيع هي السبب في ثروة تلعفر.وتجري المياه الباقية غير المستعملة بالزراعة من سنجار في منحدر الثرثار على نحو مواز لدجلة لتصب في المستنقعات المالحة شمال – غربي بغداد.. ومياه وادي الثرثار وينابيع الصحراء كلها كانت منذ القدم وحتى الآن مالحة [خضمة، أجة أو مجة: وقد تكون مرة]. وفي الضفة اليمنى من وادي الثرثار تبرز آثار المدينة القديمة الحضر، وتعد الأراضي في تلك المنطقة أراض رعي شهيرة ل [قبيلة] شمر الجربا حيث تكثر عيون المياه المالحة في انحائها، وفي سهول الضفة اليسرى لدجلة تنتشر قرى تحتضن عيون مياه عذبة تيسر الزراعة في موسم الصيف، ولكن ثروة الضفة اليسرى [الزراعية] تعود الى وفرة المياه التي يغدق بها عليها نهر دجلة فضلا عن نهري الزاب الأعظم والخابور..وتنمو اشجار الحور والصفصاف على ضفاف الأنهار..ولكن السهول المتبقية جرداء من الشجر، ولاوجود للنخلة في الأراضي الواقعة شمالي منخفض الفتحة [وهو منخفض يقع بين بيجي والشرقاط يتجه شرقا ويقع من الناحية الجيولوجية في المنطقة الانتقالية بين السهل الرسوبي ومنطقة الجزيرة وقد دارت فيها مواجهات بين الجيش العثماني وجيش الاحتلال البريطاني ..ويبدو ان بيل اعتبرتها بداية الأراضي المتموجة او شبه الجبلية حيث لاتنمو النخيل..ولا ادري اين كانت بيل قد شاهدت نخيلا بين شمال سامراء وحتى الفتحة ان لم تعتبر منطقة طوزخورماتو ضمن المناطق الصخرية]، ويوجد النفط والقير والفحم في المنطقة وكذلك نوع من المرمر الرمادي الناعم سهل القطع  يستخدم كثيرا في المباني ويحفر بنماذج زخرفية تميز معمار المنطقة ويزين الجوامع والكنائس والبيوت الراقية..

ومن جانب آخر نجد ان اعادة تنظيم الإدارة اسهل في الموصل منه في أماكن أخرى..فبينما لم نجد في البصرة وبغداد سجلات [مدنية] سابقة وكان موظفوا الحكومة التركية قد انسحبوا منهما مع الجيش، وجدنا في الموصل السجلات [المدنية] كلها متوفرة وكذلك  معظم الموظفين..وفي اواخر تشرين الثاني قام الكولونيل لجمن بزيارة تلعفر وسنجار وزاخو والعمادية ودهوك وقرية بيرة كبرا وعقرة، فرأى في كل تلك الأماكن العلم التركي مرفرفا وكان في معظمها جندرمة وموظفين أتراك..فعمل على صرف الموظفين والجندرمة الأتراك وأمر بإنزال الأعلام التركية ثم قام بتعيين ضباط سياسيين [اداريين] مساعدين في تلك المناطق الخاضعة لإحتلالنا. والمنطقة باستثناء سنجاق السليمانية كانت تشكل ولاية عثمانية، وسكانها أكثر تنوعا منهم في اي مكان آخر في العراق.

وسكان حوض دجلة وصحراء الجزيرة هم قبائل عربية منها المستقرة ومنها نصف المتبدية ممن اختار زراعة الأرض، أو حافظ على بداوته كما في قبيلتي شمر وطي. وفي الجبال، اخلى العنصر العربي، من سكنة السهول، مكانه للعنصر الكردي.اما في الصحراء الى الغرب، حيث يرتفع جبل سنجار الطويل وكأنه ظهر خنزير بري يبرز فجأة بما يتنافر مع عالم بلاد الرافدين بأرضها المستوية [المفتوحة على الأفق] حيث يوطن اليزيدية الذين نجدهم في شمال – شرقي الموصل أيضا منحدرات [سفوح] هذا الجبل وشقوقه.

ويبلغ عدد اليزيدية الذين يتحدثون الكردية ولعلهم من تحدر كردي ايضا بضعة 18.000 الى 20.000 في هذا القسم [من العراق]. وقد جاء هنري لايرد على وصفهم على نحو مثير للإعجاب، فكان يتعاطف كثيرا معهم بسبب تعرضهم للإضطهاد من قبل المسلمين والمسيحيين على حد السواء. فقد شاع عنهم انهم عبدة الشيطان الذي يسمونه ملك طاووس. إلا أن وصفا منصفا لهم يضعهم في خانة الثنوييين الذين اخذوا معتقداتهم عن الزرادشتية بطريق المانوية. فهم يحترمون روح الشيطان ويعتقدون بأنه ملاك ساقط وأنه في زمن ما في المستقبل سيسترد مكانته الأولى [يعاد ليصبح ملاكا]، كما يمارسون تقاليد دينية تعود في اصولها الى الاشوريين ..كما طعموا دينهم المركب برقع قطعت من اللاادرية [مذهب استسرائي يسعى اتباعه الى تجنب العالم المادي والتعلق بعالم الروح والتوحد به بطريق التسامي الروحي على نحو يماثل المناهج الارتقائية بالنفس عند الصوفية والإشراقية..ويعتقد الأدريون بقوة ان الوجود المادي ومجسماته الجسمانية هما حبس للروح وأن أكتمال الذات يتحقق بالتوحد بالروح الكلية التي صدر عنها الوجود] والمسيحية والإسلام. ويقع مزارهم الكبير، الذي تعرض للتخريب اكثر من مرة من قبل الأتراك، في الشيخ عادي [لاليش] شمال الموصل، ويزوره اليزيدية في الصيف. ويقيم رئيسهم الديني والدنيوي أو المير في باعذرا بينما يعيش المرشد الديني [بابا شيخ] في عين سفني التي تعد مع بعشيقة من اهم مراكزهم بعد الشيخ عادي. ولليزيدية سبعة طواويس ذهبية [أو برونزية]  فقد أحدها في جنوبي روسيا في بداية الحرب. وترسل هذه الطواويس في كل سنة الى المراكز اليزيدية المختلفة بهدف جمع التقدمات للمير ولرجال الدين..ويتالف هرمهم [هرم السلطة الدينية] من 1. المير[الأمير]، 2. البير[وجمعها البيورة]، وهم كبار رجال الدين ممن ينظر اليهم بقدسية في المجتمع اليزيدي، 3. الشيوخ وهم قادة ومعلمين دينيين، 4. القوالين [المرتلين]: ومسؤوليتهم مرافقة هياكل الطواويس [الذهبية] المقدسة، 5. الفقراء: وهؤلاء يرتدون ثيابا سوداء على الدوام وهم من المريدين من بسطاء الناس.

ويقع اليزيديون في سبع طوائف ولكل طائفة ملاك حارس وفيما يأتي اسماء خمس منها: 1. الشيخ عادي وتنتسب اليه شريحة الفقراء، 2. ملك طاووس، 3. شيخ شمس [الشيخ حسن]، 4. شيخ فخرالدين القمر [ملك القمر]، 5. شيخ شرف الدين.. والمرجح ان التزاوج غير مسموح به فيما بين هذه الشرائح [اي لايسمح للمنتسب لشريحة البيورة بالتزوج من شريحة الفقراء او بالعكس]..ومن الشيوخ المبجلين عند اليزيدية الشيخ حسن البصري الذي يسمح للمتحدرين منه فقط بين اليزيدية بالقراءة والكتابة، والشيخ محمد ابو دياك [لم يرد ذكره في المصادر] وخاتون فخيرة [لم يرد ذكرها في المصادر] ووظيفتها الوقوف عند باب الجنة [بمايشبه وظيفة رضوان في التقاليد الإسلامية]، والشيخ الاند [لعلها تقصد الشيخ مند الذي يوجد مزار له في بحزاني وتقام باسمه في كل سنة طوافة لليزيدية في بحزاني وهو غير النبي مندو الذي يقع مقامه في موقع معركة قادش بالقرب من حمص ويزعم ان مندو الأخير هو الأخ الأصغر للنبي يوسف ع] ويقدر المتحدرون منه من اليزيدية من مسك الحيات والثعابين السامة دون ان تؤذيهم..ونجد بينهم جماعة يطلق عليها الكوجك وهم عرافون ومؤلوا احلام..ويوجد في جبل سنجار شق جبلي [شكفتة] عميقة لاقرار لها يقوم الكوجك برمي عشر نتاجهم من الغلال والمحاصيل الزراعية فيها لكي يستخدمها ملك طاووس [طاووس ملك] عندما يعود مجددا الى الأرض..ويصوم اليزيدية في الربيع ثلاثة ايام حيث يصوم احد اعضاء الأسرة بالنيابة عن البقية. ويحدث اعظم اعياد اليزيدية في شيخ عادي في الصيف ويؤمه اليزيدية من مختلف الأنحاء.. وتدور الروايات حول امتلاكهم لكتاب اسود [ ذكر لي ابن احد شيوخ اليزيدية في بيبان ان تسمية الكتاب بالكتاب الأسود هو خطأ شائع والتلفظ الصحيح يجعل عنوان الكتاب هو كتاب الشمس] ويفترض عموما ان هذا الكتاب هو القرآن [الكتاب المقدس عند اليزيدية] وحيثما توجد فيه كلمة الشيطان ترد ممسوحة.. ويعتقد اليزيدية ان اي يزيدي يلفظ كلمة شيطان، يصاب فورا بالعمى، كما يتجنب اليزيدية لفظ او سماع كلمات تتضمن حرفي الشين والتاء [طاء العربية] ك [شط] "نهر" أو [مشط]، وكذلك كلمة "نعل" [استخدمت بيل التصحيف الموصلي لكلمة "لعن"]، وفي هذا الصدد روى  رئيس قساوسة القوش لأحد الضباط السياسيين [البريطانيين] حكاية عن يزيدي اعتنق المسيحية فقال أن ذلك الرجل كان يزيديا وعندما خرج في أحد الأيام لحراثة ارض والده خطرت في ذهنه طائفة من الأفكار من كل نوع فبدأ بالتفكير في تحريم لفظ كلمة الشيطان والعقوبة المترتبة على من يلفظها، فغلب عليه حب الإستطلاع وهو يتأمل في صخرة في الحقل فلفظ حرف [ش] ، وانتظر فلم يحدث شيئا، ثم أضاف [شي] وبالتدريج ذهب الى الحرف التالي حتى تمكن وبصوت حازم صريح من لفظ الكلمة كلها [شيطان]، ولدهشته لم يشعر بأي ضرر يصيب بصره. فشعر بالنشوة وبعد ان عاد الى البيت قال لأبيه: لقد لفظت الكلمة المحرمة [عادة مايستخدم اليزيدية تعبير "كسر الجرة" بمعنى التعرض لممنوع من ممنوعاتهم] ولم اصب بالعمى! فرد الوالد: [ لم تصب؟] ثم تناول بندقيته قائلا: [ستصاب "بالعمى" الآن!] فخرج هاربا من البيت وخلفه والده ممسكا بالبندقية حتى لجأ الينا واصبح مسيحيا..فالقلق من إيذاء الشيطان من غير قصد يشكل احدى السمات الثابتة في الحياة اليومية لليزيدية..وكان احد اليزيدية في زيارة لقنصلية اجنبية في الموصل فدهش لرؤيته متافلا [نفاضات] في دائرة القنصل فقال من الواضح ان هذه المباصق قد وضعت لتفادي قيام احدهم بدون انتباه بالبصاق فيصيب البصاق طاووس ملك [يعتقد اليزيدية ان طاووس ملك غير مرئي وانه يحضر العديد من المجالس وبخاصة تلك التي يتواجد فيها شخص من الطائفة]..وهناك يزيدية خارج منطقة الموصل [تقصد محافظة نينوى وبضمنها المثلث الآشوري والجزيرة والزابين] كماردين ودياربكر وحلب والقفقاس، ويتحدثون الكردية ويبدو انهم لعبوا دورا كبيرا في تاريخ الكرد البهدينان، ويعمل كلهم بالزراعة [وهناك من يعمل منهم بالرعي وبالتهريب ومنهم من يشغل وظائف حكومية مهمة في العراق ومنهم من لديه مصالح خاصة كالمطاعم والنوادي ويشكلون جزءا مهما من الجالية العراقية في دول الغرب]. ويتمسك اليزيدية بقوة بمعتقدهم وحالات الردة عن دينهم نادرة جدا حتى في ازمان الإضطهاد..واجمالا فإن اليزيدية يتميزون بالمرونة والقدرة على التكيف مع السلطة كما يؤيدون بإخلاص النظام البريطاني أما معنوياتهم فمتراخية ولهم صيت سيء بالإدمان على المشروبات القوية [شرب العرق وهي عادة يتشاطرونها مع المسيحيين في سهل نينوى ، ومنهم من يصنع العرق في بيته].ولايكتمون تعاطفهم الكبير مع المسيحيين فقد الجأوا اعدادا كبيرة من اللاجئين الأرمن في جبل سنجار [تعرض اليزيدية للمذابح المتكررة من قبل الأتراك مما دفعهم الى التعاون مع الأرمن ضد عدو شرس مشترك]..ولم يتوقف اليزيدية عند حدود توفير الملاذ الآمن للأرمن، بل تجاوزوا ذلك الى الهجوم على خطوط المواصلات مما دفع الأتراك لإتخاذ اجراءات عقوبية ضدهم عام 1917..فارسلوا قوة كبيرة بالبنادق الى الجبل، وقام الأتراك بتحريض تركمان تلعفر والقبائل العربية بالمنطقة ضدهم..فابدى اليزيدية مقاومة ولكن القوات المهاجمة تمكنت من التغلب عليهم فدمرت قراهم وسلبت قطعانهم..ويبدو انهم على عداوة بالوراثة مع الشمر ولكنهم على علاقة طيبة مع شيخ محمد رئيس قبيلة طي [لعل السبب بذلك التجاور بين شمر واليزيدية وفرض شمر الخاوة على كل سكان البادية ويعرف عن اليزيدية رفضهم للخاوة فضلا عن اغارات شمر المتكررة على قطعان اليزيدية والإختلاف الجذري بالعقيدة والولاء]. ورئيس اليزيدية الديني والدنيوي هو المير [الأمير] من اسرة جول بيك ويعيش في باعذرا بالقرب من مزارالشيخان والمير الحالي هو سعيد بيك، وكان ابن عمه اسماعيل يتصل بنا في سياق احتلالنا للموصل [ اسماعيل بيك هو ابن عبدي بك كثير الترحال وقد لعب دورا في الحوادث التي سبقت احتلال الموصل حيث الجأ كثيرا من الأرمن في قرى اليزيدية في جبل سنجار واتصل بالإنكليز فقابل المندوب السامي ولسن والسيدة بيل التي خصصت له مرتبا وسكنا في بغداد ..وصاحب لجمن في اثناء زيارة الأخير الى سنجار وكان قد أمّن المرور الآمن للأسرى الأتراك الى نصيبين عبر المناطق اليزيدية. تتضمن سيرته التي كتبها بنفسه بعفوية وصدق معلومات متنوعة عن الحياة الإجتماعية في شمالي العراق وسورية والأناضول وطبيعة العلاقات بين الطوائف والعشائر المختلفة في المنطقة والموصل خلال الحرب العالمية الأولى]..فزارنا في بغداد وكان قدم خدمة كبيرة في تنظيم المسح الذي اجراه الكابتن هدسون لجبل سنجار عام 1918. [أجرى الإنكليز دراسات ميدانية لجوانب مختلفة في العراق، وهي دراسات على درجة كبيرة من الأهمية لم يترجم منها الى العربية الا النزر القليل ..وهي متوفرة بدوريات الجمعية الملكية الجغرافية والجمعية الملكية الآسيوية وغيرها ..وقد اجرى هنري فيلد الأميركي دراسة انثروبولوجية لجنوبي العراق ووسطه منشورة بكتاب متوفر في جامعة الموصل، فضلا عن توفره بنسخ الكترونية]..لهذا فنحن ندين له وبخاصة أنه صرح دائما بأنه رئيسا لليزيدية ونحن نعامله على هذا الأساس توخيا للمساواة مع منافسه في الزعامة سعيد بك [وهو ابن عمه علي بيك]، وتمت تسوية الخلاف بأن تعطى  ثلاثة من الطواويس المقدسة [التي يحق لمالكها جمع النذور والعطايا من اليزيدية] لإسماعيل بيك [وأن يحتفظ سعيد بيك بالأثنين الباقيين] [يبدو ان الأنكليز كانوا يميلون الى تفضيل اسماعيل بيك على سعيد بيك بسبب قيام الأول بحماية المسيحيين وبالمبادرة في تقديم المعلومات والخدمات لهم فضلا عن وساطته بين شيخ الدليم وبينهم آنذاك]..غير ان هذه التسوية لم تنجح، كونها تشبه وجود بابوين يتنافسان البابوية أحدهما في روما والآخر في آفنيو "بالفاء الأعجمية" [ بسبب اختيار 7 من البابوات الفرنسيين بالأصل مدينة آفنيو في جنوب غربي فرنسا مقرا لهم بدلا من الفاتيكان في روما بين 1309 و1377]. ولكن سرعان ماتبين ان اسماعيل لم يكن إطلاقا محلا للثقة وكان لاينقطع عن الدسائس من كل نوع فرأينا ان من الضروري ارساله الى بغداد مما جعل سعيد يحتفظ بالزعامة لوحده [وكان اسماعيل يعترض على بقائه في بغداد ويعرب عن رغبته بالعودة الى منطقته غير ان جرترود بيل تخبره في كل مرة ان قومه لايريدونه]..وكان سعيد يتصرف تحت تأثير امه ميان وهي امرأة مسنة قوية لاتتفق مصالحها الشخصية دائما مع مصالح القبيلة [الطائفة]

[ يميز فلاديمير مينورسكي وهو من افضل المراجع في شؤون الأقليات في وسط آسيا وشمالي العراق وأيران بين القبيلة والطائفة على اساس المراتبية الإجتماعية والدينية فيعد الشبك والكاكية والصارلية واليزيدية طوائف لأن تنظيمها يعتمد على تراتيبية دينية. ويميز على هذا الأساس بين الباجلان والشبك عادا الباجلان قبيلة بينما اعتبر الشبك طائفة ولعله اعتمد على مصادر عراقية كالأب انستاس الكرملي في مقالته الممتازة المنشورة في مجلة المشرق وعنوانها "تفكهة الأذهان بالتعريف بثلاثة أديان" فضلا عن كتابات الشيبي والحسني والغلامي ومصطفى جواد حول هذا الموضوع]..وترتب ان يقوم سعيد بيك يساعده مجلس من الكبار بإدارة القضايا المتصلة بالشرعة [الأحوال المدنية والنزاعات] وقد جرت الأمور في البداية على مايرام غير ان شعورا بعدم الرضى ساد في الآونة الأخيرة بسبب قراراته. وقد تسبب موت بابا شيخ الواقف على مزار الشيخ عادي بموجة سخط لتردد سعيد بيك في تعيين خلف له وهو أمر يقع تحت صلاحياته..ويبدو ان اليزيدية، وبسبب الإضطهاد السابق الذي تعرضوا له،  قد فقدوا مساحات واسعة من أراضيهم..وكانت موجة من الغضب تسري في عدة اماكن بسبب ذلك وبخاصة في عين سفني. ولعل هذه واحدة من اكبر المشاكل التي ستواجهنا عند تسوية مشكلات الأرض في منطقة الموصل..

وعند وصولنا الى جبل سنجار وجدنا ان الرئيس هناك هو حموشرو وهو رجل مسن وفقير [من طبقة الفقراء في الترتيب الهرمي اليزيدي] وقد عين رئيسا للجبل بمرتب شهري وله وكيل مأجور في البلد [سنجار].وبسبب الموقع الجغرافي حيث يطل من قلب الجزيرة، وبسبب عداوة حمو شرو واليزيدية الصريحة للأتراك والعرب معا، يشكل جبل سنجار حصنا ستراتيجيا مهما، سيكون ذي فائدة عظيمة عند التعامل مع الشمر أو مع حركات قومية [مسلحة] محتملة قد يقوم بها العرب او الأتراك [التركمان]  لاحقا..

ويوجد في الريف الخصب حول المدينة [الموصل] والى الشرق من دجلة اعداد من المسيحيين اكثرهم من الكلدان على الرغم من وجود جماعات صغيرة من اليعاقبة والنسطوريين ايضا. ويقيم البطريرك الكلداني [مار يوسف عمانوئيل الثاني] في الموصل حيث يشكل الكلدان اكثرية الحرفيين المهرة في المدينة.. بينما يعمل الكلدان الذين يقيمون خارج المدينة  بالزراعة ويشتهرون بمهاراتهم اذ تعد قراهم أكبر القرى في الولايات [العثمانية] واكثرها ازدهارا.  وهنالك رسول بابوي معين في الموصل لرعاية مصالح الكلدان والسريان الكاثوليك فضلا عن اعتناء الآباء الدونوميكان بمدرسة ومستشفى في الموصل وهناك الكثير من مرتادي المدرسة والكنيسة الدونوميكانيتان.كما تحتضن الموصل قساوسة سريان كاثوليك ونسطوريين ويعقوبيين..كما تعزز التنوع المسيحي في المدينة ليشمل جماعات من الرومان الكاثوليك والبروتستانت والأرثودوكس التابعين للكنيسة اليونانية. وكان الرومان الكاثوليك والكنائس الوحدوية البابوية (الكلدان والسريان الكاثوليك)..تحت الحماية الفرنسية كما هو الحال في الأنحاء الأخرى في الأمبراطورية العثمانية.  ولايوجد أدنى شك ان امكانية ضمان محام اوربي [عن مصالح الطوائف المسيحية الشرقية] لدى الدولة العثمانية، كان محفزا قويا للتوحد  [الإنضواء تحت ] مع كنيسة روما [الكاثولوكية]. وكانت سياستنا قبل الحرب تتسم بالميل لحماية الكنيسة النسطورية [الآشورية] أزاء الكنائس المتفرعة عنها كالكنيسة الكلدانية الكاثولوكية.ودافعنا لذلك كان وجود هيئة تبشيرية صغيرة ولكنها مثيرة للإعجاب بين النسطوريين تعرف ببعثة اسقف كنتربري التبشيرية للنسطوريين. [بذل الأنكليز ومعهم الأميركان ومنذ بداية القرن التاسع عشر جهودا جبارة في نشر المذهب البروتستانتي بدون تحقيق نجاح يذكر نظرا لتمسك المسيحيين المشارقة بكنائسهم والنجاح النسبي للكاثوليك والدونوميكان في تحقيق بعض المكتسبات للكنيسة الكاثوليكية]. ومن جهة أخرى عزز وجود البعثة التبشيرية الدونوميكانية بمدرستهم الجيدة ومستشفاهم في الموصل الميل للتطلع الى فرنسا.. فالعلاقة مع روما قوية ويرجح ان تبقى كذلك لأن الكنيسة الكلدانية لا اموال [أو أوقاف] لها وتعتمد في تمويلها على روما.[في الواقع تتمتع الكنيسة الكلدانية بأموال تردها بطريق الهدايا العينية لأتباعها وأكثرهم أغنياء كما توجد في الكنائس الكلدانية مكتبات ثرية بالمصادر النادرة]

وفي تلعفر، وهي قرية كبيرة على حافة الصحراء بين الموصل وسنجار، هناك نسبة كبيرة من السكان من التركمان، ويزعمون انهم تحدروا من عسكر تيمورلنك ، ومعظمهم شيعة. إلا أن المذهب السني هو السائد في منطقة الموصل..وعدد الشيعة في مقاطعة [ولاية] الموصل لايتجاوز 17.000 أزاء 250.000 سني، ولايوجد شيعة في أربيل الى الشمال. ونجد في الضفة اليسرى لدجلة  بين النهر والجبال أغثاء وبقايا ماخلفته كل الغزوات والهجرات ل 2000 سنة اخيرة خلت أوأكثر..فبالإضافة الى اليزيدية والمسيحيين من كل مذهب، هنالك التركمان والعرب والأكراد في واجهات متقاربة..وهناك جماعات كبيرة من الشبك والصارلية الذين يقال عنهم انهم يعتنقون دينا سريا او ينتمون الى غلاة الشيعة..ولهولاء [الشبك والصارلية] صلات مع العلي الهية [في الواقع لا صلة للشبك بالعلي إلهية كما ذهبت بيل الى الأفتراض، ولكنهم كما يذهب الكرملي وحامد الصراف يقدسون الإمام الرابع علي زين العابدين ويسمونه علي رش وله مقامات في قراهم ومزار في قرية بأسم علي رش وفي رأي مينورسكي ان الكوران وليس الشبك يتصلون مباشرة بالعلي الهية] الذين ينتشرون على جانبي الطريق بين قصر شيرين وكرمنشاه [هنا نرى ضمنا ان بيل تفترض صلة توجد او انها تخلط بين الكرد الفيلية واللور في المناطق المذكورة والعلي إلهية ربما لأن الفيلية أكراد  شيعة معروفين بتقديسهم لعلي ع]..وينتشر اليزيدية بمحاذاة التلال [سفوح الجبال] بينما يوطن الجبال باكملها الأكراد الى جانب قرى المسيحيين وقليل من قرى اليهود. والجماعة اليهودية في الموصل صغيرة وليس لديهم الثروة والمكانة اللتان تصفان يهود بغداد. وعندما وصلنا الموصل كانت مليئة باللاجئين الأرمن ولكن اكثرية هؤلاء اللاجئين اخليت الى بغداد مما جعل عدد المقيمين الأرمن في الموصل يقتصر على اسر قليلة.. وقبل احتلال الموصل، كانت لدينا علاقات مع شمرالجربا ويتألف بيت الشيخ من 15 ولدا من ابناء فرحان باشا الذي توفي قبل 40 سنة [توفي الشيخ فرحان الجربا عام 1890].وعندموته تقاسم اولاده المشيخة فيما بينهم، وكان اكبرهم العاصي وهو الرئيس الفعلي للقبيلة..ويقال عنه انه قبل الحرب كان قد جاء الى الموصل بموافقة على تعهد بحسن السيرة من قبل الوالي آنذاك..ولكن الوالي لم يف بتعهده وألقي به في السجن ، وعندما اطلق سراحه اقسم بالطلاق بانه لن يضع قدمه مرة اخرى في الموصل. فإن صدقت هذه الرواية فأنها تلقي ضوءا ساطعا على سلوكه خلال السنة الماضية. [ لم تتحدث بيل عن سلوك الشيخ في السنة الماضية]، وبعد الشيخ العاصي يأتي ابرز أعضاء اسرة الشيخ وهم ابنه هاشم وحفيده دحام أبن هادي ثم حميدي وبدر وبقية اشقاء العاصي، وابن عبد العزيز عجيل الياور الذي يرتبط به اولاد شلال مطني ومشعل ثم محمد ابن محمد عاصي وعبيد، وأولاد مجول وفارس. والشمر لهم عداوة متوارثة مع العنزة كما يوجد عداوة خلال فترة الحرب بينهم والدليم. وقد حاول احد الشيوخ او اثنين منهم خوض غمار الزراعة، وهكذا حاول حميدي وبدر زراعة الأراضي المجاورة لقناة الفرحاتية بالقرب من بلد..كما حاول عجيل الياور تجربة الزراعة بالمشاركة مع محمد النجيفي أحد شيوخ الموصل  في منطقة نجمة بالقرب من الشورة [محمد النجيفي هو والد السيد عبد العزيز النجيفي وجد السيد اسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي]..غير ان الأكثرية الغالبة من اعضاء القبيلة بدو يجوبون الصحراء ويعتمدون في معيشتهم على قطعان الجمال التي يمتلكونها، وكذلك على الخاوة التي يفرضونها على ألقبائل الأخرى وكذلك على القوافل [التجارية] وبخاصة تلك التي تسلك طريق نصيبين منطلقة من العراق او بلاد الشام.

وكان الشمر خلال الحرب، بإستثناء فيصل [الجربا]، الذي يسكن قرب الموصل وليس لديه تأثيرا كبيرا، يقفون بلا تردد الى جانب الأتراك، وبمقدورنا ان نفهم السبب باعتبار موقعهم الجغرافي [تعتبر الموصل في العهد العثماني قلعة تركية متقدمة في المواجهات المستديمة مع الفرس لهذا بذلوا جهودا لتتريك ادارتها وتعيين افضل الولاة واكثرهم ولاءا للباب العالي فيها ويقيم الشمر في اطراف الموصل والجزيرة وفي حوض الخابور وسوريا وهم على احتكاك مباشر مع السلطة التركية فضلا عن طبيعتهم البدوية المناوئة بالفطرة للوجود الأجنبي]. فقد استغلوا [اي الشمر] تقدمنا الى اعالي النهر [دجلة] لينضموا الى الجماعات التي شرعت بنهب القرى الواقعة على دجلة وعلى طريق نصيبين.[ يتعامل الأنكليز مع قبيلة شمر تعاملهم مع دولة مستقلة، ولا سيما في أوقات تسود فيها الدولة الأضطرابات ويتخلخل الحكم.. ولا غرابة في  ذلك فعندما تتحول الدولة الى عصابة وينتشر في مفاصلها الفساد تتحول العصابة الى دولة وهذا مايشهده العراق في الوقت الحاضر].  ولكن عندما دعوناهم للمجيء الينا لبى كل من حميدي وعجيل الياور وعيادة ابن العاصي دعوتنا واعتذر العاصي بسبب تقدمه في السن.فطلبنا منهم البقاء في الموصل لحين الإنتهاء من اجراء ترتيبات خاصة بهم. فوافقوا على ذلك. وبعد عدد من الأيام، على اية حال غادر عجيل الذي يمتلك نفوذا كبيرا بينهم، اما بسبب الخوف او لسبب آخر نجهله، الموصل بدون ان ينتظر ترخيصا بالمغادرة. فاعتبر خارجا على القانون وتمت الإغارة على عائلته وجماله القريبة من الشرقاط والإستيلاء عليها غير ان الجمال اعترضتهم عاصفة رعدية فهربت الى حيث لاندري بينما كانت في طريقها الينا. [يظهر هذا السلوك عدوانية الإنكليز في ارغامهم شيوخ القبائل بالقوة على التعاون معهم] أما حميدي فقد اعلن خضوعه للحكومة وتعهد بالمحافظة على عبدة وجزء من الصايح [عبدة والصايح تحالفين من الشمر ] في جاهزية، فخصصنا له مرتبا شهريا مقداره 500 روبية. أما العاصي فقد بقي في انحاء نصيبين حيث يرسل بين الآونة والأخرى رسائل طاعة ولكن تلك الرسائل وبسبب طابعها الغامض لم تلق قبولا من قبلنا. وقد جاء هاشم خلال الصيف، لكن مبادراته تم رفضها لأنه جاء بمفرده. وحدثت اعمال نهب، نسبت للشمر، بين فترة وأخرى في طريق نصيبين واماكن اخرى، ولكن لم تحدث سرقات كبرى لحين شهر ايلول عندما جردت احدى القوافل من 3000 ليرة تركية في منطقة ابوحامضة على طريق دير الزور [وادي ابو حامضة يقع الى الشمال من دير الزور سكنتها قبائل شمرية من حلف العبدة وللشمر المتواجدين فيها علاقة مع حميدي بن دهام الجربا]، وفي خطوة انتقامية، هوجمت شمر بعربات مدرعة وتم الإستيلاء على اعداد كبيرة من قطعان اغنامهم..وكنا نأمل اعتراض طريقهم عندما يحين وقت رحلتهم السنوية الى الجنوب إلا ان خطتنا أخفقت وتمكن الشمرمن تجاوز مواقعنا والمروق جنوبا. على اية حال، ارسل العاصي حفيده دحام الى الموصل حاملا رسالة يعلن فيها تخليه عن المشيخة له وتتضمن الرسالة تصريحات من هاشم ومطلك الفرحان وآخرين مفادها انهم يقرون بدحام شيخا لهم، فأبلغنا دحام انه وكخطوة أولى، يتوجب عليه جمع مبلغ 3.500 ليرة تركية لدفعها كغرامة عن عملية السطو على القافلة في ابو حامظة [يلاحظ ان الأنكليز أضافوا 500 ليرة على المبلغ الذي سرق في ابي حامضة وكأنهم بلك يمارسون نوعا من الخاوة بأنفسهم]. وبعد تسليمه المبلغ المذكور سيتم تعيينه [الإعتراف به]  من قبل الحكومة شيخا على قبيلة العاصي. فوافق وارسل بعد مدة وجيزة جدا مبلغ 1800 ليرة، ويعتقد أنه جمع المبلغ من القبيلة عندما حدثت عملية دير الزوركما سنروي لاحقا بما يجعله يتسائل فيما إذا كان يراهن على الحصان الرابح [يبدو ان خطأ مطبعيا او تدوينيا حدث هنا والأصح ان نقول [بما يجعلنا نتساءل فيما إذا كنا نراهن على الحصان الرابح]..وقد تسبب هذا [يوجد نقص في النص الأصلي] بتأخير الدفع [لأن دحام لم يدفع المبلغ المطلوب كله] كما عملت الدعاية الشريفية [الدعاية لتنصيب ملكا جديدا للعراق هو فيصل بن الحسين شريف مكة] الى مزيد من التأخير.وفي نيسان قام [دحام] بدفع 1500 ليرة أخرى لينتقل مع قبيلته بعدها خارج الأراضي [المحتلة من قبل القوات البريطانية]..

وقد طرحت القبائل بصورة مباشرة مشكلة الخاوة التي تنتزع منهم.وكانت هذه الأتاوة تعتمد اساسا ثابتا إذ تتضمن كبشين واربع نعجات، وأربعة خراف و6 مجيديات تدفع نقدا على كل قطيع [وكان الشمر يفرضون هذه الخاوة على كل العشائر والطوائف بدون تمييز]، وقد توزع أولاد فرحان فيما بينهم جباية الخاوة..وأخذ الخاوة من القبائل الصغيرة في الجزيرة ليس بدون سبب: فهي لاتعدو ان تكون سوى مبلغ يعطى لقاء ترخيص تمنحه شمر لهم برعاية قطعانهم في مراعي شمر [هنا تفترض بيل ضمنا ان منطقة الجزيرة تعود لقبيلة شمر].إلا أن شمر اضحت تفسر ذلك بأن لهم حق جبايتها [الخاوة] من القبائل على قطعانهم كلها حتى الموجودة منها في الصحراء ولكن بنسب تخضع للمراجعة، مع استثناء الأراضي الزراعية في القرى. ولم يتم الأعتراف بفرض ضريبة [مرور] على القوافل [ولاتحتاج شمر لأعتراف الحكومة لأنها تهاجم القوافل وتقتطع المبالغ التي تريد كما في هجومها على قافلة وادي الحامظة بالقرب من دير الزور]..وتعطي الخاوة لمن يدفعها الحق بالحماية، وفي الوقت الحاضر من الصعب علينا ايجاد طريقة لمنعها..

مع ذلك فإن التنافر [التقابل الضدي] بين اهتمامات [اهداف او مصالح] البدوي والمزارع [الفلاح] او التاجر تتضح على افضل نحو من خلال وضع الشمر. فالشمر اشبه بالهوام [الشر العام] [الذي يعم الجميع] فهم يعيشون على النهب والإبتزاز. غير ان بعضهم أدرك في السنة الماضية الأرباح التي يمكن ان تجنى بتأجير جماله لأغراض النقل [استخدم الأنكليز الأبل في نقل الأعتدة وحمل المدافع والمؤن، وكانت الجمال تستخدم لأغراض نقل الميرة والسلاح والخيام منذ العهود القديمة وقد اعتمد عليها بشكل خاص الباشا محمد اينجة بيرقدار في حملاته في راوندوز والعمادية والجزيرة] وقد يكون في ذلك حلا جزئيا للمشكلة لأن وجود الكثير من المال في جيوبهم [جيوب الشمر] يعني دافع اضعف الى النهب والسلب، لكن في السنوات القليلة القادمة، على اية حال، ستعتمد قوتنا [تفوقنا عليهم] على قدرتنا على قطع طريق هجرتهم شمالا او جنوبا.

والقبيلة الرئيسة في الجزيرة بعد شمر هي قبيلة طي وشيخها هو محمد عبد الرحمن. وتنتشر هذه القبيلة بصورة رئيسة بين نصيبين وجبل سنجار، وباستثناء قرى قليلة في منطقة تلعفر [توطنها طي]، فالأكثرية منهم بدو رحل. وبأستناء عملية نهب يتيمة في طريق تلعفر، لم يتسببوا بأية مشكلات، وعلى ذلك تم حجز اعداد من حميرهم المسخرة في النقل بالقرب من الموصل ثم ارجاعها فورا لهم بعد ارجاع البضائع المسروقة.ويرتبط شيخهم بعلاقات طيبة مع يزيدية سنجار ولكن يبدو انهم ليسوا على علاقات جيدة مع العاصي.

وينتشر المتيوت والجحيش في السفوح الجنوبية لسنجار باتجاه تلعفر ولكنهما ليستا من القبائل ثقيلة الأهمية. اما الحديديين فهم رعاة [رعيان] الموصل، ويقومون برعي قطعان الأغنام بصفة اجيرين لملاك القطعان الكبيرة. ويشتهرون بعوزهم للشجاعة، وينظر اليهم البدو باحتقار ويمتنعون عن التزاوج معهم. وكانت هناك مشكلات حول منصب الشيخ [الشيخية] في البو حمد الذين يتمركزون في انحاء الشورة، وبليبل أغا هو أكبر شيوخهم وهو من العبيد [الرق] في أصله ويعد من الأشقياء المتمرسين بالإحتيال [ربما خلطت السيدة بيل بين العبيد "قبيلة كريمة معروفة" والعبيد [الرقيق] لأن البوحمد من العبيد ولعلها فسرت "من العبيد" التي سمعتها في استفسارها عن شيخ البوحمد فتصورت انه  "من العبيد" اي "من الرقيق"]. والجماعة المنافسة لهم [اي لألبو حمد] يرأسها العاكوب الذي ينتسب الى الشيوخ الحقيقيين نحن ارغمنا على الأعتراف بزعامته على بعض الجماعات [ يرجح وجود خطأ آخرهنا أيضا لأن العاكوب يعدون فخدا من أفخاد البوحمد وكلاهما ينتميان لقبيلة العبيد..اما مسألة الأعتراف فتمثل سياسة بريطانية لإحتواء زعماء العشائر]. وتجدر الإشارة الى أن البوحمد كانوا في نزاع مع الجبور الذين يتخذون مزارعهم على ضفاف دجلة.

وقد حافظت الإدارة البريطانية على التقسيمات الإدارية التركية للولايات فأخذ الضابط السياسي  أو الإداري المساعد للمقاطعة مكان قائمقام القضاء. وبما ينسجم مع ممارساتنا في أماكن أخرى [الهند] تم دمج الشؤون الإدارية بالشؤون الإقتصادية: فتم تقسيم كل مقاطعة [قضاء] الى نواح حسب الأيرادات [الدخل الوارد من كل ناحية]، وأنيطت الإدارات في النواحي  لمامورين عرب يكونون مسؤولين أمام مدير الناحية في رئاسة القضاء.. وفي عام 1919 تم تعيين السيد حسن بيك [العمري]، رئيسا لقسم [الأراضي ]السنية في العهد العثماني، مفتشا للدخول [الشؤون المالية] في الموصل، وهي وظيفة اوكلت مؤقتا مرتين ولمدد قصيرة لضابط اداري مساعد [كان حسن بيك العمري فيما يذكر الدكتور ابراهيم العلاف مديرا لبلدية الموصل في عام 1919].

وكان مركز إدارة الأراضي السنية [وهي اراض زراعية وضع السلطان عبد الحميد يده عليها وخصص لها ادارة خاصة] لعموم العراق في الموصل. ولهذه الأراضي تنظيما خاصا بها وترتبط مباشرة باسطنبول ولذلك فهي مستقلة عن الإدارة الإقليمية. ولكي نيسر للمأمورين التعامل مع القضايا الصغيرة في الموصل وتلعفر في وقت ومكان حدوثها او طرحها، تم منحهم صلاحيات قضاة من الدرجة الثالثة. وهي تجربة حققت اجمالا قدرا من النجاح. وفي منطقة الموصل وبخاصة في السهول، حيث تكون الوحدة الإجتماعية هي القرية وليس القبيلة، يلعب المختارية او رؤساء القرى ادوارا مهمة، فهم مسؤولون عن حفظ النظام والنظافة في قراهم فضلا عن حسم النزاعات وفق  العرف والعدل، وعن توقيف المخالفين في الجرائم الخطرة،  ومتابعة تنفيذ أوامر الحكومة، وتوفير السكن لموظفي الحكومة وسلامة المسافرين والقوافل التي تمضي الليلة في القرية. كما انهم ملزمون بمساعدة المدراء في الشؤون الزراعية كتقدير المحاصيل. وبالمقابل من الممكن لهم استلام ايرادات معينة على سبيل المثال، نسبة مئوية على السلع التي يبيعها التجار في قراهم، كما تعطيهم الحكومة، كل في قريته، نسبة مئوية لاتزيد عن 3% من المحاصيل الشتوية ومن محصول العنب في الموصل. والموصل كبغداد والبصرة أعادت أربعة أعضاء الى غرفة [التجارة] التركية. وكان أحد هؤلاء مسيحي شهير في المدينة [الموصل] كان قد عين ملحقا سياسيا فيها. [وهو نمرود رسام الأخ الأصغر للآثاري هرمز رسام والقنصل السابق كريستيان رسام، عين ممثلا لبريطانيا في الموصل عام 1893 حتى عام 1908]..

وعند وصولنا وجدنا ان اوضاع الولاية [الموصل] كانت سيئة جدا. فالمدينة  مكتظة باللاجئين وتنتشر فيها المزابل..والسبب الرئيس في ذلك الإستملاك والمصادرة والسخرة من قبل العسكر [لم تحدد بيل اي عسكر والأرجح انها تقصد الترك] فضلا عن قيام الجنود والمراتب الألمان والنمساويين بإرسال طرودا الى اوطانهم [لم تذكربيل محتوى الطرود]. وتدور الروايات عن موت 10.000 شخص بسبب الجوع خلال شتاء 1917 – 1918. وفي الولاية خارج الموصل غادر السكان قراهم باستثناء القرى المسيحية بسبب التجنيد الإلزامي. اما النقل والزراعة فقد تجمدا نتيجة مصادرة اعداد كبيرة من الحيوانات. وبلغت نسبة الأراضي غير المزروعة 50% والغلتان الرئيستان في [ولاية ]الموصل هما الحنطة والشعير حيث يتجاوز انتاج القمح في الموصل ماتنتجه ولايات الجنوب مجتمعة بكثير مما جعل بغداد تتطلع الى الموصل لتزودها بالقمح فضلا عن الفاكهة والمكسرات والخضراوات التي تتميز بنوعيتها الجيدة. بل وحتى تلك التي تنتج عند سفوح التلال..على ذلك تسبب اغلاق طريق الموصل من آذار 1917 وحتى تشرين الثاني 1918 بصعوبة ملموسة واسهمت الى نقص التجهيزات الغذائية عن بغداد خلال عام 1917. [تسببت العمليات العسكرية بإغلاق الطريق بين الموصل وبغداد].

وتعتمد الغلال الشتوية في ولاية الموصل كليا على مياه الأمطار،  ولكن نظرا للحاجة الماسة لمياه الصيف في السهول، فإن المحاصيل الصيفية في السهول لاتكاد تذكر، ربما بإستناء حافات الأنهار حيث تسقى البساتين بواسطة النواعير وغيرها وكذلك الحال في القرى التي تمتلك ينابيع دائمية على مدار السنة.. ويكون الري على افضل حال في حوض الزاب الكبير..اما في الجبال، من جهة أخرى، فتعد الغلال الصيفية المتمثلة بالرز [رز عقرة] والتبغ والفواكه أكثر أهمية من غلال الحبوب الشتوية..وتعد طرائق الزراعة بدائية حيث يستخدم المحراث الخشبي تجره الثيران  المزاوجة بنيراو البغال او الحمير..وجرت العادة ان يزرع الفلاح نصف ارضه ويترك النصف الاخر مجذوما لحراثته لموسم آخر.ومع بذر بذور السنة الماضية، تتم حراثة المساحات المجذومة بعكس اتجاه حراثتها الماضية وتترك بدون بذار خلال الصيف. وفي الخريف وبعد بواكير المطر، تحرث طوليا وتصبح جاهزة لنشر البذور. ويستعمل افضل الفلاحين السماد.  ويبلغ عطاء البذور  للأكر [الفدان] الواحد حوالي 120 ليبرة [قرابة 39 كيلوغرام]. ويبلغ معدل المحصول سبعة الى ثمانية اضعاف الكمية المبذورة. وبعد الإحتلال، اتخذت خطوات فورية لأسترجاع الإزدهار الزراعي. وفي السنة الاولى تم توزيع 550 من مواشي الحراثة [المواشي التي تستخدم في الحراثة] و150.000 روبية على شكل قروض زراعية للفلاحين. بالاضافة الى كميات كبيرة من الحبوب التركية قمنا بمصادرتها وتوزيعها.

وهنالك مؤشرات الى ان القسم الأكبر من الأراضي في الولاية هو في ايدي مزارعين محليين حيث يقوم كل شخص بحراثة ارضه، ولكن ماوجدناه في الوقت الحاضر ان معظم الأراضي انتقل الى ايدي الملاكين الكبار الين يسكنون في غالبيتهم في الموصل. ويمتلكون الأراضي بطريق سندات طابو. ولكن هناك الكثير من الشكاوي حول تطبيق هذه الطريقة في انتزاع الاراضي واستملاكها. فهناك من يقول ان الفلاح يعطى 25% فقط من قيمة ارضه وإذا رفض بيعها تلفق له تهمة قتل احدهم ويرمى في السجن، ويبقى في السجن لسنوات حتى  يغير رأيه. لقد اعطى استقدام الطابو وجهاء المدينة فرصا لنهب الفلاحين  وانتزاع مساحات هائلة من اراضيهم بطريق وثائق مزورة هي نتيجة معاملات بيع قسرية وما الى ذلك.

والسلاح المفضل الآخر الذي يلجأ اليه الملاكين الكبار هو القرض والرهن العقاري. فملاك [اراضي] الطابو غالبا مايكونون ملاكا غائبين ممن لم يلقوا نظرة واحدة على الأراضي التي يمتلكونها. اما حقوقهم فتتنوع حسب خصوبة الأرض وطبيعة الإتفاق مع الفلاحين..وتتراوح النسبة بين ربع الإنتاج الى جزء من 16 جزء منه..إلا ان النسبة الجارية على الأغلب هي الثمن [اي جزء واحد من ثمانية أجزاء]. ويأخذ ملاك الطابو نصف المنتوج من الغلال الصيفية، كما هو الحال في لوردات حقوق المياه [احتكار موارد المياه وفق نظام الإقطاع الأوربي]. وغالبا مايكون وضع الفلاح غامضا.

وهناك روايات بان السبب وراء عدم قدرة الناس على بناء بيوت جيدة واقتصار ذلك على القلة هو خوف الناس من طردهم من بيوتهم في اية لحظة. فمن الناحية النظرية لانجد سببا لغموض وضع الفلاح. [والسبب هو عدم وجود أحكام وقوانين تحدد حقوقه وواجباته وارتباطه بمزاجية ملاك الطابو ومصالحهم الذاتية] فإن طالب أحد ملاك الطابو باتفاقية يرفع فيها كمية حصته ورفض الفلاحون الرضوخ يتوجب عليه عدم طردهم من الأرض وجلب فلاحين آخرين بدلا منهم [لم تذكر بيل حالات مماثلة والسبب هو رضوخ الفلاحين لمطالب ملاك الطابو خوفا من خسارة مسكنهم ومصدر رزقهم]. والشخص الذي يمتلك اراض اكبر مما يقدر على زراعتها بنفسه . ويرغب بزراعتها على نحو مباشر، يقوم باستخدام "مربعجي" وقد سمي كذلك لأنه اعتاد على اخذ ربع حصاد الأراضي التي قام بزراعتها. اما في الوقت الحاضر فالفلاح لايأخذ سوى الثمن وغالبا مايكون علاوة على ذلك مديونا لمالك الأرض مما يحوله الى قن من اقنان ألأرض قلبا وقالبا.

وعلى نحو مماثل في الجبال قام أغوات الأكراد بالإستيلاء على اراضي الفلاحين متذرعين بذرائع تختلف قليلا عن ذرائع أقرانهم ملاك الطابو. فالفلاح هناك [في الجبال] يتعرض لكل انواع الإعتداءات والهجمات من قبل اولئك الذين يفظلون العيش [الإعتياش] على جهود الاخرين وليس على جهودهم. فالفلاح الكردي لايقدر ان يعيش بدون حماية [الأغوات من الأغوات] وهو يحصل على الحماية من البيك المحلي [الأغا] بمبلغ عشر منتوج ارضه ..ويقوم اللورد [الأغا] بجباية تلك المبالغ ليخصص نسبة قليلة منها كضريبة بمقدوره ان يقنع الأتراك بقبولها..

ويبدو أن مساحات كبيرة من الأراضي حول الموصل كانت في وقت ما تمتلك في مضمار ذلك النوع من التمليك الإقطاعي للأرض المعروف بالتيمار، الذي يسمح للشخص بالإحتفاظ بأرضه شريطة ان يوفر اكبر عدد يقدر على جمعه من الرجال للخدمة العسكرية عندما يتم استدعائهم للخدمة [نظام تخصيص الأراضي الزراعية للخيالة في الجيش العثماني ولقاء خدمات عسكرية يقوم بها السباهي او الأنكشاري استمر من القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر..وهو اسلوب لفرض هيمنة الدولة على الأراضي بإدارتها مباشرة من قبل الموالين للدولة.]. وعندما استقدم مدحت باشا نظام الطابو، تم الغاء نظام التيمار اجباريا واعتمد تسجيل الأرض بإسم الشخص الذي يزرعها.وتضمن القانون تعويض مالك الأرض بنسبة سنوية تفرض على الأرض [يعطيها المزارع لمالك الأرض] على ان تتقلص مع تتابع السنين لحين يتم اطفائها. [غير ان ما حدث هو التفاف الملاك على هذا القانون وتحويله في خدمة مصالحهم بما حول الفلاحين الى اقنان مسخرين في اراضيهم].

وفي تلعفر ينقسم السكان الى قبائل يرأسها أغوات..ويحدث عنهم انهم يمتلكون الأرض..ومن الناحية العملية لايدفع الفلاحون لهؤلاء الملاك طابو، مع ذلك يوفر الفلاحون للملاك مبالغ صغيرة لأغراض الحفلات والمناسبات وماشاكل..وتعد الحاجة الى تسوية مشكلات الأرض احدى الحاجات الملحة جدا في ولاية الموصل. والطابو في الموصل ربما ليس اسوء منه في أماكن اخرى. إلا انه في الموصل سيء على نحو فائق للعادة. وفي منطقتي تلعفر وسنجار هنالك عدد كبير من المعاملات المزورة [بأسماء وهمية ] تعارضها وعلى نحومضطرد شكاوي ضحايا عمليات الخداع. وفي حالات عديدة وبخاصة في المناطق اليزيدية في الضفة اليسرى لدجلة نجد قرى مقسمة الى 271 حصة، 193 منها تعود الى احد ملاك الطابو والبقية يملكها سكان القرية. اما حدود الحصص فليست مسجلة بأي مكان أو بأية طريقة فضلا عن كونها غير معلومة بتاتا. لذلك فإن النزاعات التي تبرز عن هذا النوع [من الأراضي] قد تكون متخيلة [لا أساس لها من الصحة].

ومن الجدير بالملاحظة ومما يدهش حقا ان نجد في السهول [سهول ولاية الموصل]  ان المسيحيين فقط قد نجحوا في الحفاظ على اراضيهم من كلاليب ملاك الأراضي في الموصل.والسبب المرجح لذلك انه في الوقت الذي تفتقر فيه القرى [المحمدية] [قرى المسلمين] الى وسائل تمكنهم من الحصول على من يستمع اليهم في الحكومة باستناء تلك الحالات التي يلحقون بها انفسهم كعملاء [ولقاء ثمن] لأحد وجهاء المدينة، بمقدور المسيحيين اللجوء الى مطارنتهم وقساوستهم الذين يمثلون حمايتهم الطبيعية والجاهزة والناطقين بإسمهم، وفي حال الكنائس الكاثولوكية، بمقدور المسيحيين اللجوء الى قوة اجنبية ايضا.

وكقاعدة عامة تأتي حصة الحكومة من غلال الأعلاف في ولاية الموصل بمقدار العشر، تضاف اليها نسب الضرائب المحلية المختلفة التي تفرض بين الحين والآخر مما جعل نسبة الطلب الكلي 12.5 %. والسبب في تخفيض نسب الضرائب على لاراضي المزروعة المروية بالمطر في ولاية الموصل مقارنة بالأراضي المروية بمياه الأنهار في ولاية بغداد يعود الى كون معدل المحصول السنوي فيها أقل، كما ان هناك درجة اكبر من عدم التيقن في حالة الغلال التي يعتمد في ريها على المطر، كما تنتزع الهوام من الضروب كلها حصتها، ويمثل الجراد بشكل خاص مصدر ذعر، وفي ريف تكسوه الأعشاب كريف الولاية [الموصل] غالبا مانجد مساحات واسعة من الحقول الصفراء اليابسة بفعل حرارة الشمس مما يتسبب في انتشار النار بسرعة مجنونة وغالبا ميتكرر مشهد اميال من الحقول المعشبة تأكلها السنة اللهيب في موسم الصيف [وقد يكون حرق الحقول مقصودا بسبب العداوات والضغائن وبدافع التخريب او اللهو احيانا].

وكانت الحكومة العثمانية قد اجرت العديد من التجارب في جباية الضرائب. وكان النهج الذي تتبعه هو الجباية بطريق [المشاركة في ]الزراعة حيث كانت حصة الحكومة من كل قرية تعرض للمزاد وتباع لمن يعرض اعلى مبلغ. اما كبار الملاك فكانوا يجلبون حصص قراهم ويعرضونها للبيع باسعار باهضة بهدف تحقيق اكبر نسبة من الأرباح.كما كان هناك طبقة من الملتزمين المحترفين وسيلتهم الوحيدة في تحصيل معاشهم شراء ضرائب القرى الصغيرة سنويا [كان الالتزام يتم بطريق المزايدة العلنية حيث يقوم أحد الأغنياء بدفع مبالغ مالية مقدماً للدولة مقابل تحصيله للضرائب من المواطنين.. وكان الملتزم يبتز المزارعين بأخذ مبالغ تفوق مادفعه او يدفعه للدولة..وقد تم الغاء الإلتزام في 1839 ضمن قانون الإصلاح المعروف بكلخانة..ولكن ذكر بيل له في سياق حديثها عن الموصل قبيل الإحتلال ربما يشير الى امكانية استمرار العمل به في ولاية الموصل كاسلوب آخر من أساليب ابتزاز الناس والأعتياش على جهودهم]..

ولكن الطرق التي تبنيناها [في جباية الضرائب] اخضعت لدراسات جادة ومعمقة. فقد رأينا ان نقدر بطريقة المعاينة ثم نجبي بصورة مباشرة. إلا اننا وجدنا، على اية حال، بالإضافة الى جملة من الصعوبات، ان ليس بمقدورنا ايجاد العدد المطلوب من المقيمين ممن يمكن الاعتماد على تقاريرهم. كما لم نفكر بقياس [مساحات الأرض] بسبب الإتساع الهائل للأراضي الزراعية [في الولاية]. فقررنا مواصلة طريقة الإلتزام مع اخذ الحيطة من خلال اعتماد تقدير اولي للأكوام غير المدروسة [المخلصة من سنابلها او عرانيسها] من الغلال. وهي طريقة تقويم معتمدة في تقدير ضرائب غلال الأراضي السنية في الولاية. وقد تمكنا بذلك من وضع مبلغ احتياطي لكل قرية [اي مبلغ ضريبي لمنتوج كل قرية من الغلال] مما يسمح لنا بأن نجبي بحرية فيما إذا لم يتحقق ذلك المبلغ. كما تركنا لأهل كل قرية خيارالشراء بضرائبهم بأعلى العروض الممكنة ان هم شاءوا ذلك.وكانت النتائج مقبولة فهنالك اسباب تدعونا للإفتراض ان الحكومة لم تأخذ أكثر أو أقل من حصتها الصحيحة. وقد مارسنا اختيارنا في الجباية المباشرة في حالة واحدة او حالتين ..وكان ذلك يتسبب في إغاظة مالك الطابو [الإقطاعي] الذي كان يعرض ابخس الأثمان بأمل ان نضعف ونقبل عرضه [البخس]. وفي حالات عديدة على الرغم من قلتها على خلاف ما كنا نأمل، قام الفلاحون انفسهم بالشراء بضرائبهم. وقد أظهرت نتائج التقديرات [التخمينات الضريبية] انها على الأغلب دقيقة على نحو مقبول، ,ان الضرائب في المستقبل وفي بعض المناطق على اية حال، ستتم جبايتها مباشرة وبتخمين من هذا النوع تماما كما عمل به عام 1910 للجزء الأكبر من الغلال الصيفية.

وتعد الكودة وهي الأموال المستحقة على الأغنام والمواشي، ضريبة مهمة في ولاية الموصل [تستخدم بيل كلمة "ديفيشن" وتعني قسم أو مقاطعة في وصفها للموصل كوحدة إدارية أو كمحافظة أرتأيت ترجمتها بكلمة ولاية اعتمادا على التقسيم التقليدي القديم لعدم تطابق كلمة سنجاق العثمانية وكلمة محافظة جغرافيا مع تصور البريطانيين لمساحة وحجم الموصل منظورا اليها كوحدة ادارية وبشرية واقتصادية وحضارية متميزة ومتكاملة ]. وفي الأزمنة التركية كانت الضريبة المفروضة تقدر ب 9.5 بياستر[ البياستر "القرش" وحدة نقدية فضية ايطالية وفرنسية كانت تستخدم في دول الهلال الخصيب ومصر والسودان في القرن التاسع عشر  تعادل واحد بالمئة "بنسا"من الباون الأنكليزي]. للرأس الواحد. وقد قمنا بتحديد الكودة بمقدار ثمانية عانات للغنم [لرأس الغنم] وروبية واحدة للجاموس [لرأس الجاموس]. ويقوم بحساب الضريبة مأموريين بدون موظفين اضافيين. وقد جرت العادة بنقل الأغنام من الجانب ألأيمن الى الجانب الأيسر في شهري آذار ونيسان. وكما هو الحال في الأزمنة التركية، تتم الإستفادة من ذلك بطريق عد الأغنام في اثناء عبورها الجسر [يرجح ان الأغنام تساق ارتالا نظرا للحفاظ على الجزء الذي تحمله القوارب من الجسر مما ييسر عدها]..وبلغ عدد الأغنام التي تم عدّها731 803  .[ لم تحدد بيل في اية سنة]..وهذا أعلى كثيرا من الأرقام التركية [بما يعني ان الأتراك كانوا يتلاعبون بالأرقام لمصالح شخصية]. وقد عمدنا في حالات عديدة الى تعيين شيوخ القبائل كمساعدين في احصاء اعداد الأغنام [العابرة للجسر] لقاء 3% من اغنام قبائلهم التي يعدوها. [يرجح ان الأغنام كانت تنقل الى الجانب الأيسر لكي يتم جز أصوافها في منطقة السكلا الحالية القريبة من الفيصلية في الموصل للإستفادة من الأصواف تجاريا بعد غسلها في ضفة النهر القريبة من موقع الجز] أما أغنام قبيلة شمر فلم تعد ولايمكننا عدّها لأنها تسرح في أراض تتجاوز حدودنا [حدود العراق]. وهناك عدد من كبار ملاك الموصل ممن يودعون اغنامهم لقبائل شمر لرعايتها وبذلك تفلت تلك القطعان من الضريبة أيضا.

وتعد الأراضي السنية في الولاية واسعة. وكانت أدارتها على عهد عبد الحميد جيدة [أوكلت إدارتها على عهد عبد الحميد الى السيد حسن العمري ويعرف العمرية منذ اوائل العهد الجليلي بمهاراتهم الإدارية والكتابية فيما يؤكد بيرسي كمب في اطروحته عن الموصل في العهد الجليلي التي قام المترجم بمراجعة ترجمتها].. وهي اراض اشتهرت بكونها تزرع على افضل الوجوه بسبب حصانتها من تجاوزات الجندرمة والإجراءات الأخرى [كونها ملكا للسلطان ولايمكن اخراجها الى التيمار او بيعها أو غير ذلك]. ولكن إدارتها، نظرا للنظام [الأتحادي] الجديد تدهورت، وعند أحتلالنا اضحت أكثر ترديا كما هو الحال في بقية انحاء الولاية.

اما فيما يتعلق بصعوبة المواصلات فان امكن حلحلتها في ولاية الموصل ستكون هناك فرصا افضل فيها من بقية انحاء العراق وبخاصة فيما يتعلق بالمكائن الزراعية. فقبل الحرب كان العديد من كبار الملاك يمتلكون حواصيد آلية. وبما أن الأراضي الكبيرة التي تعتمد على المطر في أروائها لاتحتوي على قنوات ارواء، فإنها لاتحتوي العوائق الموجودة في أماكن أخرى لأستخدام المكائن. وحصة الطابو على الأراضي السنية هي على الدوام تقريبا 7.5%، باستثناء قرى قليلة في منطقة زاخو يوجد مقترح لضمها في نسق واحد مع القرى الأخرى. وهناك على جانب الجزيرة بشكل خاص مساحات كبيرة من الأراضي يقال أنها أراض محلولة [اي محولة الى ملكية الدولة]. ولكن ظهر من البحث في هذه المسألة أن وراء القرار في كل قضية من القضايا [اي احالة الملكية الى الدولة] ، أستئناف [شكوى] لم يعرها أحد اذنا..وعندما يتم حسم القضية يبدو ان من المشكوك به ان يقضى بحق الأحتفاظ بالأرض للحكومة..

وكنا قد بدأنا في تطوير الغابات الحكومية وإعادة تاهيلها [يعود الفضل للأنكليز في اعادة تأهيل غابات الموصل في الجانب الأيسر للمدينة بينما قام بعض من يعدون انفسهم وجهاء ببيع بيوتهم في مناطق سكنية مقبولة للغرباء في ظروف الفوضى العارمة التي اجتاحت البلاد ليشتروا اراض وسط الغابات ليبنوا فيها بيوتا ويقضموا بذلك جزءا من الغابات على حساب المصلحة العامة]..بعد ان طالتها يد التخريب بلا رحمة لتجهيز الجيش العثماني [ كما استخدم العثمانيون الأخشاب لعمل عوارض سكة حديد بغداد – برلين في اجزائها في ولاية الموصل فضلا عن استخدامها في عمل الخوازيق والفلقات وفي عمل السليقة وللطهي في القرى وغير ذلك]. ولابد ان تكون الغابات في آخر المطاف على قدر كبير من الأهمية والفائدة.

وتعتمد بغداد كليا تقريبا في الأوقات الإعتيادية على مناطق الجبال الشمالية لتزويدها بالإخشاب. كما ان الطوافات المعروفة بالأكلاك تعمل من قضبان من الخشب تحمل على جلود منفوخة [يستخدم جلد المعيز الذي يعتنى في قطعه وتحويله الى جرب كبيرة تنفخ بالهواء المزفور وتوضع تحت القضبان المشدودة بالحبال احدها الى جانب الاخر لعمل الأكلاك] التي نشاهدها  مصورة في الجداريات الآشورية في المتحف البريطاني [لم يقلد أهل الموصل أسلافهم الآشوريين في عمل الأكلاك بل انتقلت اليهم بحكم التوارث الحضاري كون الموصل هي نينوى الغربية] وهي عائمة في نهر دجلة محملة بالحطب او بضائع أخرى. وعندما تصل الأكلاك الى بغداد تفكك فيباع الخشب. وتحمل القرب الجلدية بعد تغريغها من الهواء على ظهور الحمير الى الموصل لكي تستخدم من جديد. وتعد ضرائب الأخشاب والفحم أحدى مصادر الدخل في ميزانية الموصل.

وقد تم تعيين ضابط بريطاني [إداري] في حزيران عام 1919 لتولي شؤون الكمارك وفرض رسوم على السلع المستوردة من سورية وتركيا أما إدارة انحصار التبغ القديمة [تسمى اختصارا بالريجي وتعني شركة استثمارية حكومية واهلية مشتركة تشكلت في العقود الأخيرة من الأمبراطورية العثمانية تسندها مجموعة من المصارف الأوربية تقوم بإحتكار انتاج التبغ بهدف دعم الإقتصاد التركي.. اسست لها فروع في العراق ولبنان وأماكن أخرى. يقوم موظفوها في العراق بفحص التبوغ بسبب امكانية خلطها باوراق نباتات مماثلة ..وكان مبنى دائرة انحصار التبغ في الموصل في شارع الدواسة المتصل بقصر المطران] فقد تم تحويلها في أواخر عام 1918، الى دائرة الكمارك حيث يقوم الضابط الإداري [البريطاني] المسؤول عن الكمارك بجباية رسوم التبغ ايضا. وكانت الضريبة المفروضة على التبغ نسبة ثابتة مقدارها 8 عانات للكيلوغرام الواحد من التبغ لتؤمن في مخازن تخليص كمركي.

وعلى الرغم من السمعة السيئة للموصل، فإن من ألأمور الملفتة أن الجرائم فيها نزرة جدا [ لبيل موقف سلبي من الموصل سنعرج عليه في ترجمة وجهة نظرها الخاصة بالموصل].

والمخالفات المتكررة في المقاطعات [الأقضية والنواحي والريف عموما] فتشمل السطو على المسافرين وسرقة الأغنام والمواشي. وكنا قد طوقنا [اعتقلنا] العديد من عصابات السراق. اما إغارات القبائل البدوية على القوافل فتعد من الحوادث المتكررة خلال الأزمنة التركية، ومن الصعوبة بمكان معالجتها. ولكن بصورة عامة يمكننا التأكيد المدعوم بالبراهين ان الأمن العام في ولاية الموصل قد شهد تحسنا كبيرا خلال السنة الماضية. وقد تم تشكيل قوة الشرطة محليا من هل المدينة. وهي قوة نشطة وفعالة. وكان هناك نسبة كبيرة من الجندرمة التركية عند احتلالنا [الموصل]. وقد عمدنا الى الحفاظ عليها للحاجات التي قد تطرأ وكان عملها ناجحا جدا في الحفاظ على امن المقاطعات [المحافظة باستثناء الموصل] ولكنها لاتصلح للقيام باية واجبات عسكرية لذلك قرر تشكيل قوة من الشرطة العسكرية [الإنضباط]. لأن قوة ضاربة صغيرة كهذه تعد ضرورية على الحدود الكردية المضطربة.

اما الشؤون البلدية في الموصل فقد كانت تدار من قبل مجلس بلدي منتخب. ولم تكن الإيرادات البلدية بذات شأن يذكر. كما كان الفساد منتشرا، وكانت المدينة في حال لايوصف من الوساخة، مما جعل اعادة التنظيم مسألة ملحة، فبات امرا حتميا ان يصبح العمدة والمجلس [البلدي] مجرد مسميات تغيب تدريجيا من المشهد لحين ان تختفي تماما. والآن تمت اعادة التنظيم بنجاح، فقمنا بدراسة الخطط لمجلس بلدي معدل على نحو طفيف..ولعلنا نعقد الأمل على ان يكون لدى اعضاء المجلس الجديد روحا تقدمية لأن مثل هذه الروح لم تكن تنقصه حتى في الفترة السابقة للحرب. وكان الأتراك قد شرعوا خلال الحرب بفتح شوارع رئيسة في المدينة، كما في بغداد [شارع خليل باشا الذي سمي بالشارع الجديد ثم بشارع الرشيد]. وفي بغداد تم انجاز العمل وبرهن على ان فيه خير لايقدر بثمن لأن بغداد قبل الحرب كانت تخلو من شارع عريض بما يكفي للسماح بمرور عدد محدود من العربات التي تسير على عجلات.

وفي الموصل يتقابل الشارعان الجديدان في زاويتين قائمتين احدهما مع الآخرغير انهما في باكورة التنفيذ لأنهما لم يكونا قد اكتملا قبل الإحتلال فعمدنا الى اكمالهما عام 1919. وسيكونان جديران بالأموال المنفقة عليهما سواء في التعويض [اي تعويض الناس الذين هدمت بيوتهم ومحلاتهم في مواقع قطع الشارعين] والإنشاء، على الرغم من ان ذلك تضمن منحا مساعدة كبيرة قدمناها للبلدية.

والجسر القديم في الموصل مايزال قائما. ولكن فيه خصوصية تكونه من جزء من القوارب يبدأ من وسط النهر.ويصار الى رفع هذا الجزء [المرتكز على القوارب] فيترك ها الجزء من النهر مفتوحا تماما في اوقات الفيضان خوفا من ان تجرفه مياه النهر. وعندما يحصل الفيضان فإن الأراضي في النهاية الشرقية للجسر [الجانب ألأيسر] تنغمر بالمياه بينما تبقى دعامات الجسر [الحجري] شاخصة للعيان مهجورة ولكن على نحو ملفت للنظر في وسط النهرالفائض بالمياه. لكن جسرا جديدا هو الان قيد الإنشاء وننظر في وضع خطط لتجهيز المدينة بمياه الشرب . فالمدينة اليوم نظيفة وأولئك الذين يحتفظون بصور ذهنية عن المسالخ عند  نهاية الجسر القديم [كما وردت في رحلات مارك سايكس ورحلات أخرى] في العهود التركية سيجدون صعوبة في التعرف على موصل اليوم وسيتساءلون إن كانت هي نفسها موصل الأمس.

ويساعد الضابط السياسي المساعد [الحاكم البريطاني] في تلعفر مجلس استشاري من اغوات المدينة لمساعدته في الشؤون البلدية. وهنالك بلديات اخرى في عقرة ودهوك وزاخو وتلكيف. ولكن العمل فيها يقع على عاتق الضابط السياسي المساعد في كل منها.

و بعيد وصولنا الموصل، اولينا أهتماما بمسالة التربية والتعليم مباشرة. ففي الوقت الحاضر يوجد سبعة مدارس حكومية في الموصل، ثلاثة للمسلمين للبنين منهم وأربعة مخصصة للكلدان فالسريان فاليعقوبيين فاليهود. وهناك مدرستين للبنات المسلمات. وارقام الحضور إشارية جدا [تنطوي على دلالات]  فبينما يشكل المسلمون سبعة اثمان سكان المدينة، يبلغ عدد الحضور في المدارس المسيحية 791 تلميذ بينما لايتجاوز عدد الحضور من التلاميذ المدارس 259 تلميذ. وتكتظ شوارع [ازقة] المدينة بالأطفال العاطلين والمتسيبين في وقت تتكرر فيه الروايات عن السلوكيات الرديئة والأخلاق الفاسدة للصبيان في المدينة. ويعترف وجهاء المسلمين بأسف مفتعل بهذه الحقائق، ولكنهم يعجزون عن التقدم بغي مقترح حول معالجات مناسبة...ويتفقون كلهم بأن الخطأ ليس في نهج المدارس او في اداراتها. وتبدو المدارس المسيحية حيوية وتقدمية. وكان الحضور في مدرستي البنات المسلمات 149 تلميذة فقط..وهو ليس رقما كبيرا ولكنه جيد بالمقارنة، مع اخذ الأمور كلها في نظر الإعتبار، بمدارس البنين.

كما افتتحت 5 مدارس في القرى المختلفة للمسلمين و11 مدرسة في قرى المسيحيين. كما وتوجد ايضا 5 مدارس حكومية أكبرها في تلعفر يحضرها 80 تلميذ. وقد لاحظنا ان هناك ترددا عظيما لدى الناس في ارسال اولادهم الى المدرسة في تلعفر خشية من ان يصبحوا افندية أي اعضاء في طبقة الموظفين المخنثين الأتراك [تبرز هنا طبيعة نظرة الناس في منطقة مثل تلعفر الى الموظفين الترك من طبقة الأفندية حيث يعدهم الناس من المخانيث ممن تعوزهم الشخصية الرجولية].

ويعد تعليم اليزيدية أمرا معقدا بسبب معتقداتهم الدينية التي تمنع القراءة والكتابة على اليزيدية باستثناء اسرة واحدة من ألشيوخ تعرف ببيت البصري [نسبة الى الحسن البصري. وهو انتساب وهمي لأن علاقة لاتوجد بين الحسن البصري واليزيدية]. وعندما افتتحت المدرسة في بلد سنجار [قضاء سنجار]، قرر اليزيدية الأكثر تقدمية [انفتاحا] ارسال اولادهم اليها. ولسوء الحظ تسببت الأمطار الغزيرة بسيل عارم في الوادي جرف معه أربعة من الأطفال ممن يدرسون في تلك المدرسة مما تسبب بردة فعل لدى المحافظين [من اليزيدية] لذا لايوجد في الوقت الحالي سوى اربعة تلاميذ يزيدية في المدرسة [لاحظ ان اربعة أطفال كان مصيرهم الغرق، ولعل سبب الإبقاء على أربعة آخرين نوع من التقية الطقوسية غامضة الجذور عند اليزيدية].

ومن بين الإيجابيات التي قدمتها الحكومة، ربما لم ينل أيها شهرة أو يتمخض عن نتائج سياسية افضل كما هو الحال مع الخدمات الطبية. فقد تحقق تقدم كبير في هذا الإتجاه. فقد تم توسيع مستشفى الهلال الأحمر القديمة لتصبح مستشفى مدنية بردهات مخصصى للنساء الى جانب ردهات الرجال. وكان الجراحون المدنيون [المحليون] يساعدهم طبيب بريطاني مساعد ورئيسة ممرضات وممرضتين بريطانيتين كما استقدمنا عددا من الممرضات الأرمنيات بالإضافة الى طبيبين او ثلاثة من الموصل :  [هنا نقتبس ماذكره الدكتور محمود الحاج قاسم حول الطبيب سليمان غزالة (1853 ــ 1929) "الذي كان أديبا وشاعرا فضلا عن  دراسته الطب في جامعة باريس، والدكتور حنا خياط مدير مستشفى الهلال الأحمر في الموصل، وكذلك الدكتور عبد الله قصير(1877ــ  1987) والدكتور كريكور استارجيان الذي تخرج في جامعة اسطنبول عام 1907 م وكان لهُ مؤلفات وكتابات وبنى قصراً فخماً في الموصل قبالة جامع النبي يونس"، وننوه بالدكتور داؤد جلبي والدكتور آكوب جوبانيان وغيرهم..ويرجح ان بيل قد اشارت اليهم في معرض حديثها عن الأطباء  المحليين..وقد قدم هؤلاء الأطباء الرواد خدماتهم للموصل في العقود الأولى من القرن العشرين..مما وضع اللبنات الأولى لهذه المهنة الجليلة في الموصل التي ماتزال من أفضل مدن العالم وأكثرها عراقة في تقاليدها الطبية..وكان الدكتور البريطاني باترسون رئيس صحة الموصل عام 1919، قد دعى الى تشكيل "الجمعية الطبية في الموصل"، وقد إنظم إليها 25 عضواً منهم  3 بريطانيون و19 طبيبا عراقيا و3 صيادلة..و تألفت اللجنة الإدارية للجمعية من كل من د. باترسون رئيساً ود. داؤد الجلبي نائباً للرئيس ود. عبدالله قصير سكرتيراً .وكان من مهام الجمعية نشر الوعي الصحي وإلقاء المحاضرات التي تولت الصحافة المحلية نشرها كما يعود الفضل في تأسيس جمعية الهلال الأحمر العراقية الى الموصلي أمبن عاصمة بغداد عام 1932 أرشد العمري الذي دعا 150 شخصا من وجهاء الدولة العراقية واعيانها ومفكريها الى اجتماع في مكتبة الاوقاف العامة حيث عرض عليهم فكرة تشكيل جمعية للهلال الاحمر العراقية فتم تشكيل الجمعية وبمساندة كبيرة من البريطانيين ومن الملك فيصل الأول قبيل وفاته بسنة]. وقد قدمت الممرضات الأرمنيات خدماتهن على أحسن مايرام فكن على قدر عظيم من الفائدة..وكان الأطباء المحليين [الموصليين] على درجة عالية من القدرة وكانوا مدربين في مهنتم على افضل وجه وكان أحدهم قد تلقى تعليمه [في الطب] بالتمام في باريس [الأرجح ان المقصود هو الطبيب سليمان غزالة].

كما تم فتح المستوصفات في كل مراكز الأقضية والنواحي [تتبع الموصل ستة أقضية، هـي الموصل المركز، العمادية، زاخو، دهوك، عقرة، سنجار، ويتبع هذه الاقضية احدى عشرة ناحيـة] وكان الأطباء العسكريين يقدمون في بعض الحالات خدماتهم فور نشوء الحاجة اليها في تلك المناطق. وتعد الملاريا أكثر المشكلات الصحية خطورة وبخاصة في مناطق التلال [تقصد المناطق التي تتخللها منخفضات ارضية تشكل مستنقعات ملائمة لأنتشار البعوض]. وهناك أماكن يعاني سكانها بشدة من انتشار الملاريا وتعد الوفيات بين ألأطفال بسبب الإصابة بالملاريا عالية بشكل ملحوظ. وكانت الحكومة العثمانية توزع الكنين مجانا كإجراء صحي. وتعد خطورة الملاريا وحدها كافية لتبرير تجهيز المساعدات الصحية في الريف كلما تتاح الفرصة لمثل هذه المساعدات.

وقد تيسرت المواصلات كثيرا مع بغداد بواسطة سكك الحديد الممتدة حتى قلعة الشرقاط التي تبعد 70 ميلا عن الموصل..وقد تم تمهيد جوانب كبيرة بين الشرقاط وبغداد وتزويدها بالمعدات الضرورية لإكمال الخط. ويبدي الناس رغبة كبيرة بإكمال خط سكك حديد الموصل ..فقد يكون فيه اشارة لجعل الولايتين [بغداد والموصل] أقرب الى بعضهما كثيرا  مما سبق).

وفيما يأتي ترجمة لموقف جرترود بيل من الموصل ووصفها لها عام 1909..وهو موقف يبدو انها تأثرت في اتخاذه بلقاءاتها مع مارك سايكس شريكها في تصميم خارطة الشرق الأوسط وقراءاتها لرحلاته الى الموصل كما أرجح انها قرأت أدبيات الرحلة الى الموصل وبخاصة كتابات هنري لايرد و آن بلنت وكتاب كريفيث  الذي تناولت فيه تفاصيل اقامتها في الموصل  والمعنون "وراء الحجاب" وإني إذ أترجم موقفها لاأشاطرها الرأي،فهي تنتمي الى المدرسة الأمبريالية في السياسة  البريطانية متمثلة برئيس الوزراء  البريطاني يهودي الأصل دزرائيلي  واضرابه كمارك سايكس، وتي . أي. لورنس المعروف بلورنس العرب وونستون تشرشل وغيرهم. مع ذلك ارى ان ترجمة موقفها من الموصل لايخلو من فائدة للبحاثة المتخصصين في تاريخ العراق والعلاقات البريطانية العراقية ، ويلقي ضوء على تأثير الحوادث والتحولات في السلطة العثمانية على ألأوضاع الأقليمية في المنطقة والموصل بوجه خاص:

الموصل عام 1909 من منظور جرترود بيل:


 (تتميز مدينة الموصل بتاريخ مضطرب لم يتغير اي شيء من مواصفاته خلال السنوات القليلة الماضية، فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقابل بين هاتين المجموعتين نادرا ما تصاحبه مشاعر الأخوة او النوايا الحسنة من قبل كلا الجانبين. وتجثم على ولاية الموصل الكئيبة الكراهية والتولع بالمذابح كشرين متوارثين ينتقلان (إن جاز القول؟) عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ أن تركت بواكير الجبروت الوحشي للإمبراطورية الآشورية بصماتها على الأرض.

وقد توازعت المدينة صروف طموحات اسر عربية طموحة استمر حكمها حتى اقل من قرن مضى وكان لكل اسرة عقارها التي لاينافس سيادتها عليه احد. هؤلاء (صغار) اللوردات [ استخدمت بيل كلمة "لوردينكز" التي تعني اشباه او صغار اللوردات تصغيرا منها لوجهاء الموصل] كانوا يعاينون، بعدوانية بادية، لايشعرون ما يدعو لإخفائها، اليد التركية وهي تشدد قبضتها تدريجيا على الولاية [الموصل]. وليس ثمة مكان ستجد فيه الحركة القومية العربية، ان هي وصلت مرحلة إزدهارها، ارضا خصبة لتنهل من جداول الكبرياء [القومي] الذي لايعرف الحدود، كالموصل [وهنا تصيب بيل قلب الحقيقة فأهل الموصل هم ورثة الأمبراطوريات العسكرية العظيمة ولاغبار على صدق مشاعرهم القومية ومشروعيتها]. وعلى الرغم من قسوة الحكم العثماني ودمويته في هذه الأطراف النائية من ألإمبراطورية ، فإنه افضل من الهيمنة المطلقة للبيكوات العرب او الأغوات الأكراد . وإن  كان للطوائف المسيحية المضطهدة في أكثريتها، او اليزيدية المظلومين أو الفلاحين البائسين من مختلف العقائد ممن يزرعون بذعر مالايجنون ، أن تحصل على الحماية والإزدهار، فإن عليهم أن ينظروا الى التركي. [ ترى بيل ان علاج المجتمعات المنقسمة طائفيا وقوميا و"طبقيا؟" لايتحقق الا بنظام حكم استبدادي يضمن جانبا من العدالة وهو اعتقاد يذكرنا بمقولة جمال الدين الأفغاني: لايصلح الشرق الا مستبد عادل]. فالتركي والتركي وحده يقدر من السيطرة على العناصر المتحاربة في امبراطوريته، وعندما يتعلم [التركي] كيف يستعمل قوته على نحو غير متحيز وباستقامة، فإن ذلك سيتمخض عن السلم..لكن هذا مستبعد حدوثه في الموصل..ولا يبدو انه بمنأى عن الموصل في اي وقت كما هو الحال في بداية سنة 1909. [سنة زيارة بيل للموصل].

وباستثناء المقارنة القائلة بأن بعد المسافة بين القسطنطينية وسالونيكا يعني مسارا اضيق لتدفق الأفكار الغربية [اي من سالونيكا "مقر جمعية الإتحاد والترقي"الى أسطنبول]، لا أعتقد ان هناك في الموصل معارضة محددة المعالم للنظام الجديد [الإتحادي في تركيا] منها في اماكن أخرى، هذا على الرغم من  أن القوى الرجعية فيها [الموصل] كما هو الحال في أماكن أخرى في تركيا ألآسيوية [العربية في آسيا] متنوعة وقوية. إلا أن الموصل كانت ومابرحت ضد الحكومة دائما مهما كانت الأشكال التي تتخذها [وهنا تصيب بيل في رأيها ايضا فأهل الموصل قادة في طبعهم تجري في  جوانحهم دماء أسلاف حكموا العالم وأسسوا الأمبراطوريات وشيدوا القلاع وعمروا المدن]، وبيكواتها [اي وجهاء الموصل وقادتها] كانوا يلعبون [يتعاملون] مع السلطات [الحكومات] كما تلعب انت مع سمكة علقت بالصنارة. [ يتمتع أهل الموصل بمهارات قيادية فائقة للعادة، ولهذا لايمكن أطلاقا فرض اي حكم عليهم ان لم يكن هذا الحكم منبثقا من اوساطهم أو برضاهم..ففي التاريخ القديم نسجل عددا من الثورات على السلطة المركزية، تكررت في التاريخ الحديث مع سلسلة الأنقلابات العسكرية التي قادها ضباط أشاوس من الموصل وأبرزها انقلاب عبد الوهاب الشواف]. كما أن كون الحكومات [المشرقية] ليست دستورية، مايفضي الى حماس أكبر ويجعل من الصنارة أكثر حدة [وإيلاما] . [تتابع بيل المجاز الذي وظفته في وصف تعامل اهل الموصل مع الحكومات].

وكانت شؤون اللجنة [جمعية الإتحاد والترقي- فرع الموصل] تدار على نحو سيء للغاية [تأسس فرع الجمعية في الموصل بعد اعلان الدستور الإتحادي عام 1908، والإنقلاب الذي سبقه على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني واختير رئيسا او معتمدا لها السيد محمد الفخري]. وقد استقبلت هذه الجمعية الوفد المرسل اليها من سالونيكا بهدف تحديد مهماتها بالأحضان، وفي الحقيقة ان المدينة بأسرها خرجت في استقبال الموفدين  وفي مقدمة الناس الوالي [مصطفى يحيى بك العابد]  ووجهاء المدينة [خدع اهل الموصل بشعارات  الجمعية الداعية الى الحرية و الاخاء والمساواة ولكنهم مالبثوا ان انتبهوا الى سياسات التتريك والإقصاء التي انتهجها ألإتحاديون فسعوا الى مقاومتها]. ولكن اختيار المبعوثين [من سالونيكا] الى الموصل لم يكن موفقا لأنهما كانا جاهلين يفتقران الى اللياقة أحدهما من اهالي [تركمان] كركوك المنافسة اللدود للموصل وكان يتصف بكل شيء باستثناء سمعة لاتشوبها الشوائب. فكانت النتيجة ان اللجنة المحلية [فرع الجمعية في الموصل]،  لم تربح شيئا بل خسرت من جراء مجيء هذا الوفد الى الموصل. وعندما غادر هذان الموفدان الموصل عبرا الجسر بمفرديهما ومن دون ان يصاحبهما او يودعهما أحد أو حتى أن يلاحظ احد رحيلهما. فتلاشت مع مغادرة هذين الموفدين الامال الواهنة بتحسن الأوضاع الذي اثاره اعلان مباديء الحرية و الاخاء والمساواة، وتركت الساحة خالية امام البيكوات الذين فعلت تلك الكلمات فعل جرص عنيف في آذانهم: فالحرية العامة ليست منحة يثمنها الطغاة والمساواة تنفث روائح كريهة في مناخير رجال اعتادوا على مرأى شركائهم في الوطن من المسيحيين وهم يلوذون  منذعرين الى اقرب مدخل بيت [ باب او مجاز يؤدي الى بيت] عندما يمرون راكبين عجلاتهم او خيولهم في الشوارع [الأزقة]..كما لايجد هؤلاء البيكوات عناءا في جعل الآخرين يشعرون بسخطهم او عدم رضاهم. وغالبا ما يتم تنظيم الإضطرابات [الفوضى والهيجان الإجتماعي] ليبلغ ذروة الإكتمال في الموصل. فالمدينة مليئة بالأشقياء ممن يعيشون على خرق القانون ، ويعيشون على افضل نحو. فمتى شاء وجهاء المدينة [بدافع الغضب] اثارة الفوضى، لايترتب عليهم سوى توصيل كلمة وعربون لهؤلاء الأشقياء فيحدث الشغب، ومن ترى يقع عليه اللوم في ذلك؟

فالبيكوات كلهم قد غادروا الى قراهم وليس لديهم يد في القضية. فقد كان ابو القاسم ذلك الشقي الشهير [أبو القاسم أو أبو جاسم هو غير أبو جاسم لر الذي ظهر على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا وكان فتوة يمنع الجندرمة من احصاء الناس والدخول الى بيوتهم حرصا منه على عدم الإطلاع على النساء] ومعه ابن هذا وابن ذاك.. أما حول سبب حوادث [الشغب]، فليس من الصعب ايجاده، وفي هذه المرة حدث شيء في آخر ايام العيد الموافق الأول من كانون الثاني 1909. فقد خرج الناس الى الشوارع وهم في ابهى الملابس للإحتفال بالعيد عندما اقدم رجل [ثمل] من سرية البغالة في كركوك [الصوار اوالاسترسوار ] الكردية [ أنشأ محمد باشا بيرقداري منذ قرابة قرن سرية بغال مقرها كركوك تعرف بالصوارية، ولم تكن كردية على الأرجح.. واستمرت تلك القوة حتى العقد الأخير من ألأمبراطورية العثمانية] على التحرش "كما يقال" بإمرأة مسلمة من الموصل وبلحظة برزت الأسلحة وهاجم الجنود العرب الصوارية الكركوكلية، فنشب عراك استمر بضع ساعات.. وفي خضم الفوضى قتل وجرح العديد من النساء المسلمات كن قد خرجن للمشاركة في العيد ولم تتح لهن فرصة اللجوء الى بيوتهن. وتلك حادثة نادرة لم تشهد الموصل مثيلا لها. في تلك الأثناء كان الوالي جالسا يرتجف في السراي ولم يحرك ساكنا لإسترجاع النظام. وفي وقت متاخر من الليل عاد الكركوكلية الى ثكناتهم بعد استسلامهم نزولا عند نصح الحكومة وتسليمهم اسلحتهم.

وتلك حادثة كان من الممكن ان تطوى تحت طائلة التعبير الطبيعي عن العداء العنصري، غير ان حوادث اليوم التالي لايمكن ان تفسر باستثناء الذهاب الى الإفتراض القائل انها بسبب تحريض البيكوات. ففي الصباح احتشد لفيف من الناس أمام مبنى السراي وبدءوا بالهتاف مطالبين بالثأر من الصوارية الكركوكلية ممن [زعم انهم] كانوا ينتظرون المحاكمة من قبل الحكومة. فتردد الوالي بينما طالب زعماء الحشد الغاضب الناس بحمل السلاح..فلم يتأخر الناس بتنفيذ الطلب بسرعة الخائف المهدد بالخطر.. فأغلق اصحاب المحلات والبيوت ابوابهم واضحت المدينة في حال من الحرب الأهلية.

 في تلك الأوقات كان يعيش في الموصل شخص من السادة ألأكراد من أهل السليمانية الواقعة على الحدود الفارسية..ومنذ سنوات نشب خلاف بين الشيخ سعيد [البرزنجي] والسلطات العثمانية الإتحادية. وقد تنامى تأثير الشيخ سعيد فحصل على قوة كبيرة [في السليمانية] فأرسلت السلطة العثمانية في طلب حضوره الى القسطنطينية [اسطنبول]..فعد الدعوة نذير شؤم اسود ..مع ذلك سافر الشيخ سعيد الى العاصمة العثمانية ..وعند وصوله كان احد اولاد السلطان [عبد الحميد الثاني] المفضلين مصابا بمرض عضال، ولما يتمتع به الشيخ من شهرة [على شفاء المرضى]، أرجئت معاقبته لكي يدعو الله بشفاء الطفل المريض. فتماثل الطفل للشفاء فرجع الشيخ مكرما الى مدينته [السليمانية] وحول عنقه مسبحة من اللؤلؤ لاتقدر بثمن وباتت شهرته اوسع. وكان الشيخ سعيد مسنا ومسالما، غير ان اولاده استغلوا مكانته فتاجروا بها وحولوا السليمانية الى بؤرة ساخنة لاتطيق احتوائهم فيها. ولما كانت الأسرة كلها [اسرة سعيد البرزنجي] في حماية السلطان عبد الحميد، تبين ان من الأفضل نقل الأسرة الى مكان تكون فيه تحت عين ممثل السلطان  مباشرة اي الوالي، على ذلك وفدوا الى الموصل كأمراء في موكب نصر. فاكتظت شوارع الموصل بالبغال التي تحمل ممتلكاتهم ، وخصص البيت المقابل للسراي مسكنا لهم.[ الدار العائدة لمحمد باشا الصابونجي مقابل الأعدادية الشرقية والمجاورة لجامع الخضر [ع].

وسرعان ماتجمع الغوغاء مجددا مصطحبين اسلحة هذه المرة في الثاني من كانون الثاني [اليوم الثاني للعيد] حتى أعيد توجيههم [ لم تذكر بيل من الذي وجههم واستخدمت صيغة المبني للمجهول] الى بيت الأسرة الكردية. وكان الشيخ سعيد في ال 85 من عمره ولكنه يمتلك شجاعة قومه. عندما سمع الغوغاء يهرجون على باب بيته، أمسك بالقرآن وكان يرتدي ثوبين العمر والولاية [اي المكانة الروحية المميزة للسادة]  وخرج الى الشارع في نيته اللجوء الى السراي الذي يقابل بابه باب داره. وكان الوالي يراقب المشهد من نافذة في السراي. ففسح الغوغاء الطريق امام الرجل الصالح حاملا القرآن في طريقه الى السراي، ولكنهم وقبل ان يصل باب السراي إنقضوا عليه وقطعوه اربا اربا ثم نهبوا بيته وقتلوا 17 من اولاده واقربائه..وإذا كان قادة الحزب الرجعي يريدون إحراج الحكومة وإبداء ضعفها، فإنهم حققوا بذلك [اي بتدبير مقتل الشيخ سعيد واسرته] نجاحا ساحقا. [يعد تحريك الغوغاء عبر التاريخ اسلوبا يختفي وراءه المحرض الحقيقي الذي يفلت من العقاب بينما لاسبيل الى معاقبة الغوغاء كونهم مجموعة غير معرفة من الناس تحركهم غرائز القطيع..والمشهد الذي حدث للشيخ سعيد البرزنجي ونجله الشيخ احمد وذويه، تكرر في اماكن عديدة في العالم عندما تسود الفوضى ويختلط الحابل بالنابل وقد تناول مؤرخو الموصل وبخاصة عبد المنعم الغلامي وأحمد الصوفي هذه الحادثة ووصفوا تفاصيلها وملابساتها غير ان بيل ترتكز في تحليلها للحادثة الى نظرية المؤامرة فتلمح الى ان الوالي كان من المتواطئين في قتله]..

وكانت الموصل خلال الأسابيع الستة التي انقضت [على الحادثة] قبل وصول القوات من دياربكر واماكن أخرى في فوضى عارمة. فقد كانت الاهانات [الشتائم] توجه للمسيحيين علنا في الشوارع بينما تقف السلطات المدنية والعسكرية مكتوفة الأيدي. كما لم تحرك جمعية الإتحاد والترقي [بفرعها في الموصل] ساكنا للحد من تلك التجاوزات. وعندما وصلت القوات تم استرجاع شيء من النظام إلا أن الحركة الرجعية مابرحت ماضية بلا كباح، فقد كان تنظيم [الجمعية المحمدية] التي اسست كنقيض ضدي لجمعية الإتحاد والترقي يحقق تقدما هائلا [تأسست الجمعية المحمدية فرع الموصل على غرار الجمعية المحمدية الأم في أسطنبول، عام 1908  وكان مقرها المدرسة الاحمدية في محلة باب السراي بالقرب من شارع النجفي وشرعت الجمعية بالتصدي للأتحاديين بعقد الاجتماعات والقاء الخطب والمحاضرات التي تؤكد على الشريعة الاسلامية ..لكن الاتحاديين عمدوا الى اغلاق الجمعية فتوقفت عن نشاطاتها في  نيسان 1909]..وكانت تستقطب المسلمين من المدرسة القديمة [السلفيين] ممن يشعرون بالذعر من تأثيرات الروح الجديدة [العلمانية] على الشريعة ونهجها، وكانت تجذب الجهلة [ تنظر بيل الى المسلمين نظرة متدنية فتعدهم جهلة لمجرد اهتمامهم بالمحافظة على شريعتهم وموروثهم القيمي]  ممن لايقدرون على استيعاب فكرة المساواة بين المسلمين والمسيحيين [تبنى الإتحاديون مباديء الثورة الفرنسية والحركات الماسونية في آيديولوجيتهم على الرغم من وجود ميول طورانية وعنصرية قوية لدى عدد من قيادييهم]..كما جذبت بقوة كل اولئك المعترضين على حكومة دستورية ولأسباب شخصية تتصل بقناعاتهم.

وقد ذهب احد كبار اعيان الموصل الى الأسواق ليجمع التواقيع من الموالين للمحمدية وكان الوضع احيانا خطرا للغاية وحساسا ..ولكن من الجدير بالذكر والملاحظة أن نقيب الموصل [حسن افندي النقيب]، والمفتي الأول [محمد حبيب العبيدي] رفضا بشدة التوقيع على اوراق الولاء للجمعية المحمدية أو التعامل معها بأي شكل من الأشكال [أعتقد ان سبب الرفض هو في كونهما يتمتعان بمكانة رمزية تجعلهما يمثلان جماعة اكبر على الصعيدين المدني والديني، ولما يمكن ان يتصل بالجمعية من سياسة واعمال عنف محتملة فضلا عن أن تأييد جماعة ما يعني استعداء خصومها].

وفي تلك الأثناء، تم تعيين وال جديد ومقتدر على ولاية الموصل [محمد فاضل باشا الداغستاني]، غير ان الوالي الجديد ذهب الى كركوك فورا حيث كانت الأمور على حال من التوتر وبيل العواقب بينما كان خرق القانون يسير صراحا في شوارع الموصل بدونما رادع او ضابط.. مما جعل الوالي يدرك المخاطر التي تهدد الولاية في  العاصمة [عاصمتها الموصل] فاسرع سرعة ساعي البريد متجها الى الموصل ليبدأ عملية استرداد الأمن والنظام، فاعتقل وسجن عددا من الأشخاص ووجه توبيخات قاسية لعدد من الزعامات الإسلامية مع تأكيدات أن الحكومة ستعمل على حماية حقوق المسيحيين..وقد تكررت تلك التحذيرات وبلهجة متشددة بعد يوم من تنصيب محمد رشاد [هو محمد الخامس تولى الحكم بعد خلع اخيه عبد الحميد الثاني]، عندما انتشرت في الأسواق اولى أشاعات مذابح الأرمن في أدنة [شرع الترك بسلسلة مذابح راح ضحيتها الأرمن على مدى ثلاثة ايام بدءا من يوم 14 نيسان 1909، ثم استأنف الترك عملية قتل الأرمن في أواخر الشهر وكان مركز المذابح في مدينة أدنة وفي اماكن تواجد الأرمن في الأناضول وسورية وأماكن أخرى]..

وقد وضع سقوط عبد الحميد حدا عاجلا لحالة الهيجان [في الموصل]. ومن المرجح تماما ان الثورة المضادة في 13 نيسان [ حراك عدد من المؤيدين للسلطان عبد الحميد يؤيدهم رجال الدين ضد الإتحاديين في اسطنبول بهدف تثبيت السلطان في الحكم] لم تكن مفاجأة لمنظمي  الجمعية المحمدية، غير ان التحرك السريع  من قبل الجمعية في سالونيكا [جمعية الإتحاد والترقي]، [تحرك قوة ضاربة بقيادة مصطفى كمال اتاتورك من مدينة سالونيكا الى اسطنبول] لم يكن متوقعا. وكانت مجريات الحوادث كالاتي: بعد هرب النواب من القسطنطينية [اسطنبول] [حدث هروب النواب اثر الأنقلاب الحميدي المضاد في 13 نيسان 1909 او في 31 آذار حسب التوقيت الرومي المتبع في الأمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت..وقام بالإنقلاب عدد من الوحدات العسكرية الموالية لعبد الحميد وطلبة الشريعة والدراويش والجماعات الصوفية واعضاء الجمعية المحمدية، وهدف الأنقلاب المضاد الى انهاء المرحلة الدستورية الثانية وإلغاء جمعية الإتحاد والترقي . وتأسيس حكم الشريعة وارجاع السلطان عبد الحميد الى السلطة الاوتوقراطية، مما دفع جمعية الإتحاد والترقي ومقرها سالونيكا الى ارسال جيش بقيادة مصطفى كمال الى اسطنبول]، استلم الوالي [والي الموصل] برقية تطالبه عدم تلبية أية أوامر ترد اليه من العاصمة [اسطنبول] - ولا أقدر ان أجزم بصحة هذه الرواية ولكني لا ارى انها غير محتملة- وكان الوالي مدعوما بقوة غير اعتيادية من القوات  "التي كانت قد ارسلت لإخماد الإضطرابات التي اعقبت مقتل الشيخ سعيد"، وكانت القوات الموجودة في تركيا كلها موالية للدستور.

وكانت مدينة الموصل تنتظر بقلق متنام مع تواتر وصول البرقيات يوما إثر آخر حول تقدم الجيش من سالونيكا الى القسطنطينية .. كما لم يكن سرا وصول برقية من بغداد يعرض فيها والي بغداد تقديم المساعدة الفورية للحزب الدستوري [الإتحادي]. ثم وعلى حين غرة، وصلت انباء خلع [السلطان]عبد الحميد..وبإستثناء السكان العاديين وبإستثنائي في الطريق العالي [أو الشرفة العالية، تقصد انها مطلعة على معلومات استخبارية من الدرجة الأولى بحكم مركزها في المخابرات البريطانية]، فإن الحدث [خلع السلطان] كان نصف متوقع...وهكذا كان الحال عندما وصلت الى الموصل وجدت المدينة، وهي أحدى أسوء المدن إدارة في الإمبراطورية العثمانية، مستكينة وهادئة.

وفي اسبوع من بقائي في الموصل،  لم تصلنا معلومات باستثناء اشاعات غير واضحة حول حادثة ادنة [مذابح الأرمن]، وحتى انباء تنصيب محمد الخامس في محل اخيه وردتنا من مصادر تركية رسمية ، ونحن لانقدر ان نتأكد فيما ذا كانت القوى الأوربية او اية منها قد اعترفت به من عدم ذلك . والمصادر الرسمية التركية لاتصدق احيانا، فالمناطق الواقعة في منأى عن نبع الحقيقة النقي قليلة جدا ولا نستثني منها شرقي تركيا [يبدو ان بيل تعد الموصل التي كانت جزءا من تركيا الآسيوية جانبا من شرقي تركيا وانها تستخدم تركيا والدولة العثمانية كوحدة جغرافية واحدة]، بل ربما كانت هي الأبعد [عن نبع الحقيقة النقي]. مع ذلك فإن السفارة البريطانية في القسطنطينية ترى ان من غير الملائم ابلاغ وكلاء قنصلياتها في تركيا الآسيوية بتولي سلطان جديد الحكم في القسطنطينية. [ وارجح ان السفارة البريطانية كانت مطلعة على مخططات استخبارية تتجاوز الحوادث التكتيكية الى التحولات الكبرى نظرا لنشاط اللورد كرزون ولقاءاته بأتاتورك في تلك الأثناء وهي محاورات مهدت  لخطط تشكيل تركيا الكمالية و اقتسام الشرق الأوسط لاحقا]. وبودي ان اترك هذه الملاحظة بدون تعقيب. [اي لعدم اهمية الجزء الظاهر من جبل الجليد مما جعل السفارة البريطانية تنتظر وتفضل عدم اطلاع نواب سفاراتها المحليين بتطورات لم تنته بعد].. ولكن اذا ما كنا نحن في الموصل غير مطلعين على مجريات الحوادث في اوربا، فلدينا مع ذلك، فرصا ثمينة في تقويم الأوضاع المحلية. ففي الموصل لم يرفع احد صوته ضد الإنتصار الثاني للنظام الجديد [دخول الإتحاديين اسطنبول وخلع عبد الحميد الثاني]. وفي الغياب المطلق للمبادرة المميز للمقاطعات ألآسيوية، لجأ الناس الى عزو مايحدث للقضاء والقدر وقد عزز الجيش هذا الإعتقاد عند الناس. أما بخصوص احتمالات ما إذا سيكون هذا الإنتصار الثاني اطول عمرا واكثر حسما من الأول فتلك مسألة مفتوحة [على الإحتمالات كلها].

وادت الأوضاع بالناس الى البقاء في بيوتهم محاكين بذلك بعض البيكوات الاقوياء ممن يريد ان يتمتعون  بثرواتهم الهائلة بسلام ويكونون على استعداد على دعم السلطان الجديد بكل قلوبهم، ولكنهم تراجعوا خوفا من احتمال الا تكون الحكومة الجديدة قوية بما يكفي لحمايتهم ضد اخوانهم الفقراء [تقصد الطبقات الفقيرة والجائعة التي قد تثور وتعمد الى نهب الأغنياء كما حدث في اعقاب ثورة الشواف في الموصل]. وعبثا ماقام به الوالي بملئه السجون بالأشقياء [الشقاوات والفتوات] لأنه يعرف مسبقا بانه إذا ما قدمهم للمحاكمة ، فإن أحدا لايجرؤ على الشهادة ضدهم. بينما اضحت السجون مكتظة على نحو خطير.

ومن غير شك كان هناك بعض المشاعر المؤيدة لعبد الحميد، إلا انها نادرة. وكنت قد تعرفت على مواطن من اهل الموصل وهو نموذج ممتاز للمدرسة القديمة [ الطبقة المحافظة والملتزمة في الموصل] يبدو ان من المستحيل بالنسبة لمثله الا يشعر بالتعاطف [مع عبد الحميد] على الرغم من معرفتي به  بأنه كان احد المحرضين على قتل الشيخ سعيد: كان هذا الرجل يتابع من غرفة في السراي اعلان محمد الخامس [سلطانا جديدا للأمبراطورية].وعندما شاهد الجندرمة وهم يمزقون ويسحقون تحت اقدامهم الفرمانات التي تحمل توقيع عبد الحميد، ولم يكن بصحبته سوى الشخص الذي اوصل الي هذه المعلومات،  القى نفسه على الأرض [ارضية السراي]  وبكى وقال: "الكلاب..البارحة كانوا سيتفاخرون لو ان اسمائهم مكتوبة بالنفس نفسه الى جانب اسمه". وبالنسبة لي أرى انه اليوم أفضل تحصينا ولديه الوقت لأسترجاع توازنه [السياسي] غير أنه كان يتنبأ الخراب والدمار والثورة والشرور كلها لبلاده [لم تحدد بيل مقصدها من بلاده في حديثها عن هذا الشخص الذي قد يكون الوالي او شخص آخر بمنزلته، ولاندري ان كان المقصود الدولة العثمانية ام العراق ام الموصل].

فسألته [اي الموصلي الذي قالت انها تعرفت عليه]:

- ألا يوجد هناك علاج [حل]؟

- إذا كان المنبع "راس العين" نقي، يكون النبع "المجرى" او "الجدول"  نقي. رد بانفعال.

سألته:

- وهل كان المنبع نقيا؟

فتردد قليلا وقال:

- لاوالله والنبي، حتى الملك يجب أن [لازم] يطلع على اوضاع الرعية يراهم [يغشعم] ويسمعهم [ويسمعم]. يجب عليه [لازم] ألا [ما] يجلس مسجونا [يقعد محبوس] في منزله [اببيتو] يستمع [يسمع] لأحاديث الجواسيس [كلام الجويسيس].

كما أعرف موصليا آخر يختلف اختلافا جذريا عن الشخص الأول، وهو احد اكبر اغنياء المدينة واكثرهم شرا، كان عبدا بالولادة. ولعله لايجلس في صحبة سيده السابق، على الرغم من ان سيده هذا لايمكن له باي حال ان يضاهي بالثراء عبده المعتوق. سألته ان كانت هناك اية قوة تسند الحركة العربية [كانت المشاعر القومية العربية في الموصل قوية كما تبين من المضاهرات المناهضة للإستعمار الإيطالي لليبيا والكتابات الصحفية شديدة اللهجة المؤيدة لوحدة العرب واستقلالهم].

فرد بحماس:

- على الخليفة ان يكون من قبيلة قريش!

- فمن سيكون الخليفة الذي  سيتم اختياره من قريش؟

فجاء رده:

- شريف مكة نسبه من قريش والعرب يجب ان يحكموا انفسهم!

ثم تركني لأتفكر بكلماته لأني كنت عارفة تماما بإنه [لم تحدد الشخص بالضمير الذي يشير اليه هل هو شريف مكة ام الشخص الذي كانت تحدثه] اذا اختار ان يساندهم بالقوة [لم تحدد ضمير المفعول به من "يساندهم" وأرجح ان المقصود هو القوميين العرب في الموصل] ، فإن كل الأشقياء الذين تضج بهم المدينة سيكونون تحت امرته ولاسيما وانه يعرف المكائد والمكائد المضادة كلها في الولاية.

وجلست وقتا طويلا في غرفة ضيوف شخص ثالث من معارفي، وهو رئيس أعظم عوائل الموصل. وهو من نسب رفيع لاشائبة عليه بحيث بقيت شقيقاته عازبات لأن الموصل لاتقدر ان تقدم زوجا يرقى الى مقام العائلة رفعة ونسبا. وكان اسلاف هذا الشخص مسيحيين هاجروا من دياربكر منذ قرنين..وتجري الروايات على ان جده المسيحي حالما جاء الى الموصل ذهب في الصباح الى حلاق ولكنه عندما وصل دكان الحلاق وجده مكتظا بالزبائن من عامة المسلمين ..فلم يعر له الحلاق اهتماما خاصا وابقاه منتظرا حتى يكمل رؤوس المسلمين: فهتف قائلا: " هل على رجل في مقامي ان ينتظر لمثل هؤلاء؟" فاعلن فورا رفضه لعقيدة العبيد [لم تحدد بيل ماهي عقيدة العبيد ولعلها تقصد المسيحية لأن المقصود كان مسيحيا ثم اعتنق الإسلام ]. وكان حفيده احد اولئك الذين سيشعرون بابتهاج ازاء رؤية النظام الجديد ينتصر ويوفر السلام للبلاد..فدعى بالنقمة على رأس احمد عزت باشا [أحمد عزت باشا (1864-1937م) هو قائد عسكري عثماني، كان من اواخر من حمل الصدارة العظمى للدولة العثمانية وهو غير أحمد عزت باشا العمري الموصلي.]، أحد اسوء بطانة السلطان [عبد الحميد] ثم صب لعناته على شقيقه مصطفى الذي كان في وقت مضى واليا للموصل [تولى مصطفى باشا ولاية الموصل  للفترة 1905- 1908ويعود الفضل في تعيينه واليا للموصل الى نفوذ اخيه في البلاط العثماني]. ثم قال " لو بقي سنتين اكثر في الولاية لخرب المدينة، غير ان كراهيته لعزت باشا لم تعمه عن متطلبات الإحترام الواجبة فقد تمكن [أحمد] عزت [باشا] بمهاراته الفائقة على الإقناع باغواء صديقي ليقدم له قطعة ارض ثمينة. وبعد شهرين هرب [أحمد] عزت باشا بعد سقوطه في عين السلطان خوفا من الإعدام من القسطنطينية إلا أن البيك لم يرجع في كلمته [بخصوص الأرض التي منحها لأحمد عزت باشا] عندما اصبح عزيز القوم ذليلا يعجز عن ارغام البيك على تنفيذ كلمته [منحه الأرض التي تعهد له بمنحها] وبذلك يتصرف البيك حسب تقاليد النبل التي تصف اسرته [استخدمت بيل عبارة فرنسية مفادها أفعال من تلد الكرام كريمة]. [تضمنت حاشية عبد الحميد العديد من العرب عام 1908، وبدلا من توجيه اللوم بالمشكلات التي تعصف بالبلاد الى عبد الحميد نفسه وجهت الإتهامات الى كبير مستشاريه أحمد عزت باشا العابد الذي وجهت اليه تهم كثيرة بينها تسهيله أو عدم منعه لعدد من اعضاء الأتحاد والترقي من الهرب خارج البلاد، مما ارغم احمد عزت باشا على الهرب ومعه عدد كبير من العرب في القصر والولايات فاتجه احمد عزت باشا الى الموصل].

كما غنمت فرصة المحادثة مع العديد من القساوسة. وهم في الموصل كثرة لايمكن معها تشكيل انطباع منفرد عن كل منهم. ويتناسب عدد القساوسة مع الطوائف المسيحية المختلفة التي يمثلونها فهي مثل رمال ساحل البحر، ولكن فيما افكر بالسفر في مناطق تقيم فيها هذه الطوائف فلابد من استيعاب الأسماء التي تميز هذه الطوائف أحدها عن الخرى على الأقل. اما فيما يتعلق بالفروق الجوهرية [المذهبية او العقيدية] فتلك تتصل بالمفاهيم والافتراضات الميتافيزيقية التي ليس في امكاني الخوض في تفاصيلها. واكثر تلك الطوائف اثارة للإهتمام من الناحية التاريخية جماعة مار شمعون، الذين كنت قد التقيت بعدد منهم في الطريق. ويعرفون في الوقت الحاضر بالنسطوريين على الرغم من ان هذه التسمية لاتصفهم، كما لاحظ لايرد، بصورة صحيحة. فاتباع المار شمعون هم اعضاء الكنيسة الكلدانية القديمة. وعنصرهم على الارجح هو الأقرب  للعنصر الاشوري النقي كما لنا ان نتوقع في منطقة تعرضت للعديد من الغزوات والخراب والتوطين والهجرات.[ تعد المناطق الآشورية في شمالي العراق وشماله وفي شرقي العراق وشرقه من اكثر المناطق تعرضا للإختراقات الإثنية والغزوات والهجرات من قبل الشعوب الآرية والتركمانية عبر التاريخ، مع ذلك حافظ الاشوريين على خصائصهم الإثنية والعرقية والحضارية على الرغم من زوال امبراطوريتهم في 612 ق.م.] اما كنيستهم فقد تأسست قبل ولادة نسطوريوس ولا صلة لتعاليمها به.[تشير بيل الى كتاب ادجار توماس ويغرام الكنيسة الآشورية، وللكاتب ايضا " آلاشوريين وجيرانهم"، و"مهد الإنسانية: الحياة في شرقي كردستان"].ومباديء الكنيسة الآشورية هي مباديء المسيحية القديمة التي لم تخالطها تاثيرات روما. وعقيدتها مع فروق تعبيرية غير مهمة مستمدة من نيقيا حيث نأى الكلدان بانفسهم بعد مؤتمر افسوس الكنسي عن الطوائف المرتبطة بالبابا والخاضعة لسلطته. وهم من الناحية السياسية لا يعيشون تحت السيطرة البيزنطية بل في الامبراطورية الساسانية. وحملت بعثاتهم التبشيرية المسيحية عبر آسيا من بلاد الرافدين وحتى المحيط الهادي. ويطلق على البطريارك عندهم وحتى الوقت الحاضر اسم كاثوليكوس الكنيسة الشرقية [الجاثليق] وكان مقره في البداية المدائن عندما اصبحت بغداد عاصمة للخلافة وعند سقوط بغداد، انتقل مقر البطريرك او الكاثوليكوس الى الموصل. وفي القرن السادس عشر حدث انشقاق ادى الى وجود بطرياركين بدلا من واحد. احدهما يقيم في رابان هرمزد بالقرب من القوش، والآخر يقيم في كوشانيس في الجبال جنوبي بحيرة وان.. وقد خضع الأول منذ قرنين لسلطة البابا، ويعرف اتباعه بالكلدان. ويقال انهم حملوا النير الروماني على الرغم من ارادتهم. والثاني هو البطريرك الوحيد الممثل للكنيسة الشرقية المستقلة التي يطلق عليها [على سبيل الخطأ] اسم الكنيسة النسطورية. ومركز البطريرك في هذه الكنيسة ينتقل بالوراثة من الخال الى ابن الأخت في الأسرة نفسها لأن البطريرك يحرم عليه الزواج. وتطلق على حامل المنصب دائما تسمية المار شمعون [مما يتسبب في خلط الروايات التي تنسب الى مار شمعون لعدم تحديد التسمية بمار شمعون الأول فالثاني وهكذا دواليك]. ويسود الإعتقاد القائل بأنه اذا ترتب على حكومة جديدة ان تنجح في فرض النظام، بحيث يتم الإستغناء كليا عن حماية دولة اجنبية، يتوجب على المسيحيين الكلدان [ممن يتبعون روما] هجر ولائهم للبابا واعلان ولائهم لكاثوليكوس الشرق).

ثم تتطرق جرترود بيل للحديث عن تفاصيل تتصل بعمارة الكنائس والجوامع في الموصل فالجماعات  التي توطن ولاية الموصل كاليزيدية والشبك وغيرهم ثم الى نينوى وتلقوينجق فزيارتها للقرى في شرقي نينوى والقرى المسيحية واليزيدية في سهل نينوى ثم بافيان والشيخ عادي وحتى زاخو التي يعرفها الجغرافيون العرب بإسم الحسنية ..فوادي الخابور ..وكل ذلك يقصينا عن قلب موضوعنا وهو راي جرترود بيل في الموصل لذا اخترنا التوقف عن مواصلة ترجمة مواضيع متنوعة لاتخلو من فائدة الا ان لاصلة لها بعنوان الدراسة التي اسهبنا في تفاصيلها..

ملاحظة حول الترجمة والصور:


يتضمن النص مقدمة بقلمي وترجمتين تاتي االثانية  تاريخيا قبل الأولى كونها ظهرت في كتاب جرترود بيل من (اموراث الى اموراث) الذي طبع ونشر عام 1911 بينما كانت الأولى وعنوانها احتلال الموصل  ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني في بغداد  آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين). وهو بقلم جرترود بيل ايضا يغطي الإدارة البريطانية بعد احتلال الموصل عام 1918.وكانت جرترود بيل قد بدأت جولتها في الشرق الأدنى عام 1892 بعد تعيين خالها فرانك كافنديش ليسلي سفيرا في طهران . وبيل بالإضافة الى كونها رحالة كانت تهتم بالآثار والسياسة والفنون التشكيلية والعمارة والتاريخ وفي رحلاتها تفاصيل كثيرة عن حياة الناس في الشرق الأدنى وتاريخهم وآثارهم وعمارتهم مما لفت انتباه المخابرات البريطانية لها فسعت الى تجنيدها بمنصب مستشارة لشؤون المشرق للمندوب السامي البريطاني في بغداد. وقد لعبت دورا في تكوين الدولة العراقية واصبحت مديرة شرفية لمديرية الآثار في بغداد فعملت على تاسيس المتحف العراقي ونادي العلوية..اطلق عليها لقب ملكة العراق للدور الذي لعبته مع لورنس العرب في تعيين الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق..الفت العديد من الكتب منها البادية والحاضرة ويغطي رحلتها الى بلاد الشام،وصور فارسية من الجبال الى البحر، وأقوال حافظ ويتناول الشاعر حافظ الشيرازي واخيرا كتاب من اموراث الى اموراث الذي قدمت له ببيت من لبيد على طريقة المستشرقين،  فتغطي فيه رحلتها الى العراق..وقد علمت الترجمة بين هلالين اما ملاحظاتي التوضيحية فجاءت بين قوسين مضلعين واستخدمت الفوارز المقلوبة لتوضيحات اضافية في مقتضى السياق.وتغطي الصور المنتخبة صورا لبيل ورموز الاحتلال البريطاني وصورة نادرة للشيخ فرحان الجربا مع عدد من الصور تمثل بغداد في اثناء الاحتلال البريطاني والموصل في العقود المبكرة من القرن العشرين.

*
شاهد الملحق المصور : رموز الاحتلال البريطاني 1918




عودة الى الصفحة الرئيسية

1 Comment

صور موصلية تاريخية

19/5/2014

2 Comments

 
ألأخوة في بيت الموصل أدامكم الله بأمن وصحة وسلامة ونجاح على الدوام

أحييكم بدخول سنة ثانية على جهودكم النبيلة في ادامة انوار مدينتنا الجميلة وحضارتنا الزاهية.. وجمعكم على صفحات هذا الموقع المنار الأخوة في الشتات من خلال مايسهمون به .. واطلاعنا في غربتنا الغربية على تفاصيل مايطرأ من حوادث أسيانة وبهيجة تخص ابناء مدينتنا..
هذه هديتي البسيطة بمناسبة مرور سنة على ميلاد صفحات هذا البيت ..ـ
وهي مجموعة من الصور التي تمثل الموصل .. أتمنى ان تروق لكم
 ودمتم سالمين غانمين

المخلص

صلاح سليم علي
صور موصلية .. من ماضي الزمان .. أهداها مشكوراً الاخ العزيز صلاح سليم علي لبيت الموصل و قرائه الكرام

***


الصفحة الرئيسية
2 Comments

شخصيات خيالية في تراثنا الشعبي

18/5/2014

4 Comments

 
Picture
من الخيال : إرَم : المدينة المفقودة
Picture
من الخيال : إرَم : المدينة المفقودة
شخصيات خيالية في تراثنا الشعبي

صلاح سليم علي

تعرف الشخصية الخيالية بانها شخصية افتراضية توجد في النصوص الادبية كالمسرح والرواية والقصة القصيرة والمسرح والأساطير والخرافات وما يؤثر عن الأدب الشعبي...وقد يعتمد المؤلف في خلق الشخصية الخيالية وبنائها على شخصية واقعية [أحيانا] تغيب تماما في الملامح الافتراضية للشخصية الخيالية والحوادث والظروف المحيطة بها..وظاهرة الشخصيات الخيالية شمولية في الحضارات كلها..وتعكس الشخصية الخيالية نظرة المؤلف، الذي قام بخلقها، الى العالم، وقد تعكس روح العصر او الطبقة الاجتماعية التي نشأت في سياقها مما يجعل منها اداة للتعبير عن مواقف فكرية واجتماعية معينة او صراع ايديولوجي معين..وقد تاتي تعبيرا عن الحاجة الى تأويل ملاغيز تاريخية او اسطورية او في تلبية تطلعات سياسية وعنصرية في مرحلة تاريخية معينة..وتختلف الشخصيات الخيالية من خلال منظور القاريء او المشاهد ..فغالبا ما يميل القاريء او المشاهد للشخصية  الخيالية [في المسرح او السينما او التلفاز] الى التعاطف معها واحيانا الى التذوت بها اعتمادا على استجابة تلك الشخصية لتطلعات وميول المشاهد او القاريء. ونادرة حالات التعاطف والتذاوت مع الشخصيات الشريرة او الخلافية..وقد يتعاطف القاريء مع شخصية خلافية كشخصية علي الزيبق من الف ليلة وليلة او شخصية روبن هود او ارسين لوبين على الرغم من مخالفة هذه الشخصيات للعرف الاجتماعي والقوانين والدولة والسبب في ذلك ان هذه الشخصيات تميل الى مناهضة الحكومات والقوانين بدافع تحقيق العدالة الاجتماعية.. وتعتمد دراسة الشخصية الخيالية في الاعمال الأدبية تحديدا على دراسة علاقتها بالشخصيات الأخرى في العمل الأدبي وكذلك على العلاقات بين الشخصية الخيالية وطبيعة الحوادث التي تحدد اتجاه السلوكيات المختلفة للشخصية في محيطها الافتراضي في العمل الادبي ..فنحن في قراءتنا لمسرحية هاملت لشكسبير قد نغفر لهاملت قتله على سبيل الخطأ بولونيوس والد اوفيليا [كونه كان يتلصص من وراء الكواليس على هاملت ولصالح كلوديوس الملك الغاصب الذي يعمل في خدمته] ، ولكننا لا نغفر له طريقة تعامله مع اوفيليا على نحو تسبب في انتحارها.. وغالبا ما يضع الراوية خيوط الحبكة ومفاتيح فهم الشخصية بيد القاريء أوالمشاهد في الوقت الذي تجهل فيه الشخصيات في العمل الروائي والمسرحي جوانب كثيرة من الدوافع والحوادث التي تحيط بها كما في مهاجر بريسبيان لجورج شحادة [ترجمة ادونيس عن الفرنسية]..او يميل الى توجيه المشاهد او القاريء الى التوحد والتعاطف مع البطل الذي يتحدث بصيغة الشخص الأول..فنحن نتعاطف مع السندباد وليس مع انصاف الوحوش والوحوش التي واجهها كشيخ البحر وملك سرنديب الذي يرغمه على  الرضوخ لعادة الدفن حيا مع زوجته التي وافتها المنية في شبابها..

وقد درج الخيال الشعبي الى اضفاء ابعاد اسطورية وتخيلية على شخصيات تاريخية حقيقية كسيف بن ذي يزن والزير سالم وذي القرنين [الذي يختلف في تشخيصه بين الأسكندر المقدوني وقورش وسرجون الأكدي]، وحاتم الطائي وهارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وغيرهم،  فضلا عن التوسيع الأسطوري لشخصيات الأنبياء والأولياء كالنبي سليمان والنبي موسى والخضر وغيرهم..

ويزخر التاريخ الأدبي بالشخصيات الخيالية عربية المنشأ ولعل منها ما ينبثق من أصول واقعية في التاريخ الحضاري العربي والإسلامي كأبي القاسم الطنبوري الذي تجمع المصادر انه كان موجودا فعلا وإنه تاجر عاش في بغداد اتسم بالبخل على الرغم من غناه.. غير أن القصص التي تدور حوله تصف البخل وتلك صفة عامة كتب فيها الجاحظ كتابا، مما يرجح ان حكايات البخل تميل الى التبلور حول شخص ما قد يكون هو ابو القاسم الطنبوري وقد يكون غيره.. مع ذلك يتميز ابو القاسم الطنبوري بحذائه الذي ذهب مثلا يضرب على اي شيء يتسبب في متاعب لصاحبه ولا يمكن التخلص منه في اشارة الى حذاء ابي القاسم الطنبوري المرقع والمتهريء الذي يعاد اليه في كل مرة يحاول التخلص فيها منه متسببا بمشكلة وغرامة يغرمها فيتوجه الطنبوري في آخر المطاف الى القاضي ليعلن براءته من الحذاء خوفا من الوقوع في مزيد من المشكلات..

ومن الشخصيات الخيالية التي ابتكرتها المخيلة العربية شخصية الحارث بن همام الذي  جعله الحريري راوية لأخبار بطل مقاماته وهو شخصية خيالية ايضا اسماها أبو زيد السروجي ..وقد اعتمد الحريري في بناء مقاماته وخلق شخصياته الخيالية على مؤسس هذا الضرب من الفن الروائي بديع الزمان الهمداني الذي اعتمد شخصيتين خياليتين هما الراوي وسماه عيسى بن هشام والبطل الذي تدور عليه حوادث المقامات وأسماه ابو الفتح الأسكندري..غير ان المقامات نفسها فتجري في سياقات جغرافية وتفاصيل واقعية..ومن الشخصيات الخيالية التي تخدم اهدافا رمزية شخصية حي بن يقظان التي ابتكرها الفيلسوف العربي ابن طفيل..ويماثل حي بن يقظان في ولادته ولادات سرجون الأكدي وموسى وريموس وريمولوس..فبينما وجدت الأخيرين ذئبة ارضعتهما لتخلد في تمثال من البرونز فوق تل الكابيتولاين [لا لوبا كابيتولينا] يمثلها وهي ترضع طفلين بما يرمز الى مدينة روما والى الأيطليين، وجدت كل من سرجون الأكدي وموسى إمرأة تنتسب الى القصر الملكي لأورزوبابا ولرمسيس الثاني على التوالي بينما عثرت على حي بن يقظان ضبية ..وحكايته انه ولد لشقيقة ملك سرنديب ورجل من أقاربها اسمه يقظان..ولأنها تزوجته سرا عمدت الى وضع طفلها في تابوت والقته في البحر لتحمله الأمواج الى شاطيء جزيرة الواقواق وتجري حياة حي بن يقظان على نحو مماثل لحياة البشر من العهود البدائية حتى عصر العقل..وقد ألهمت هذه القصة الروائي الأنكليزي دانيال دفو في ترجمتها اللاتينية او الإنكليزية لتأليف رواية على غرارها اسماها روبنسون كروسو..وقد تمخظت عن هذه الرواية التي الهمتها رواية ابن طفيل سلسلة من الروايات العالمية عن الجزر اهمها رواية جوناثان سويفت رحلات جوليفرالتي يعارض فيها فلسفة دانيال ديفو التي تضع الفرد قبل المجتمع لأن جوليفر يزور مجتمعات ناجزة لكل منها فلسفتها وطريقتها في الحياة، ورواية روبرت لويس ستيفنسون جزيرة الكنز ورواية جان جاك روسو أميل، وهي رواية تحاكي رواية روبنسون كروسو ولكن الهدف منها وضع منهج تربوي يعتمد على التجربة المتأتية من الضرورة على نحو مماثل لحي بن يقظان..مما يشير الى ثراء التجربة الخلاقة في ابتكار الشخصيات الخيالية وما يترتب عليها من تاثيرات تتجاوز الحدود القومية والزمانية لعصرها..ومن الشخصيات ما يسحب على عالم الإفتراض والخيال أكثر من الواقع لتوزعها بين الأمم بحيث تلتبس الحقيقة مع الخيال والتاريخ مع الخرافة من جراء تعدد التسميات وتنازع الانتماءات ..ومن هذه الشخصيات جحا الذي يعرف بالخواجا نصر الدين والملا نصر الدين في وسط آسيا وتركيا ، ويعرف بالافندي في الصين وقرقيزيا وعند الأيغور، ويعرف في المصادر العربية ب  أبو دُجين و أبو الغصن بن ثابت اليربوعي وينسب الى البصرة..وغالبا ماتتماهى شخصيته بشخصية ابي نواس وبشخصية اشعب، ولعل المقصود بأبي دجين شخصا آخر غير جحا الذي ذكره الجاحظ في كتاب البغال بأسمه [جحا] عندما سأل رجلا حمصيا عن الطريق..

ومن الشخصيات الخيالية التي تتجاوز  تخوم التفكير المنطقي شخصية عوج بن عنق الذي تطرق اليه معظم المفسرين والمؤرخين كالطبري وابن الأثير والقرطبي والأبشيهي وغيرهم ..وينسبونه الى القوم الجبارين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم وفي معرض الحديث عن موسى وعوج هو أبن عنق أو عوق أوعناق، وهو حفيد آدم من ابنته عنق أول بغي فى التاريخ ( كما تدعي الاساطير) ...وذهب المؤرخون في وصفه مذاهب عديدة ..غير ان أجماعهم كان على عظم حجمه وطول قامته وجبروته [قيل إن طوله "ثلاثة ألاف وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع"، وقيل إنه كان يحتجز{يحتجب} السحاب ويشرب منها، "وكان يضرب بيده فيأخذ الحوت من قاع البحر ثم يرفعه إلى السماء فيشويه بعين الشمس فيأكله". نجا من الطوفان في زمن نوح، وحارب العديد من الأنبياء، وكانت نهايته حين رفع الجبل ليرمي عسكر موسى بالجبل، "فجعله الله طوقاً في عنقه، وقتله موسى]..وفي المصادر العربية أن موسى قتل عوج بوثبة اصابته في كعبه [كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه، فسقط ميتاً، فكان جسراً للناس يمرُّون عليه] وتذكرنا هذه الرواية بأسطورة يونانية هي اسطورة الأرغونيين والجزة الذهبية حيث قابل جيسون بطل الأسطورة عملاقا من البرونز اسمه طالوس وتمكن من قتله بعد تفريغ دمه بطريق فتحة في كعبه: كما تكرنا برواية الأوديسة لقتل باريس أخيلوس بضربه بنبل اصابه في كعبه...

وثمة شخصيات تقف في المنطقة الرمادية بين الأسطورة والتاريخ، ككعب الأحبار وخلف الأحمر وحماد الراوية..وذلك كون ألأول يهوديا تعزى اليه معرفة التاريخ العربي الإسلامي وكل مايحيط العرب من أسرار وهذا مايتعارض مع المنطق والأثنان ألآخران اي حماد الراوية وخلف الأحمر تجمع المصادر على انهما من الموالي الفرس ولا يعقل ان يكونا ضليعين بالتاريخ الأدبي للعرب يحفظان عن ظهر قلب كل مايؤثر من الشعر الجاهلي والإسلامي..والشخصية المتأرجحة الأخرى بين التاريخ والأسطورة هي شخصية عبد الله بن سبأ..اما وضاح اليمن فعلى الرغم من وجود ديوان من الشعر ينسب اليه، فالأرجح ان يكون شخصية وهمية ابتكرتها المعارضة الفارسية للحكم الأموي..للطعن بشخصية الوليد بن عبد الملك..ودليلي على ذلك انتماء الشعر الذي ينسب اليه الى أواخر العصر العباسي الثالث في مضامينه وبنائه وأوزانه..وكون الإشارة اليه محصورة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وللإشارة الصريحة في الشعر المنسوب اليه الى أم البنين ..فلايعقل ان يكون لزوجة الوليد بن عبد الملك علاقة بشاعر من اليمن فائق الجمال. او ان يكون الوليد من الغفلة بحيث يترك ابواب قصر الرصافة مفتوحة لكل من هب ودب..كما ان حكاية اكتشافه وأخفائه في صندوق ودفنه حيا هي الأخرى مختلقة لما تنطوي عليه من تناقضات ..مما يجعل شخصية وضاح اليمن خيالية جملة وتفصيلا على الرغم من تضمين البردوني لها في المربد في سياق قصيدة يخاطب فيها ابا تمام  اسماها [أبو تمام وعروبة اليوم]:ـ

مَاذَا أُحَدِّثُ عَـنْ  صَنْعَـاءَ  يَـا  أَبَتِـي ؟
مَلِيحَـةٌ  عَاشِقَاهَـا : السِّـلُّ  وَالـجَـرَبُ                                        
مَاتَـتْ بِصُنْـدُوقِ «وَضَّاحٍ» بِـلاَ ثَمَـنٍ
وَلَمْ  يَمُتْ فِي حَشَاهَا  العِشْـقُ  وَالطَّـرَبُ
                                               

ولعل ابرز الشخصيات الخيالية الوافدة من اليمن السعيد هي شخصية عبد الله الحظردأو (عبدول الحظرد)التي ترتبط بنوع من الجغرافيا الخيالية هي الأخرى، ألا وهي جغرافيا الوهم..وجغرافيا الوهم تشير قبل كل شيء الى خاصية مميزة للعقل العربي في واحد من جوانبه الأكثر حيوية..وتتكرر في التاريخ وفي التصوف ..والغريب ان الف ليلة وليلة لم تبتكر الكثير من هذه الروايات بل اعتمدها الراوي على لسان شهرزاد من مصادر التاريخ العربي ومن البلدانيين العرب والمسلمين..ومن أبرز معالم جغرافيا الوهم هذه جزر الواقواق وجبل قاف وعين ماء الحياة ومدينة النحاس ومدينة إرم ذات العماد وسد يأجوج ومأجوج..فقد حلم الخليفة المتوكل مرة في سامراء ان سد يأجوج ومأجوج قد انكسر وأن الأقوام الحبيسة خلفه تدفقوا على بلاد الإسلام وعاثوا فيها فسادا فقام بإرسال سلام الترجمان على رأس قافلة كبيرة في رحلة الى بلاد الصين ليتأكد من حال السد ويرمم الكسر ويعود اليه بأخبار عن حملته..أما مدينة النحاس فيتكرر ذكرها في المصادر العربية حتى ان ابن خلدون تعرض للبلدانيين الذين جاءوا على ذكرها بالنقد فقال ان النحاس تصنع منه الأواني  ولاتشاد به المدن..وكان عبد الملك بن مروان قد ارسل حملة لأكتشاف اواني نحاسية من بحيرة في شمالي افريقيا كان النبي سليمان قد حبس فيها ارهاطا من الجن..وان احدى تلك القناني قد فتحت عن جني في مجلس عبد الملك بن مروان وبحضور الإمام الزهري الذي نصح الخليفة بالإيعاز لأخيه عبد العزيز والي مصر آنذاك، بالقيام بحملة لجلب المزيد من تلك القناني..فعثر قادة الحملة على مدينة النحاس  وكان سكانها من الموتى والجن..

وتتصل شخصية عبد الله الحظرد بمدينة إرم أو آرام التي يفترض وفق ماتذهب اليه الروايات انه الشخص الوحيد الي تمكن من رؤيتها ودخولها ثم وصفها..

وشخصية عبد الله الحظرد من اكثر الشخصيات الخيالية إيغالا في الغموض والغرائبية فهو من مبتكرات كاتب غربي يجهل اللغة العربية  اسمه هوارد فيليبس لافكرافت [الفاء الأولى  في لافكرافت اعجمية]..ويبدو ان المؤلف الذي ابتكر شخصيته كان مولعا بالإسرائيات وبقراءة الأدب الخيالي كألف ليلة وليلة والملك الأصفر وروايات واشنطون أي رفينج وناثانيل هوثورن وغيرهم..ولعله اطلع على ادبيات ميتافيزيقية يونانية وعربية تتعلق بجابر بن حيان والكيميا المعنية بالبحث عن حجر الفلاسفة وادبيات الرحلة في الأماكن النائية كصحراء الربع الخالي ، وما الى ذلك مما افضى الى زعمه ان عبد الله الحظرد ألف كتاب (العزيف) الذي عرف فيما بعد بكتاب (النيكرونوميكون)، وهو كتاب يتناول اساليب سحرية لأستنطاق جثث الموتى والتعرف من خلالهم على المدن الغابرة والأسرار الدفينة..وانه اي عبد الله الحظرد كان قد امضى عشرة اعوام بمفرده في صحراء الربع الخالي بعد ان عاد من رحلة اخذته الى حران وبابل وممفيس والهند، وإنه كان يجيد لغات متعددة وأنه امضى آخر سني حياته في دمشق التي الف فيها كتابه العزيف [وتعني همهمة الحشرات]. ويتحدث في كتابه هذا عن عوالم افتراضية بلغة الرموز والسحر وذكر أنه رأى مدينة إرم ذات العماد وشاهد بناتها من قوم عاد وهم عمالقة يتمتعون بقوة هائلة مما يفترض ان له قدرة على السفر عبر الزمان..

ويقحم عبد الله الحظرد على ابن خلكان اقحاما لم اجد مبررا له ..وفي الواقع فإني لم أجد مدخلا في كتاب ابن خلكان بأسم عبد الله الحظرد أو الحظرد مع ذلك يتواتر ذ كره في عدد من المصادر من خلال ربط اسمه بكتاب [العزيف] او [النيكرونوميكون] آنف الذكر ومن المصادر مايؤكد انه شاعر وساحر يمني ظهر في مطلع القرن السابع الميلادي وإنه توفي عام 738 عندما أختطفه وحش مخيف التهمه في وضح النهار على مرأى من شهود عيان جمدهم الخوف ومصدر هذه الرواية هو مخترع شخصية عبد الله الحظرد الذي يعزو رواية اختطافه من دمشق ومقتله الغريب الى ابن خلكان..ويرى لآفكرافت أن سبب مقتله يعود الى تعامله مع كتاب العزيف ويرى ان كل من يتعامل مع هذا الكتاب يلقى نهاية مخيفة..ولعل لافكرافت قد تاثر في هذه الرواية بقصة [الملك الأصفر] الذي حظر من الموت ليستعيد شارة صفراء وكتاب اصفر ثقيل وكان حظوره سببا لموت صاحب الكتاب ورفيقته التي اهدته الشارة التي اشترتها من محل لبيع الأنتيكات ثم تحول الملك الأصفر الى كومة من التراب والعظام وكأنه ميت منذ دهور..وهي قصة قصيرة  تنتسب الى قصص الرعب، ولكن لايوجد مايؤيد هذا الأفتراض ..ويعتقد الحظرد ان اجناسا أخرى غير بني آدم ورثت مع الإنسان هذه الأرض وإن هذه الكائنات هي مصدر المعارف التي وصلت البشر منذ العهود القديمة وإن هذه الأجناس لم تنقرض بل تعيش في كواكب أخرى وإنها ستعود لأسترجاع الأرض..مما يجعل كتاب العزيف المنسوب الى الحظرد أقرب الى كتب التاريخ منه الى السحر فهو يتحدث عن أقوام من الجبابرة كعاد والعماليق وعن جنس هبط من السماء ليتزوج من نساء من البشر ويستولدهن ذرية من المسوخ مخيفة تعلموا كيف يصنعون أسلحة غريبة ومجوهرات وكانوا يشربون الدماء..وفي كتاب أخنوخ [إدريس] إشارة الى اولئك الذين هبطوا من السماء وتناسلوا مع البشر..

والأغرب ان كتاب العزيف العربي هذا لم تعثر على اية نسخة عربية منه بينما ترجم الى اللاتينية ويبدو ان نسخا من الكتاب كانت منتشرة في اوربا في القرن الثالث عشر بحيث اصدر البابا جريجوري التاسع امرا بمنع الكتاب واحراق نسخه..فهل كان متوفرا في نسخ ماخوذة من نسخ مترجمة قبل ظهور اول ترجمة لاتينية له عام 1457 من قبل قس يدعى اولوس فيرمياس الذي اطلق على الكتاب اسم النيكرونوميكون؟ ..غير ان ذلك القس اتهم بالهرطقة واحرق وأحرقت معه كتبه..غير ان نسخة من الكتاب حفظت في مكتبة الفاتيكان وظهرت نسخة للكتاب لدى الحاخام اليهودي يعقوب اليتزر الذي ترجم اقساما منه الى العبرية عام 1664 اطلق عليها [بوابات المعرفة] او [سفر هشاري حاداث].. ثم تعقب فترة صمت لحين مطلع القرن العشرين حيث ظهر الكتاب لدى الساحر البريطاني اليستر كراولي الذي تقمص شخصية الحظرد وسافر الى شمالي افريقيا ليعيش في صحرائها ظروفا مماثلة لتلك التي عاشها الحظرد في الربع الخالي..ويرجح ان شخصية الحظرد انتقلت الى لوفكرافت عن طريق سونيا جرين التي التقت بالأخير قبل ان ينشر قصته عن [المدينة التي لا إسم لها] وهي اول قصة يظهر فيها اسم الحظرد..

تتركنا هذه الرواية عن عبد الله الحظرد  في جملة من الألغاز التي يصعب حلها وأبرز تلك الألغاز عزو رواية ميلاد الحظرد وموته الى ابن خلكان..مما ينقل شخصيته من مجال الأسطورة الى مجال التاريخ..وهذا ما لم نعثر على مايؤيده في [وفيات الأعيان] فمن اين جاء الكاتب الأجنبي بهذه الرواية؟ والأرجح ان خلطا موهوما او مقصودا حدث في احدى حلقات انتقال هذه المعلومات بين شخص بدوي يعرف بعبد الله بن قلابة وعبد الله الحظرد..ولأن الأول كان قد شاهد على سبيل الصدفة، فيما تجمع المصادرالعربية، مدينة إرم ذات العماد، فعمد الكاتب الغربي الى ايراد اسمه [عبدالله] مضيفا اليه اسما غريبا ابتكره من عندياته هو[الحظرد] الذي يوحي بالنسبة الى حضرموت حيث يطلق على الشخص من حضرموت اسم [الحضرمي]..ولعل مصادره عن الحظرد كلمة انكليزية هي [هازردز] وتعني مخاطر..وذلك لأن الظاء المشالة تلفظ [ز] بينما تلفظ الحاء العربية [هاءا] باللغة الإنكليزية..لعدم وجود هذين الحرفين في اللغة الإنكليزية..على ذلك يكون من الجائز لنا ان نعتبر [عبد الله الحظرد] هو عينه [عبد الله بن قلابة] الذي ورد ذكره في معرض الحديث عن ارم ذات العماد في الطبري و الثعالبي والزمخشري وياقوت الحموي والمسعودي وابن حجر العسقلاني وابن عساكر والقزويني وابن الوردي وابن خلدون وغيرهم. ومن غير اهل السنة جاء على ذكر ابن قلابة المجلسي في كتابه [بحار الأنوار] فقال بادئا بالآية الكريمة:

[ألم تر  كيف فعل ربك بعاد  إرم ذات العماد  التي لم يخلق مثلها في البلاد،  ثم مات عاد وأهلك الله قومه بالريح الصرصر..حدثنا محمد بن هارون حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن أسماء قال: حدثنا جويرية، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل قال: إن رجلا يقال له عبد الله بن قلابة  خرج في طلب إبل له قد شردت، فبينا هو في صحارى عدن في تلك الفلوات إذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال، فلما دنا منها ظن أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا  ولا خارجا، فنزل عن ناقته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب الحصن، فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم  منهما ولا أطول، وإذا خشبها من أطيب عود، وعليها نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوؤها قد ملأ المكان، فلما رأى ذلك أعجبه ففتح أحد البابين ودخل فإذا هو بمدينة لم ير الراؤون مثلها قط، وإذا هو بقصور كل قصر منها معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعلى كل باب من أبواب تلك القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت، وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما رأى ذلك ولم ير هناك أحدا " أفزعه ذلك ونظر إلى الأزقة وإذا في كل زقاق منها أشجار قد أثمرت، تحتها أنهار تجري فقال: هذه الجنة التي وصف الله عز وجل لعباده في الدنيا، فالحمد لله الذي أدخلني الجنة، فحمل من لؤلؤها وبنادقها بنادق المسك والزعفران، ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا من ياقوتها لأنه كان مثبتا " في أبوابها وجدرانها، وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران بمنزلة الرمل  في تلك القصور والغرف كلها، فأخذ منها ما أراد وخرج حتى أتى ناقته وركبها، ثم سار يقفو أثره حتى رجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وأعلم الناس أمره، وباع بعض ذلك اللؤلؤ وكان قد أصفار وتغير من طول ما مر عليه من الليالي والأيام، فشاع خبره وبلغ معاوية بن أبي سفيان فأرسل رسولا " إلى صاحب صنعاء وكتب بإشخاصه، فشخص حتى قدم على معاوية فخلا به وسأله عما عاين فقص عليه أمر المدينة وما رأى فيها وعرض عليه ما حمله منها من اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فقال: والله ما أعطي سليمان بن داود مثل هذه المدينة، فبعث معاوية إلى كعب الأحبار فدعاه فقال له: يا أبا إسحاق هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة، وعمدها زبرجد و ياقوت، وحصى قصورها وغرفها اللؤلؤ، وأنهارها في الأزقة تجري تحت الأشجار، قال كعب: أما هذه المدينة صاحبها شداد بن عاد الذي بناها، وأما المدينة فهي إرم ذات العماد وهي التي وصفها الله عز وجل في كتابه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وذكر أنه لم يخلق مثلها في البلاد، قال معاوية: حدثنا بحديثها، فقال: إن عاد الأولى - وليس بعاد قوم هود - كان له ابنان سمى أحدهما شديدا "، والآخر شدادا "، فهلك عاد وبقيا وملكا وتجبرا وأطاعهما الناس في الشرق والغرب، فمات شديد وبقي شداد فملك وحده لم ينازعه أحد، وكان مولعا " بقراءة الكتب، وكان كلما سمع يذكر الجنة وما فيها من البنيان والياقوت والزبرجد واللؤلؤ رغب أن يفعل مثل ذلك في الدنيا عتوا على الله عز وجل، فجعل على صنعتها مائة رجل تحت كل واحد منهم ألف من الأعوان فقال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، واصنعوا تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد، وعلى المدينة قصورا "، وعلى القصور غرفا "، وفوق الغرف غرفا "، واغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار كلها، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت أشجارها فإني أرى في الكتاب صفة الجنة وأنا أحب أن أجعل مثلها في الدنيا، قالوا له: كيف نقدر على ما وصفت لنا من الجواهر والذهب والفضة حتى يمكننا أن نبني مدنية كما وصفت؟ قال شداد: ألا تعلمون أن ملك الدنيا بيدي؟ قالوا: بلى، قال: فانطلقوا إلى كل معدن من معادن الجواهر والذهب والفضة فوكلوا بها حتى تجمعوا ما تحتاجون إليه، وخذوا جميع ما تجدونه في أيدي الناس من الذهب والفضة، فكتبوا إلى كل ملك في الشرق والغرب فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاث مائة سنة، وعمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وأخبروه بفراغهم منها قال: فانطلقوا فاجعلوا عليها حصنا "، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف علم، يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، فرجعوا وعملوا ذلك كله، ثم أتوه فأخبروه بالفراغ منها كل أمرهم، فأمر الناس بالتجهيز إلى إرم ذات العماد، فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين، ثم سار الملك يريد إرم فلما كان من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عز وجل عليه وعلى جميع من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم، ولا دخل إرم ولا أحد ممن كان معه، فهذه صفة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وإني لأجد في الكتب أن رجلا " يدخلها ويرى ما فيها ثم يخرج فيحدث الناس يما يرى فلا يصدق، وسيدخلها أهل الدين في آخر الزمان. قصص الأنبياء: بالاسناد إلى الصدوق مثله. أقول: روى في مجمع البيان نحوا من ذلك عن وهب بن منبه وذكر في آخره أنه قال: وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في تلك الصحاري في طلب إبل له، والرجل عند معاوية، فالتفت إليه كعب وقال: هذا والله ذلك الرجل]..

وتتصل بإرض عاد جملة من الأساطير الخاصة بالعرب ولاسيما اسطورة العنقاء التي تحدث عنها هيرودوتس وذكر انها طائر زاهي الألوان يعيش أمدا طويلا ثم يهبط على شجرة عطرية في معمعان الصيف فتشب من قوة الشمس نار تحرق الجزء الذي يحط عليه من الشجرة لينغمر ذلك الطائر باللهيب ويستحيل الى رماد ثم سرعان ما ينبعث مجددا وبكل حيوية من ركام الرماد..ولعل الشجرة المذكورة هي شجرة اللبان التي تنبت في ظفار وفي اليمن ..ويستخرج منها أهل اليمن اللبان الذكر كما يستخرجون المر من شجرة مجانسة تنمو الى جانب شجرة اللبان..ولايعرف مكان آخر لنمو هذين النوعين من الشجر غير القرن الأفريقي القريب من بلاد اليمن السعيد..غير ان اراضي حضرموت التي يطلق عليها في الوقت الحاضر اليمن وعمان هي الموطن الرئيس لإنتاج اللبان والمر بكميات تجارية حيث يصار الى تصديرهما الى مراكز التمدن في الشرق الأدنى منذ العهود الضاربة في القدم فترسل بقوافل الى إبلة وقطنا وإيمار في بلاد الشام والى أور وأكد وبابل وآشور ونينوى وحران وتوشكا في وادي الرافدين والى ممفيس وطيبة وهيليوبوليس وغيرها في وادي النيل..لحاجتها بخورا ودواءا في المعابد القديمة حيث لايمكن لطقوس  العبادة ان تجرى بدونهما وبخاصة اللبان الذي مازال يستخدم بخورا ودواءا حتى الوقت الحاضر..

وقد ترتب على تلك التجارة تمهيد طرق تجارية بحرية وبرية اشهرها طريق البخور الذي يمر بتيماء [عاصمة نبونايداس ملك بابل  الصحراوية] وديلمون [البحرين] حيث مقبرة وجهاء سومر العراقية..ولعل ازدهار إرم الأسطورية يعود في جانب منه الى تجارة اللبان الذي ينمو في انحاء اوبار التي يعدها علماء الآثار إرم نفسها ويحددون مكان وجودها في شيزر[غير شيزر الشامية التي كان على ولايتها اسامة بن منقذ] القريبة من ساحل عمان في حافة جبل..حيث عثر علماء الآثار على قلعة كبيرة مسورة انهار جزء منها في مغارة عظيمة تحت القلعة حيث يوجد صهريج كبير من الماء يرجح انه كان موصولا ببئر وقد غاص قلب القلعة مع بوابتها وجانب من السور وابراجه في تلك المغارة..ويذكر علماء الآثار ان قلعة شيزر كان لها ثمانية ابراج او أكثر وكان سورها بارتفاع ثلاثة امتار اما سمكه فكان مترا كاملا مبني من الحجارة الجيرية وتقع ابرز بناية منه في الزاوية الشمالية الغربية للقلعة..ويرجح علماء الآثار ان هذه القلعة هي المقصودة بإرم القرآنية..وكانت الأبراج تحمي موارد المياه  العذبة والنادرة أمام مفازات الربع الخالي..وقد أشار ياقوت الحموي الى سور اوبار العظيم..ويرى ألآثاريون ان شيزر غرقت في الرمال على نحو يؤيد الوصف القرآني لما حل بقوم عاد..ويرى الآثاري زارين ان اوبار ترتبط بمنطقة وأمة وليس بمدينة بحد ذاتها وان شيزر [اوبار] واحدة من ثلاثة أو أربعة مراكز مدنية وطنها ألأوباريون [قوم عاد] منذ آلاف السنين ..ولا نعرف ان كانت هي إرم ذات العماد ام غيرها ..لكن المهم انها أحد المراكز المدنية في الطريق الصحراوي لتجارة اللبان على حافة الربع الخالي..

وقد اثرت الحكايات التي تؤثرعن عبدالله الحظرد وصلته بإرم ذات العماد من جهة وموته الغريب من جهة اخرى بالفنون الغربية وبخاصة الفن التشكيلي والرقمي المعاصر حيث صورت مدينة إرم في تشكيلات خيالية غاية في الطرافة والتنوع والجمال ..كما ظهرت حكاية الوحش المخيف الذي التهم الحظرد في إحدى حلقات الدكتور [هو] وهو شخصية خيالية في المسلسل الأنكليزي عن الرحلة عبر الزمن حيث قابل الدكتور [هو] ورفيقته [ايملي] في رحلة الى الماضي الفنان الهولندي [فان كوخ] وكان فان كوخ يقاتل وحشا مخيفا غير مرئي إلا من خلال مرآة خاصة جلبها الدكتور [هو] معه ..ويتمكن فان كوخ بمساعدة الدكتور [هو] من قتل الوحش غير المرئي الذي تجسم لحظة موته..بما يشير الى تأثير الكتاب المنسوب الى عبد الله الحظرد في وقائع تلك الحلقة المثيرة..كما اثرت رواية الحظرد ومدينة ارم بسلسلة العاب الفيديو  المعروفة ب [انشارتد]،حيث يسافر ناثان دريك وصديقه فكتور سوليفان في الجزء الثالث من اللعبة الى صحراء الربع الخالي واليمن بحثا عن مدينة إرم ذات العماد..وقد وصلت مبيعات هذه اللعبة التي ظهرت عام 2011 بجزئها الثالث الى 17 مليون نسخة عام 2012..وفي متابعة اللعبة نلاحظ ان البطل ورفيقه حاولا الحصول على كتاب للورنس العرب تناول فيه أوبار آنفة الذكر وأشار الى إ رم ذات العماد تحت تسمية [اطلانطس الرمال]، وهي تسمية تعزى أيضا لمؤلف كتاب [بلاد اليمن السعيدة] والرحالة عبر صحراء الربع الخالي [برترام توماس]، كما نعلم من اللعبة الألكترونية نفسها أن الملكة اليزابيث الأولى كلفت امير البحر وبطل معركة الأرمادا مع الأسبان فرنسيس دريك بالبحث عن ارم ذات العماد في رحلة سرية الى جزيرة العرب..وفي الواقع التاريخي نعلم ان فرانسيس دريك لم يصل جزيرة العرب بل زار الفليبين والأميركيتين..ولم نجد مايؤكد إنه كان قد زار أحد الموانيء العربية ..مما يجعل اهتمام الملكة البريطانية بإرم مجرد ضرب من الخيال يضاف الى التفريعات والأستطرادات التي يحاول العديد من المؤلفين والكتاب إلحاقها بما لديهم من معلومات عن تلك المدينة الغائرة..

ويبدو ان الشخصيات الخيالية تقتضي امكنة وازمنة افتراضية او شبه مستحيلة على اقل تقدير وبخاصة في الغرب كشخصية الرجل الوطواط التي تتحرك في مدينة غوتام وجزئها الشمالي المعروف بأرخام، وكذلك مع معظم شخصيات الف ليلة وليلة حيث يتداخل عالم الجن والعفاريت بعالم البشر ومع معظم أساطير الأمم وبخاصة اساطير شعوب الشمال كأسطورة سيد الخواتم..ويبدو ان الغرب اكثر تولعا بابتكار الشخصيات الخيالية والعوالم الافتراضية من العرب وشعوب الشرق الاوسط لأنها تلبي في الغرب حاجة المجتمع الغربي الى الخيال من جراء هيمنة التنظيم العقلاني والتكنولوجيا على مفاصل الحياة ..فضلا عن دخول الشركات الرأسمالية الكبرى مجال التنافس في انتاج ألعاب الفيديو ومكائن تشغيلها..وهي تخاطب فئات عمرية مختلفة مما يجعل تجارة العوالم الأفتراضية سوقا رائجة ومربحة وجزءا لايتجزأ من الحضارة الغربية..في الوقت الذي تقتصر الشخصيات الخيالية في الشرق العربي على عالم الكتب والسينما والى درجة اقل المسرح..وبينما نجد للشخصيات الخيالية في العالم العربي جذورا في التاريخ والواقع، تفتقر الشخصيات الخيالية المبتكرة في العالم الغربي الى اية جذور تربطها بالواقع..مما يدفع الغرب الى الرجوع الى اساطير الشعوب الغابرة..ومأثوراتها في ابتكار عوالمه الخيالية وشخصياته الإفتراضية..ومنها شخصية عبد الله الحظرد المنسوجة من خيوط غير متجانسة اعتمدت المصادر العربية بالمقام الأول...

للعودة إلى الصفحة الرئيسية

4 Comments

الجذور التاريخية للتعدد الأثني

23/2/2014

2 Comments

 
الجذور التاريخية للتعدد الإثني في الحدود الشرقية للعراق

  صلاح سليم علي

Picture
خريطة هجرة الاجناس - (زوت)ـ
Picture
الاهواز و جنوب العراق
Picture
الجنس الاسود من البومحمد

مقدمة:

تعد منطقة الحدود العراقية مع ايران واحدة من أكثر مناطق العالم تعقيدا من النواحي الأنثروبولوجية  والإثنية والجغرافية والسياسية والحضارية مما اضفى الى تاريخ الأمم التي استوطنت بلاد الرافدين وايران طابعا خاصا أثر ومابرح يؤثر على العلاقات بين العراق وايران ويسقط ظلاله القريبة على الشرقين الأدنى والأوسط والبعيدة على دول الشرق والغرب ممن تؤثر وتتأثر بأقدار البلدين والسياسات التي تنتهجانها...غير أن العلاقات بين العراق وأيران تعد الأكثر تعقيدا وتشعبا عبر التاريخ وذلك لتجاور البلدين بخط حدود يبلغ 1.472 كلم،  فضلا عن وجود ما يقرب من 42 نهرا ورافدا وجدولا كانت تصب في العراق وبضمنها نهر "الوند" الذي يسهم بما يقرب من 40 بالمائة من نهر "ديالى"، بالإضافة الى نهر "الكارون" و "الكرخة" و "دويريج" و"الطيب" التي تصب في الاهوار او نهر دجلة قبل ان يعمد الجانب الايراني الى قطعها..

وبقدر تعلق الأمر بتكوين الأمم، لابد من الإشارة الى أن الشعوب والأقوام والأعراق المختلفة تغير اماكنها من منطقة الى اخرى عبر الأزمنة المختلفة والى ان سكان منطقة ما من العالم ليسوا في الأغلب هم السكان الأصليين لتلك المنطقة..ويصدق هذا على معظم مناطق العالم ..فقد استوطن العالم الجديد أناس غير سكانه الأصليين، واستوطن الأتراك بلادا كانت تتتوزعها امم اخرى كالحيثيين والحاتيين والأرمن والآشوريين والسكيثيين واليونانيين والقفقاسيين وغيرهم..غير ان الأمم التي استوطنت وادي الرافدين وأيران عديدة في كلا البلدين..ودرجة التجانس التي تصف الأمم التي استوطنت وادي الرافدين أعظم منها لدى الأمم التي استوطنت ايران ربما بأستثناء المناطق الحدودية بين البلدين التي شهدت تنوعا اثنيا هائلا سنتطرق اليه في هذه الدراسة..

**

تحميل و قراءة المقال كاملا :
الجذور التاريخية للتعدد الإثني في الحدود الشرقية للعراق
صور ملحقة بالمقال
*

الصفحة الرئيسة
2 Comments

قرصنة حقوق النشر والسرقة الأدبية في الشرق الأوسط

30/1/2014

17 Comments

 
قرصنة حقوق النشر والسرقة الأدبية في الشرق الأوسط

  صلاح سليم علي


إهداءالبحث : هديتي الى الكاتب العراقي الكبير الدكتور سيار الجميل تضامنا معه ازاء قيام احد االقراصنة بالسطو على احدى مقالاته..

 

مقدمة:
تعد القرصنة المقابل الضدي لحقوق النشر فكلما نالت الأخيرة احترام المترجم والكاتب والناشر، تضاءلت فرص القرصنة.. وكلما ازدادت فرص القرصنة، تضاءلت حقوق النشر..وفي الحديث عن القرصنة في الشرق الأوسط، لابد من الإشارة الى ان عددا قليلا من البلدان في منطقتنا اطلع المعنيون فيها على مفهوم حقوق النشر وقاعدته الأكبر المعروفة بحقوق الملكية الفكرية وهي حقوق يفترض ان تكون محمية من قبل المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي تضم 185 دولة موقعة على ميثاقها ومقرها في جنيف في سويسرا، غير ان عددا من هذه الدول تقود عملية القرصنة فيما يتعلق بحقوق النشر بل ان بعضا من هذه الدول ما برح يتجاهل وجود مثل هذه الفكرة والممارسات والتشريعات المرتبطة بها واخص بذلك ايران ولبنان والأردن ومصر وسورية وليبيا..وهنا لابد من التاكيد على ان مفهوم حقوق النشر ومهاده الأوسع حقوق الملكية الفكرية يرتبطان جوهريا بمسألة اعتبارية تتمثل بالمنظومة الأخلاقية بصفتها إحدى مكونات النظر الى العالم وتحديد سياقات واصول التعامل مع الآخر على اساس الإحترام المتبادل مما يجعل مسألة حقوق النشر مرتبطة ارتباطا نوعيا وجوهريا بمسألة حقوق الإنسان وكيفية تعامل الحكومات والمؤسسات والأفراد في الشرق الأوسط مع هذه المسألة..فعلى الرغم من كون الدول في الشرق الأوسط تتمتع بعضوية في المنظمة الدولية لحقوق الملكية الفردية ومنها حقوق النشر، فإنها تفتقر الى تشريعات تمنع او تعاقب التجاوز على هذه الحقوق..فالتشريعات ذات الصلة بحقوق النشر نراها اما غائبة كما هو الحال في ايران او توجد حبرا على الورق فالحكومات القليلة التي ادخلت مثل هذه التشريعات قامت بذلك مجاملة لمنظمة حقوق الملكية الفكرية او ميثاق بيرن لحماية الأعمال الأدبية والفنية والمعاهدة الدولية الخاصة بحقوق النشر وغيرها أو بدافع الدعاية او تحبيك القراصنة ممن يرفض اعطاء الحكومة حصتها من الغنائم او التظاهر صوريا للغرب بأن الدولة المعنية التي تخترق فيها حقوق النشر هي دولة ديموقراطية وليبرالية وتعد لبنان ومصر والإمارات العربية والأردن نماذج لهذه الدول..مع ذلك كله تاتي الدول العربية بالدرجة الثانية بعد ايران في قرصنة الكتب فقد بلغت نسبة الكتب المقرصنة في العالم العربي عام 2000، 65% من مجموع الكتب الصادرة وارتفعت هذه النسبة الى 75% عام 2001 حسب احصائية اللجنة العربية للملكية الفكرية فيما ذكر البحاثة السوري في معهد ماكس بلانك كنعان الأحمر..

القرصنة في الشرق الأوسط:

تعد القرصنة في الشرق الأوسط ممارسة قديمة، فهي تعود في العصر الحديث الى عشرينيات القرن الماضي عندما اقدم اللبنانيون والمصريون والسوريون وغيرهم باعادة نشر المخطوطات المخزونة في المكتبات والمتاحف والمدارس الدينية بنسخ مطبوعة وعرضها في الأسواق بأسعار باهضة..ومع توالي العقود، تطورت هذه العملية حتى اصبحت القرصنة حرفة متخصصة شملت الشرق الأوسط بأكمله حيث شرع الكثير من دور النشر والكتاب بترجمة الأدبيات المدونة بلغات اوربية، وعرضها في اسواق مصر وسورية ولبنان والعراق بدون اي ترخيص من الكتاب او أصحاب حقوق النشر أو دور النشر الأوربية التي قامت بنشر الأصول..ومن الأعمال المترجمة ماظهر تحت عناوين غير عناوينها الأصلية ككتاب ادمند روستاند [سيرانو دي برجراك]الذي ترجمه المنفلوطي بتصرف شديد ليظهر في الأسواق تحت عنوان [الفضيلة]..ومسرحية هنريك ابسن [الأشباح] التي سلخها علي احمد باكثير في روايته "السلسلة والغفراان"....وعلى النحو نفسه كانت المسرحيات تتحول الى روايات والروايات الى مسرحيات ...ولأن معظم الأعمال الكلاسيكية الأوربية متوفرة بطبعات عديدة ومتكررة بدون غطاء من حقوق النشر، عمد المترجمون العرب الى ترجمتها بدون رجوع الى دور النشر الأجنبية فامتلأت السوق العربية بترجمات تجارية لديكنز وهوغو ومولير وبرناردشو وابسن وهمنغواي والعديد من كتاب وأدباء القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وترتب على ذلك ان العديد من القراء العرب باتوا يعرفون اسماء باتها قبل القاريء الأوربي كالبير كامي وسارتر والكسندر دوماس واميل زولا وفلوبير والبرتومورافيا وكولن ولسون  وغيرهم وباتت كتبا مثل اللامنتمي وكفاحي ودون كيشوت وجمهورية فلاطون  وغيرها تباع الى جانب روايات نجيب محفوظ ومسرحيات الحكيم..وكانت السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مرحلة هذا النوع من السرقات الأدبية وازدهار سوقها..ولكن تلك المرحلة لم تخل من ترجمات رصينة لمترجمين مصريين ولبنانيين ومنها ترجمة الناقد الأردني الكبير الدكتور احسان عباس ل[ موبي دك]..وترجمات الرواد المصريين للفكر الفلسفي والموسوعات الكبرى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي التي اضافت الى جيل الرواد وجهود الهيئة المصرية العامة للكتاب التي اسست عام 1971 ثروة معرفية كبيرة.. فاصبح ممكنا للقاريء العربي قراءة [نقد العقل المجرد] لكانت و[رأس المال] لكارل ماركس و[أصل الأنواع] لداروين و[قصة الأدب] لأحمد أمين وبدرشاكر السياب باللغة العربية الى جانب ابداعات عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وزكريا ابراهيم وأحمد فؤاد الأهواني وغيرهم ..وبينما لم تسند ترجمة المؤلفات الكبرى مشروعية الحصول على حقوق ترجمة و نشر ك[صروح الفلسفة] لول ديورانت الذي ترجمه احمد فؤاد الأهواني بعنوان [مباهج الفلسفة] واخرجه بمجلدين بغلاف عادي، كانت المؤلفات المبتكرة ك[الشرق الفناني لزكي نجيب محمود و[الزمان الوجودي] و[الموت والعبقرية] لعبد الرحمن بدوي، على سبيل المثال وليس الحصر، لاتحتاج الى حقوق نشر من جهة اجنبية..وهي مؤلفات رائدة غاية في الروعة والفرادة لم يعمد احد الى اعادة طباعتها..
فغني عن القول ان حقوق النشر هي واجب اخلاقي وهي كبقية الإلتزامات الاخلاقية يتوجب الإقرار بها تماما كالإقرار بالمباديء الأخلاقية والعمل بموجبها من قبل الحكومات والأفراد، والتشريعات تاتي بالدرجة الثانية او تأتي فيما بعد. والملاحظ ان هناك غيابا مطلقا لحقوق النشر في العالم العربي وايران وضرورة حماية هذه الحقوق من القرصنة.. كما لايوجد دافع من قبل المؤسسات التشريعية في هذه البلدان لوضع قوانين حماية هذه الحقوق وفرض عقوبات على من يتجاوزها.. كما لايوجد وعي اجتماعي بهذه الحقوق ويعتقد العديد من الناس ان القرصنة [الخمط في العامية الموصلية] هي الطريق الأسهل لإكتساب المعلومت وتداولها..
مع ذلك فقوانين الطباعة ليست بالظاهرة حديثة العهد في الشرق الأوسط إذ يعود قانون حماية المطبوعات [ وليس حقوق النشر] الى عام 1870، عندما اصدرت الحكومة العثمانية قانون حماية المطبوعات في سياق التنظيمات العثمانية الثانية، وبتوجيه اوربي واضح..وتناول التشريع العثماني حرية الصحافة.ولم يكن هناك في ذلك الوقت اكثر من مطبعتين في الدولة العثمانية الأولى مطبعة بولاق في القاهرة والثانية المطبعة الحجرية في اسطنبول..لكن قرصنة حقوق النشر لم تكن قد بدأت آنذاك بعد، لأن فن الطباعة عينه كان في باكورة عهده في الشرق لأوسط..كما ان مفهوم الحقوق نفسه كان غائبا عن عقول الناس واهتماماتهم..وكانت مصر الرائدة في وضع اول قانون لحماية حقوق النشر في العصر الحديث على عهد جمال عبد الناصر، وذلك عام 1954، اي بعد مرور قرابة 80 سنة على اصدار اول صحيفة في العالم العربي..وقد اجري تعديل على هذا القانون في اعقاب الثورة الرقمية واستخدام الحاسوب ..ثم اعقبت لبنان مصر فالعراق فسورية فالأردن وأخيرا دولة الأمارات في اصدار تشريع حول حماية حقوق النشر...غير ان هذه القوانين لم تحول دون اعمال القرصنة لأنها مجرد حبر على ورق في البلدان التي وضعتها..
كما وضعت الثورة الحاسوبية اداة ميسرة بيد القراصنة لأستنساخ وسلخ النتاج الأدبي والفني ما جعل القرصنة فنا متخصصا ومزدهرا قائما بذاته..كما ادى تطور القرصنة وتشعب وسائلها واهدافها الى تمكين القراصنة من ايجاد تبريرات وقواعد وفلسفة خاصة بهم..

مبررات قرصنة حقوق النشر:

ان القوانين لامعنى لها اذا ما هي شرعت لمجتمع لايحترمها..ولكي يتم احترام حقوق النشر، فأن من الضروري ان يكون لدى المجتمع  منظومة من القوانين الخاصة بحقوق الانسان وهذا ماتفتقر اليه معظم بلدان الشرق الاوسط ان لم اقل كلها.. فايران والعراق وسورية ولبنان من بين الدول التي تتجاوز مسألة الحقوق لتبتكر تبريرات عديدة لقرصنة حقوق النشر.. ومن هذه التبريرات ما يوضع في سياق اهداف انسانية..وابرز هذه التبريرات:

1.  توفر القرصنة المعرفة باسعار زهيدة.. بمعنى ان استنساخ كتاب سيجعل المستنسخ يدفع ثمن الاستنساخ للمستنسخ فقط اي ثمن الورق والحبر وليس المحتوى او المضمون الفكري والمعرفي..والنسخة تكلف 10% فقط من سعر الكتاب وبذلك توفر للمستنسخ او المستهلك 90% من سعر الكتاب..ويفضل البحاثة وطلبة الجامعات والمعاهد اقتناء نسخة لأن المكتبة توفر نسخة واحدة من الأصل او لاتوفر اية نسخة بينما يوفر جهاز الاستنساخ او الأنترنت في حال توفر نسخة الكترونية مئات او مئات ألوف النسخ من الكتاب الأصل نفسه..

2. كسر احتكار المعرفة..هنا يرى قراصنة الشرق الأوسط الناشرين والمؤلفين على انهم احتكاريين للمعرفة .. وتعد جهات يسارية بأن بعض الأعمال تخضع لتسعيرة راسمالية باهضة وتتخذ هذه الفكرة في الدول النامية بعدا سياسيا اذ يصور الناشر على انه امبريالي يتعمد ابقاء الشعوب في حال من التخلف بحجم المعرفة عنها مما يجعل استنساخ الكتب وتعميمها عملا ثوريا ينطوي تحت طائلة النضال ضد الإحتكار والأمبريالية..

3. تجاوز الشروط والإلتزامات المترتبة على الحصول على حقوق الشر والترجمة بطرق مشروعة..اذ يعتقد القراصنة ان الغرب يحجب عنهم المؤلفات العلمية والاكاديمية بهدف ابقائهم على حال من التخلف وعقدة النقص وان وضع شروط وفرض االتزامات مالية على حقوق النشر والترجمة ماهي سوى حلقة من حلقات الإستعمار الثقافي مما يجعل القرصنة اسلوبا لتوفير المال والمعرفة بالوقت نفسه..

4. تحقق القرصنة منافع اقتصادية كبيرة للقراصنة، فالقراصنة  يدخلون سوق الكتب بصفة تجار مسالمين وهم  في  حقيقتهم سراق متخصصين: فهم يقتطعون 10% من سعر الكتاب هي حق المؤلف او المترجم و 10% من سعره هي كلفة تحرير الكتاب وتصميمه واخراجه و30% الى 50% من سعره هي تكلفة الجوانب النوعية للكتاب كحجمه وتغليفه ..اذ يعمد القراصنة الى الغاء جلاد الكتاب في طبعته الأصلية وتعويضه بجلاد كارتوني او ورقي رخيص الكلفة قبل عرضه للبيع في نسخ مقرصنة مضاعفة في السوق بدون تغيير على تصميم نسخه الأصلية وحجم الورقة او الحرف شكلا وسمكا..

5. مقارعة الأمية الحضارية: تعد الطباعة في الشرق الأوسط ظاهرة حديثة العهد نسبيا..فقد استقدمت في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اي بعد استخدامها في الغرب ب 400 سنة..ويحدد العديد من الحكومات في الشرق الأوسط ومعها ايران سياستها الثقافية بضرورة اللحاق بالغرب وتقليص الهوة بينها وبين الدول الغربية على الصعد العلمية والتكنولوجية والثقافية بكل الطرق المتاحة، مما جعل معظم هذه البلدان تتبنى سياسات محو الأمية وتنتهج الزامية التعليم..الأمر الذي شجع العديد من هذه البلدان وفي مقدمتها ايران الى تشجيع وليس تحريم القرصنة او منعها.. بل أن العديد من هذه الدول ينطر الى تشريعات حقوق النشر على انها خرق صريح  لحق الحصول على المعرفة وتبادل المعلومات والمعارف ونشرها بين الناس.. فحقوق النشر في نظر هذه الجهات تفضي الى تصعيد اسعار الكتب لصالح الناشر والمؤلف مما يؤدي الى امتناع القراء من شراء الكتب وهذا يؤدي بدوره الى الهبوط بالمستوى الثقافي والحضاري للأمة..

ومن المفارقات المثيرة ذهاب بعض المؤسسات والمراكز الى الدفاع عن حقوق القراصنة ضد الناشرين والكتاب وكمثل على ذلك قيام مركز الأرض  لحقوق الإنسان ومكانه القاهرة في اصدار تعميم نشرته دار الشروق في 20-11-2005 يتناول انتقاد الأصوات الداعية الى حماية حقوق النشر بذريعة ان هذه الحقوق تحد من حقوق المواطن بتبادل المعلومات، تحت طائلة اعتبارات اخلاقية واهية..بل وصلت الهجمة لصالح القرصنة حدودا غاية في اللامعقولية والتطرف عندما قام الزعيم الروحي آية الله خميني بإصدار فتوى تحرم حقوق النشر.. مما يجعل القرصنة عملا مشروعا وجعل ايران الدولة الأولى في لائحة القرصنة على حقوق النشر وكانت ذريعة الفتوى التي اصدرها الزعيم الروحي لأيران في شرعنة طباعة ونشر الكتب بدون الحصول على حقوق نشرها من مؤلفيها وناشريها ان الاسلام لايحرم نشر الكتب التي تخدم العلم وتنفع المسلمين.. ولا انوي التوغل في الجوانب الفقهية لهذه المسألة لوجود احاديث تجيز طلب العلم ولو كان في الصين ..ولكن هذه الأحاديث سبقت كثيرا العصر الحديث وقوانين حقوق النشر التي روج لها الغرب الذي يعد في نظر الكثير من الناس غربا [كافرا]..وعندما وجه السؤال حول جواز طباعة الكتب وترجمتها ونشرها بدون الحصول على حقوق الترجمة والنشر، نفسه الى سيد علي الخامئني الذي خلف الخميني في سلطته الروحية على ايران، اجاب ساخرا بسؤال هو: ولكن ماهو الحق؟ مما حول ايران الى اكبر وكر لقرصنة حقوق النشر في العالم..وتعد دور نشر قم ومنها على سبيل المثال [دار لسان الصدق] و[دار الروح الأمين] من اكبر مراكز مافيات الكتب في ايران والعالم، وقد تحولت بيروت وبعدها بغداد الى مراكز لعرض الكتب الأيرانية المقرصنة وترويجها، وعندما ترفع الشكاوي ضد القراصنة الأيرانيين، تتدخل السفارة الأيرانية لصالح القراصنة فالقرصنة هنا ترتدي قناع العقيدة بحكم فتوى فقهية ولاسبيل الى رفضها..
وتظهرالوجهة الثانية للعملة العديد من الكتاب العراقيين ممن سرقت اعمالهم من قبل جيرانهم فنجد كتبهم تظهر في اسواق لبنان ومصر وايران ولكن باسماء اخرى .. وغالبا مايكتب القراصنة على اغلفة الكتب المسروقة عبارة طبعة اولى ومعها رقم تسلسل وتاكيد مفاده ان الحقوق محفوظة كلها للمؤلف أو للناشر..وتشمل ضحايا القرصنة اسماء كبيرة في الثقافة العراقية كعلي الوردي وحنا بطاطو وعباس العزاوي وغيرهم... ولعل الأسوأ في اعمال القرصنة هذه،  تعمد الناشر القرصان في تغيير المعلومات التي تتعارض آيديولوجيا وتاريخيا مع آيديولوجية دولته .. وهذا ماحدث في نسخة ايرانية مقرصنة لكتاب [العراق بين احتلالين] للأستاذ عباس العزاوي.. ومن مؤسسات القرصنة الأيرانية [دار الشريف الرضي] و[انتشارات المكتبة الحيدرية] وكلتيهما في قم،  اذ يندر ان نجد كتابا في التراث الإسلامي العربي اوالفارسي لم تقرصنه دار الشريف الرضي لتقوم دار انتشارات الحيدرية بنشره وتوزيعه..ومن الكتب المقرصنة والمعروضة للبيع في مكتبات العالم في الشرق الوسط وحتى في مكتبة الساقي في لندن [الإمتاع والمؤانسة] للتوحيدي الذي طبع أصلا في دار الحياة في بيروت عام 1972، و[النقود الاسلامية] للمقريزي الذي طبع اصلا في المكتبة الحيدرية في النجف الاشرف [وهي غير حيدرية قم]، و[الإمامة والسياسة]، و[تاريخ الخلفاء] لأبن قتيبة وقد طبع اصل هذذا الكتاب  في مكتبة المثنى في بغداد وبتحرير كوركيس عواد عام 1954، وكذلك كتاب [العراق بين احتلالين] الذي اصدرته المطبعة الوطنية بينما اعادت ايران في نسخة مقرصنة طباعة هذا الكتاب الرائع بتغيير تفاصيل كثيرة فيه كتحويل عبارة [الخليج العربي] حيثما وردت فيه الى عبارة [الخليج الفارسي] في تجن صريح على المؤلف والقاريء وحقائق التاريخ والجغرافيا ..وكتاب [اربعة قرون من تاريخ العراق] بقلم ستيفن لونكريك، الطبعة الرابعة، في نسخته المعربة بقلم جعفر الخياط عام 1968، والعديد من الكتب الأخرى، وهناك حالات ينسى فيها الناشر القرصان مسح مكان وتاريخ الطبعة الأولى للكتاب في نسخته المسروقة مما يفضح سرقته.. وفي واقع الحال فإن مايحدث في قم هو خرق صريح لحقوق الملكية الفكرية للأمم المجاورة والمشاهد ان دمشق والقاهرة وبيروت وعمان [الأردن] تحتذي حذو قم في اعمال القرصنة اللامسؤولة هذه..
اما رابطة الناشرين العرب التي اسست عام 1994-1995 فهي اشبه بمركز بحوث التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في اسطنبول او بمنظمة المؤتمر الإسلامي فهي مؤسسة تبدي ارتياحا في النقد الذاتي الموجه للقرصنة فحسب وسعيها الرئيس استحصال التبرعات الخيرية من الدول الاسلامية الثرية والانشغال في معارض الكتب المقرصنة، عن علم او بدونه،  بين حين وآخر..

انواع القرصنة:

بينما تعد حقوق النشر، مصطلحا ومفهوما، امرا جديدا في الشرق االأوسط، فأن السرقة الأدبية [في تقعيدها ونظريتها]  تعود الى القرن الثامن للميلاد.. وقد يطلق على السرقة الأدبية مصطلحات تلطيفية كالإستعارة والإقتباس والتضمين والتقليد والمحاكاة، غير ان المعنى واحد لايتغير وهو سرقة اعمال ادبية وانتحالها بوضع اسم غير اسم صاحبها ومنتجها الأصلي عليها.. ويعد النقاد العرب الأوائل السرقة الأدبية على انها الشكل السائد للقرصنة في عصرهم..والملاحظ ان اساليب رصد وتصنيف اشكال السرقة الأدبية في عصرهم لا تختلف كثيرا عن اساليب رصد وتصنيف السرقات الأدبية في عصرنا اختلافا جوهريا..ويميز النقاد العرب بين ثلاثة انواع من القرصنة هي:

الإنتحال: اخذ المعنى مع جزء من الصياغة الأصلية او كلها.

النسخ:  اخذ المعنى مع تغيير صياغة النص الأصلي.

السلخ: اخذ المعنى ووضعه بصياغة جديدة تختلف تماما عن صياغة النص الأصلي


وهي انواع مكشوفة ... بينما يرون ان السرقة الأدبية قد تكون أدهى واخفى من ان تلاحظ بسهولة ويوفرون الأنواع الآتية لهذا النوع من السرقات الأدبية:

1. الأخذ: وهو ان يؤخذ معنى النص ويوضع في سياق مختلف تماما.


2. الإغارة: وتعني التوسيع وهو ان يقوم القرصان بتوسيع النص الأصلي بحيث تأتي نسخته اكثر تفصيلا وتنويعا وتشعبا من الأصل.

3. العكس: تقديم نص يتناقض بمضمونه مع النص الأصلي اي كتابة نص نقيض.

4. التنكير: ويتمثل بأخذ جزء من النص الأصلي والأضافة اليه زخارف وتنميقات بحيث يبدو نصا مختلفا عن الأصل..والمصطلح هنا مأخوذ من القرآن حيث نكر الجان عرش بلقيس بحيث يبدو وكأنه عرشا آخر.

5. التوسيع والتحجيم: ويتمثل بالإضافة الى تعميم الخاص وتخصيص العام، اضفاء تفاصيل جديدة على النص الأصلي او اجتزائه بطريق الحذف..

وهكذا فباللجوء الى اساليب التلاعب النصي القريبة من الأوهام البصرية وطرائق المخادعة والتمويه الستراتيجي، ازدهرت السرقة الأدبية في العالم العربي  اذ تتماثل الأساليب التي يعتمدها سراق النصوص وقراصنتها بأساليب السحرة والخبراء بالتمويه الستراتيجي حيث تنطبق المصطلحات نفسها على الميدانين باعادة تكوين نمط سابق وايجاد نمط جديد باضفاء او انقاص او تحوير او تمويه تفاصيل معينة بحيث تعطى النسخة المزورة خصائص تجعلها اقرب الى الأصل او مماثلة له..ويقدم احد النقاد في العصر العباسي 18 نوع من انواع السرقة الأدبية..فلاغرابة ان يستثمر القراصنة المعاصرون الأساليب القديمة ويطورونها من خلال الإستفادة من الوسائل الرقمية المعاصرة كالأنترنت والأستنساخ  والتحكم بالشكل واللون والإخراج..
وبمقدورنا ان نميز في اساليب القرصنة الأدبية الحديثة  نوعين رئيسين هما السرقة او القرصنة الظاهرة والسرقة او القرصنة الخفية:
ونميز في القرصنة الظاهرة انواع ثلاثة هي الأكثر تكرارا في العصر لحديث:

1. قرصنة الأعمال الكلاسيكية [القديمة] والمخطوطات:

جرت العادة على الإحتفاظ بالمؤلفات القديمة في اللغة العربية بالمتاحف والمكتبات العامة والشخصية والجوامع والمدارس القديمة في العالم الإسلامي..وتعد هه المؤلفات والمخطوطات جزءا من التراث القومي للأمم وبالنتيجة يكون الحصول عليها لغرض الإستنساخ اليدوي او الآلي او الإستعارة محدودا للغاية وتحكمه ضوابط وشروط محددة كثيرة على الأغلب..مع ذلك يعهد بهذه المؤلفات والمخطوطات للبحاثة والمتخصصين لأغراض التحقيق والصيانة  ولأخراجها بطبعات حديثة للصالح العام..ولأن نسخا من المؤلفات القديمة ولمخطوطات النادرة قد توجد في الهند أوتركيا أو المغرب أو ايران أو المتاحف العالمية الكبرى كالمتحف لبريطاني ومتحف اللوفر او المكتبات الكبرى في الدول الأوربية وبخاصة هولندة واسبانيا وموسكو التي انتقلت اليها العديد من المخطوطت بطريق اردبيل، اضافة الى مدن العراق ومكتباته ومتاحفه، فإن الدارسين والبحاثة يترتب عليهم السفر عبر القارات لمقارنة النسخ المتوفرة كلها للمخطوطة المراد تحقيقها مما يجعل عملية تحقيق مخطوطة وتحريرها مهمة مكلفة وصعبة للغاية..وعندما يتم انجاز هذه المهمة ويصار الى اخراج االمخطوطة بكتاب جديد وبهيئة وملمس مختلفين، يعمد قرصان في ايران أواماكن اخرى الى اقتناصها وقرصنتها فيضع عليها سعرا ويكتب على غلافها عبارة [طبعة جديدة ومنقحة] ولاينسى ان يكتب في الصفحة الداخلية او في ظهر الغلاف تحذيرا ضد اعادة طباعتها على ان حقوق النشر محفوظة له فيصدر منها آلاف النسخ ويعرضها للبيع في اسواق الكتب في كل مكان في العالم..وعند نفاد الطبعة الأولى للنسخة المقرصنة يصدر القرصان نفسه او قرصانا آخر طبعة ثانية وبنوعية اردأ من الورق بتحذير مزور جديد حول حقوق نشر محفوظة للكاتب او الناشر وبغلاف جديد بالتصميم نفسه او بتصميم مختلف  ليبيعها بسعر مماثل او مختلف بدون معرفة المحرر او المحقق الذي امضى سنوات في تحرير الأصل وتحقيقه..والأدهى ان نأتي لنجد اسم محرر آخر على الطبعة الثالثة بما يرقى الى سرقة الهوية وهذا يدخلنا بنوع آخر من السرقات الأدبية حيث تعاد  طباعة المؤلفات بدون موافقة الناشر او المؤلف الأصلي ..ويحمل الكتاب اسم ناشر او مؤلف أو محرر آخر في الوقت الذي يكون أحد هؤلاء أو كلهم في غياهب السجن او الموت او النسيان..
ولابد من الإشارة، بقدر تعلق الأمر بالمخطوطات، ان آلاف المخطوطات العربية هاجرت من الحلة والنجف بل ومن الموصل  الى جبل عامل [جنوبي لبنان] ومن جبل عامل الى ايران ومنها ما هاجر الى ايران بدون المرور بجبل عامل خلال فترة الحكم الصفوي وان هذه المخطوطات لا تغطي الأدبيات ذات الصلة بالمذهب الشيعي فحسب بل بمواضيع مختلفة تتضمن العلوم والتاريخ والبلدانيات والآداب واللغة والقواعد وعلوم القرآن وغيرها..ويعود السبب في ذلك الى محاولة الصفويين الين يجهلون القواعد المعرفية للمذهب الشيعي الذي اعلنوه دينا لأيران استقطاب علماء الشيعة وجلبهم الى ايران مما جعل من أردبيل عاصمة اذربيجان الأيرانية الصفوية واصفهان عاصمتهم اللاحقة مذخرا للمخطوطات الإسلامية التي وفدتها مع المهاجرين الشيعة ليس من العراق وجبل عامل فحسب بل من الهند والبحرين ايضا..الأمر الذي وفر مادة اولية هائلة للسرقة الأدبية تعتمد أصولا غاب كتابها في مجاهل التاريخ ودهاليزه الغائرة..ولا نستبعد ان يسطو قرصان على قرصان آخر في سلسلة من القرصنة يتم خلالها مسخ العمل الأدبي مسخا كليا بحيث تنحصر معرفة أصوله على مؤلفه الأصلي ودائرة ضيقة من معارفه فحسب..

2. القرصنة الترقيعية او القرصنة بطريق التجميع:

كالفيروسات الحاسوبية، يميل القراصنة الجدد الى البحث الدائم عن صيغ مبتكرة في ممارسة نشاطاتهم القرصنية..فقد شهد العالم العربي نهضة هائلة وغر مسبوقة في انتاج المجلات والدوريات والصحف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن الدوريات والمجلات التي استمر اصدارها حتى ستينيات بل وثمانينيات القرن الماضي المشرق والهلال والمختار والأستاذ والمواقف وغيرها على الصعيد القطري والمحلي..وكانت تلك المجلات تحتوي على سلاسل مقالات متصلة وكتيبات [مونوغرافات]  ومقالات مطولة وتحقيقات بدون ان تتصل بها اية حقوق نشر ..وبدهي أن القراصنة لايقفون ازاء هذا النتاج الثر مكتوفي الأيدي..بل سيبادرون حتما الى اقتناص  مايمكن ان يصار الى ترتيبه في مصفوفة من مقالات متماثلة تحت طائلة عنوان او موضوع مشترك كأن يكون ادب المهجر او الأدب الأندلسي او مشكلة الإنتحار ومالى ذلك ثم يضعون هذه المصفوفة في غلاف جديد وبعنوان جديد ويزودون الكتاب بأسم مؤلف او مؤلفون جدد..ثم يصدرون الكتاب مفردا او على شكل سلسلة تماثل سلسلة عالم المعرفة او سلسلة كاتب وسيرة او صور من التراث .. وبذلك يحصل القرصان على حماية قانونية بصفته محافظا يحرص على التراث من الضياع..

3. القرصنة عبر الأجناس الأدبية المختلفة:

ويتمثل هذا النوع من القرصنة بنقل مواد رقمية او برامج تلفازية او افلام  الى مادة ورقية وبالعكس.. وقد يلجأ القرصان الى تحوير رواية الى مسرحية ومسرحية الى رواية..او يغير نصا شعريا الى نص نثري بما يسمى بحل [حلحلة]  الشعر..وهذا النوع من القرصنة ذائع الإنتشار في الأوساط الأكاديمية والجامعات والمعاهد في العالم العربي..إذ يوفر عدد من الجامعات والمكتبات والمعاهد العليا في الغرب نسخا الكترونية لكتب عديدة وفي حقول المعرفة المختلفة مما فتح بابا كبيرا على مصراعيه للقراصنة الذين بدأوا عملية اغتراف واسعة من منهل مجاني لاحدود له ولا رقيب عليه..وعملية القرصنة هنا لاتحتاج لغير طابعة الكترونية متوفرة وباسعار زهيدة لنقل الكتاب الرقمي الى كتاب ورقي تتلخص مهمة السارق بتغليفه وتجليده وعرضه للبيع بسعر يختاره له بنفسه..وبذلك اصبح ميسورا نقل  اعمال حديثة في التاريخ والسياسة وعلوم النفس والإجتماع .. وهي كتب باهضة الثمن في نسخها الأصلية والحصول عليها لا يتوفر من مضانها الغربية الا بواسطة مكتبات تدفع بسخاء للحصول عليها ووضعها في رفوفها..

أما القرصنة الخفية التي تستهدف الأعمال المترجمة او تسعى لترجمة المؤلفات من لغات اخرى فتقع باربعة انواع وكالآتي:

1. القرصنة الأدبية: ينتشر هذا النوع من القرصنة في الشرق الأوسط وفي دول آىسيوية عديدة كالهند والصين والباكستان انتشارا واسعا..ففي العالم العربي، يعمد القراصنة الى اعادة نشر ترجمات الأعمال الأدبية المنجزة في مصر او لبنان وغيرهما من الأنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية الى العربية.. وتشمل هذه الأعمال الروايات والمسرحيات  والقصص القصيرة بدون معرفة الناشر الأصلي او ممتلك حقوق النشر وبدون اي ترخيص منهما.. وفي حال عدم توفر ترجمة لهذه الأعمال يعمد القراصنة الى تكليف مترجمين تجاريين بالقيام بترجمة هذه الأعمال ترجمة تجارية زهيدة تتلف الجوانب االإبداعية والفنية في الأصل المؤلف بلغة  اجنبية.. ويستغل القراصنة في هذه الفئة من القرصنة البعد الزمني والمكاني وحاجز اللغة فضلا عن ضعف المواصلات والإتصالات في العقود الأولى من القرن العشرين..ولايستبعد ان تكون بعض الترجمات العربية منقولة عن ترجمات اخرى باللغات التركية او الأئرية او الهندوستانية مما يقتل النص الأصلي مرتين ويسلبه روحه وجماله..وقد ازدهر هذا النوع من القرصنة في مصر ولبنان منذ العقد الثالث وحتى تسعينيات القرن العشرين..

2. القرصنة الأكاديمية: ينحصر ها النوع من القرصنة على الأوساط الأكاديمية والجامعات والمعاهد العليا حيث يتجه القراصنة ومعظمهم ينقصه الإحتراف ولأغراض غير ربحية الى الأطروحات العلمية المتوفرة في الجامعات وفي المكتبات الألكترونية وغيرها فيعمدون الى ترجمتها الى اللغة العربية بهدف تضمين ما تحتويه من معلومات في اطروحاتهم  للحصول على شهادة اكاديمية...وقد يلجأ القراصنة تحت هذه الطائلة الى تجميع مادة اطروحاتهم من أكثر من مصدر بما يتضمن الدراسات المنشورة في دوريات علمية وبأكثر من لغة وأطروحات وكتب يترجمون مايكفي ويتفق منها مع منطوق الأطروحة ثم تقدم المحصلة باللغة العربية على انها ثمرة مجهودات القرصان الذي يحصل على شهادة ليس في القرصنة بل في موضوع اختصاصه كما طورته مؤسسات أخرى ودارسين آخرين..وغالبا مايختفي القرصان من هذا النوع وراء حاجز اللغة او اللغات التي دونت فيها النصوص الأصلية..وقد ادى ها النوع من القرصنة الى تضحيل المستوى الأكاديمي للعديد من الجامعات العربية وابقائها في حال من الفوضى والتخلف..

3. القرصنة المسخية او التحولية: يمر الكتاب المراد قرصنته في هذا الضرب من القرصنة بثلاثة تحولات او انمساخات. فالكتاب المؤلف من قبل كاتب جيكي او روسي او صيني او اميركي لاتيني والمترجم الى الإنكليزية يصار الى ترجمته الى العربية او الفارسية او التركية او غيرها من اللغات الشرقية..والمترجم في الحلقة الثالثة من التحولات قد يكون مأجورا من قبل قرصان مما يجعل الترجمة في حلقتها الأخيرة خالية من اية إشارة الى اصلها قبل التحولات ومكتظة بالأخطاء الأسلوبية والحضارية بينما تفضح الملامح الإشارية فيها كالأسماء والشخصيات والحوادث اصولها قبل انمساخاتها .. كما يتيسر للقاريء اكتشاف التغيرات التي احدثها المترجم لأعطائها صبغة محلية تنسجم مع المتلقي الأخير في حلقتها الأخيرة..بما يماثل الى حد ما دبلجة الأفلام والمسلسلات عبر اكثر من لغة..وكمثال على تلك الإنمساخات قصة [الواثق] لوليم بكفورد التي كلف بترجمتها هنلي الذي ترجمها من العربية "كونها قصة من قصص الف ليلة ليلة، الى الفرنسية ثم عمد بكفورد الى ترجمة النص الفرنسي الى الإنكليزية وزعم انه مؤلف الرواية التي اسماها (فاثك) - بتحويل الواو العربية الى فاء  اعجمية والقاف الى كاف" – [وقد جئنا ببراهين في بحث كرسناه لهذه القصة تؤكد بأن اصول هذه القصة  تعود الى حكاية مفقودة من الف ليلة وليلة وان بحثي هذا نشر في اللغة الإنكليزية في الدورية الإسلامية على سبيل الخطأ بإسم كنت استعرته لبريدي الألكتروني السابق].

4. الكولاج او القرصنة بطريق "النسخ واللصق":

يقوم القرصان في هذا النوع من القرصنة بتجميع مواد من مصادر متنوعة بطريق نسخها وطبعها مجددا ليشكل موضوعا متكاملا من مواد مبعثرة، ويبدو المنتج النهائي اشبه بنخبة مختارة او انثولوجيا او مجموعة  من المقالات او القصائد او المسرحيات ذات المشهد الواحد..ومصادر الكولاج غالبا ماتكون غاية في التنوع والإختلاف اذ تتراوح من المواد المنشورة في الشبكة العنكبوتية [الأنترنت] الى الدوريات والمجلات والأعلانات  والأفلام..ويشمل مجاله [الكولاج] النتاج الإنساني الأدبي وغير الأدبي بأكمله.

القرصنة العقربية:

وثمة نوع من القرصنة يتكرر احيانا في الأوساط الأدبية المحلية اشبه بالإقتناص أو الإختلاب او لدغة العقرب، إذ يعمد احد الكتاب سعيا منه الى الشهرة وليس الى الكسب المادي الى اقتناص مقالة لزميل له او لكاتب معروف [كما حدث عندما قرصن احدهم عملا للمؤرخ والمفكر العراقي الشهير الدكتور سيار الجميل في الآونة الأخيرة]..ويرسلها الى احدى الدوريات أوالمجلات او المواقع الألكترونية بأسمه..ظنا منه ان هذه السرقة لن تظهر وان الكاتب الأصلي لها لن يطلع على المجلة او الدورية او الموقع الألكتروني الذي نشرت مجددا فيه..وهو نوع من القرصنة تعرض له العديد من الكتاب المعاصرين ومنهم كاتب المقال..ولايعدو هذا النوع سوى ضرب من الإيذاء الشخصي الذي يلحق الضحية فيما يتفاخر القرصان بجزء من فكروجهد شخص آخر يعجز عن محاكاته او اتخاذه قدوة ابداع يتعلم منه الحرية العقلية وفن الكتابة الخلاقة..

 الآثار السلبية للقرصنة:

يتصرف القراصنة على نحو مماثل لمسلك دود العلق والأرضات والطفيليات..فهم ليسوا موهوبين في طبيعتهم بل مخادعين لايمكن لتجارتهم ان تنجح او تزدهر إلا على حساب مايحدثونه من ضرر وخسائر باطراف أخرى..والتاثيرات السلبية لقرصنتهم لا تلحق بضحاياهم المباشرين  اي المؤلفين والمترجمين والكتاب والفنانين والناشرين الملتزمين فحسب بل تتجاوزهم الى المجتمع بأسره، وفيما يأتي بعض التاثيرات السلبية للقرصنة:

1. تحرم القرصنة المبتكر من الإستفادة من ثمرة جهده في انتاج مؤلفه:
وهذا ما ينطوي في الأغلب على أحباط مصحوب بوأد للدافع الإبداعي لدى الكاتب..فكلنا يعلم الأعباء التي يترتب على الكاتب تحملها في سبيل انجاز مشروعه الكتابي، فإن هو [رجلا كان أم إمرأة] لم يجن ثمرة مجهوداته، فإنه سيحبط وقد يتوقف عن مواصلة التأليف او الترجمة.

2. تؤدي القرصنة الى ارتباك في علاقات العمل وتعرقل نجاح الكتاب وقد تفضي الى نزيف الأدمغة [هجرة الكتاب الى خارج اوطانهم]:

إن جانب من شهرة الأمم وامتيازها على الأمم الأخرى يرتكز على النتاج الأدبي والفني لأبنائها، ويعتمد هذا النتاج في جوهره على سلامة العلاقات الإجتماعية وعلاقات العمل التي تربط الكاتب ببيئته، فإن استلب الكاتب او الفنان من ثمرة عمله، فأنه سيسعى الى تعويض ذلك في بيئة أخرى قد يلاقي نتاجه مكافأة مجزية فيها..وقد يغير لغة خطابه فيتحدث بلغة البلد المضيف مما يوجه انتاجه ليصب في مجتمع آخر..ولهذا نرى ان العديد من الكتاب المغاربة والجزائريين واللبنانيين والعراقيين يكتبون باللغات الفرنسية والإيطالية والأنكليزية ، وتلقى اعمالهم ترحيبا في فرنسا وايطاليا وانكلترا، ويعرف القراء العرب كتابات الطاهر بن جلون وجورج شحاذة وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة من خلال الترجمات العربية لأعمالهم المنشورة باللغة الفرنسية فيما ننتظر ترجمة اعمال  يونس صديق واياد العبار من الإيطالية الى العربية لنقرأها، هذا ينطبق على اعمال اكاديميين عرب يقودون العملية الثقافية في الغرب بأسره..

3. تؤدي القرصنة الى اضعاف وخلخلة المنظومة الأخلاقية لدى الأفراد والمجتمع:

عندما يعتاد الناس على بيع وشراء السلع المسروقة تتراخى التزاماتهم الأخلاقية بحيث تصبح الثقافة السائدة في المجتمع هي ثقافة لصوص ..وبذلك فأن الناس سيفقدون احترامهم لأنفسهم واحترام الآخرين لهم..

4. تؤدي القرصنة الى تعميق حالة انعدام الثقة:

ان تكرار اعمال القرصنة في الشرق الأوسط سيجعل من الناشرين والكتاب والمترجمين الأجانب في الغرب يفقدون الثقة تدريجيا بالعرب والفرس والترك وربما الأكراد [إن طور هؤلاء لاحقا سوقا للكتب المقرصنة]، لأن الكتاب والناشرين والمترجمين الأجانب سرعان مايكتشفون أن اعمالهم تسلخ منهم بدون حقوق نشر او ترجمة ويرون انها سرقت او ترجمت ترجمة رديئة ونشرت بآلاف النسخ البائسة رديئة الطباعة لتعرض في معارض واسواق الكتب الفارسية والعربية والتركية..ونجد في الأسواق اكثر من ترجمة لأعمال كتاب عالميين كأورول وسارتر والبرت كامي واندرية جيد وكافكا وموريس لبلان [مبتكر شخصية آرسين لوبين]وتوم كلانسي وآرثر كونان مكدويل[مبتكر شخصية شرلوك هولمز] وغيرهم واحيانا نجد اربع او خمس ترجمات لعمل واحد كما في [مزرعة الحيوانت] لجورج اورول او في حكايات اللص الظريف [آرسين لوبين]..ومن الترجمات مايعتمد المساعد الألكتروي في الترجمة ومنه مايعتمد ترجمات سابقة تحرر وتحور من جديد بما يجعل من القرصنة عملا متنقلا يعيد توليد نفسه ويتنقل عبر الزمان والمكان والأجيال..

5. تتلف القرصنة الخصائص النوعية للكتاب:

غالبا ما يصرف الدافع الى الربح السريع القراصنة عن الأهتمام بالمواصفات النوعية للكتاب..ومن البدهي ان الكتاب المقرصن هو الأردأ في نوعية الورق والحبر والحرف والتصميم والملمس والتغليف المخصص له..ومن الطبيعي ان نجد بعض الإستثناءات كما في حالة اكتساب سارق للتحف لهواية حب اقتناء التحف بدافع الإهتمام بجمالها وعلى النحو نفسه قد نجد كتابا مقرصنا يبدو افضل كثيرا من الأصل..ومن الأمثلة على ذلك اعادة اخراج الكتب التراثية والمقدسة ..حيث تبدو النسخة افضل كثيرا من الأصل في تذهيبها وجلادها..

6. تؤدي القرصنة الى ذيوع الفساد واستشرائه:

للقراصنة في معظم الحالات اكثر من وظيفة واحدة فهم غالبا مايسرجون حصانين وليس حصانا واحدا ويلعبون دورين اولهما غير مرئي او خفي وهو دورهم قراصنة وثانيهما ظاهر مكشوف ويتمثل بعملهم الأعتيادي كموظفين في الدولة او اصحاب مصالح عامة في المجتمع..وهم بحكم افتقارهم الى الأخلاق واعتيادهم على ازدواجية المعايير والسلوك والظهور بقناع اجتماعي يخفي وجوههم الحقيقية فإنهم يعمدون الى توظيف الأموال التي يحصلون عليها من عمليات القرصنة في قنوات غير مشروعة اخرى كالمتاجرة في الرقيق [استئجار خادمات آسيويات لبيوت الأثرياء العرب]، وتبييض الأموال بل وحتى المتاجرة بسلعة الخوف المعروفة عموما ب [الإرهاب]..

ان هذه الآثار السلبية وغيرها من شأنها الحاق الفساد في النظام التعليمي لبلد بأسره، وتدمير الحوار بين الدول الأوربية والدول النامية او مايعرف ب[ حوار الجنوب والشمال]، فضلا عن تتفيه المنظومة القيمية للمجتمع..ولكن كما هو الحال في الأوبئة الخطرة التي تهلك المجتمعات، نرى ان هنالك اجراءات وقائية ودفاعية من للممكن اللجوء اليها لمنع حدوث القرصنة او الحد منها ومن اضرارها في الشرق الأوسط..وفي الواقع فقد عمد عدد من البلدان العربية على اتخاذ اجراءات لمكافحة القرصنة كمصر ودولة الإمارات العربية اللتان خطتا بعض الخطوات في هذا الإتجاه.. مع ذلك فالمسافة بين هذين البلدين واضعف الدول الغربية التزاما بقوانين حقوق النشر مابرحت هائلة..ولا اقصد من ذلك غياب قوانين حقوق النشر في البلدان العربية، فالقوانين موجودة ..إلا انها تبقى حبرا على ورق ولم تجر اية محاكمة او مقاضاة تتناول مسألة القرصنة في المحاكم العربية باستناء محاكمة صاحب محل اقراص فيديو ممنوعة في وقت يسرح السراق الكبار في الساحة ويمرحون لوحدهم..ويحصلون على اموال طائلة اذ بلغت الخسائر المترتبة على تجاوز حقوق النشر في مصر وحدها 750.000.000 جنيه مصري عام 2001 كما ورد في احصائية مقدمة في مؤتمر الملكية الفكرية وحقوق النشر عقد في دمشق للفترة 27-28 نيسان عام 2005..ويعد هذا المؤتمر واحدا من عدد قليل جدا من المؤتمرات والندوات  التي تتناول مشكلة حقوق النشر وقرصنتها من قبل سراق الكلمة الى جانب مؤتمرات عقدت في بيروت وتونس وعمان والقاهرة..وقد تمخضت هذه المؤتمرات عن توصيات ومقترحات كالعادة في المؤتمرات التي تتناول الحقوق في الشرق الأوسط بينما استمرت حالة غياب قوانين حماية الملكية الفكرية وانعدام تفعيلها في حال وجودها الصوري في عدد من البلدان..فالمؤتمرات والندوات والنداءات في هذا الإتجاه لاتعدو ان تكون سوى زوبعة في فنجان..ومما زاد الطين بلة ان معظم الحكومات في الشرق الأوسط هي حكومات سلطوية واستبدادية الأمر الذي قد ينفع أو يضر في فرض التزامات يؤدي الخوف الى احترامها والفساد الى رفضها لأن التشريعات في مثل هذه البلدان وبخاصة ايران تصدر من اعلى الى اسفل والدولة فيها تتدخل في الحياتين الخاصة للمواطن والعامة للمجتمع بأسره. غير ان الوضع في ايران مختلف تماما فالقوانين ترتبط بالفتاوي والفتاوي في ايران تحلل ولا تحرم القرصنة..وبالنتيجة فالكتب المحرمة هي التي لايجرؤ قرصان على سرقتها وهي الكتب التي تناهض الإستبداد والعقلية الظلامية للملالي بينما نجد الكتب ذات الصلة بالتشيع وولاية الفقيه في كل مكان..وبقدر تعلق الأمر بحقوق النشر فأن الحال تبقى بائسة في عموم الشرق الأوسط لأن النظم السياسية فيه سواء تلك التي جاءت نتيجة حروب الإستتباع وتفكيك الدول ذات السيادة او تلك التي تقوم على ايديولوجيات سلطوية كأيران وتركيا هي نظم تسودها الفوضى ويتحكم فيها الفساد..مع ذلك فهناك جملة من الإجراءات التي قد تقلص او تقضي على القرصنة وتدليس الكتب في الشرق الأوسط ..ومن هذه الإجراءات:

1. خلق الوعي باهمية حقوق االنشر ونشره بوساطة وسائل الإعلام وعقد المؤتمرات والندوات ومشاركة المؤسسات التعليمية كالجامعات والمعاهد بهذه المهمة.

2. تشجيع حكومات الشرق الأوسط ووزارات الثقافة والتعليم فيها بزيادة تخصيصاتهم المالية للمكتبات العامة وتشجيع انشاء المكتبات الخاصة لبيع الكتب بما يوفر الكتب باعداد كافية لأغراض الإستعارة والشراء..والإعتماد على قواعد المعلومات لتفادي التعامل مع الناشرين والمؤسسات الضليعة بالقرصنة..
3. مقاطعة دور النشر ذات النشاطات المشبوهة ومعها المؤسسات الحكومية كايران والمؤسسات الخاصة التي تمارس او تشجع التجاوز على حقوق النشر ومنعها من المشاركة في معارض الكتب او الأعلان عن الكتب في المواقع الألكترونية..وحرمانها ان امكن من شراء المطابع او التعاقد مع شركات لتزويدها بالمطابع..بطريق وضع اسمائها في قائمة سوداء وتوزيعها على المعنين بصناعة الكتب ونشرها وتوزيعها..
4. ربط اتحادات الكتاب والمؤلفين بإتحادات الطابعين على الصعد الوطنية والقومية والعالمية بهدف تكوين شبكة اتصالات يتمكن الجميع من الإتصال وتبادل المعلومات بطريقها وبخاصة تلك المعلومات التي تتعلق بالكتب المقرصنة وكتابها ودور نشرها الأصلية والجهات التي قرصنتها والقوانين الخاصة بحماية حقوق النشر وكيفية متابعتها بطريق تزويد اسماء المحامين وعناوينهم وامكانيات التعويض بطريق اشراك القضاء مما يميط اللثام عن انتهاكات حقوق النشر وييسر على الضحايا متابعة حقوقهم قانونيا..
5. العمل على المستوى الدبلوماسي من خلال وزارات الثقافة والإعلام والتعليم العالي والملحقيات الثقافية في تبني مسالة حقوق النشر وتزويد الجهات ذات العلاقة بالمؤسسات ودور النشر الضليعة بالقرصنة وترويج الأعمال المقرصنة..
6. تشجيع الحكومات التي تفتقر الى قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق النشر بتشريع هذه القوانين وتطبيقها تماما كقوانين المرور والتسجيل العقاري والضريبة وغيرها..
7. تيسير عملية الحصول على حقوق النشر والترجمة في اطار التعاون بين دول الشرق الأوسط والدول الأوربية ومن خلال تشجيع الحوار بين الشمال والجنوب..وبمقدور اتحادات الأدباء وجمعيات المترجمين الإسهام في استحصال الموافقات الخاصة بحقوق النشر والترجمة..
8. تنمية الشعور بالإلتزام الأخلاقي لدى المعنيين بحقوق النشر في عموم الشرق الأوسط..

واخيرا فمهما بلغت العقوبات من القسوة والقوانين من الصرامة، فإن القرصان ليس كالمترجم او المبدع موهوب باالفطرة ..بل هو في اغلب الحالات نتيجة المجتمع والحضارة التي نشأ فيها ..وفي مجتمع فقد اخلاقياته وحسه الجمالي وبات كل شخص فيه يسعى الى القوة والمال والشهرة نجد ان االعلاج الوحيد لقرصنة حقوق النشر هو الزمن. فالقرصنة لدى الكثير وسيلة للمعيشة ومالم توفر للقراصنة فرص معيشة بديلة فأن القرصنة وغيرها من الممارسات غير الشرعية ستبقى الوسائل والمنافذ الوحيدة لثراء القراصنة واضرابهم في الشرق الأوسط..

 
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
  

17 Comments

العراق في خارطة مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية

22/1/2014

5 Comments

 
العراق في خارطة مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية
واسهامها في رحلات الى الموصل

  صلاح سليم علي

Picture
الامبراطورية البريطانية
Picture
عانة واحدة - شركة الهند الشرقية
Picture
الموصل في القرن التاسع عشر

شاهد المزيد: ملحق مصور شامل
  مقدمة:ـ

يعد العراق البلد الأول في العالم في تأسيس امبراطوريات قوية تمتد خارطة مصالحها في مناطق شاسعة خارج اراضي بلاد ما بين النهرين فقد اسس سرجون الأول مستعمرة تجارية في كانيش [قول تبة] في قلب الأناضول كما طورالعراقيون علاقات تجارية  شرقا مع الهند والصين بطريق الحرير منذ العصر السومري.. وقد استمرت مستعمرة كانيش حتى العصرالآشوري الحديث حيث اصبحت منطقة الأناضول في مجملها ومناطق في عمق زاكروس جزءا من القلب الآشوري، وتجدد النشاط التجاري نفسه على العهود الإسلامية حيث امتدت ذراع القوة التجارية والعسكرية والحضارية للعراق حيث مقر العاصمة العباسية بغداد من الصين حتى الأندلس..

ولكن سرعان ما شهد العالم تحولا كبيرا في مراكز القوة لصالح الدول الأوربية بعد سقوط بغداد وبدء السيطرة التركية في الشرق الأدنى .. وترتب على هذا التحول ظهور امبراطوريات اوربية طموحة تزامنت مع الأستكشافات الجغرافية الكبرى للعالم الجديد مما تسبب في تنامي حالة التنافس بين الدول الأوربية للحصول على الموارد الأقتصادية الغزيرة للعالمين القديم والجديد معا..ولما كانت الأمبراطورية العثمانية مسيطرة على اراض مهمة في الطريق الى العالم القديم، كان لزاما على الدول الأوربية ايجاد طرق بحرية جديدة والتفاهم مع العثمانيين لتنظيم التجارة معهم وعبر الأراضي التي استورثوها من اولاد عمومتهم الذين اسقطوا بغداد..

الهند الشرقية من شركة الى امبراطورية:ـ
وترتب على التنافس بين الدول الأوربية القوية اكتشاف طريق بحري عبر رأس الرجاء الصالح الى الهند وجزر الهند الشرقية الغنية بالموارد التي تحتاج اليها اوربا كالقطن والحرير والتوابل وملح البارود والشاي والقهوة والأفيون [الذي يستخدم لأغراض طبية ودوائية وكمخدر تحشيشي]، فضلا عن الموارد الزراعية الأخرى وغير ذلك كثير..منها ومن اميركا اللاتينية وجزر الكاريبي واماكن اخرى..مما ولد شركات عملاقة تتولى مهمة التجارة والمحافظة على مستعمراتها ومصالحها في سياق التنافس مع شركات اخرى. فكانت اولى الشركات الاوربية العملاقة شركة الهند الشرقية الهولندية تلتها شركة الهند الشرقية البريطانية فشركات اقل حجما كشركة الهند الشرقية البرتغالية ثم شركة الهند الشرقية الفرنسية والشركتين الأخيرتين اصغر كثيرا في مجالات قوتيهما ومديات نشاطاتهما من الشركتين البريطانية والهولندية..والأرجح ان البرتغاليين، على الرغم من سبقهم في الأستكشافات الجغرافية، والفرنسيين  ومعهم الدنماركيين والسويديين انما كانوا يحاكون الأنكليز والهولنديين في تاسيسهم لشركات هند شرقية [وغربية] لم تقدر على خوض غمار التنافس المشتعل بين الهولندين والأنكليز..فقد امتلكت شركة الهند الشرقية الهولندية التي اسست عام 1602 اسطولا تجاريا يتألف من 4.785 سفينة وكان لها سلطات شبه حكومية تتضمن القدرة على شن الحروب واعتقال المخالفين وحبسهم والتفاوض على المعاهدت و اصدار العملة وتشكيل المستعمرات وإدارتها، بينما تاسست شركة الهند الشرقية البريطانية عام 1605 لتصبح قوة امبريالية مستقلة بذاتها فقد حافظت على جيش دائمي يتألف من  200,000 جندي وضابط في مختلف الرتب ولها اسطول يتألف من 130 سفينة حمولتها الف ومائتي طن، وعلى الرغم من ان السفن العاملة في اسطولها كانت أقل عدد من السفن العاملة في الأسطول التجاري الهولندي، فقد تمكنت من احراز انتصارين عسكريين على البرتغاليين ثانيهما بمساعدة الهولنديين الذين يشاطرون الأنكليز عداوتهم للأسبان والبرتغاليين معا ولكن لأسباب مختلفة..وقد استفادت شركة الهند الشرقية البريطانية من دعم الحكومة البريطانية لها في تأسيس علاقة مع ملوك الهند من احفاد بابور[أحد احفاد تيمور ومؤسس االسلالة المغولية في الهند] ، فحصلوا على امتيازت ومواطيء قدم كثيرة في شبه القارة الهندية مهدت لأستعمار الهند بأكملها وبناء اسس الأمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار..

ومع تطوراعمال الشركة واتساع رقعة نفوذها عمدت الى تشكيل جهاز  إداري واسع مستقل عن الحكومة البريطانية التي تمكنت في أواخر القرن الثامن عشر من السيطرة التدريجية على هذه الشركة العملاقة فأصبحت تعمل ومنذ  عام 1834 تحت إشراف الحكومة البريطانية حتى التمرد الهندي عام 1857 عندما تولت الدائرة الإستعمارية في الحكومة البريطانية السيطرة التامة على الشركة على الرغم من عدم مشاركتها المالية مباشرة فيها..وقد أنتهى وجود الشركة عام 1873 بعد ان تركت بصماتها في تاريخ العالم ..فقد اوجدت مستعمرات عديدة وخاضت بجيشها حروبا عديدة حددت مصائر مناطق واقاليم كثيرة في الهند وجزر شرقي آسيا..كما ادى توسيع عملياتها الى التصادم مع دول اوربية اخرى مما وسع في مجالات اهتماماتها لتشمل الجوانب الستراتيجة والسياسية بالإضافة الى الجوانب التجارية فكانت تصدر عملتها الخاصة التي تحمل عنوانها وتعين عملاء سياسيين في معظم عواصم المشرق ومدنه الكبرى ...ومنها بغداد والبصرة والموصل، وتلك مهمة تؤكد الجانب الستراتيجي والسياسي التي تتشاطر الأهتمام فيه مع الحكومة البريطانية ويتمثل بالدفاع عن الطرق البحرية والبرية الى الهند وتأمين عمل الحكومة البريطانية المحلية في الهند وغيرها من المستعمرات الآسيوية..فلابد والحال هذه من ان يحتل العراق موقعا مهما في خارطة المصالح الستراتيجية والأقتصادية لشركة الهند الشرقية البريطانية...وكان حكام العراق المحليين يسعون الى تمتين الأواصر الإقتصادية والسياسية مع بريطانيا حتى مع تجاوز رضى او موافقة السلطة العثمانية فسمح والي بغداد بتعيين عميل لشركة الهند الشرقية في بغداد عام 1798 اعقب ذلك فتح فنصلية في بغداد عام 1802 مما عمل على تطوير النشاط التجاري البريطاني في العراق، ثم عين كلوديوس جيمس ريج عام 1808 ممثلا لشركة الهند الشرقية البريطانية في بغداد وكان مهتما بنواحي الحياة كلها في بلاد الرافدين وبخاصة الآثار، فزار نينوى وبابل وعمل على جمع كمية هائلة من المخطوطت واللقى الأثرية التي بيعت للمتحف البريطاني عام 1825 مشكلة النواة الأولى  للقسم العراقي في المتحف البريطاني..وقد استمر كلوديوس جيمس ريج في وظيفته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد حتى عام 1821 ليعقبه روبرت تيلر للفترة 1821 وحتى 1843 حيث اعقبه في الوظيفة نفسها هنري راولنسون للفترة 1843 وحتى 1855 ثم أرنولد برويز كمبول للفترة 1855 وحتى 1872، كما وظفت شركة الهند الشرقية عددا كبير من الإطباء في الأختصاصات الطبية المختلفة ومهندسين مدنيين ومعماريين وفنانين وعلماء نبات وأرض وحياة وانثروبولوجيا.. وكان الضباط ممن يعملون في الشركة قد انهو دراستهم في كلية عسكرية متخصصة في لندن تابعة للشركة التي اسست كلية تابعة لها عام 1806 وهي كلية مازالت قائمة حتى الآن بأسم "هيليبري كولج"..كما تحتضن الشركة نخبة متميزة من الأدباء والكتاب والشعراء والمترجمين والمستشرقين منهم من ولد في الهند..ولاغرابة من ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في الهند قرون عدة جعلت العديد من البريطانيين يتخذونها موطنا ثانيا لهم ولأسرهم على الرغم من تفضيلهم لتعليم اولادهم في مدارس في بريطانيا.. مما وضع الأساس لطبقة ارستقراطية من ابناء التجار والعسكريين ممن يقيم في الهند ويمتلك العقارات والمصالح التجارية في بريطانيا...وشجع هذا ألأمتياز العديد من الأنكليز والأوربيين الى الإنخراط في خدمة الشركات التجارية واساطيلها...وكان العديد يقومون بالرحلة الى الشرق على حسابهم الشخصي تيمنا باكتساب خبرات تؤهلهم للحصول على منصب في احدى شركا ت الهند الشرقية، فاختار العديد الرحلة بطريق البر مما جعل مرورهم  ببلاد الرافدين ضرورة ..وقد جاء اكتشاف نينوى والنمرود في سياق رحلة هنري لايرد وميتفورد الى سايلون [سيريلانكا] .. وبينما قررميتفورد مواصلة الرحلة الى سيريلانكا، توقف هنري اوستن لايرد في الموصل ليباشر في التنقيب في تلقوينجق والنمرود.. ولكن رحلة لايرد الى بلاد الرافدين لم تكن في سياق العمل في شركة الهند الشرقية، وكذلك الحال في رحلة رالف فيتج وجون نيوبري اللذان  زارا العراق في اواخر القرن السادس عشر وكانا من اوائل الرحالة الأنكليز الى بلاد الرافدين في طريقهما الى الهند. وغالبا مايعمد الرحالة الى تدوين مشاهداتهم وتجاربهم في البلاد التي يزورونها او يمرون بها موفرين بذلك معلومات ووثائق لشهود عيان غاية في الأهمية عن جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والحضارية للأمم التي زاروها ومااليها من تفاصيل عن ظروف الرحلة كالأماكن التي زاروها والناس الذين التقوا بهم ...مم يوفر مادة ثرة ونادرة لطلبة التاريخ والجغرافيا والحياة الإجتماعية والإقتصادية والسكانية وصورة الحياة في الماضي ومعلومات  لايمكن العثور عليها في اي مكان آخر..ومن الرحالة من لم يدون رحلته ومشاهداته ومنهم من توفي في اثناء الرحلة كالآثاري كارل بيلينو الذي صاحب كلوديوس جيمس ريج في رحلته في بلاد الرافدين وتوفي في الموصل عام 1820 وكتب عنه المستشرق الألماني جوزيف فون هامر برغستال، ومن الرحالة الأوائل جون كارتويل واانطوني شيرلي وجون ايلدريد ممن زار الموصل في القرن السابع عشر..غير ان عددا من الرحالة من الضباط العاملين في شركة الهند الشرقية تمكن من العودة الى بريطانيا لينشر تفاصيل رحلته الى آسيا والعراق ومن بين هؤلاء الضباط جيمس سيلك بكنكهام الذي زار الشرق الأدنى واقام في الهند ثم زار العراق والموصل وكتب عن رحلاته عددا من الكتب تناول الموصل في اثنين منها هما [رحلات في بلاد مابين النهرين] و[رحلات في بلاد آشور وميديا وفارس] وجون مكدونالد شينير الذي قام برحلتين الى الموصل اولاهما بعد انتهاء عمله في السفارة البريطانية في بلاد فارس عام 1810 والثانية خلال عامي 1813-1814 ..وكتب تفاصيل مشاهداته في الموصل في كتابه[ مذكرة جغرافية لبلاد فارس]  كما تناول تفاصيل رحلته الثانية بدون التطرق مجددا الى الموصل في كتابه [رواية في رحلات في آسيا الصغرى وأرمينيا وكردستان في 1813-1814] ..

وفي الواقع فإن نشاطات شركة الهند الشرقية البريطانية واهتماماتها كانت الأوسع والأكبر في العالم ..فهي بالإضافة الى نشاطاتها التقليدية في التجارة وتأسيس المستعمرات وحماية الطرق البحرية، فتحت الشرق على الغرب والغرب على الشرق حضاريا فمهدت لحركة الإستشراق والدراسات الآسيوية والإسلامية ولاسيما فيما يتعلق بالشرق الأدنى..فقد ضمت مستشرقين وفنانين كبار كالسير ريتجارد فرانسيس بيرتون الذي ترجم الف ليلة وليلة ب 16 مجلد الى الأنكليزية والمستشرق وليم جونز والمستشرق جيمس برنسيب والمستشرق وليم موير والمؤرخ توماس بابنكتون ماكولي والمنظر السكاني توماس روبرت مالثوس فضلا عن طائفة عريضة من الكتاب والأدباء كريتشارد ستيل ورديارد كيبلينغ ووليم ثاكري ميكبيس وتوماس لوف بيكوك وأدورد جيمس كوربيت وجون ماسترز وجورج اورول وادورد مورغن فورسترو جون ستيوارت ميل وابيه جيمس ستيوارت ميل..هذا علاوة على عدد كبير من الفنانين المصورين والرسامين  كجيمس فوربيز ووليم هوجزوروبرت كير بورتر وتوماس دانيال وهوراس فان رويث وروبرت سميث، والمعماريين كهنري اروين ووليم ويلكينز وماثيو دكبي وايات وغيرهم...ولكن الظروف الدولية سرعان ما تغيرت في اواخر القرن التاسع عشر فقد دخلت دول اوربية اخرى ميدان التنافس على الموارد فيما وراء البحار وكان العداء التقليدي بين بريطانيا وفرنسا قد حرك الأخيرة صوب مصر حتى تمخضت الجهود الفرنسية في حفر قناة السويس التي غيرت خارطة المواصلات في العالم واختصرت المسافة الى الهند جوهرة التاج البريطاني بقرابة ثلاثة اشهر مما دعى الحكومة البريطانية على عهد رئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الى الأقتراض من المصرفي اليهودي ليونيل دي روتشيلد الذي تمتلك اسرته شركة الهند الشرقية بأكملها، المال الذي اشترى به حصة مصر في قناة السويس عام 1875، لتأمين طريق اقصر الى مستعمراتها الآسيوية ولتحقيق توازن قوة مع فرنسا والأطراف الأخرى المشتركة في هذه القناة..ويبدو ان دزرائيلي كان يضع باستدانته من روتشيلد قياد الحكومة البريطانية وسياستها بيد اليهود من اسرة روتشيلد ممن سرق اموال الهند ونقل ثرواتها الى مصارف الأسرة في أوربا ..وقد جاء تحرك بريطانيا صوب السويس بعد تأكدها من صعوبة [وليس استحالة] ايجاد طرق نهرية [دجلة والفرات] او حديدية [سكك حديد] بين خليج الأسكندرونة والخليج العربي بعد حملة فرانسيس رودان جاسني ودراسته اللاحقة لأمكانية مد سكة حديد تختصر المسافة الى الهند عبر رأس الرجاء الصالح..

خاتمة:ـ
وعلى الرغم من تلاشي شركة الهند الشرقية وانتقال وظائفها الى الحكومة البريطانية منذ عام 1874، فإن ادارتها الفعلية المتمثلة باسرة روتشيلد في فرعها البريطاني واصلت ادارة المصالح التجارية لبريطانيا وتوجيه السياسة البريطانية في الشرق الاوسط حتى الوقت الحاضر.. وهي، اي شركة الهند الشرقية البريطانية، عملت على تأسيس الثوابت التي اعتمدتها الحكومة البريطانية في سياستها تجاه الشرق الأوسط ..وكانت اهم تلك الثوابت الحفاظ على الهند ومستعمراتها في شرقي آسيا مما وجه انظار الحكومة البريطانية نحو العراق..وترتب على الإهتمام المتزايد في العراق زيادة كبيرة في نسب التبادل التجاري بطريق ميناء البصرة فقد كانت بريطانيا توفر 65% من احتياجات السوق العراقية من السلع والبضائع كما تولت شركة بريطانية هي شركة هنري بلوسا لنج أحد الضباط في بعثة جاسني لأكتشاف صلاحية دجلة والفرات للملاحة مهمة النقل  النهري داخل العراق [  شركة الفرات ودجلة للملاحة] التي اسست عام 1859 وكان للقنصل البريطاني العام في بغداد سفينته البخارية الخاصة به واسمها الكومت  [المذنب] التي كان يسيرها في دجلة وعين على حراستها وحدة عسكرية من الهنود..وقد عزز اكتشاف النفط في اواخر القرن التاسع عشر التواجد البريطاني في العراق والخليج ودفع البريطانيون الى سلخ قضاء الكويت التابع لولاية البصرة عن العراق لصالح الشيخ مبارك بعد تكبيله بشروط تمنعه من التنازل عن اي جزء من ارض الكويت لأي قوة أخرى بدون موافقة بريطانيا..

وخلاصة القول فأن شركة الهند الشرقية البريطانية في استعمارها للهند وسعيها للحفاظ على المسالك البرية والبحرية الموصلة اليها، مهدت للأحتلال البريطاني لبلاد الرافدين ووادي النيل ومنطقة الخليج، واسست للفكر الأمبريالي المعاصر وتسببت بعدد كبير من الحروب والمجاعات المدمرة في الهند بوجه خاص وماالى ذلك من ويلات كان كارل ماركس قد جاء على تفاصيلها في مقالته [الحكم البريطاني في الهند] عام 1853 ، بنص يذكرنا بقوة بما احدثه الأحتلال البريطاني ومن بعده الأميركي للعراق "ان الحروب الأهلية والغزوات والثورات واعمال العدوان والمجاعات على ما فيها من تعقيد وعجالة ودمار لتكرارها في هندستان قد تبدو مظاهر تطفو على السطح فحسب لأن الأدهى من ذلك هو قيام انكلترة بتحطيم الهيكل الذي يقوم عليه المجتمع الهندي..وبدون اية بوادر معالجة في الأفق..فالهندي الذي فقد عالمه (القديم)  [التقليدي] بدون ان يحصل على اي عالم يحل محله يشعر بكآبة قاتلة تضاف الى بؤسه، ويفصل هندوستان [الهند] التي يحكمها البريطانيون عن كل تقاليدها القديمة وعن تاريخها القديم بأسره".

هنا يضع كارل ماركس اصبعه التشخيصية الماهرة ليس على الآثار المدمرة التي تسبب بها الأستعمار البريطاني [شركة وحكومة] للهند فحسب بل على الآثار المدمرة التي يستجلبها اي استعمار على اي بلد يتميز بتاريخ وتقاليد حضارية ونمط حياة خاص بأهله وهذا ماحدث في العراق بعيد الأحتلالين البريطاني في مطلع القرن العشرين وألأميركاني- البريطاني في أواخره..

 ويكرر ليو تولستوي في رسالة الى غاندي لاحقا الموقف الماركسي من الإستعمار البريطاني للهند:ـ

(شركة تجارية تستعبد امة تتألف من مائتي مليون نسمة. قل هذا لأي شخص لاتتحكم بعقله الخرافات، سترى انه لا يستوعب ما تعنيه هذه العبارة..فما معنى ان يقوم 30.000 رجل..ليسوا رياضيين [اقوياء] بل ضعفاء وعاديين باستعباد مائتي مليون من الناس النشطين، الأذكياء، القادرين، ومحبي الحرية؟ اليست الأرقام وحدها توضح بمافيه الكفاية ان الأنكليز ليسوا من أستعبد االهنود بل أن الهنود هم من استعبدوا انفسهم)..

غير أن شركة الهند الشرقية على الرغم من الأضرار الكثيرة التي تسببت بها على الأمم المستغلة والمستعمرة، حققت فوائد أهمها نقل التمدن الآسيوي الى الغرب بطريق ما جلبته الى الأمم الغربية من سلع كالحرير والجلود والعاج والقطن والأرياش والعطور والتوابل والشاي والقهوة وتنشيط حركة التجارة من الغرب الى الشرق، فضلا عن انواع نادرة من الأخشاب والمنسوجات والطنافس والأفرشة والبسط الفخمة زاهية الألوان، وكانت عاملا مهما في النهوض بحركة الأستشراق وفي ادب الرحلة..

وبقدر تعلق الأمر بالرحلات الى العراق والموصل، نميز رحلات جون سيلك بكنكهام، وكلوديوس جيمس ريج المقيم لبريطاني وممثل شركة الهند الشرقية في بغداد وجون جورج تيلر القنصل البريطاني في البصرة والكابتن روبرت ماجنن وادورد فردريك ووليم كينيت لوفتوس، والكولونيل في شركة الهند الشرقية جون مكدونالد شينير والمساح الميجر جيمس رنل وبيلي فريزر،، وجيمس فيلكس جونز، وهنري جيمس روس التاجر المقيم في المو