رحلة رئيس اركان الجيش الالماني
المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر
الى الموصل عام 1838
صلاح سليم علي
المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر
الى الموصل عام 1838
صلاح سليم علي
مقدمة:
في مراجعة تاريخ الرحلات الى الشرقين الادنى والأوسط، تشغل الرحلات الى العراق والموصل بوجه خاص نسبة كبيرة من مجمل تلك الرحلات مما يؤشر الى نمط معين اي تكرار تلك الرحلات الى العراق والموصل تحديدا مما يدعونا الى التفكير بالاسباب والدوافع على محاور الزمان والمكان والاهداف المتوخاة من الرحلة.. فقد شغل الشرق الادنى بصفته حاضنة تاريخية للحضارات القديمة والأديان الرئيسة وبيئة للغرائب والعجائب ومركزا للمدن الغابرة الدفينة خيال الاوربيين منذ القرون الوسطى ..وقد عززت الترجمة المبكرة لألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر هذا التوجه التخيلي للمشرق..وهو توجه تجسم من الناحية الفنية بحركة الاستشراق اي محاولة تصوير الشرق في الاداب كالشعر والرواية والفنون الاوربية كالموسيقى والتصوير بينما تجسد من النواحي العملية بتاسيس المراكز التجارية في المدن الشرقية كالقسطنطينية وبغداد والقاهرة والموصل والبصرة ودمشق وحلب وغيرها..وعزز حركة الرحلات الى الشرق الادنى الحكم البريطاني للهند او الراج البريطاني 1858-1947..فالشرق عموما وبلاد الرافدين بوجه خاص هما بالنسبة للاوربيين بيئة للمغامرات والتجارب الفائقة للعادة.. فبلاد الرافدين مكان احتضن منذ العصور القديمة آثار المحاولات الاوربية الاولى لاستكشاف العالم اوغزوه فهي المكان الذي سارت فيه جيوش الاسكندر المقدوني والجيوش الرومانية وهي المكان الذي زاره زينوفون وهيرودوتوس.. وهي مهاد الاديان السماوية الرئيسة وتجري في الشرق الأدنى وديان الانهار الكبرى التي ترعرعت على ضفافها الامبراطوريات القديمة في وادي النيل وبلاد الرافدين التي قدمت للانسانية اعظم اختراعين هما الكتابة والعجلة.. وطبيعة الحياة في المدن الشرقية تزخر بالحيوية والاثارة اذ يحدث كل شيء في وقت واحد وبمقدور الشخص ان يتنقل وياكل ويبيع ويشتري في اي وقت من اوقات النهار الذي يحدث فيه كل شيء..فالشرق يختلف بطعامه والوانه وبشره وتاريخه وعمارته وبأيقاعه الزمني وبكل شيء عن الغرب مما يجعل من مجرد الاختلاف دافعا يثير حب الاستطلاع لدى الاوربيين لزيارته.. اما تركز الرحلات في القرن التاسع عشر فيعود الى تظافر العوامل السالفة فضلا عن انتشار الوعي الجغرافي ووجود جهات داعمة تمول الرحلات كالمتاحف والجمعيات التاريخية والجغرافية والتبشيرية.. وقد تكون اهداف الرحلة عسكرية او لمجرد حب الاستطلاع كما في رحلة رئيس اركان الجيش الالماني المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر الى الموصل عام 1838..وهي من الرحلات التي يندر التطرق اليها في المصادر والمصدر الوحيد الذي تناولها كان رسالة للمارشال مولتكة نفسه عثرت عليها باللغة الالمانية ضمن كتابه [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] يتطرق فيها الى اقامته في كنيسة الكلدان في الموصل ويصف المدينة وفيما يأتي ترجمة لحديثه عن رحلته الى الموصل ووصفه لها بعد تقديم تعريفي به وبعصره ومنجزاته:
فون مولتكة الاكبر:
وردت صفة [الاكبر] على اسم مولتكة تمييزا له عن ابن اخته المعروف باسم مولتكة [الأصغر] ايضا والذي كان يشغل منصب رئيس اركان الجيوش الالمانية للفترة 1906-1914 ويماثل خاله باهتماماته الستراتيجية والعسكرية..ومولتكة موضوع دراستنا هذه ولد عام 1800 في اسرة المانية موسرة انتقلت الى هولشتاين عندما كان مولتكة في الخامسة من عمره فتعرضت ممتلكات اسرته هناك للحرق والنهب عندما اقتحمت القوات الفرنسية المنطقة في اثناء حرب التحالف الرابع 1806-1807 فارسل مولتكة الى هوهنفيلد الحدودية وكان عمره التاسعة وبعد سنتين دخل مولتكة المدرسة العسكرية في كوبنهاكن بهدف الانخراط بالجيش الدنماركي فواصل تعليمه العسكري سبع سنوات وتخرج بصفة ملازم ثان عام 1818..وبعد خدمته في وحدة مشاة دنماركية، عاد مولتكة الى المانيا ودخل في خدمة الجيش البروسي..وفي المانيا عين مديرا لمدرسة عسكرية في فرانكفورت اودير ومنها امضى ثلاث سنوات في دراسة مسح عسكري لمقاطعتي سيلسيا وبوسين..ونقل الى رئاسة الاركان العامة في برلين عام 1832 لأمتيازه على زملائه..وبحبه للفنون والموسيقى..
وقد الف مولتكة كونه دارسا مولعا بالتاريخ اعمال عديدة في الرواية وبدأ عام 1832 بترجمة كتاب جيبون [تاريخ تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها]، الى الالمانية. وفي عام 1835 منح اجازة لستة اشهر زار خلالها دول اوربا الجنوبية الشرقية وتركيا. وبينما كان في القسطنطينية، طلب منه السلطان محمود الثاني المساعدة في تحديث الجيش العثماني.. فحصل على ترخيص من برلين ليمضي سنتين في تحديث الجيش العثماني قبل ان يصاحب الجيش في حملة ضد محمد علي حاكم مصر في معركة نزيب 1839 التي قادها من الطرف المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا ومعه الكولونيل الفرنسي سليمان الفرنساوي [چوزيف انتيلمى سيف].. بينما قاد الجيش التركي حافظ باشا وكان على رأس المدفعية العثمانية المارشال مولتكة ومعه عدد من الضباط الألمان..غير ان المرونة التكتيكية لأبراهيم باشا تفوقت على الاحتياطات التحصينية لمولتكة وكانت النتيجة اندحار الجيش العثماني وانتصار العرب المصريين في معركة حاسمة يبدو ان مولتكة تعلم منها البعد الاجرائي في القتال وضرورة تغيير الخطة الهجومية الدفاعية على ارض المعركة في اثناء القتال..
وبعد عودته الى برلين نشر كتابا عام 1840عن رحلته وتزوج ربيبة شقيقته، الانكليزية ماري برت..ثم عين في رئاسة اركان الجيش الرابع في برلين حيث ابدى رغبة قوية في السكك الحديد ودرس توظيفها في المواصلات الحربية وفي عام 1848 عين رئيسا لهيئة الاركان العامة للجيش الرابع وبقي في وظيفته هذه سبع سنوات ترقى بعدها الى مرتبة كولونيل ونقل عام 1855 مساعدا شخصيا للامير فردريك الذي نصب لاحقا بصفة الامبراطور فردريك الثالث..
وقد عين مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة عام 1857 تقديرا لجهوده ومهاراته العسكرية.. وبصفته تلميذا لكلاوسفيتس[كارل فيليب كوتفريد فون كلاوسفيتس: جندي ومنظر عسكري الماني الف كتاب "حول الحرب" اعتمد مولتكة على العديد من آرائه بخصوص الحرب ومنها ان الستراتيجية هي توظيف الوسائل العسكرية لتحقيق الاهداف المطلوبة ويؤمن مثل كلاوسفيتس ان اية خطة عسكرية لن تستمر بعد الاشتباك مع العدو] على ذلك تركز جهد مولتكة على تاكيد فرص النجاح في الحرب بطريق ضمان المرونة العالية وتأمين الجوانب السوقية والمواصلات
(طرقا ووسائل ) لجلب القوة الضرورية الى النقاط الرئيسة للمعركة في الوقت الملائم..اي بمعنى ان الخطة العسكرية ليست هيكلا جامدا بل عملية متغيرة ودايناميكية وان المعارك تتفتق عن امكانيات غير منظورة قد تاتي من العدو نفسه من الممكن الاستفادة منها لتحقيق الهزيمة بالعدو..
وبعد استلامه لمنصبه مباشرة عمد مولتكة الى احداث تغييرات كبيرة في المناهج العسكرية والتدريبية وفي مفاهيم الاركان المتصلة بالتكتيك والتعبئة والستراتيجية .. وبدأ بالعمل المثابر لننهوض بالمواصلات والاتصالات والتدريب والتسليح.. وفي سياق اهتماماته التاريخية اجرى دراسة لتحديد الاعداء المستقبليين لألمانيا ثم شرع بوضع خطط عسكرية لأخضاعهم..وفي عام 1859 حرك الجيش في ممارسة تعبوية للحرب النمساوية السردينية بدون خوض اية معركة ولكنها خطوة مفيدة لتوسيع الجيش وتنظيمه..
وفي عام 1862 دارت مجادلات حول عائدية شلزفيك-هولشتاين مع الدنمارك فوضع مولتكة خطة حربية في حال نشوب الحرب مع الدنمارك.. وكان مولتكة يعلم ان الدنماركيين سيكونون في وضع تصعب معه هزيمتهم اذا تراجعوا للأعتصام بحصون جزيرتهم فوضع خطة يتم وفقها تطويقهم لمنعهم من التراجع.. وعندما بدأت المعارك في شباط عام 1864، لم تنجح خطته وتمكن الدنماركيين من الهرب.. مما دعاه الى الحضور شخصيا الى المعركة التي انتهت لصالح الالمان فعزز نصره هذا مكانته لدى الملك ويلهلم ورئيس وزراءه اوتو فون بسمارك اللذان بدءا بوضع خطط لتوحيد المانيا .. وعهدت المهمة العسكرية لتوحيد المانيا سياسيا لبسمارك وعسكريا لمولتكة.. وعندما بدأت الحرب مع النمسا تمكن مولتكة من الانتصار على النمساويين على الرغم من كثرة جيوشهم وتعدد حلفائهم..ووضف مولتكة الخطوط الحديدية لنقل الجنود الى مواقع القتال..وكانت المعركة الأولى التي استخدم فيها مولتكة اسلوب الحرب الخاطفة [بلتزكريكة] فتمكن من سحق العدو خلال سبعة اسابيع..ثم اشرف مولتكة على تدوين تاريخ الصراع مع الدنمارك الذي نشر عام 1867. وفي عام 1870 املت التوترات المتنامية مع فرنسا ضرورة تحريك الجيش البروسي [الألماني] وكان مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة وهي مرتبة تخوله اصدار الاوامر باسم الملك..وكان مولتكة قد امضى سنوات في التخطيط للحرب ضد فرنسا.. فحشد قواته جنوبي ماينز ووزعها على ثلاثة جيوش وكان هدفه التحرك في اراضي فرنسا بهدف دحر الجيش الفرنسي والزحف نحو باريس..وكانت الخطة تقضي بتغيير حركة الجيوش المهاجمة صوب مكان تواجد الجيش الفرنسي الرئيسي ولكن بالإلتفاف الى اليمين لدفع الفرنسيين الى الشمال وقطع اتصالهم بباريس وباتباع خطة مولتكة تمكن الالمان من دحر الجيش الفرنسي في معركة سيدان التي سقط فيها الامبراطور نابليون الثالث ومعظم وحدات جيشه بالأسر، ومع مواصلة الزخم تم اسقاط باريس بعد حصار دام خمسة اشهر مما انهى الحرب وافضى الى الوحدة الالمانية. وقلد مولتكة بعد الحرب مرتبة كاونت او كراف بالالمانية كما رقي الى قائد ميداني بالمقام الاول او فيلد مارشال عام 1871 تقديرا لخدماته واصبح نائبا في الرايخستاج او البرلمان الالماني في السنة نفسها وبقي في منصبه رئيسا لهيئة الاركان العامة حتى عام 1888 ولكنه استقال من هذا المنصب بينما بقي في البرلمان حتى وفاته في نيسان عام 1891.
ولعلي اسهبت بعض الشيء في سردي لسيرة حياة هذا الرجل على الرغم من ايجازي الشديد لها غير ان اهميته تنبثق من دوره المهم في توحيد المانيا ولكونه نموذج جيد للعسكري المثابر والبطل القومي الذي احب بلاده وعمل على توحيدها فهو ليس رحالة بالمعنى الوظيفي للكلمة غير ان تضمين زيارته للموصل في سياق الحديث عن الموصل في سرديات القرن التاسع عشر يكتسب اهميته من كون هذه الزيارة نادرة من نوعها ولأني لم اجد مصدرا يتطرق اليها كونها جاءت خلال اقامته في تركيا العثمانية ووردت الاشارة اليها في معرض حديث الرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل خلال الحرب العالمية الاولى..كما ان الاصل الألماني للزيارة ورد في كتب مولتكة [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] وهو كتاب مطبوع ومتوفر بنسخة الكترونية الا ان الخط المستخدم في طباعته هو الفراكتور [المكسر او الالماني القديم] الذي تصعب قرائته ويتطلب ان يترجم مرتين الاولى الى الالمانية الحديثة ثم الى الانكليزية قبل نقله الى العربية وهي مشكلة واجهتها عند ترجمتي لرحلة سفين هدين الى الموصل..غير اني حصلت على نص مترجم الى الانكليزية يغطي رحلته الى الموصل مما وفر علي مشكلات النص الالماني..وهنا لابد من الاشارة الى توفر معلومات كثيرة في كتب باللغة الالمانية القديمة تتناول العراق والشرقين الادنى والأوسط ماتزال ضربا من ضروب الهيروغليفية المخزونة في رفوف غابرة في مكتبات العالم.. وفيما ياتي ترجمة لرحلة مولتكة الاكبر الى الموصل:
مولتكة في الموصل:
رحلة الى الموصل ترجمها من الالمانية الدكتور ادمند فون ماخ
هذه الرسالة هي الثالثة والأربعين من تركيا وهي مؤرخة من جزيرة على نهر دجلة في الاول من مايس عام 1838:
(كنت اخبرتك في رسالتي الاخيرة بان علينا القيام بحملة ضد العرب [استخدمت بالمعنى العام والمقصود بها القبائل العربية التي تغير على القوافل المتجهة غربا والكردية التي تغير على القوافل المتجهة شرقا فضلا عن منطقة جزيرة ابن عمرعلى عهد الوالي اينجة بيرقدار محمد باشا في الموصل]، ولكن ذلك لم يتحقق..مع ذلك فلقد توفرت لي فرصة للتعرف على جزء غاية في الأهمية من البلاد..فقد شرعت بصحبة فون ميلباخ واغوين تركيين مدججين بالسلاح ارسلهما الباشا ومعنا خدمنا ومترجمينا برحلة على نوع من الزوارق يستخدم منذ زمن قورش وهو طوف [كلك] تسنده جلود اغنام منفوخة..وينزل الترك الصيد منزلة المحرمات ولهذا فهم لايأكلون لحم الغزلان والثيران ولكنهم يتناولون كميات كبيرة من لحوم الاغنام والمعز.. ويقطعون جلود هذه الحيوانات من جهة الامام [البطن] قطعا صغيرا قدر الممكن، ويزيلون الاحشاء باعتناء بالغ ثم يخيطون مكان القطع ويشدون بحبال النهايات المفتوحة من الجلد باحكام وعندما ينفخ الجلد ويحدث ذلك بسرعة وبدون ان يلمس الجلد الفم..يطفو فوق الماء ولايمكن اغراقه..ويربط الكلاكون مايتراوح بين 40 و60 قطعة بخمسة او اربعة صفوف من الجلد المنفوخ تحت لوحة خفيفة من اغصان الاشجار.. ويضعون ثماني قطع غالبا في مقدمة الكلك و18 قطعة في مؤخرته..ويتوسط الكلك هيكل اشبه بالمحفة المعمولة من الاوراق تغطيها الخرق او السجاجيد المتهرئة وتفرش من الداخل وتوضع فيها وسادات..وبجلوسنا في الكلك انحدر بنا بيسر وراحة .. ولأن التيار كان سريعا لم نحتج الى مجاذيف وتقتصر الحاجة اليها لغرض توجيه الكلك بابقائه وسط التيار وتجنب المناطق الصخرية الخطرة والضحلة في المجرى..لذا ترتب علينا الانتظار كل ليلة لحين ظهور القمر لنتمكن من رؤية معتورات المجرى، وكنا قد قطعنا على الرغم من ذلك مسافة يستغرق قطعها برا 88 ساعة، خلال ثلاثة ايام ونصف.. على ذلك كان النهر يجري بسرعة اربعة اميال في الساعة تقريبا ويكون سريعا في اماكن وبطيئا في اماكن اخرى.. ويغادر دجلة الجبال بالقرب من ارغانا-مادان [معادن ارغانا وهي منطقة مناجم النحاس والحديد والفضة كانت تابعة للأمبراطورية الأكدية والآشورية قبل ان تتحول للسيطرة العربية وبعدها للأقوام التركية المهاجرة اليها من وسط آسيا]، ليجري عبر اسوار دياربكر حيث يرتفع منسوب المياه في الصيف لأنه يتلقى مياه نهر باتمان المتدفق صوب الجنوب، ثم ومباشرة بعد التقاء هذين النهرين يدلف دجلة في اراض جبلية تتكون من الصخور الرملية عندئذ تحولت المنحنيات الهادئة للنهر العريض طفيف العمق الى زوايا ومتعرجات واد عميق حيث تبدو الشطئان اشبه بالجدران الصخرية شديدة الانحدار وقد تنتهي العين الى بساتين داكنة الخضرة في اعالي المرتفعات على جانبي النهر حيث يقيم قرويون بما يشبه الكهوف والمغائر التي توفرها الطبيعة في مثل هذه المناطق النائية..ثم مررنا بمدينة حسن كيف [حصن كيفا] التي تقع على صخرة عالية تتصل بالنهر بطريق درج ضيق وتقدم مشهدا نادرا فالمدينة القديمة في الاسفل قد دمرت ولايوجد سوى منائر قليلة مدببة باتجاه السماء بما يدل على ان بيوتا وجوامع كانت توجد في هذا المكان، ويبدو ان الناس قد ارغموا على الصعود الى القمة حيث شيدوا سورا دفاعيا يحمي الجهة المكشوفة الوحيدة.. وفي الوادي الضيق رأيت كتلا هائلة من الصخور التي دحرجت من المرتفع وقد قام الناس بحفر هذه الصخور لاستخدامها بيوتا يقيمون فيها.وتشكل هذه (الأكواخ) اليوم مدينة صغيرة تكونت كيفما اتفق وعلى نحو غير منتظم تماما مع ذلك نجد ان لهذه المدينة سوقا صغيرة.. وابرز معالم المدينة بقايا جسر عبر دجلة وهناك قوس عملاق يتراوح طوله بين 80 و100 قدم ولا ادري لمن يعود الفضل في تشييد هذا المنجز المعماري الجريء لملوك ارمينيا ام لملوك اليونان ام ربما للخلفاء المسلمين؟
من المستحيل ان يسافر المرء سفرا مريحا كالسفرة المتاحة لنا على هذا الكلك..فنحن نستلقي فوق وسادات من الريش والى جانبنا مانشتهي من اطعمة ونبيذ وشاي فضلا عن منقل نضع فيه الفحم عند الحاجة وكنا ننحدر في النهر بسرعة عجلة سريعة وبدون ايما اجهاد..غير ان العنصر الذي حملنا سرعان ما تحول لايذائنا في شكل آخر فقد كانت السماء تسح كأفواه القرب بدون توقف بعد مغادرتنا دياربكر..فمظلاتنا لم تعد تحمينا من المطر بينما تغلغلت المياه في معاطفنا وثيابنا والبسط التي نجلس عليها. وفي يوم عيد الفصح الذي وافق مغادرتنا الجزيرة، تدفق ضوء الشمس من بين الغيوم باعثا الدفء في اطرافنا المتشنجة.. وبعد ميلين من المدينة بدث خرائب جسر آخر عبر دجلة وكانت احدى دعاماته تتسبب بدوامة عنيفة حيثما يرتفع مستوى النهر..ولم تجد جهود رجال المجاذيف نفعا فسحبت كاريبديز[اشارة الى وحش في مسينا تقوم مع سيلا وهي وحش آخر بسحب السفن وسحقها في الاساطير اليونانية وقد تحول معناهما في الوقت الحاضر لتصبحا دوامتين كبيرتين مهلكتين] مركبنا الصغير بسرعة سهم فاصبحنا على حين غرة تحت الماء بينما غطتنا موجة عملاقة .. وكان الماء باردا كالثلج..وبينما واصل كلكنا طريقه بدون ان ينقلب في اللحظة التالية وكأن شيئا لم يحدث لم نقدر حبس ضحكاتنا احدنا على الآخر لأننا كنا في وضع بائس حقا فقد انقلبت المناقل وضاعت في المياه واسرع الجميع لألتقاط شيء اسقطته الدوامة في الماء.. فتوقفنا عند جزرة صغيرة.. ولأن حقائبنا كانت مثلنا مبللة تماما، ترتب علينا خلع ثيابنا ونشرها في الشمس لتجف قدر الممكن..فرأينا على البعد سربا من البجع وقد هبط للراحة على شاطيء رملي فارشا اجنحته تحت ضوء الشمس وكأنه يسخر مما حل بنا من معضلات..وفجأة راينا الكلك يجري مع الماء فقفز احد الاغوات بسرعة خلفه ولحق به لحسن الحظ.. ولو انه اخفق لكنا قد تركنا على تلك الجزرة النائية عراة لاغطاء لنا غير السماء..[يبدو انهم تركوا ثيابهم لتجف على ظهر الكلك]..
وعندما جفت ملابسنا بعض الشيء، واصلنا رحلتنا..غير ان تجدد زخات المطر افسد علينا النتائج المتواضعة لمحاولتنا السابقة [تجفيف ثيابنا]..وكان الليل شديد الظلمة بحيث توجب علينا التوقف وربط الكلك بالشاطيء خوفا من الأنجذاب في دوامات أخرى..وعلى الرغم من البرد القارص ولكوننا مبللين حتى الجلد، لم نجرأ بأيقاد نار خوفا من جلب انتباه العرب [لاتخلو الكلمة من تعميم لأن اقوام مختلفة كانت بالإضافة الى البدو، تغير بهدف السرقة، على القوافل والأكلاك ومنها الأكراد والأيزيدية وغيرهم]..فسحبنا بصمت كلكنا تحت صفصافة وانتظرنا بشوق الشمس لكي تبزغ من وراء جبال الحدود الفارسية لتبعث الدفء فينا..
وعلى مسافة غير بعيدة عن الجزيرة، دخل دجلة سهلا آخر مغادرا جبال [جبل] جودي الشاهقة بديعة المنظر ذلك الجبل الذي تدور الروايات على ان نوح هبط بصحبته من الاجناس المختلفة على قمته البيضاء المكسوة بالثلوج..لكن المشهد منذ غادرنا ذلك الجبل اصبح رتيبا فنادرا مانشاهد قرية مأهولة والقرى التي نراهاعند الشاطيء اما مهجورة او خرائب..من الواضح اننا دخلنا ارض العرب..إذ لاتوجد اشجار وحيث تجد شجيرة فأن المكان مزار او ضريح [هذا ينطبق على مناطق الأيزيدية لأن العرب لامزارات لهم في المنطقة].. ويكون الضريح او المزار مغطى برقع ممزوقة لا تحصى من الثياب لأن المرضى هنا يعتقدون انهم سيتشافون من المرض ان هم نذروا جزءا من ثيابهم للولي بطريق وضعها على الضريح او القبر.ثم شاهدنا على قمة جبل منعزل معتدل الارتفاع خرائب مدينة قديمة وعندما اقتربنا منها عبرنا بمحاذاة ثلاثة جوانب لهذا الجبل، ولعل هذه المدينة هي [بيزبدا] التي تذكر المصادر انها تقع في صحراء ويحيط بها دجلة من ثلاث جهات وان سابور [شابورالثاني المعروف لدى العرب بشابور ذي الأكتاف] حاصرها بعد استيلائه على عاميدا [دياربكر] وانه بعد استيلائه عليها بنى فيها حصنا فارسيا [تقع جزيرة ابن عمر وقلعتها التي شيدها الآشوريون واعاد اعمارها الرومان في المثلث العراقي السوري التركي ويحيط بها دجلة من الشمال والشرق والجنوب..ويذكر الرحالة توديللا ان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد شيد مسجدا من بقايا سفينة نوح فيها وذكر المسعودي ان آثار السفينة كانت موجودة فيها على وقته]..
وبعد تجاوزنا خرائب الموصل القديمة [اسكي موصل] لاحت قبل المساء منائر الموصل. وتلك ابعد نقطة وصلتها شرقا وقد استدار رفاق سفري الأتراك تجاه الغرب عند اداء صلاتهم بينما يستقبل المسلمون في القسطنطينية القبلة في اتجاه جنوبي شرقي..والموصل محطة مهمة تقع وسط الطريق بالنسبة للقوافل بين بغداد وحلب. وتقع في واحة وسط الصحراء مما جعلها في حيطة دائمة ازاء القبائل العربية [البدوية المغيرة]..والاسوار التي تحيط المدينة ضعيفة ولكنها عالية وتوفر حماية كافية ضد الجماعات غير النظامية من الخيالة البدو..وكان الباب العمادي الذي ورد ذكره منذ الحملات الصليبية، ما يزال قائما على الرغم من كونه قد بني ليصبح جزءا من السور..والبيوت مشيدة في معظمها من الطابوق المجفف في الشمس مع نوع من الملاط [جص] يتصلب في غضون ثوان..ويعلق اهل الموصل، اسوة بالمشارقة، اهمية كبيرة على الأبواب الكبيرة والمزينة بالزخارف..فقد رأيت ابوابا ترتكز على عقود معمدة من الرخام الذي يستخرج من اماكن قريبة من بوابات المدينة .. اما سقوف البيوت فمسطحة تحيطها ستائر واطئة..ورأيت في معظم البيوت الكبيرة آثار ضربها بالقذائف [الرصاص] وتشبه هذه البيوت التحصينات بما يذكرنا بقصور فلورنسا غير ان البيوت هنا اصغر وابسط واقل اكتمالا من الناحية المعمارية..
ويتألف سكان الموصل من خليط متنوع فبالأضافة الى السكان الكلدان وهم سكان المدينة الاصليين،هنالك العرب والاكراد والفرس والترك الذين توالوا على حكم الكلدان على نحو متعاقب [العبارة غير دقيقة لأن الفرس والكرد لم يحكموا كلدان الموصل ولا تؤيد المصادر وجود اسر فارسية في الموصل].. واللغة التي يتحدث بها اهل الموصل العربية..
وقد استقبلنا اينجة بيرقدار والي الموصل بحفاوة بالغة وامر بطريرك الأرمن [الكلدان] بأستضافتنا. ولاحظت ان النسطوريين واليعقوبيين لديهم اجمل الكنائس التي رأيتها في تركيا ولكنهم يعيشون في خلاف وكراهية..ورأيت ان احدى تلك الكنائس تعود ، ولأسباب اجهلها، لجماعتين مختلفتين ولأن اي شيء تقوم به الجماعة الأولى يعد كفرا في نظر الجماعة الثانية، عمدوا على تقسيم القوس الجميل وسط الكنيسة بجدار من الطابوق وفي مركز الكنيسة مباشرة..
وكان مضيفنا البطريرك اليعقوبي في حال من الاضطراب لا توصف لاستضافته هراطقة [يقصد هو وزميله فون ميلباخ كونهما ينتسبان لمذهب مختلف]، ولكنه فضلّنا كثيرا على النسطوريين والأورثودوكس ولأن مسيحيا لم يستقبل بمثل مااستقبلنا به من حفاوة من قبل الباشا وكان وجهاء المسلمين يتوافدون لتحيتنا والترحيب بنا، فكان يعاملنا بلطف كبير بل انه باعني نسخة من الانجيل باللغتين العربية والسريانية..
وفي الزاوية الشمالية الغربية للمدينة تنحدر الهضبة فجأة نحو النهر..هنا ترفع مياه النهر بوساطة برج عال من الخشب وخرطوم من الجلد وحبل يجره حصان ويفرغ الماء في احواض كبيرة من الطابوق ليوزع على البساتين والحدائق..ولكن المناطق الخالية داخل الاسوار والحقول المجاورة فقط هي المزروعة..ولو يستخدم جزء فقط من مياه دجلة المارة في الموصل لأغراض الري، لأصبح هذا البلد بأكمله من اخصب مناطق العالم..وقد حفزت هذه الفكرة بدون شك الناس منذ عصور لبناء سدود صخرية تعترض مجرى النهر لبضع ساعات فوق المدينة [كمشاريع سنحاريب الإروائية].. ومن المؤكد ان ارواء الحقول بمحاذاة دجلة كلها ليس بالامر الصعب، غير ان العرب [البدو] الذين يغيرون بصورة شبه دائمية حول المدينة يجعلون من الحصاد وجناية الغلال امرا غير مؤكد..
وكان هناك سوق مخصصة للعرب خارج سور المدينة مباشرة يبدو ان الهدف منها الحيلولة دون دخول تلك الشخصيات المثيرة للشكوك الى المدينة..
ويمتد فوق فوضى العديد من الاكواخ الطينية عدد من اشجار النخيل دقيقة الجذوع بسموق بهي تبدو انها آخر ملامح الصحراء.. وتشبه تلك النخلات القصب النامي الى ارتفاعات شجر..فهي الى الجنوب اقرب منها الى الشمال غير انها تعطي العرب ثقة الذين يشعرون انهم في أعالي بلاد الرافدين على الرغم من انهم لم يبتعدوا كثيرا عن المر [الكندر] والبخور في مواطنهم القديمة.. هنا يتجمع ابناء الصحراء جالسين القرفصاء راكزين رؤوس رماحهم في الرمال ليبدوا اعجابهم بالمدينة التي تثير لدى الاوربيين مشاعر متناقضة تماما لتلك التي تثيرها لدى العرب..والتي لايوجد مايماثلها عبر مئات من الاميال..
ولربما لانجد بين الامم امة حافظت على شخصيتها وعاداتها [تقاليدها] وأخلاقياتها ولسانها بدون تغيير عبر القرون كالعرب..وتمكنوا من ذلك على الرغم من التحولات العديدة الكبرى في العالم..فقد كان العرب امة من البدو والرعاة والصياديين يجوبون صحار نائية ومجهولة بينما نهضت مصر وآشور واليونان وبلاد فارس وروما وبيزنطة وسقطت تباعا..ثم وبدافع فكرة ملهمة نهض العرب بدورهم فجأة ليصبحوا ولعهود طويلة اسياد اجمل الوديان في العالم القديم فأصبحوا حملة الحضارة والعلوم.. فبعد وفاة النبي بمائة سنة، تمكن خلفاؤه المشارقة من بسط حكمهم من جبال الهملايا وحتى جبال البرنز ومن الهند وحتى المحيط الأطلسي..ولكن المسيحية بما فيها من اكتمال روحي ومعنوي بل وبما فيها من تعصب كان يترتب على اخلاقياتها الرفيعة ان تجعل منه امرا مستحيلا، تمكنت من اخراج العرب الى ديارهم مرة اخرى من اوربا [هنا ينتقد مولتكة التعصب اوحالة انعدام التسامح التي يرى انها ميزت المسيحية في العصور القديمة ويرى ان الوجود العربي تكرر في أوربا ربما في مقارنة مع توغل الفينيقيين بزعامة هنيبعل في روما وتأسيسهم لحواضر ومدن عديدة في اسبانيا وايطاليا وجزر البحر المتوسط]..وعملت القوة الغاشمة للترك على تقويض الحكم العربي في المشرق لذا وجد ابناء اسماعيل انفسهم في الصحراء مرة أخرى..
هؤلاء العرب الذين بلغوا شأوا عظيما في الحضارة والتمدن واستقروا في متابعة الزراعة والتجارة والصناعة انحدروا بسبب هيمنة الإستبداد لحكم الحديد..فقد تظافرت ممارسات اصطناعية لحكومة تحاول تقليد الطرائق الاوربية وبمساعدة الفرنجة انفسهم كاستقدام الإحصاء السكاني وفرض الضرائب والرسوم والاحتكارات وفرض التجنيد الإجباري وبناء الجيوش الدائمية ومقايضة المناصب وانشاء الكمارك والعبودية ومااليها من رذائل الشرق بالإضافة الى طاقة محمد علي وإرادته الجامحة وحظه الوافر، اقول تظافر كل ذلك بمنجز كبير واحد هو الطغيان الصروحي، وهو طغيان لا نظير له حيث يرزح تحت نيره الفلاح المصري بأوجاعه وينوء تحت وطأته العرب في سورية والذي تحول تحته بلدا باكمله الى ملكية خاصة وامة كاملة الى عبيد شخصيين..[ منطق مذهل يذكرنا بالكواكبي وبدعاة الثورة العربية اكثر منه بجنرال الماني..إلا ان مولتكة يعبر عن روح حرة ترفض القيد ومن هنا جاء انتقاده اللاذع للحكومتين العثمانية والألبانية في مصر]..
وعموما فإن العرب في معظمهم، على اية حال، بقوا متمسكين بتقاليدهم القديمة ولاسبيل للإستبداد من السيطرة عليهم..فقد عملت الصحاري العربية في آسيا وافريقيا وسمائهم اللاهبة وارضهم المحترقة بل وفقرهم على حمايتهم على الدوام فلم يكن حكم الفرس والرومان واليونان سوى شيء عابر وجزئي بل كان حكما اسميا فحسب..فالبدوي اليوم يشبه اسلافه في الماضي السحيق مازال يعيش حياة العوز والكد والإستقلال..يرعى في الوهاد نفسها ويسقي قطيعه من الآبار نفسها التي استخدمها اسلافه في زمن موسى او زمن محمد..
إن اقدم الروايات في وصف العرب تنطبق على البدو في يومنا، فما برحت النزاعات تصف الحال السائدة بين العديد من القبائل وما زال الاختلاف على اماكن الرعي او عائدية بئر من الآبار سببا للحرب بين العديد من الأسر، وما برح الثأر من جهة والكرم من جهة ثانية يمثلان رذائل العرب وفضائلهم..وحيثما احتك العرب في حدود بلادهم مع امم اجنبية فالحرب هي النتيجة الحتمية لهذا الإحتكاك.. فقد اقتسم اولاد ابراهيم الاراضي الغنية والخصبة فيما بينهم ورموا اسماعيل وقومه في الصحراء لذلك عزل العرب عن الامم وباتوا ينظرون الى الاجانب والاعداء بعين واحدة..ولانهم يعجزون عن تدبير منتجات الصناعة لأنفسهم صاروا يعتقدون بأن لهم الحق في انتزاع هذه المنتجات حيثما يجدونها [في هذا النص تعميم يحاكي بعض النصوص الاستشراقية فليس العرب كلهم بدوا وليسوا كلهم من سكنة الصحراء وما ينطبق على البدو لاينطبق على سكان المدن]
لكن باشوات مقاطعات [ولايات] الحدود يواجهون إغارات البدو المستمرة باجراءات قمعية وعلى نطاق واسع ولايولون ادنى اهتمام بالمعاناة الي تلحق افراد لاناقة لهم ولاجمل بما يحدث، فعندما يتقدم الجيش بخيالته النظامية ومشاته ومدفعيته يشتت حتى اكبر العشائر ويشيع الفوضى في مضاربها..فالعربي لا يريد ان يصمد في ارضه امام نار البنادق وان يتعرض لهجوم بالمدفعية لا يقدر طبعا ان يرد عليه..وهو لا يخاف على حياته قدر خوفه على حصانه او مهرته فالفرس الأصيل غالبا ما تشكل ثروة ثلاث او اربع اسر..وبينما يكون الحصان الذي يملكه ثلاثة او اربعة بيننا في اسوء حال، يختلف الامر لدى العرب فكلما تعدد ملاك الحصان، كثر الاهتمام به..
وعندما ينجح الأتراك في هجوم مباغت على عشيرة من عشائر العرب، فأنهم يسوقون الاغنام والمعيز والجمال القليلة التي للعشيرة وربما يأخذذون رهائن يحتجزونهم كالعبيد في سجون بائسة..فقد وجدت في كوخ اشبه باسطبل في سراي اورفا تسعة رجال مسنين مقيدين بسلسلة من الحديد تتصل بسلاسل اقصر تمتد من حلقات حول اعناقهم.. ويخرجهم الأتراك مرتين في اليوم الى مكان السقاية تماما كالمواشي..وقد طلب الترك من قبيلتهم فدية باهضة مقدارها 150.000 بياستر تمكنت القبيلة من جمع ثلث الكمية..وعندما رأيت هؤلاء الرجال المسنين كانوا في وضع بائس ولا أمل في افتدائهم إطلاقا..وكان الباشا قد وعدني بإطلاق سراحهم ولا أدري أن حافظ على وعده ام لا..
غير ان مثل هذه الممارسات لا تردع العرب فهم لا يعرفون الإستقرار ما دامت لخيولهم القدرة على حملهم والتنقل بهم فالمنطقة الكائنة في جنوب طوروس باسرها تحمل شواهد اغاراتهم فقد اشتركت في هذه المنطقة جداول مذهلة تتدفق من الجبال ووفرة كبيرة من المياه والغدران وسماء ساطعة تبعث شمسها الدفء فضلا عن تربة هي الأخصب في جعل هذه المنطقة ضربا من الجنائن هذا فقط اذا تفادى الناس تخريبها..فالثلوج غير معروفة هنا وفي اي مكان تشق فيه ترعة ماء مهما بلغت من الصغر تنبع من الارض شجرة زيتون او عريشة كروم او شجرة توث او شجرة رمان و فاكهة من كل نوع..بينما تعد غلال الحبوب والرز والقطن الافضل في هذه المنطقة من اية منطقة اخرى في العالم..ولكن لم يبق من كارات [الأسم الروماني] حران مقام ابراهيم سوى تل من التراب واجزاء من السور خربة.. ولم يبق من دارا تلك المدينة الرائعة التي بناها جوستينيان سوى خرائب وفي موقع نصيبين المدمرة بالكامل بنى حافظ باشا ثكنات للخيالة في الآونة الأخيرة كلفت حمايتها المدينة والقرى المجاورة حصيلة جديدة من ارواح الناس فلم يبق سوى اورفا والموصل مدينتان كبيرتان تبدوان وكأنهما المعلمان الوحيدان لبلاد الرافدين [ تمتد بلاد الرافدين في جغرافيتها الطبيعية من أعالي طوروس وحتى البحرين ومن جبال زاكروس وحتى حوضي الخابور والعاصي])..
ثم يحدثنا مولتكة قبل عودته الى المانيا عن عادة الغزو عند البدو وعن الجمال والخيول على نحو يماثل حديث فيليب حتي عن الجمل العربي والخيول العربية ويروي حكاية عن عربي باع حصانه لأحد أغوات الترك وانصرف به بدون سرج الى الصحراء ومعه الثمن الذي تقاضاه ليعود مجددا الى اورفا مخيرا التركي باسترجاع نقوده او بأخذ الفرس.. ثم يحدثنا عن قبيلة شمر قائلا:
(اتجهت الأنظار في الآونة الأخيرة على عرب قبيلة شمر ممن يوطنون الاراضي ما بين دجلة والفرات ويقدرون على تحشيد 10.000 فارس في اية لحظة وذلك لقيامهم بالإغارة على القوافل ونهبها ولرفضهم الأعتراف بالشيخ الجديد الذي عينه السلطان العثماني عليهم..مما جعل حافظ باشا يقرر توجيه ضربة لهم فطلب من باشا اورفا وباشا ماردين التحرك ضدهم وحاول اقناع باشا الموصل الذي لايقع تحت سلطته بالتحرك ضدهم ايضا ولو تحقق ذلك لأرغم الشمر على الانسحاب نحو الفرات حيث تقيم قبائل العنزة المعادية لهم..لكن انجة بيرقدار لا يمكن ان يقوم بحملة مكلفة وقليلة المغنم..وعندما جاءت الأوامر من ولاية بغداد كانت نوايا واليي اورفا وماردين قد وصلت الشمر الذين تلاشو في مناطق مجهولة مما حال دون حصول اية مواجهة..
وبعد اقامة قصيرة وممتعة في الموصل، قررنا العودة عبر الصحراء في قافلة كانت توشك على المغادرة..ولأن الهجمات الأخيرة كانت قد اغضبت العرب ..زودت القافلة باربعين خيال..فالتحقنا بها عند المساء على مسافة ساعتين عن الموصل بالقرب من دجلة حيث يتزود الجميع بالماء وكان باشا الموصل قد ابلغ الكروان باشي بوصولنا فاستعد للقائنا وطهى جديا لعشائنا)..
ثم يسترسل مولتكة في وصف تفاصيل الرحلة ليلة اثر أخرى حتى يخبرنا بعد اربعة ايام من رحلة العودة:
(وصلنا في اليوم الخامس سفح جبل وبالقرب من ترعة ماء رقراق قرية تلاجة او شلاكا وهي على الارجح تيلسافاتا القديمة حيث وجد جوفيان وجيشه الجائع في طريق عودته من بلاد فارس الى نصيبين الميرة التي يحتاج اليها جيشه [هنالك قرية اسمها ثلاجة في محافظة الحسكة السورية ربما كانت هي المقصودة] وهناك وصلتني انباء مفادها ان محمد باشا [اينجة بيرقدار والي الموصل] يقود حملة ضد الأكراد في الشمال فقررت فورا الإلتحاق به وغادرت القافلة ووصلت معسكره في المساء..فأبلغني ان حافظ باشا ارسل فرقة من الحرس تتألف من 50 فارس لملاقاتنا ولكننا لم نلتق بهم لأنهم كانوا يبحثون عنا في اتجاه سنجار)..
نستدل من جاهزية مولتكة واستعداده للإلتحاق بل والتحاقه فعلا بجيش اينجة بيرقدار [المتجه ضد الأغوات الأكراد] أنه كان في مهمة عسكرية [سرية] في زيارته للموصل وان المشكلات والقلاقل التي كانت تشغل الدولة العثمانية لم تكن بعيدة عن اهتماماته..واي كانت دوافع مولتكة وأهدافه من زيارته الموصل واختياره العودة بطريق الصحراء، فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار زيارته تلك سفرة ترفيهية وبخاصة ازاء ما اعتورها من مخاطر في نهر دجلة..ولا ندري ماحدث لمولتكة بعد التحاقه بإينجة بيرقدار في الحملة ضد بيكوات الكرد..لأن روايته تنتهي في المقطع السابق..وكان لابد من تضمينها في السرديات التي تناولت الموصل ومحيطها الاقليمي في القرن التاسع عشر لكونها من نوادر الرحلات ولأنها تميط اللثام عن حوادث تاريخية وتفاصيل مهمة عن الموصل ومهاد الدور الألماني في الحروب العثمانية..
ملاحظة حول الصور المرفقة والمصادر: تتنوع المصادر عن الحروب التي خطط لها مولتكة وقادها في مقالات وكتب عديدة وهي جزء من تاريخ المانيا واوربا ..والمصدر الوحيد المعتمد عن رحلته الى الموصل هو روايته عن رحلته الى تركيا التي قادتني اليها اشارة للرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل اذ ذكر ان مولتكة اقام في كنيسة الكلدان في الموصل واشترى نسخة نادرة من الانجيل.. والصور المنتخبة لاتوجد في كتاب مولتكة بل موزعة في مصادر عديدة الهدف منها اعطاء صورة عن العصر والموصل في القرن التاسع عشر.. وقد لاحظت ان معظم كتب الرحلات الألمانية تخلو من الصور وأن وجدت فهي صور شحيحة ورديئة النوعية مقارنة بكتب الرحلات الفرنسية والأنكليزية..
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
في مراجعة تاريخ الرحلات الى الشرقين الادنى والأوسط، تشغل الرحلات الى العراق والموصل بوجه خاص نسبة كبيرة من مجمل تلك الرحلات مما يؤشر الى نمط معين اي تكرار تلك الرحلات الى العراق والموصل تحديدا مما يدعونا الى التفكير بالاسباب والدوافع على محاور الزمان والمكان والاهداف المتوخاة من الرحلة.. فقد شغل الشرق الادنى بصفته حاضنة تاريخية للحضارات القديمة والأديان الرئيسة وبيئة للغرائب والعجائب ومركزا للمدن الغابرة الدفينة خيال الاوربيين منذ القرون الوسطى ..وقد عززت الترجمة المبكرة لألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر هذا التوجه التخيلي للمشرق..وهو توجه تجسم من الناحية الفنية بحركة الاستشراق اي محاولة تصوير الشرق في الاداب كالشعر والرواية والفنون الاوربية كالموسيقى والتصوير بينما تجسد من النواحي العملية بتاسيس المراكز التجارية في المدن الشرقية كالقسطنطينية وبغداد والقاهرة والموصل والبصرة ودمشق وحلب وغيرها..وعزز حركة الرحلات الى الشرق الادنى الحكم البريطاني للهند او الراج البريطاني 1858-1947..فالشرق عموما وبلاد الرافدين بوجه خاص هما بالنسبة للاوربيين بيئة للمغامرات والتجارب الفائقة للعادة.. فبلاد الرافدين مكان احتضن منذ العصور القديمة آثار المحاولات الاوربية الاولى لاستكشاف العالم اوغزوه فهي المكان الذي سارت فيه جيوش الاسكندر المقدوني والجيوش الرومانية وهي المكان الذي زاره زينوفون وهيرودوتوس.. وهي مهاد الاديان السماوية الرئيسة وتجري في الشرق الأدنى وديان الانهار الكبرى التي ترعرعت على ضفافها الامبراطوريات القديمة في وادي النيل وبلاد الرافدين التي قدمت للانسانية اعظم اختراعين هما الكتابة والعجلة.. وطبيعة الحياة في المدن الشرقية تزخر بالحيوية والاثارة اذ يحدث كل شيء في وقت واحد وبمقدور الشخص ان يتنقل وياكل ويبيع ويشتري في اي وقت من اوقات النهار الذي يحدث فيه كل شيء..فالشرق يختلف بطعامه والوانه وبشره وتاريخه وعمارته وبأيقاعه الزمني وبكل شيء عن الغرب مما يجعل من مجرد الاختلاف دافعا يثير حب الاستطلاع لدى الاوربيين لزيارته.. اما تركز الرحلات في القرن التاسع عشر فيعود الى تظافر العوامل السالفة فضلا عن انتشار الوعي الجغرافي ووجود جهات داعمة تمول الرحلات كالمتاحف والجمعيات التاريخية والجغرافية والتبشيرية.. وقد تكون اهداف الرحلة عسكرية او لمجرد حب الاستطلاع كما في رحلة رئيس اركان الجيش الالماني المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر الى الموصل عام 1838..وهي من الرحلات التي يندر التطرق اليها في المصادر والمصدر الوحيد الذي تناولها كان رسالة للمارشال مولتكة نفسه عثرت عليها باللغة الالمانية ضمن كتابه [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] يتطرق فيها الى اقامته في كنيسة الكلدان في الموصل ويصف المدينة وفيما يأتي ترجمة لحديثه عن رحلته الى الموصل ووصفه لها بعد تقديم تعريفي به وبعصره ومنجزاته:
فون مولتكة الاكبر:
وردت صفة [الاكبر] على اسم مولتكة تمييزا له عن ابن اخته المعروف باسم مولتكة [الأصغر] ايضا والذي كان يشغل منصب رئيس اركان الجيوش الالمانية للفترة 1906-1914 ويماثل خاله باهتماماته الستراتيجية والعسكرية..ومولتكة موضوع دراستنا هذه ولد عام 1800 في اسرة المانية موسرة انتقلت الى هولشتاين عندما كان مولتكة في الخامسة من عمره فتعرضت ممتلكات اسرته هناك للحرق والنهب عندما اقتحمت القوات الفرنسية المنطقة في اثناء حرب التحالف الرابع 1806-1807 فارسل مولتكة الى هوهنفيلد الحدودية وكان عمره التاسعة وبعد سنتين دخل مولتكة المدرسة العسكرية في كوبنهاكن بهدف الانخراط بالجيش الدنماركي فواصل تعليمه العسكري سبع سنوات وتخرج بصفة ملازم ثان عام 1818..وبعد خدمته في وحدة مشاة دنماركية، عاد مولتكة الى المانيا ودخل في خدمة الجيش البروسي..وفي المانيا عين مديرا لمدرسة عسكرية في فرانكفورت اودير ومنها امضى ثلاث سنوات في دراسة مسح عسكري لمقاطعتي سيلسيا وبوسين..ونقل الى رئاسة الاركان العامة في برلين عام 1832 لأمتيازه على زملائه..وبحبه للفنون والموسيقى..
وقد الف مولتكة كونه دارسا مولعا بالتاريخ اعمال عديدة في الرواية وبدأ عام 1832 بترجمة كتاب جيبون [تاريخ تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها]، الى الالمانية. وفي عام 1835 منح اجازة لستة اشهر زار خلالها دول اوربا الجنوبية الشرقية وتركيا. وبينما كان في القسطنطينية، طلب منه السلطان محمود الثاني المساعدة في تحديث الجيش العثماني.. فحصل على ترخيص من برلين ليمضي سنتين في تحديث الجيش العثماني قبل ان يصاحب الجيش في حملة ضد محمد علي حاكم مصر في معركة نزيب 1839 التي قادها من الطرف المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا ومعه الكولونيل الفرنسي سليمان الفرنساوي [چوزيف انتيلمى سيف].. بينما قاد الجيش التركي حافظ باشا وكان على رأس المدفعية العثمانية المارشال مولتكة ومعه عدد من الضباط الألمان..غير ان المرونة التكتيكية لأبراهيم باشا تفوقت على الاحتياطات التحصينية لمولتكة وكانت النتيجة اندحار الجيش العثماني وانتصار العرب المصريين في معركة حاسمة يبدو ان مولتكة تعلم منها البعد الاجرائي في القتال وضرورة تغيير الخطة الهجومية الدفاعية على ارض المعركة في اثناء القتال..
وبعد عودته الى برلين نشر كتابا عام 1840عن رحلته وتزوج ربيبة شقيقته، الانكليزية ماري برت..ثم عين في رئاسة اركان الجيش الرابع في برلين حيث ابدى رغبة قوية في السكك الحديد ودرس توظيفها في المواصلات الحربية وفي عام 1848 عين رئيسا لهيئة الاركان العامة للجيش الرابع وبقي في وظيفته هذه سبع سنوات ترقى بعدها الى مرتبة كولونيل ونقل عام 1855 مساعدا شخصيا للامير فردريك الذي نصب لاحقا بصفة الامبراطور فردريك الثالث..
وقد عين مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة عام 1857 تقديرا لجهوده ومهاراته العسكرية.. وبصفته تلميذا لكلاوسفيتس[كارل فيليب كوتفريد فون كلاوسفيتس: جندي ومنظر عسكري الماني الف كتاب "حول الحرب" اعتمد مولتكة على العديد من آرائه بخصوص الحرب ومنها ان الستراتيجية هي توظيف الوسائل العسكرية لتحقيق الاهداف المطلوبة ويؤمن مثل كلاوسفيتس ان اية خطة عسكرية لن تستمر بعد الاشتباك مع العدو] على ذلك تركز جهد مولتكة على تاكيد فرص النجاح في الحرب بطريق ضمان المرونة العالية وتأمين الجوانب السوقية والمواصلات
(طرقا ووسائل ) لجلب القوة الضرورية الى النقاط الرئيسة للمعركة في الوقت الملائم..اي بمعنى ان الخطة العسكرية ليست هيكلا جامدا بل عملية متغيرة ودايناميكية وان المعارك تتفتق عن امكانيات غير منظورة قد تاتي من العدو نفسه من الممكن الاستفادة منها لتحقيق الهزيمة بالعدو..
وبعد استلامه لمنصبه مباشرة عمد مولتكة الى احداث تغييرات كبيرة في المناهج العسكرية والتدريبية وفي مفاهيم الاركان المتصلة بالتكتيك والتعبئة والستراتيجية .. وبدأ بالعمل المثابر لننهوض بالمواصلات والاتصالات والتدريب والتسليح.. وفي سياق اهتماماته التاريخية اجرى دراسة لتحديد الاعداء المستقبليين لألمانيا ثم شرع بوضع خطط عسكرية لأخضاعهم..وفي عام 1859 حرك الجيش في ممارسة تعبوية للحرب النمساوية السردينية بدون خوض اية معركة ولكنها خطوة مفيدة لتوسيع الجيش وتنظيمه..
وفي عام 1862 دارت مجادلات حول عائدية شلزفيك-هولشتاين مع الدنمارك فوضع مولتكة خطة حربية في حال نشوب الحرب مع الدنمارك.. وكان مولتكة يعلم ان الدنماركيين سيكونون في وضع تصعب معه هزيمتهم اذا تراجعوا للأعتصام بحصون جزيرتهم فوضع خطة يتم وفقها تطويقهم لمنعهم من التراجع.. وعندما بدأت المعارك في شباط عام 1864، لم تنجح خطته وتمكن الدنماركيين من الهرب.. مما دعاه الى الحضور شخصيا الى المعركة التي انتهت لصالح الالمان فعزز نصره هذا مكانته لدى الملك ويلهلم ورئيس وزراءه اوتو فون بسمارك اللذان بدءا بوضع خطط لتوحيد المانيا .. وعهدت المهمة العسكرية لتوحيد المانيا سياسيا لبسمارك وعسكريا لمولتكة.. وعندما بدأت الحرب مع النمسا تمكن مولتكة من الانتصار على النمساويين على الرغم من كثرة جيوشهم وتعدد حلفائهم..ووضف مولتكة الخطوط الحديدية لنقل الجنود الى مواقع القتال..وكانت المعركة الأولى التي استخدم فيها مولتكة اسلوب الحرب الخاطفة [بلتزكريكة] فتمكن من سحق العدو خلال سبعة اسابيع..ثم اشرف مولتكة على تدوين تاريخ الصراع مع الدنمارك الذي نشر عام 1867. وفي عام 1870 املت التوترات المتنامية مع فرنسا ضرورة تحريك الجيش البروسي [الألماني] وكان مولتكة رئيسا لهيئة الاركان العامة وهي مرتبة تخوله اصدار الاوامر باسم الملك..وكان مولتكة قد امضى سنوات في التخطيط للحرب ضد فرنسا.. فحشد قواته جنوبي ماينز ووزعها على ثلاثة جيوش وكان هدفه التحرك في اراضي فرنسا بهدف دحر الجيش الفرنسي والزحف نحو باريس..وكانت الخطة تقضي بتغيير حركة الجيوش المهاجمة صوب مكان تواجد الجيش الفرنسي الرئيسي ولكن بالإلتفاف الى اليمين لدفع الفرنسيين الى الشمال وقطع اتصالهم بباريس وباتباع خطة مولتكة تمكن الالمان من دحر الجيش الفرنسي في معركة سيدان التي سقط فيها الامبراطور نابليون الثالث ومعظم وحدات جيشه بالأسر، ومع مواصلة الزخم تم اسقاط باريس بعد حصار دام خمسة اشهر مما انهى الحرب وافضى الى الوحدة الالمانية. وقلد مولتكة بعد الحرب مرتبة كاونت او كراف بالالمانية كما رقي الى قائد ميداني بالمقام الاول او فيلد مارشال عام 1871 تقديرا لخدماته واصبح نائبا في الرايخستاج او البرلمان الالماني في السنة نفسها وبقي في منصبه رئيسا لهيئة الاركان العامة حتى عام 1888 ولكنه استقال من هذا المنصب بينما بقي في البرلمان حتى وفاته في نيسان عام 1891.
ولعلي اسهبت بعض الشيء في سردي لسيرة حياة هذا الرجل على الرغم من ايجازي الشديد لها غير ان اهميته تنبثق من دوره المهم في توحيد المانيا ولكونه نموذج جيد للعسكري المثابر والبطل القومي الذي احب بلاده وعمل على توحيدها فهو ليس رحالة بالمعنى الوظيفي للكلمة غير ان تضمين زيارته للموصل في سياق الحديث عن الموصل في سرديات القرن التاسع عشر يكتسب اهميته من كون هذه الزيارة نادرة من نوعها ولأني لم اجد مصدرا يتطرق اليها كونها جاءت خلال اقامته في تركيا العثمانية ووردت الاشارة اليها في معرض حديث الرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل خلال الحرب العالمية الاولى..كما ان الاصل الألماني للزيارة ورد في كتب مولتكة [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] وهو كتاب مطبوع ومتوفر بنسخة الكترونية الا ان الخط المستخدم في طباعته هو الفراكتور [المكسر او الالماني القديم] الذي تصعب قرائته ويتطلب ان يترجم مرتين الاولى الى الالمانية الحديثة ثم الى الانكليزية قبل نقله الى العربية وهي مشكلة واجهتها عند ترجمتي لرحلة سفين هدين الى الموصل..غير اني حصلت على نص مترجم الى الانكليزية يغطي رحلته الى الموصل مما وفر علي مشكلات النص الالماني..وهنا لابد من الاشارة الى توفر معلومات كثيرة في كتب باللغة الالمانية القديمة تتناول العراق والشرقين الادنى والأوسط ماتزال ضربا من ضروب الهيروغليفية المخزونة في رفوف غابرة في مكتبات العالم.. وفيما ياتي ترجمة لرحلة مولتكة الاكبر الى الموصل:
مولتكة في الموصل:
رحلة الى الموصل ترجمها من الالمانية الدكتور ادمند فون ماخ
هذه الرسالة هي الثالثة والأربعين من تركيا وهي مؤرخة من جزيرة على نهر دجلة في الاول من مايس عام 1838:
(كنت اخبرتك في رسالتي الاخيرة بان علينا القيام بحملة ضد العرب [استخدمت بالمعنى العام والمقصود بها القبائل العربية التي تغير على القوافل المتجهة غربا والكردية التي تغير على القوافل المتجهة شرقا فضلا عن منطقة جزيرة ابن عمرعلى عهد الوالي اينجة بيرقدار محمد باشا في الموصل]، ولكن ذلك لم يتحقق..مع ذلك فلقد توفرت لي فرصة للتعرف على جزء غاية في الأهمية من البلاد..فقد شرعت بصحبة فون ميلباخ واغوين تركيين مدججين بالسلاح ارسلهما الباشا ومعنا خدمنا ومترجمينا برحلة على نوع من الزوارق يستخدم منذ زمن قورش وهو طوف [كلك] تسنده جلود اغنام منفوخة..وينزل الترك الصيد منزلة المحرمات ولهذا فهم لايأكلون لحم الغزلان والثيران ولكنهم يتناولون كميات كبيرة من لحوم الاغنام والمعز.. ويقطعون جلود هذه الحيوانات من جهة الامام [البطن] قطعا صغيرا قدر الممكن، ويزيلون الاحشاء باعتناء بالغ ثم يخيطون مكان القطع ويشدون بحبال النهايات المفتوحة من الجلد باحكام وعندما ينفخ الجلد ويحدث ذلك بسرعة وبدون ان يلمس الجلد الفم..يطفو فوق الماء ولايمكن اغراقه..ويربط الكلاكون مايتراوح بين 40 و60 قطعة بخمسة او اربعة صفوف من الجلد المنفوخ تحت لوحة خفيفة من اغصان الاشجار.. ويضعون ثماني قطع غالبا في مقدمة الكلك و18 قطعة في مؤخرته..ويتوسط الكلك هيكل اشبه بالمحفة المعمولة من الاوراق تغطيها الخرق او السجاجيد المتهرئة وتفرش من الداخل وتوضع فيها وسادات..وبجلوسنا في الكلك انحدر بنا بيسر وراحة .. ولأن التيار كان سريعا لم نحتج الى مجاذيف وتقتصر الحاجة اليها لغرض توجيه الكلك بابقائه وسط التيار وتجنب المناطق الصخرية الخطرة والضحلة في المجرى..لذا ترتب علينا الانتظار كل ليلة لحين ظهور القمر لنتمكن من رؤية معتورات المجرى، وكنا قد قطعنا على الرغم من ذلك مسافة يستغرق قطعها برا 88 ساعة، خلال ثلاثة ايام ونصف.. على ذلك كان النهر يجري بسرعة اربعة اميال في الساعة تقريبا ويكون سريعا في اماكن وبطيئا في اماكن اخرى.. ويغادر دجلة الجبال بالقرب من ارغانا-مادان [معادن ارغانا وهي منطقة مناجم النحاس والحديد والفضة كانت تابعة للأمبراطورية الأكدية والآشورية قبل ان تتحول للسيطرة العربية وبعدها للأقوام التركية المهاجرة اليها من وسط آسيا]، ليجري عبر اسوار دياربكر حيث يرتفع منسوب المياه في الصيف لأنه يتلقى مياه نهر باتمان المتدفق صوب الجنوب، ثم ومباشرة بعد التقاء هذين النهرين يدلف دجلة في اراض جبلية تتكون من الصخور الرملية عندئذ تحولت المنحنيات الهادئة للنهر العريض طفيف العمق الى زوايا ومتعرجات واد عميق حيث تبدو الشطئان اشبه بالجدران الصخرية شديدة الانحدار وقد تنتهي العين الى بساتين داكنة الخضرة في اعالي المرتفعات على جانبي النهر حيث يقيم قرويون بما يشبه الكهوف والمغائر التي توفرها الطبيعة في مثل هذه المناطق النائية..ثم مررنا بمدينة حسن كيف [حصن كيفا] التي تقع على صخرة عالية تتصل بالنهر بطريق درج ضيق وتقدم مشهدا نادرا فالمدينة القديمة في الاسفل قد دمرت ولايوجد سوى منائر قليلة مدببة باتجاه السماء بما يدل على ان بيوتا وجوامع كانت توجد في هذا المكان، ويبدو ان الناس قد ارغموا على الصعود الى القمة حيث شيدوا سورا دفاعيا يحمي الجهة المكشوفة الوحيدة.. وفي الوادي الضيق رأيت كتلا هائلة من الصخور التي دحرجت من المرتفع وقد قام الناس بحفر هذه الصخور لاستخدامها بيوتا يقيمون فيها.وتشكل هذه (الأكواخ) اليوم مدينة صغيرة تكونت كيفما اتفق وعلى نحو غير منتظم تماما مع ذلك نجد ان لهذه المدينة سوقا صغيرة.. وابرز معالم المدينة بقايا جسر عبر دجلة وهناك قوس عملاق يتراوح طوله بين 80 و100 قدم ولا ادري لمن يعود الفضل في تشييد هذا المنجز المعماري الجريء لملوك ارمينيا ام لملوك اليونان ام ربما للخلفاء المسلمين؟
من المستحيل ان يسافر المرء سفرا مريحا كالسفرة المتاحة لنا على هذا الكلك..فنحن نستلقي فوق وسادات من الريش والى جانبنا مانشتهي من اطعمة ونبيذ وشاي فضلا عن منقل نضع فيه الفحم عند الحاجة وكنا ننحدر في النهر بسرعة عجلة سريعة وبدون ايما اجهاد..غير ان العنصر الذي حملنا سرعان ما تحول لايذائنا في شكل آخر فقد كانت السماء تسح كأفواه القرب بدون توقف بعد مغادرتنا دياربكر..فمظلاتنا لم تعد تحمينا من المطر بينما تغلغلت المياه في معاطفنا وثيابنا والبسط التي نجلس عليها. وفي يوم عيد الفصح الذي وافق مغادرتنا الجزيرة، تدفق ضوء الشمس من بين الغيوم باعثا الدفء في اطرافنا المتشنجة.. وبعد ميلين من المدينة بدث خرائب جسر آخر عبر دجلة وكانت احدى دعاماته تتسبب بدوامة عنيفة حيثما يرتفع مستوى النهر..ولم تجد جهود رجال المجاذيف نفعا فسحبت كاريبديز[اشارة الى وحش في مسينا تقوم مع سيلا وهي وحش آخر بسحب السفن وسحقها في الاساطير اليونانية وقد تحول معناهما في الوقت الحاضر لتصبحا دوامتين كبيرتين مهلكتين] مركبنا الصغير بسرعة سهم فاصبحنا على حين غرة تحت الماء بينما غطتنا موجة عملاقة .. وكان الماء باردا كالثلج..وبينما واصل كلكنا طريقه بدون ان ينقلب في اللحظة التالية وكأن شيئا لم يحدث لم نقدر حبس ضحكاتنا احدنا على الآخر لأننا كنا في وضع بائس حقا فقد انقلبت المناقل وضاعت في المياه واسرع الجميع لألتقاط شيء اسقطته الدوامة في الماء.. فتوقفنا عند جزرة صغيرة.. ولأن حقائبنا كانت مثلنا مبللة تماما، ترتب علينا خلع ثيابنا ونشرها في الشمس لتجف قدر الممكن..فرأينا على البعد سربا من البجع وقد هبط للراحة على شاطيء رملي فارشا اجنحته تحت ضوء الشمس وكأنه يسخر مما حل بنا من معضلات..وفجأة راينا الكلك يجري مع الماء فقفز احد الاغوات بسرعة خلفه ولحق به لحسن الحظ.. ولو انه اخفق لكنا قد تركنا على تلك الجزرة النائية عراة لاغطاء لنا غير السماء..[يبدو انهم تركوا ثيابهم لتجف على ظهر الكلك]..
وعندما جفت ملابسنا بعض الشيء، واصلنا رحلتنا..غير ان تجدد زخات المطر افسد علينا النتائج المتواضعة لمحاولتنا السابقة [تجفيف ثيابنا]..وكان الليل شديد الظلمة بحيث توجب علينا التوقف وربط الكلك بالشاطيء خوفا من الأنجذاب في دوامات أخرى..وعلى الرغم من البرد القارص ولكوننا مبللين حتى الجلد، لم نجرأ بأيقاد نار خوفا من جلب انتباه العرب [لاتخلو الكلمة من تعميم لأن اقوام مختلفة كانت بالإضافة الى البدو، تغير بهدف السرقة، على القوافل والأكلاك ومنها الأكراد والأيزيدية وغيرهم]..فسحبنا بصمت كلكنا تحت صفصافة وانتظرنا بشوق الشمس لكي تبزغ من وراء جبال الحدود الفارسية لتبعث الدفء فينا..
وعلى مسافة غير بعيدة عن الجزيرة، دخل دجلة سهلا آخر مغادرا جبال [جبل] جودي الشاهقة بديعة المنظر ذلك الجبل الذي تدور الروايات على ان نوح هبط بصحبته من الاجناس المختلفة على قمته البيضاء المكسوة بالثلوج..لكن المشهد منذ غادرنا ذلك الجبل اصبح رتيبا فنادرا مانشاهد قرية مأهولة والقرى التي نراهاعند الشاطيء اما مهجورة او خرائب..من الواضح اننا دخلنا ارض العرب..إذ لاتوجد اشجار وحيث تجد شجيرة فأن المكان مزار او ضريح [هذا ينطبق على مناطق الأيزيدية لأن العرب لامزارات لهم في المنطقة].. ويكون الضريح او المزار مغطى برقع ممزوقة لا تحصى من الثياب لأن المرضى هنا يعتقدون انهم سيتشافون من المرض ان هم نذروا جزءا من ثيابهم للولي بطريق وضعها على الضريح او القبر.ثم شاهدنا على قمة جبل منعزل معتدل الارتفاع خرائب مدينة قديمة وعندما اقتربنا منها عبرنا بمحاذاة ثلاثة جوانب لهذا الجبل، ولعل هذه المدينة هي [بيزبدا] التي تذكر المصادر انها تقع في صحراء ويحيط بها دجلة من ثلاث جهات وان سابور [شابورالثاني المعروف لدى العرب بشابور ذي الأكتاف] حاصرها بعد استيلائه على عاميدا [دياربكر] وانه بعد استيلائه عليها بنى فيها حصنا فارسيا [تقع جزيرة ابن عمر وقلعتها التي شيدها الآشوريون واعاد اعمارها الرومان في المثلث العراقي السوري التركي ويحيط بها دجلة من الشمال والشرق والجنوب..ويذكر الرحالة توديللا ان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد شيد مسجدا من بقايا سفينة نوح فيها وذكر المسعودي ان آثار السفينة كانت موجودة فيها على وقته]..
وبعد تجاوزنا خرائب الموصل القديمة [اسكي موصل] لاحت قبل المساء منائر الموصل. وتلك ابعد نقطة وصلتها شرقا وقد استدار رفاق سفري الأتراك تجاه الغرب عند اداء صلاتهم بينما يستقبل المسلمون في القسطنطينية القبلة في اتجاه جنوبي شرقي..والموصل محطة مهمة تقع وسط الطريق بالنسبة للقوافل بين بغداد وحلب. وتقع في واحة وسط الصحراء مما جعلها في حيطة دائمة ازاء القبائل العربية [البدوية المغيرة]..والاسوار التي تحيط المدينة ضعيفة ولكنها عالية وتوفر حماية كافية ضد الجماعات غير النظامية من الخيالة البدو..وكان الباب العمادي الذي ورد ذكره منذ الحملات الصليبية، ما يزال قائما على الرغم من كونه قد بني ليصبح جزءا من السور..والبيوت مشيدة في معظمها من الطابوق المجفف في الشمس مع نوع من الملاط [جص] يتصلب في غضون ثوان..ويعلق اهل الموصل، اسوة بالمشارقة، اهمية كبيرة على الأبواب الكبيرة والمزينة بالزخارف..فقد رأيت ابوابا ترتكز على عقود معمدة من الرخام الذي يستخرج من اماكن قريبة من بوابات المدينة .. اما سقوف البيوت فمسطحة تحيطها ستائر واطئة..ورأيت في معظم البيوت الكبيرة آثار ضربها بالقذائف [الرصاص] وتشبه هذه البيوت التحصينات بما يذكرنا بقصور فلورنسا غير ان البيوت هنا اصغر وابسط واقل اكتمالا من الناحية المعمارية..
ويتألف سكان الموصل من خليط متنوع فبالأضافة الى السكان الكلدان وهم سكان المدينة الاصليين،هنالك العرب والاكراد والفرس والترك الذين توالوا على حكم الكلدان على نحو متعاقب [العبارة غير دقيقة لأن الفرس والكرد لم يحكموا كلدان الموصل ولا تؤيد المصادر وجود اسر فارسية في الموصل].. واللغة التي يتحدث بها اهل الموصل العربية..
وقد استقبلنا اينجة بيرقدار والي الموصل بحفاوة بالغة وامر بطريرك الأرمن [الكلدان] بأستضافتنا. ولاحظت ان النسطوريين واليعقوبيين لديهم اجمل الكنائس التي رأيتها في تركيا ولكنهم يعيشون في خلاف وكراهية..ورأيت ان احدى تلك الكنائس تعود ، ولأسباب اجهلها، لجماعتين مختلفتين ولأن اي شيء تقوم به الجماعة الأولى يعد كفرا في نظر الجماعة الثانية، عمدوا على تقسيم القوس الجميل وسط الكنيسة بجدار من الطابوق وفي مركز الكنيسة مباشرة..
وكان مضيفنا البطريرك اليعقوبي في حال من الاضطراب لا توصف لاستضافته هراطقة [يقصد هو وزميله فون ميلباخ كونهما ينتسبان لمذهب مختلف]، ولكنه فضلّنا كثيرا على النسطوريين والأورثودوكس ولأن مسيحيا لم يستقبل بمثل مااستقبلنا به من حفاوة من قبل الباشا وكان وجهاء المسلمين يتوافدون لتحيتنا والترحيب بنا، فكان يعاملنا بلطف كبير بل انه باعني نسخة من الانجيل باللغتين العربية والسريانية..
وفي الزاوية الشمالية الغربية للمدينة تنحدر الهضبة فجأة نحو النهر..هنا ترفع مياه النهر بوساطة برج عال من الخشب وخرطوم من الجلد وحبل يجره حصان ويفرغ الماء في احواض كبيرة من الطابوق ليوزع على البساتين والحدائق..ولكن المناطق الخالية داخل الاسوار والحقول المجاورة فقط هي المزروعة..ولو يستخدم جزء فقط من مياه دجلة المارة في الموصل لأغراض الري، لأصبح هذا البلد بأكمله من اخصب مناطق العالم..وقد حفزت هذه الفكرة بدون شك الناس منذ عصور لبناء سدود صخرية تعترض مجرى النهر لبضع ساعات فوق المدينة [كمشاريع سنحاريب الإروائية].. ومن المؤكد ان ارواء الحقول بمحاذاة دجلة كلها ليس بالامر الصعب، غير ان العرب [البدو] الذين يغيرون بصورة شبه دائمية حول المدينة يجعلون من الحصاد وجناية الغلال امرا غير مؤكد..
وكان هناك سوق مخصصة للعرب خارج سور المدينة مباشرة يبدو ان الهدف منها الحيلولة دون دخول تلك الشخصيات المثيرة للشكوك الى المدينة..
ويمتد فوق فوضى العديد من الاكواخ الطينية عدد من اشجار النخيل دقيقة الجذوع بسموق بهي تبدو انها آخر ملامح الصحراء.. وتشبه تلك النخلات القصب النامي الى ارتفاعات شجر..فهي الى الجنوب اقرب منها الى الشمال غير انها تعطي العرب ثقة الذين يشعرون انهم في أعالي بلاد الرافدين على الرغم من انهم لم يبتعدوا كثيرا عن المر [الكندر] والبخور في مواطنهم القديمة.. هنا يتجمع ابناء الصحراء جالسين القرفصاء راكزين رؤوس رماحهم في الرمال ليبدوا اعجابهم بالمدينة التي تثير لدى الاوربيين مشاعر متناقضة تماما لتلك التي تثيرها لدى العرب..والتي لايوجد مايماثلها عبر مئات من الاميال..
ولربما لانجد بين الامم امة حافظت على شخصيتها وعاداتها [تقاليدها] وأخلاقياتها ولسانها بدون تغيير عبر القرون كالعرب..وتمكنوا من ذلك على الرغم من التحولات العديدة الكبرى في العالم..فقد كان العرب امة من البدو والرعاة والصياديين يجوبون صحار نائية ومجهولة بينما نهضت مصر وآشور واليونان وبلاد فارس وروما وبيزنطة وسقطت تباعا..ثم وبدافع فكرة ملهمة نهض العرب بدورهم فجأة ليصبحوا ولعهود طويلة اسياد اجمل الوديان في العالم القديم فأصبحوا حملة الحضارة والعلوم.. فبعد وفاة النبي بمائة سنة، تمكن خلفاؤه المشارقة من بسط حكمهم من جبال الهملايا وحتى جبال البرنز ومن الهند وحتى المحيط الأطلسي..ولكن المسيحية بما فيها من اكتمال روحي ومعنوي بل وبما فيها من تعصب كان يترتب على اخلاقياتها الرفيعة ان تجعل منه امرا مستحيلا، تمكنت من اخراج العرب الى ديارهم مرة اخرى من اوربا [هنا ينتقد مولتكة التعصب اوحالة انعدام التسامح التي يرى انها ميزت المسيحية في العصور القديمة ويرى ان الوجود العربي تكرر في أوربا ربما في مقارنة مع توغل الفينيقيين بزعامة هنيبعل في روما وتأسيسهم لحواضر ومدن عديدة في اسبانيا وايطاليا وجزر البحر المتوسط]..وعملت القوة الغاشمة للترك على تقويض الحكم العربي في المشرق لذا وجد ابناء اسماعيل انفسهم في الصحراء مرة أخرى..
هؤلاء العرب الذين بلغوا شأوا عظيما في الحضارة والتمدن واستقروا في متابعة الزراعة والتجارة والصناعة انحدروا بسبب هيمنة الإستبداد لحكم الحديد..فقد تظافرت ممارسات اصطناعية لحكومة تحاول تقليد الطرائق الاوربية وبمساعدة الفرنجة انفسهم كاستقدام الإحصاء السكاني وفرض الضرائب والرسوم والاحتكارات وفرض التجنيد الإجباري وبناء الجيوش الدائمية ومقايضة المناصب وانشاء الكمارك والعبودية ومااليها من رذائل الشرق بالإضافة الى طاقة محمد علي وإرادته الجامحة وحظه الوافر، اقول تظافر كل ذلك بمنجز كبير واحد هو الطغيان الصروحي، وهو طغيان لا نظير له حيث يرزح تحت نيره الفلاح المصري بأوجاعه وينوء تحت وطأته العرب في سورية والذي تحول تحته بلدا باكمله الى ملكية خاصة وامة كاملة الى عبيد شخصيين..[ منطق مذهل يذكرنا بالكواكبي وبدعاة الثورة العربية اكثر منه بجنرال الماني..إلا ان مولتكة يعبر عن روح حرة ترفض القيد ومن هنا جاء انتقاده اللاذع للحكومتين العثمانية والألبانية في مصر]..
وعموما فإن العرب في معظمهم، على اية حال، بقوا متمسكين بتقاليدهم القديمة ولاسبيل للإستبداد من السيطرة عليهم..فقد عملت الصحاري العربية في آسيا وافريقيا وسمائهم اللاهبة وارضهم المحترقة بل وفقرهم على حمايتهم على الدوام فلم يكن حكم الفرس والرومان واليونان سوى شيء عابر وجزئي بل كان حكما اسميا فحسب..فالبدوي اليوم يشبه اسلافه في الماضي السحيق مازال يعيش حياة العوز والكد والإستقلال..يرعى في الوهاد نفسها ويسقي قطيعه من الآبار نفسها التي استخدمها اسلافه في زمن موسى او زمن محمد..
إن اقدم الروايات في وصف العرب تنطبق على البدو في يومنا، فما برحت النزاعات تصف الحال السائدة بين العديد من القبائل وما زال الاختلاف على اماكن الرعي او عائدية بئر من الآبار سببا للحرب بين العديد من الأسر، وما برح الثأر من جهة والكرم من جهة ثانية يمثلان رذائل العرب وفضائلهم..وحيثما احتك العرب في حدود بلادهم مع امم اجنبية فالحرب هي النتيجة الحتمية لهذا الإحتكاك.. فقد اقتسم اولاد ابراهيم الاراضي الغنية والخصبة فيما بينهم ورموا اسماعيل وقومه في الصحراء لذلك عزل العرب عن الامم وباتوا ينظرون الى الاجانب والاعداء بعين واحدة..ولانهم يعجزون عن تدبير منتجات الصناعة لأنفسهم صاروا يعتقدون بأن لهم الحق في انتزاع هذه المنتجات حيثما يجدونها [في هذا النص تعميم يحاكي بعض النصوص الاستشراقية فليس العرب كلهم بدوا وليسوا كلهم من سكنة الصحراء وما ينطبق على البدو لاينطبق على سكان المدن]
لكن باشوات مقاطعات [ولايات] الحدود يواجهون إغارات البدو المستمرة باجراءات قمعية وعلى نطاق واسع ولايولون ادنى اهتمام بالمعاناة الي تلحق افراد لاناقة لهم ولاجمل بما يحدث، فعندما يتقدم الجيش بخيالته النظامية ومشاته ومدفعيته يشتت حتى اكبر العشائر ويشيع الفوضى في مضاربها..فالعربي لا يريد ان يصمد في ارضه امام نار البنادق وان يتعرض لهجوم بالمدفعية لا يقدر طبعا ان يرد عليه..وهو لا يخاف على حياته قدر خوفه على حصانه او مهرته فالفرس الأصيل غالبا ما تشكل ثروة ثلاث او اربع اسر..وبينما يكون الحصان الذي يملكه ثلاثة او اربعة بيننا في اسوء حال، يختلف الامر لدى العرب فكلما تعدد ملاك الحصان، كثر الاهتمام به..
وعندما ينجح الأتراك في هجوم مباغت على عشيرة من عشائر العرب، فأنهم يسوقون الاغنام والمعيز والجمال القليلة التي للعشيرة وربما يأخذذون رهائن يحتجزونهم كالعبيد في سجون بائسة..فقد وجدت في كوخ اشبه باسطبل في سراي اورفا تسعة رجال مسنين مقيدين بسلسلة من الحديد تتصل بسلاسل اقصر تمتد من حلقات حول اعناقهم.. ويخرجهم الأتراك مرتين في اليوم الى مكان السقاية تماما كالمواشي..وقد طلب الترك من قبيلتهم فدية باهضة مقدارها 150.000 بياستر تمكنت القبيلة من جمع ثلث الكمية..وعندما رأيت هؤلاء الرجال المسنين كانوا في وضع بائس ولا أمل في افتدائهم إطلاقا..وكان الباشا قد وعدني بإطلاق سراحهم ولا أدري أن حافظ على وعده ام لا..
غير ان مثل هذه الممارسات لا تردع العرب فهم لا يعرفون الإستقرار ما دامت لخيولهم القدرة على حملهم والتنقل بهم فالمنطقة الكائنة في جنوب طوروس باسرها تحمل شواهد اغاراتهم فقد اشتركت في هذه المنطقة جداول مذهلة تتدفق من الجبال ووفرة كبيرة من المياه والغدران وسماء ساطعة تبعث شمسها الدفء فضلا عن تربة هي الأخصب في جعل هذه المنطقة ضربا من الجنائن هذا فقط اذا تفادى الناس تخريبها..فالثلوج غير معروفة هنا وفي اي مكان تشق فيه ترعة ماء مهما بلغت من الصغر تنبع من الارض شجرة زيتون او عريشة كروم او شجرة توث او شجرة رمان و فاكهة من كل نوع..بينما تعد غلال الحبوب والرز والقطن الافضل في هذه المنطقة من اية منطقة اخرى في العالم..ولكن لم يبق من كارات [الأسم الروماني] حران مقام ابراهيم سوى تل من التراب واجزاء من السور خربة.. ولم يبق من دارا تلك المدينة الرائعة التي بناها جوستينيان سوى خرائب وفي موقع نصيبين المدمرة بالكامل بنى حافظ باشا ثكنات للخيالة في الآونة الأخيرة كلفت حمايتها المدينة والقرى المجاورة حصيلة جديدة من ارواح الناس فلم يبق سوى اورفا والموصل مدينتان كبيرتان تبدوان وكأنهما المعلمان الوحيدان لبلاد الرافدين [ تمتد بلاد الرافدين في جغرافيتها الطبيعية من أعالي طوروس وحتى البحرين ومن جبال زاكروس وحتى حوضي الخابور والعاصي])..
ثم يحدثنا مولتكة قبل عودته الى المانيا عن عادة الغزو عند البدو وعن الجمال والخيول على نحو يماثل حديث فيليب حتي عن الجمل العربي والخيول العربية ويروي حكاية عن عربي باع حصانه لأحد أغوات الترك وانصرف به بدون سرج الى الصحراء ومعه الثمن الذي تقاضاه ليعود مجددا الى اورفا مخيرا التركي باسترجاع نقوده او بأخذ الفرس.. ثم يحدثنا عن قبيلة شمر قائلا:
(اتجهت الأنظار في الآونة الأخيرة على عرب قبيلة شمر ممن يوطنون الاراضي ما بين دجلة والفرات ويقدرون على تحشيد 10.000 فارس في اية لحظة وذلك لقيامهم بالإغارة على القوافل ونهبها ولرفضهم الأعتراف بالشيخ الجديد الذي عينه السلطان العثماني عليهم..مما جعل حافظ باشا يقرر توجيه ضربة لهم فطلب من باشا اورفا وباشا ماردين التحرك ضدهم وحاول اقناع باشا الموصل الذي لايقع تحت سلطته بالتحرك ضدهم ايضا ولو تحقق ذلك لأرغم الشمر على الانسحاب نحو الفرات حيث تقيم قبائل العنزة المعادية لهم..لكن انجة بيرقدار لا يمكن ان يقوم بحملة مكلفة وقليلة المغنم..وعندما جاءت الأوامر من ولاية بغداد كانت نوايا واليي اورفا وماردين قد وصلت الشمر الذين تلاشو في مناطق مجهولة مما حال دون حصول اية مواجهة..
وبعد اقامة قصيرة وممتعة في الموصل، قررنا العودة عبر الصحراء في قافلة كانت توشك على المغادرة..ولأن الهجمات الأخيرة كانت قد اغضبت العرب ..زودت القافلة باربعين خيال..فالتحقنا بها عند المساء على مسافة ساعتين عن الموصل بالقرب من دجلة حيث يتزود الجميع بالماء وكان باشا الموصل قد ابلغ الكروان باشي بوصولنا فاستعد للقائنا وطهى جديا لعشائنا)..
ثم يسترسل مولتكة في وصف تفاصيل الرحلة ليلة اثر أخرى حتى يخبرنا بعد اربعة ايام من رحلة العودة:
(وصلنا في اليوم الخامس سفح جبل وبالقرب من ترعة ماء رقراق قرية تلاجة او شلاكا وهي على الارجح تيلسافاتا القديمة حيث وجد جوفيان وجيشه الجائع في طريق عودته من بلاد فارس الى نصيبين الميرة التي يحتاج اليها جيشه [هنالك قرية اسمها ثلاجة في محافظة الحسكة السورية ربما كانت هي المقصودة] وهناك وصلتني انباء مفادها ان محمد باشا [اينجة بيرقدار والي الموصل] يقود حملة ضد الأكراد في الشمال فقررت فورا الإلتحاق به وغادرت القافلة ووصلت معسكره في المساء..فأبلغني ان حافظ باشا ارسل فرقة من الحرس تتألف من 50 فارس لملاقاتنا ولكننا لم نلتق بهم لأنهم كانوا يبحثون عنا في اتجاه سنجار)..
نستدل من جاهزية مولتكة واستعداده للإلتحاق بل والتحاقه فعلا بجيش اينجة بيرقدار [المتجه ضد الأغوات الأكراد] أنه كان في مهمة عسكرية [سرية] في زيارته للموصل وان المشكلات والقلاقل التي كانت تشغل الدولة العثمانية لم تكن بعيدة عن اهتماماته..واي كانت دوافع مولتكة وأهدافه من زيارته الموصل واختياره العودة بطريق الصحراء، فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار زيارته تلك سفرة ترفيهية وبخاصة ازاء ما اعتورها من مخاطر في نهر دجلة..ولا ندري ماحدث لمولتكة بعد التحاقه بإينجة بيرقدار في الحملة ضد بيكوات الكرد..لأن روايته تنتهي في المقطع السابق..وكان لابد من تضمينها في السرديات التي تناولت الموصل ومحيطها الاقليمي في القرن التاسع عشر لكونها من نوادر الرحلات ولأنها تميط اللثام عن حوادث تاريخية وتفاصيل مهمة عن الموصل ومهاد الدور الألماني في الحروب العثمانية..
ملاحظة حول الصور المرفقة والمصادر: تتنوع المصادر عن الحروب التي خطط لها مولتكة وقادها في مقالات وكتب عديدة وهي جزء من تاريخ المانيا واوربا ..والمصدر الوحيد المعتمد عن رحلته الى الموصل هو روايته عن رحلته الى تركيا التي قادتني اليها اشارة للرحالة السويدي سفين هدين الى الموصل اذ ذكر ان مولتكة اقام في كنيسة الكلدان في الموصل واشترى نسخة نادرة من الانجيل.. والصور المنتخبة لاتوجد في كتاب مولتكة بل موزعة في مصادر عديدة الهدف منها اعطاء صورة عن العصر والموصل في القرن التاسع عشر.. وقد لاحظت ان معظم كتب الرحلات الألمانية تخلو من الصور وأن وجدت فهي صور شحيحة ورديئة النوعية مقارنة بكتب الرحلات الفرنسية والأنكليزية..
للعودة إلى الصفحة الرئيسة