رحلة ارنست واليس بوج "بج" الى الموصل
في اواخر القرن التاسع عشر
صلاح سليم علي
في اواخر القرن التاسع عشر
صلاح سليم علي
مقدمة:ـ
لقد كانت الرغبة في زيارة بلاد مابين النهرين ووادي النيل وغيرهما من مهاد الحضارات القديمة في الشرق الأدنى هي الأقوى لدى أعلام الغرب من مبشريين وآثاريين وتجار ومغامرين..مما تمخض عن كم هائل من الكتابات في ادب الرحلة يتميز بوفرة المعلومات وغزارتها وتنوعها وصدقها فيما يتعلق بالشرق الأدنى...وكان تدفق الرحالة متصلا منذ بواكير القرن الثامن عشر..غير أن الرحلات وصلت ذروتها في القرن التاسع عشر..لأسباب أهمها ذيوع انباء اكتشاف المدن الغابرة في وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام في الأوساط الغربية..والتنافس فيما بين الملل المسيحية الغربية لنشر المسيحية بين المسيحيين المشارقة فضلا عن التوسع الأوربي الأستعماري وتنافس الدول الغربية في الشرق سعيا وراء المصالح الستراتيجية والإقتصادية التي تنامت مع تزايد الإنهيار في السلطة العثمانية و زيادة وتيرة الثورات التحررية في اوربا والشرق ضدها..وجاء السبق الفرنسي في فتح قناة السويس محفزا قويا للسياسيين البريطانيين في التحرك صوب الشرق بطريق البحث عن ممرات اخرى غير قناة السويس ..فارسلوا بعثة استكشاف دجلة والفرات على خطى زينوفون بقيادة الجنرال [فرانسيس راودون شيسني]، ونشطوا في تاسيس السفارات والقنصليات في الولايات العثمانية، وتضافرت جهود الكنيسة الإنكليزية والمتحف البريطاني ووزارة الخارجية في وضع الخطط وتحديد الأهداف وتخصيص الأموال لتغطية رحلات مزدوجة ومتعددة الأغراض..كأن تكون دينية [تبشيرية] وآثارية [تنقيبية] يضاف اليها الهدف الدبلوماسي والسياسي والمعلوماتي فضلا عن الهدف العلمي المعرفي والأهداف الإنسانية ..وعلى الرغم من التعارض الحاد بين الهدفين السياسي والتبشيري، فقد تمكن التبشيريون من توجيه انتباه الجهات الغربية الى معاناة النصارى والإيزيدية والمذابح التي راحوا ضحيتها بسبب طموحات الأكراد والباشوات العثمانيين ومعهما السلطة العثمانية في اسطنبول التي متنت الذراع الضاربة لولاتها في المناطق الاشورية ومعهم أغوات الكرد لضرب النصارى المسالمين في موطنهم التاريخي طمعا باراضيهم وممتلكاتهم، كما ساعدت البعثات التبشيرية بنشر الثقافة والتعليم من خلال تاسيس المدارس والمطابع واخيرا الإسهام في تدوين التاريخ الحديث للموصل والأراضي الاشورية التاريخية الممتدة من عمق جبال زاكروس وحتى منابع دجلة والفرات والخليج العربي بما يشمل منطقة الشرق الأدنى باسره..وهي اراض اختلب معظمها من الآشوريين الذين تركزوا في قلبها في شمالي العراق والأناضول وغربي ايران ومنطقة الخابور وسهل نينوى على العهود الأخيرة..وعلى الرغم من التقلص الهائل للأراضي الآشورية، ظهر من ينافسهم عليها من ألأقوام الآسيوية المتبدية من الرعاة والمرتزقة ألألتواوراليين والزاكروسيين ممن لا حظ لهم بتاريخ مدني او تراث فني او حضارة تاريخية...وما أخذوا من ذلك جاء بطريق محاكاة التمدن الرافدي أو سرقة مظاهر هذا التمدن عبر التاريخ...كما اهتم عدد من التبشيريين بمعالجة الأمراض ومقارعة الأوبئة المنتشرة في الموصل وأطرافها كالدكتور كرانت الذي لاقى حتفه في الموصل من جراء اصابته بالعدوى..ومن الرحالة آثاريين متخصصين ودبلوماسيين كبوتا الذي عمل طبيبا لمحمد علي باشا قبل انتقاله قنصلا لفرنسا في الموصل وشروعه في التنقيبات في نينوى ومدينة سرجون..التي يطلق عليها على سبيل الخطأ اسم [خرسباد]..والعلماء كوليم فرانسيس أينزورث عالم النباتات والأحياء الذي زار العراق مرتين الأولى ضمن فريق استقصاء الفرات ودجلة بصحبة الجنرال والمستكشف البريطاني فرانسيس راودون شيسني. والأخرى بمفرده حيث ألتقى برسام ولايرد وميتفورد وقام معهم برحلة فريدة الى حمام العليل والحضر..ـ
وتتميز كتابات التبشيريين والآثاريين بالحيادية وعدم التحيز وذلك بحكم أخلاقيات تنشأتهم في بيئات تعد التحيز والكذب من اسوء الرذائل ولأن لاصلة لهم أو مصلحة في أراض غريبة ومع أقوام اجنبية تحكمهم مصالح وعلاقات قوة لاناقة لهم فيها ولا جمل..فهم يقفون على مسافة واحدة من الأكراد والعثمانيين والعرب ومن ألأيزيدية والمسلمين..وتركزت اهتماماتهم بمحاولة نشر مذاهبهم وإن كان ثمة تنافس لينشأ بينهم فقد كان تنافسا أدبيا أو بالأمتناع عن مشاركة في مناسبة او حضور مراسيم جنازة كما حدث بين البروتستانت واللاتين..وكانت رحلة ارنست واليس بوج "بج" الى العراق بهدف تحقيق عدد من المهام المرتبطة بمصالح المتحف البريطاني ومواصلة الجهد الآثاري والتنقيبي للرواد الأوائل كلايرد وجورج سميث وأقرانهما..فقد اغرق المهربون السوق البريطانية باللقى والرقم الطينية مما أضطر المتحف البريطاني الى شرائها بأسعار باهضة وبدون معرفة بمنشا تلك اللقى والرقم ..اي بسياق اكتشافها في مواقعها الصلية مما يتسبب بجهد غضافي ويفقد تلك الرقم واللقى معلومات مهمة تتعلق بمهاداتها ولاسيما أزاء اتساع رقعة الأمبراطوريات العراقية القديمة..فكانت مهمة بج التوغل في الأسواق المحلية في مدن العراق لإكتشاف مصادر تسرب الآثار..والتعامل مع المهربين وتجار الاثار بصورة مباشرة وايجاد سبل للتصال معهم بحيث يمكن شراء القطع الأثرية ومنها الرقم باسعار محلية زهيدة قبل تهريبها الى الخارج..ثم استحصال موافقة من السلطات العثمانية في اسطنبول لأجراء التنقيبات في المواقع الأثرية بحثا عن المتبقى من تلك الرقم في المواقع الأثرية عينها وجلبها الى المتحف البريطاني..كما أنيطت به مهمة شراء المخطوطات من البردي ورق الغزال والورق المتوفرة في الجوامع والكنائس و المكتبات الشخصية والمعروضة للبيع في اسواق مصر والعراق وجلبها الى المتحف البريطاني..وبذلك يوفر على المتحف جهودا تنقيبية واستقصائية هائلة ومايصحب ذلك من أموال..وهكذا اوفد بج الى مصر ومنها الى العراق لخمس سنوات للفترة (1886-1891)..لإنجاز المهام الموكلة اليه ..وتمخضت رحلته الى مصر والعراق عن كتابه [على ضفتي النيل ودجلة] الذي ضمنه وصفه التفصيلي للموصل في أواخر القرن التاسع عشر..وقد حمل بج الى المتحف البريطاني عند عودته الى لندن مجموعة هائلة من المخطوطات المكتوبة على الرق والبردي والورق ومعها عدد كبير من الرقم الطينية النادرة وتضمنت مخطوطات سريانية وقبطية ويونانية وهيروغليفية اهمها بردية آني [كتاب الأموات] الذي عثر عليه في طيبة ونسخة ارسطو لدستور ىثينا المفقود ورقم تل العمارنة وبذلك قدم بج للمتحف البريطاني افضل مجموعة في العالم للنصوص القديمة التي توثق لتاريخ الشرق الأدنى..وقد عقب على ذلك الاثاري المتخصص بالاشوريات الدكتور اركيبالد سايس شخصيل لبج عام 1900 بقوله: "اية ثورة احدثتها في قسم الشرقيات في المتحف.. لدينا الان تاريخ فعلي للحضارة في مصفوفة مواضيع متسلسلة "...ـ
ارنست واليس بوج "بج" حياته وسيرته:ـ
ولد الأنكليزي السير ارنست الفرد ثومبسون واليس بج المستشرق واللساني والكاتب المتخصص بالمصريات والاشوريات وفي دراسات الشرق الأدنى عموما عام 1857 في بودمين في كورنوول [انكلترة] من امرأة تعمل في فندق واب لم تحدد هويته ابدا ..وابدى منذ العاشرة من عمره رغبة قوية في دراسة اللغات وذلك عندما انتقل للمعيشة مع جدته وعمته في لندن فباشر في دراسة اللغتين السريانية والعبرية عندما بلغ الثانية عشرة بمساعدة شخص متطوع عمل معه في شركة خاصة في لندن. وفي عام 1872 درج على الذهاب الى المتحف البريطاني حيث ابدى رغبة بتعلم اللغة الاشورية وساعده معلمه السابق في التعرف على أمين قسم المتحوفات الشرقية في المتحف عالم المصريات الرائد صموئيل بيرج وكذلك عالم الاشوريات جورج سميث الذي ساعده عند توفر الوقت في تعلم اللغة الاشورية بينما اتاح له بيرج دراسة الرقم المسمارية في مكتبه والحصول على كتب تخص الرحلة الى الشرق الأوسط ككتاب هنري لايرد [نينوى وأوابدها] من مكتبة المتحف لقرائته..وكان بج يدرس اللغة الآشورية في كاتدرائية القديس بولس كلما سنحت له الفرصة فتعرف على عازف الأرغن في الكنيسة جون ستينر الذي تطوع لمساعدة الشاب بج بتحقيق أحلامه فخاطب صاحب الشركة التي يعمل فيها وهو عضو محافظ في البرلمان ورئيس الوزراء الليبرالي الأسبق وليم كلادستون وطلب منهما المساعدة المالية لدعم بج في دراسة اللغات السامية في جامعة كامبردج وحصل على الدعم المطلوب فتمكن واليس بج من تعلم اللغات العربية والعبرية والسريانية والأثيوبية للفترة بين عامي 1883-1878 فيما واصل دروسه الخاصة في تعلم اللغة الاشورية وكان يعمل بمثابرة مع استاذ اللغات الشرقية وليم رايت [مؤلف كتاب قواعد اللغة العربية الذي مازال قيد الأستعمال كواحد من افضل مراجع القواعد العربية باللغة الإنكليزية]..عمل واليس بج في القسم الآشوري في المتحف البريطاني لينتقل منه الى القسم المصري حيث بدأ بتعلم اللغة الهيروغليفية مع رئيس القسم بيتر لابيج رينولف حتى تقاعد الأخير عام 1891 في اثناء زيارة واليس بج لبلاد مابين النهرين.وقد عين واليس بج مساعدا للأمين العام للقسم المصري في المتحف البريطاني منذ عام 1891 وحتى عام 1924..في وقت يعد اكتساب الاثار والمخطوطات الشرقية وحفظها بالمتاحف مسالة شرف قومي بالنسبة للأمم الأوربية مما دفع العديد من موظفي المتاحف الأوربية وعملاء آخرين الى تهريب الآثار الشرقية بطريق الحقائب الدبلوماسية..ومنهم من عمل على إرشاء الموظفين في الكمارك اولجأ الى اصدقاء ومعارف في إدارة الآثار المصرية للتوسط لديهم في تمرير حقائبهم في نقاط التفتيش في الكمارك بدون فتحها وكان واليس بج مخولا ومعه الحارس على بوابة المتحف البريطاني في إطعام قط المتحف البريطاني الشهير [مايك] الذي ساعد في حراسة البوابة الرئيسة للمتحف من عام 1909 وحتى عام 1929 ..وكان واليس بج قد كتب عنه مقالا ثم تأبينا عند موته نشر في صحيفة [الأيفنينغ ستاندردز] اللندنية..ـ
وكان واليس بج كاتبا غزيرا فقد الف كتبا كثيرة عن الحضارة المصرية القديمة كما ألفَ معاجم باللغتين العربية والهيروغليفية..ويرى ان ديانة أوزيريس ألأنبعاثية نشأت من جذور افريقية سودانية وذلك بما يتنافر مع الأفتراض القائل ان ديانة اوزيريس متطورة عن معتقدات امة قفقاسية غزت مصر[ في إشارة للغزاة من البحرفي العصر البرونزي]..ويشمل قراء واليس بج المثقفين والبحاثة عن معلوات اثنية مقارنة كجيمس فريزر الذي ضمن معلومات من بج في كتابه الشهير [الغصن الذهبي]..وكان واليس بج يؤمن بوجود الأرواح وبالجن والشياطين وبأمكانية وجودهم في العالم وأن اماكن كثيرة مسكونة بهم مما دعى العديد من اعضاء [نادي ألأرواح] في لندن الى عقد صداقة متينة معه..ونادي الأشباح أو الأرواح في لندن مكرس لدراسة الأديان البديلة والظواهر الروحية ..فكان العديد من اعضاء هذا النادي وممن فقدوا اعتقادهم بالمسيحية ينهمكون في دراسة مؤلفاته وبخاصة ترجمته ل[كتاب الأموات] المصري الذي يعد مرجعا مهما لشعراء وكتاب من طراز [وليم بتلر ييتس] و[جيمس جويس]..ومابرحت كتبه تصدر في طبعات جديدة حية منذ ظهورها لأول مرة في المكتبات..كما كان واليس بج، على الرغم من عدم انتسابه للطبقات الموسرة، عضوا في نادي سافيل وضيفا مرحبا به في الدوائر الأدبية والأرستقراطية في لندن..ـ
وقد نال واليس بج لقب سير عام 1920 لأسهاماته المتميزة لعلوم المصريات وخدماته للمتحف البريطاني..وفي السنة نفسها نشر كتابه السيري الكبير [على ضفتي النيل ودجلة]..وتقاعد من منصبه في المتحف البريطاني عام 1924 ليكرس وقته في طباعة مؤلفاته وكان آخر كتاب له هو [من الطوطم الى الإله في مصر القديمة] عام 1934ن وهي سنة وفاته ..وكان قد طلب في وصيته تأسيس زمالة بأسم زوجته هي زمالة السيدة واليس بج للبحوث التاريخية تخصص للشباب وكذلك بعثات مماثلة في جامعتي كامبردج وأوكسفورد لدعم المتخصصين في الدراسات المصرية في بداية حياتهم العملية..ومابرحت هه الزمالات قائمة حتى الوقت الحاضر..ـ
مختارات من مؤلفاته:ـ
كتب واليس بج العديد من الكتب [كالمقيمين على نهر النيل] عام 1885، وهو كتاب يتناول حياة المصريين وأدبهم وتاريخهم وعاداتهم في العهود القديمة، ونشر [شهادة القديس جورج الكابادوكي ومعجزاته] في نصها القبطي عام 1888، ومؤلف يتناول [تعليم اللغة الهيروغليفية] مع قائمة بالرموز الهيروغليفيةعام 1889، وكتاب [الحياة البابلية والتاريخ البابلي] عام 1894، وكتاب [الحكام] ويتناول التاريخ الكنسي لتوماس قس مارغا، في مجلدين، وقد حققه وقدم له عن اللغة السريانية من مخطوطات محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني ومكتبات أخرى، كتاب [المومياء] عام 1989 ( وهو غير كتاب ثيوفيل كوتير بالعنوان نفسه)، ويتنال هذا الكتاب آركيولوجيا الجنائز المصرية، وترجم [كتاب الموتى] عن بردية آني المحفوظة في المتحف البريطاني وتعد ترجمته هذه الرائدة لاقدم مخطوطة على البردي عثر عليها بنفسه في طيبة المصرية (ممفيس) عام 1895، فكتاب [خطوات تمهيدية لتعلم اللغة المصرية للمبتدئين] عام 1896، [الحكايات المضحكة التي جمعها المار جريجوري جون بار هيبرايوس]، ويتناول نوادر ألقس والمفريان والمؤرخ السرياني الشهير ابو الفرج هارون الملطي المعروف عربيا بأبن العبري الذي يوجد رفاته حاليا في دير مار متي للسريان الأرثوذكس القريب من الموصل، ثم نشرالكتب [حول مصر وكالديا] عام 1899، [السحر المصري] 1900، [الديانة المصرية] عام 1902،وكتاب [ تاريخ مصر منذ نهاية العصر الحجري الحديث وحتى موت كليوباترة عام 30 ق.م.]، وكتاب [مصر وأمبراطوريتها الآسيوية] 1904، فكتاب [آلهة المصريين] او [دراسات في الأساطير المصرية] بمجلدين صدرا عام 1904،وكتاب [الفردوس] عام 1904 ويتضمن تواريخ واقوال قساوسة الصحراء ومتصوفيها ويقع بمجلدين،فكتاب [الجنة والنار عند المصريين القدماء] ويقع بثلاثة مجلدات عام 1905، وكتب عن [السودان المصرية: تاريخها وصروحها] عام 1907،و [ نهر النيل: ملاحظات للرحالة الى مصر] عام 1908، وكتاب [ملوك مصر من السلالة الأولى وحتى السلالة التاسعة عشرة ومن السلالة عشرين وحتى السلالة ثلاثين]، عام 1908، فكتاب [أوزيريس والأنبعاث المصري] وهو كتاب مزود بصور من البرديات والصروح المصرية يقع بمجلدين، عام 1912، [أساطير الآلهة] ويتضمن أسطورة دمار الجنس البشري، اصدره عام 1913، [قاموس الهيروغليفية المصرية مع فهرست باللغة الأنكليزية وقائمة باسماء الملوك والأماكن واخرى برموز اللغة الهيروغليفية وقائمتين بالحروف القبطية والعربية]،عام 1922، فكتاب [ملكة سبأ وابنها الوحيد منيليك] ويتناول اصول اليهودية في اثيوبيا، 1928، وأصدر في مجال التداوي بالعشاب [الأصول الإلهية لطب الأعشاب]، 1928وكتاب [النحلة]، ف [تاريخ اثيوبيا والنوبة والحبشة] 1929،ثم [حجر رشيد في المتحف البريطاني مع ترجمة انكليزية للنص الثلاثي] ،1929، وكتاب صغير عنونه:[القط مايك الذي ساهم في حراسة البوابة الرئيسة للمتحف من عام 1909 وحتى عام 1929]، وأخيرا [تاريخ أبو الفرج هارون الملطي]،..وهو تاريخ ابن العبري المعروف، ترجمه واليس بج عن السريانية بمجلدين عام 1932 واعيدت طباعته في هولندة عام 1976، وقد قام كاتب هذا المقال بالبحث عن هذه الترجمة في مكتبات امستردام ولاهاي ولايدن فلم يوفق بالعثور على نسخة منها!ـ
اما الكتاب الذي تضمن رحلته الى لموصل ووصفه لها فهوكتابه [على ضفتي النيل ودجلة بين عامي 1886- 1913] ..ويقع بمجلدين يتناول في الأول مصر وفي الثاني العراق..وفيما يأتي ترجمتي لرحلته الموصلية بعد تقديم موجز:ـ
وصل واليس بج الموصل في فترة لاتخلو من الإضطرابات فقد تتابع على ولاية الموصل ثلاث عشرة وال عثماني للفترة بين عامي 1886 و 1913، وهنا لابد من الإشارة الى ان اهتمامات الرحالة واختصاصهم [دراساتهم] غالبا ماتنعكس في كتاباتهم...ولأن واليس بج يعد أكاديميا وآثاريا ولسانيا إختص بالفيلولوجيا [علم اصول الكلمات] فإن عنايته تتجه الى التاريخ واللغة بالمقام الأول فجاء وصفه لنينوى والموصل في سياق متابعة تاريخية ولسانية فأولى اهتمامه بتسمية الموصل ونينوى ثم عرج على توصيفات تاريخية للمدينة اعتمدها من قراءات سابقة له خلال عمله في المتحف البريطاني قبل ان يبدأ هو بوصفها..فتناول وصف بنيامين التوديلي وابن بطوطة فراوولف فتافينير فضلا عن اشاراته المتكررة الى سابقيه من التبشيريين كباجر والآثاريين كلايرد والمؤرخين كغاي لسترانج وغيرهم ..لذا بدلا من الشروع في الحديث عن الموصل بمتابعة رحلته جغرافيا، نراه يبدا حديثه عن ام الربيعين في تاريخها المبكر فيقول:ـ
ـ (الموصل أو موصل بصفتها مدينة جميلة وكبيرة تكثر فيها الأسواق الجيدة وتنتشر حولها الحدائق الغناء سرعان ما قام العرب بعدما اصبحوا اسيادها بربط جانبيها بواسطة جسر من القوارب يصلها بآثار نينوى في الضفة الشرقية للمدينة مما عجل في إزدهارها.. وبيوت الموصل قوية مشيدة من المرمر الرمادي الذي يجلب من محاجر في جبل مقلوب.. ) ، ويذكر أنها بثلث حجم البصرة. و يعد الجامع الذي بناه مروان الثاني قرابة عام 749 واحدا من افضل المباني في عمارته وزخرفته..أما القلعة القوية المعروفة بالمربعة والتي تقف على مرتفع من الأرض فتوفر الحماية والهيبة للمدينة.. فقد وصفها بنيامين التوديلي الذي زار الموصل عام 1173 بقوله: " تقع هذه المدينة التي ذكرها الكتاب المقدس باسم آشور العظيمة على حدود بلاد فارس وهي ذات مساحة عظيمة وهي ضاربة في القدم .. تقع على نهر دجلة وترتبط بنينوى بواسطة جسر ...وعلى الرغم من ان نينوى خرائب، هنالك العديد من القرى المأهولة ومدينة صغيرة [قرية النبي يونس] في موقعها..وتبعد نينوى فرسخا واحدا عن مدينة أربيل [الآلهة الأربعة] وتحتضن الموصل حسب توديلا قبور الأنبياء أوباديا [عبدالله، عبدي او عبدال] ويونس بن متي وناحوم الألقوشي. وكانت الموصل في ذلك الوقت مسورة بسور عال ويحيطها خندق عميق..اما ضواحيها فمكتظة بالسكان وفيها العديد من الجوامع ودور العبادة والكنائس وتشتهر بمستشفاها.."ـ
وقد زار ابن بطوطة الموصل في منتصف القرن الرابع عشر فذكر انها [قديمة وثرية، ويطلق على قلعتها "الحدباء" لأنها مشيدة فوق مرتفع دائري، وهي قلعة حصينة بسبب اسوارها العظيمة المسندة بالأبراج. وهنالك شارع كبير"طويل" عريض يتوسط مباني الحكومة من جهة والمدينة من جهة أخرى ويربط بين الجانب المنخفض والمرتفع من المدينة.. ويحمي الموصل سوران سميكان قويان تسندهما ابراج على مسافات متقاربة احدها عن الآخر تشبه ابراج السور في مدينة دلهي في الهند. وتكثر في الموصل الجوامع والحمامات والخانات والأسواق..واعجب ابن بطوطة ، والحديث لواليس بج، السياج [المحجل] الحديدي الئي يحيط بجامع مروان الثاني [الجامع الأموي]، والمصطبات المطلة على النهر..وفي الجامع الذي بناه نور الدين توجد نافورة رخامية مثمنة الأضلاع ترتكز على اعمدة رخامية ويندفع ماء النافورة على ارتفاع يصل طول رجل..اما المارستان او المستشفى فتقع مقابل هذا الجامع..ولسوق الموصل [القيصرية] بوابات حديدية ودكاكين فوقها غرف تتكرر على الجانبين.. ويقع جامع صغير يحتضن ضريح القديس جورج [النبي جرجيس] بين الجامع الجديد وباب الجسر..ويقدس المسلمون والمسيحيون على حد السواء القديس جورج..وفي الجانب الآخر للنهر ترى تل يونس عليه السلام وتتدفق على مسافة ميل منه عين ماء تستخدم للتداوي من الأمراض يطلق عليها الناس [عين يونس] تذكر الروايات ان النبي يونس دعى اهل نينوى الى الأغتسال بمائها..وانهم عندما اغتسلوا بمائها صعدوا معه الى التل وصلوا معه الى الله فتاب عنهم وغفر لهم خطاياهم..وتوجد فوق التل بناية كبيرة تحتضن غرفا عديدة وقاعة واماكن للوضوء ونافورات ماء والمدخل اليها كلها من باب واحد. وفي وسط هذه البناية غرفة مستورة بستارة من الحرير ويدخل اليها من باب تزينه الحجارة الكريمة..ويقال ان [النبي] يونس كان يقيم في هذا المكان، وأن محراب الضريح الموجود في تلك البناية [الجامع] كان المكان الذي يصلي فيه النبي يونس..وبالقرب من تل يونس قرية كبيرة على مقربة منها خرائب يقال انها موقع مدينة نينوى [لعله يقصد التل شمالي النبي يونس والذي اصبح مقبرة فيما بعد] أي مدينة [النبي] يونس عليه السلام..ومن الممكن رؤية بقايا السور الذي كان يحيط بالمدينة وكذلك اماكن البوابات في السور بوضوح..ويسمي [المقدسي] الذي كتب في النصف الثاني من القرن العاشر تل يونس [تل التوبة]..وقال ان عين يونس تبعد نصف فرسخ عن التل..ويقع عندها جامع وشجرة يقطين..ومن الجدير بالملاحظة ان أبن بطوطة لم يلاحظ آثار الدمار الذي الحقه جنكيزخان [المغول] في المدينة عندما غزاها عام 1256 الموافق لعام 654 للهجرة..حيث قتل مابين سبعماائة وثمانمائة ألف من سكانها..كما اصاب الموصل وبال كبير على يد تيمورلنك عام 1393 الموافق لعام 796 للهجرة الذي تعمد تخريبها..وسقطت المدينة تحت النفوذ الفارسي في السنوات الأول من القرن السادس عشر ليستولي عليها الترك عام 1516 على عهد سليم ..ومنذ ذلك العهد انحطت اهمية المدينة وتجارتها الى الحضيض)..ـ
ويقينا فإن المحتل الأجنبي لا تهمه تجارة او عمارة لأن همه النهب والتخريب ... ووصف واليس بج لحال الموصل يطابق حوادث التاريخ تماما.. فهو متابع حريص للروايات كلها في مصادرها الشرقية والغربية ... ويواصل حديثه عن الموصل.. ولكن على لسان الطبيب وعالم النبات والرحالة الألماني [ليونارد راولف] 1535- 1596 ..فيخبرنا في هذا الصدد:ـ
(وفي عصر راولف [المتوفى عام 1596] كانت الموصل مازالت تحافظ على أهميتها إذ يخبرنا
ـ " وذهبنا الى المدينة الشهيرة الموصل...وعبرنا اليها بواسطة جسر من القوارب..ويحكمها الأمبراطور التركي كما هو الحال في الأراضي في تلك الأنحاء..ويوجد في المدينة مبان غاية في الجودة وفيها شوارع وهي مدينة كبيرة ولكنها رديئة بمجاريها واسوارها كما شاهدت من سطوح محل اقامتي.. كما رأيت خارج المدينة تلا صغيرا مخدد بمغائر كثيرة يسكنها الفقراء كنت اراهم يدخلون فيها ويخرجون منها كالنمل حول تلة نمل..في هذا المكان وأطرافه تقع المدينة القوية نينوى [التي بناها آشور] وهي عاصمة بلاد آشورفي أثناء حكم الملكية الأولى في زمن سنحاريب وأولاده..وتبلغ في طولها [طول سورها] رحلة ثلاثة أيام")ـ
نلاحظ من هذا النص أن راولف يصف تلقوينجق ولكن في ضوء معرفته او قرائته لنص في التوراة يذكر أن مسافة السور المحيط بنينوى تستغرق رحلة ثلاثة أيام..وهذا لمن يعرف نينوى مبالغ فيه كثيرا إذ تكفي ثلاث ساعات للسير حول سور نينوى بدءا من من بوابة نركال او بوابة آشور المقابلة لحي الوحدة في الوقت الحاضروانتهاءا بهما..ولكن وصف راولف لجسر القوارب يؤكد ان العرب وليس الترك هم من أقام ذلك الجسر..فقد زار الموصل قبل أكثر من مئة سنة من تولي حسين باشا الجليلي إدارتها..ـ
ثم يتطرق واليس بج الى حال الموصل في منتصف القرن السابع عشر وقبل عدوان نادر شاه على المدينة وذلك على لسان رحالة آخر هو تاجر الألماس الفرنسي جان بابتيستا تافرنير1605-1689 ...الذي يقول عنه واليس بج:ـ
ـ(وفي رأي تافرنير فإن الموصل لاتستحق الزيارة وعندما وصلها كانت قد فقدت معظم اهميتها فقد ورد في وصفه لها "الموصل تبدو من مشارفها عظيمة فأسوارها مشيدة من الحجارة المهندمة المرصوفة بإتساق، ولكن من الداخل كل شيء فيها خرائب..فهناك سوقين لاتعرف لهما نظاما ولا درب اليهما وفيها قلعة صغيرة تشرف على دجلة حيث يقيم الباشا..وباختصار لايوجد في الموصل مايستحق النظر..ويعد هذا المكان مهما بسبب العدد الكبير من التجار وبخاصة العرب والأكراد ممن يقيمون في بلاد آشور العظيمة..حيث ينمو الجوز والبندق والعفص وماالى ذلك مما يسند تجارة كبيرة..وهناك في الموصل أربع طوائف مسيحية الأرثودوكس والأرمن والنسطوريين والمارونيين..وللكابوجيين [اللاتين] مسكن جميل يقع على نهر دجلة..,لكن الباشا [قبل الجليليين] وضع غرامة عليهم لأنهم يرغبون بتوسيعه..مما اضطرهم على مغادرته. ويحكم الموصل باشا تحت امرته انكشارية وسباهية يشكلون قرابة 3000 رجل..ويوجد في الموصل حانتين [مقهائين] منفرتين ..ولكن لنعبر دجلة فوق جسر من القوارب لرؤية الخرائب البائسة لمدينة أحدثت ضجة هائلة في العالم على الرغم من عدم وجود اية شواهد على عظمتها القديمة..فنينوى شيدت على الجانب الأيسر لدجلة في طرف بلاد آشور حيث نراها الآن مجرد كومة من الزبالة تمتد قرابة ليك [قرابة ستة أمتار] بموازاة النهر..وهناك الكثير من المرابط والخانات غير المأهولة ولا يعرف أحد ان كانت تلك مساكن سابقة هجرها اهلها او ان كانت هناك بيوت اقيمت في محلها في ازمنة سابقة لأن معظم البيوت في تركيا تشبه الأقبية او من طابق واحد..وعلى مسافة نصف ليك [ قرابة 3 كم] من دجلة هنالك تل صغير تحيط به البيوت في قمته جامع يقول سكان البلد انه المكان الذي دفن فيه يونس..ويقدس الجميع ذلك المكان تقديسا عظيما ولكن لايسمح لمسيحي ان يدخله بدون مال وبسرية..وقد تمكنت بتلك الوسيلة من الدخول بصحبة قسيسين كبوجيين ولكن ترتب علينا ان نخلع احذيتنا اولا. فرأينا في وسط الجامع ضريحا تغطيه السجاجيد التركية الحريرية الموشاة بالفضة ..وعند الزوايا الأربعة للضريح شمعدانات نحاسية كبيرة تتوسطها قضبان من الشمع وغلى جانبها قناديل [فوانيس] عديدة وبيضات نعام زجاجية [زينية] مدلاة من السقف..وشاهدنا عددا كبيرا من البسط للصلاة في الداخل والخارج وفي وسطها يجلس درويشان يقرءان القرآن")...ويبدو ان تافرنير كان محظوظا في دخوله لجامع النبي يونس ورؤيته للضريح لأن واليس بج لم يتمكن فيما يخبرنا من دخوله:ـ
ـ (على الرغم من كل المحاولات التي قمت بها للدخول الى جامع النبي يونس لم اتمكن من دخوله الذي بدا في حكم المستحيل..فالحرس والقائمين على الجامع المنتشرين في كل زاوية ومكان فيه كانوا يراقبونني بإهتمام غير عادي لأنهم يعلمون بإني كنت اجمع اللقى الأثرية والمخطوطات السريانية والعربية القديمة.. ويبدو انهم كانوا يخشون أن اقوم باقتلاع البناية بأكملها واخذها الى لندن..وكان الوالي قد ابلغني انهم لايسمحوا لأي مسيحي بدخول الجامع، وبأنه يأمل الا احاول دخوله خوفا من قيام الملالي بتقديم شكاوي ضده في اسطنبول ان انا نجحت في دخول الجامع..ومما اقدر ان اشاهده من الخارج فان اقسام قليلة جدا فيه تبدو اقدم من القرن السادس عشر او السابع عشر، بيد أن اقساما في داخله لابد ان تكون قديمة تعود لبضعة قرون خلت..وفيما ذكر لايرد ان ضريح [النبي] يونس يقع في غرفة داخلية معتمة..وان قبره المعمول من الخشب او الجص يقع في وسط تلك الغرفة على بساط عادي اوربي الصنع وهو مغطى بقطعة قماش خضراء مزخرفة بآيات قرآنية..وأن هناك شرابات [شراشيب "كراكيش"] وبيضات نعام زجاجية كالتي تزين معظم العتبات والأضرحة العربية معلقة من السقف [وبالنسبة لبيضات النعام الزجاجية فمثبتة على الأركان الأربعة لضريح النبي يونس]، وهناك درج يفضي الى الغرفة المقدسة [الضريح]. لكن السيدة باجر[ماتيلدا زوجة وكيل القنصل البريطاني كريستيان رسام] التي تمكنت بتأثير الباشا من الدخول الى ضريح النبي يونس قبل لايرد بعشر سنوات تقدم وصفا مختلفا بعض الشيء إذ تقول بانها " مرت بفناء واسع عبر ممر مريح ومفتوح لتنزل الى الجامع ..وهو بناية مربعة تضيئها نوافذ عديدة بعضها ملون الزجاج..والنهاية الشرقية مفصولة من الممر الرئيسي بسلسلة من الأقواس بديعة التصميم لعلها كانت جزءا من الكنيسة القديمة المكرسة ليونس. ويقف المنبر في النهاية الجنوبية [بأتجاه القبلة] اما الأرضية فتغطيها البسط الثمينة..وهناك ممر مغلق الأبواب طوله حوالي 30 قدم يقود الى غرفة مربعة معقودة السقف يتوسطها على ارتفاع مايقارب خمسة اقدام ضريح طوله عشرة اقدام وعرضه خمسة..وفي نهايته الجنوبية [جهة الرأس] عمامة كبيرة من الحرير الثمين والى جانبها وشاحات وتغطي الضريح اقمشة زاهية.. ويحيط هذا الضريح درابزين مثبت بمقابض فضية وقد علقت عليها المناشف المطرزة وما شاكلها مما يستخدم في الإستحمام [دواشم]..وجدران الغرفة تزينها المرايا والقرميد الملون بزخارف من آيات القرآن..وفي احدى زوايا غرفة الضريح ابريق ذهبي وقطعة صابون فرنسية ومشط ومقص لأستعمال النبي يونس الذي يخرج من قبره في أوقات الصلاة كل يوم فيتوضأ وفق طقوس الشرع افسلامي الصارمة..وقليل من المؤمنين يقتربون من القبر لأنه يعد من أكثر الأماكن قدسية..ويكتفي العديد بالنظر اليه من خلال النافذة المشبكة في الجامع..ولا يقبل سكان قرية النبي يونس وأهل الموصل من حوله اي تدخل في الجامع او في الضريح او المقبرة..ولذلك فإن خرائب قصور سنحاريب وأسرحدون الدفينة تحته لم ينقب عنها أبدا")ـ
يبدو من وصف السيدة متيلدا [شقيقة باجر وزوجة كريستيان رسام] أن وضع مستلزمات الإستحمام والحلاقة تعكس عقيدة الناس بأن النبي يونس كان مايزال على قيد الحياة تماما كالخضر وإلياس ولعل ادوات الحلاقة المشط والمقص قد أعدت لأحد الأولياء ممن يكلف بحلاقة النبي يونس كان يكون إلياس أو الخضر أو أبن قضيب البان أو غيرهم..ويفسر وجود التكية النقشبندية القديمة [الخربة حاليا] بالقرب من الجامع تعلق المشايخ من المتصوفة القادرية بالنبي يونس والبعد الإستسرائي الذي خلعوه عليه اسوة بالخضر والسيد أحمد البدوي والشيخ عبد القادر الكيلاني وغيرهم..ونعود الى واليس بج الذي يتشكك بوجود النبي يونس في الضريح المذكور:ـ
ـ(ويبدو ان دليلا لايوجد على ان النبي يونس قد دفن في نينوى.. ولكن العديد من اليهود يتفقون مع رأي بنيامين توديللا القائل ان أرض آشور تحتضن رفات الأنبياء عباديا ويونس وناحوم ويحترمون العرف السائد بخصوص مدفن النبي يونس في ضريحه الكائن في نينوى..لكن المسيحيين لايقرون بهذه الآراء ويعتقدون بأن النبي يونس مدفون في فلسطين..ولكن ليس لديهم مايؤيد مايذهبون اليه، مع ذلك فإن من الواضح ان التل المعروف يرتبط لسبب أو آخر بالنبي يونس..ويرجح أن كنيسة كانت مشيدة فوق التل في القرون الأولى لأنتشار المسيحية..وعندما أستولى العرب على قلعة نينوى [قوينجق] والموصل في حوالي عام 640، واصل أتباع النبي احترام الكنيسة ومايحيط بها من روايات بطريق بناء جامع يحمل أسم النبي يونس. وسواء أكان الأمر كذلك أم ليس كذلك، فإن تل النبي يونس أكتسب شهرة واسعة كمكان في اقصى اولويات التقديس لقرون..وكان عدد كبير من العرب والأكراد والفرس يتجشم عناء المسافات في حمل موتاهم من اماكن بعيدة وجلبها الى الموصل لتدفنليس في التل نفسه فحسب بل في المقابر المحيطة بالتل..ـ
ونلاحظ ان أحدا من ولاة الموصل او بغداد لم ينجح البتة في تجاوز الرأي العام المناهض بشدة لأية تنقيبات في التل..كما لم يتمكن أي من السفراء الأوربيين من إقناع الباب [السلطة العثمانية] للموافقة على إجراء تنقيبات فيه..غير ان القرويين في النبي يونس [قرية النبي يونس] تمكنوا من التنقيب سرا في اماكن محدودة صغيرة في التل خلال المائة والعشرين سنة الأخيرة..وليس بهدف البحث عن الآثار بقدر البحث عن المنحوتات الرخامية التي تكسر وتحرق لصناعة النورة وبالتالي الملاط الذي يستخدم في ترميم الجامع وبيوتهم)..ـ
ونستخلص من حديث واليس بج عن الجامع ان مأساة آثارية تحدث فيه وحوله منذ قرون..فبالإضافة الى تدمير وحرق القرويين والبنائين للمنحوتات الجدارية النادرة والثمينة ومعها مادون عليها من تاريخ وحوادث، مازالت المنحوتات الدفينة المتبقية عرضة للتلف بسبب المجاري التي تتوغل مياهها الثقيلة في موقع التل وتتلفها...وكانت تغطية الموقع بالحجارة لحمايته مانعا آخر لإجراء تنقيبات تحت الجامع وحوله وفي التل الشمالي الذي تحول الى مقبرة ...وعبر الشارع بين مصطبة قصر اسرحدون والأراضي المتروكة أمام مدرسة المتميزين حاليا...ثم وعلى ذكر المآسي الآثارية ينقلنا واليس بج الى المآسي التاريخية فيحدثنا عن غزوة نادر شاه لينتقل منها الى الويلات التي حلت بالموصل قبل انتقاله الى وصفها:ـ
ـ(تعرضت الموصل سنة 1743 لقصف نادر شاه على مدى احدى واربعين يوما وساعد نشوب عصيان في بلاد فارس اضطر نادر شاه على العودة الى بلاده على انقاذ المدينة من الاحتلال والتخريب..والمر العجيب ان المدينة لم تتاثر كثيرا على الرغم من سقوط 40.000 قذيفة مدفع عليها..فقد تصرف الباشا وسكان المدينة بشجاعة عظيمة وكانوا كلما يتهدم جدار بفعل القصف يسارعون بأعادة بنائه.. ويقال ان نادر شاه نصب مدافعه في تلقوينجق وبدأ بقصف الطرف الشمالي من المدينة وهي منطقة كانت خالية من البيوت تماما.. ويتضح المنظر العام للمدينة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر من خارطة نشرها كارستن نيبور حيث كان جانبا من الأسوار في حال خربة وكذلك العديد من الأبراج الساندة للسور ايضا.. وكان هناك سبع بوابات للمدينة بما لايتضمن الباب العمادي الذي تم بنائه ليتحول الى جزء من السور بسبب قصف نادر شاه.. وكان ترتيب الشوارع الضيقة في الموصل عام 1889 هو عينه على عهد الموصل في اثناء زيارة نيبور لها....وقد عانت الموصل بين عام 1820 و 1835 من سلسلة من الويلات بسبب المجاعة والطاعون والطوفان غير ان شحة الطعام التي اصابت شمالي بلاد النهرين عام 1824 لم تؤثر بالموصل..ولكن في عام 1825 حل جفاف هائل مازال الناس اليوم في عام 1889 يتحدثون عنه في ذعر ورعب..فقد ضرب محصول القمح تماما ولم تكن غلال الخضراوات المزروعة بمحاذاة دجلة واطراف القرى لتكفي زارعيها بالكاد.. بيد أن حاصل الزيتون الوافر من قرى الشمال اعان في تخفيف وطاة ندرة الطعام... وفي عام 1826 اصبحت السماء حمراء كالنحاس وغدت الأرض كالطابوق المحروق مما أدى الى اختفاء الخضراوات كليا وبالنتيجة قام الناس بذبح المواشي والأغنام خوفا من موتها بسبب الجوع..وبعد نفاد لحوم المواشي والأغنام الهزيلة..بدأت موجة مجاعة وصار الناس يموتون بالجملة في الشوارع وعلى جنبات الطريق متروكة بالعراء بدون ان تجد من يدفنها..وفي عام 1827 تفاقمت معاناة اهل الموصل وكادت المدينة ستخلو تماما من السكان لولا وجود عدد من القساوسة المسيحيين.ـ
وفي عام 1824 كان الموسم جيدا والغلال وفيرة ولاسيما القمح والذرة بحيث بات ممكنا شراء الذرة بسعر زهيد ..وعمد اهل الموصل الأذكياء الى خزن كميات كبيرة من الحبوب [الذرة] في حاويات فخارية [براني] في غرف تحت بيوتهم [رهرات] وذلك احتياطا للمجاعة ..وكان هؤلاء الرجال ممن خبر المجاعات السابقة في بلدهم ينوون توزيع مخزوناتهم من الحبوب على الناس في حال حدوث مجاعة ..وقد اخبرني عدد من الناس ان اسودا من البراري غربي تلال سنجار وذئابا وبنات آوى غادرت الصحاري القريبة من الموصل بل وحتى العقبان والنسور قدمت في شتاء 1827-1827 الى الموصل لتأكل من ضحايا مجاعة ضربت المدينة وتركت جثامين الموتى في الشوارع وعلى قارعة الطريق..وفي بواكير عام 1828 سقطت الثلوج واعقبتها امطار غزيرة مما بعث الآمال في نفوس الناس ولكن ريثما حل الربيع ، انتشروباء الطاعون وكان فيما يذكر الناس قد وفد الموصل بطريق قافلة جاءت الموصل من مدينة حلب..وقد حصد الطاعون مما بقي من السكان خلال تلك الفترة الكالحة والمجاعة التي استمرت ثلاث سنوات 20.000 نسمة.. وقد توفي بضع مئات بسبب الإفراط في الطعام [التخمة]..وتسببت الخضراوات الطازجة كالرقي والشوندر والباذنجان والفواكه والخضراوات الطازجة الأخرى مما وفرته الأرض بكثرة بعدد من الأمراض القاتلة لمن يتناولها بافراط [وربما لعدم غسلها وتعقيمها من الجراثيم]..وانتقل الطاعون من الموصل الى بغداد، فتنفس اهل الموصل الصعداء وعادوا لممارسة اعمالهم وحياتهم كما في السابق. وفي مطلع عام 1831 سقطت الثلوج بغزارة منقطعة النظير فاصبحت الموصل معزولة لأسابيع..وفي الجبال كان سقوط الثلج بغزارة هائلة واغلقت الثلوج الطرق المؤدية الى مار متي ورابان هرمز تماما بحيث صار الوصول اليهما في حكم المستحيل ..وفي منتصف شباط حدث ذوبان مفاجيء بسبب امطار استمرت اسبوعا كاملا مما تسبب بفيضان الموصل والمناطق المحيطة بها..ومما فاقم الأمر ارتفاع نهر دجلة بضعة اقدام عن مستواه في غضون ليلة واحدة فاكتسحت المياه جسر القوارب ودمرت العديد من الأكلاك المحملة بالبضائع..وبدا تل النبي يونس وتلقوينجق اشبه بجزرتين فيما اغرقت المياه الموصل المنخفضة وملأت السراديب بل وحتى الخندق المحيط بسورالمدينة..وهكذا فقد توقف السفر من والى الموصل عبر الصحراء..وعندما انخفضت مياه النهر، تلركت بركا كبيرة تمتد بضعة اميال مربعة على جانبي دجلة فتسببت بتكوين مستنقعات تصدر الحمى [حمى الملاريا] بكثرة طيلة تلك السنة..كما تمخض الفيضان عن اتلاف مخازن الحبوب وتراكم المنسوجات والأقمشة التالفة في الخانات وفي حوانيت الأسواق ..كما انهار العديد من البيوت والمباني عند انحسار المياه..وكانت على تلك الحال عندما زار باجر الموصل بعد سنوات قليلة على ذلك الفيضان..ـ
وفي سنة 1880 حدثت مجاعة اخرى في شمالي بلاد الرافدين وقد وصف ساخاو[هو عالم السريانيات الألماني كارل أدورد ساخاو الذي زار الموصل والف كتابا يصف رحلته اسماه "على ضفتي الفرات ودجلة"] الذي زار الموصل في ذلك الوقت ووصف الآثار المدمرة للمجاعة التي تعرضت لها المدينة بالتفصيل، إذ يخبرنا " أن طعاما لايوجد في السوق وأن الرجال الذي ارسلهم لشراء طعام له وعلف لخيوله كانوا يعودون يوما بعد آخر بأيد خالية..كما شاهد البؤس القنصل البريطاني والتبشيريين الأميركان فكتبوا الى أوربا وأميركا طلبا للغوث..ويمكن لنا ان نقدر حجم المجاعة وجسامة تأثيرها من قيام [الحكومة البريطانية بإيفاد قنصلها في مسقط] الكولونيل مايلز الذي أبرق من الموصل الى لندن في كانون الثاني عام 1880 مشددا " الحاجة ماسة الى إجراءات انقاذ عاجلةن الطفال يباعون أو يهجرون، الناس تغادر قراها المجاورة هربا الى الموصل..الناس بدون استثناء يتضورون جوعا..وكذلك الحال في وان ودياربكر وأورميا وأماكن أخرى"، وارسل التبشيريون الأميركيون رسائل مماثلة..وكان الرد في بيرطانيا وأميركا فوريا فتدفقت الأموال على تركيا مما انقذ آلاف الأرواح..وخصصت القنصلية البريطانية الفناء لوضع أوان ضخمة [قزانات] لطهي الطعام طيلة اليوم لأشهر وقامت السيدة رسل-زوجة القنصل- بتوزيع الطعام على مئات الناس الجوعى بدون اي اعتبار لقومياتهم واديانهم..وكان الجواز الوحيد الذي يسمح بدخول فناء القنصلية هو الجوع..أما الآباء الدومنيكان فقد قاموا بعمل رائع على نحو مماثل فأطعموا المئات يوميا .. ولكنهم توجهوا بإنقاذ اعضاء من ملتهم بالمقام الأول..ـ
وقد يبدو الأمر الآتي غير قابل للتصديق: فعندما وصلت معاناة اهل الموصل حدودا لاتطاق، عمدت الحكومة التركية في اسطنبول الى إرسال اوامر بتقليص قيمة العملة المتداولة في بلاد النهرين بذريعة ان الباشليق [تطلق هنا على وحدة نقدية] او مايعادل خمسة بياسترات لاتساوي أكثر من بياسترين والمجيدية او مايعادل عشرين بياستر لاتساوي اكثر من ثمانية بياسترات.. وتمثل التأثير المباشر لهذا القرار العثماني الخبيث بزيادة وتيرة البؤس في الموصل وتدمير مئات العوائل.. وفي الوقت نفسه شرعت الحكومة العثمانية قانونا يخول السلطات المحلية باقتحام البيوت ودخولها بدون انذار مسبق والإستيلاء على اية مواد غذائية فيها ثم توزيع مايعثرون عليه من طعام على الناس.. فنفذت بلدية الموصل هذا القانون على جناح السرعة..وكان الباحثين عن الطعام من مسؤولي البلدية يذهبون في مساء كل يوم الى البيوت الذين ينوون تفتيشها في اليوم التالي لبلاغ اهلها بما سيحدث..وكانت نتيجة ذلك ان بيوت الموسرين كانت تخلى تماما من اي طعام بينما نهب الفقراء من اي شيء يملكونه [لأن احدا لم يبلغ الفقراء مقدما ان تفتيشا سيحدث في اليوم التالي لبيوتهم]...ـ
ويشرع واليس بج بعد هذا الأستعراض السريع والموجز لما أصاب الموصل من مجاعات وأوبئة وكوارث وغزوات، بوصف الموصل:ـ
(يحمي الموصل سور قوي مبني من الطابوق [الحجارة] يبلغ طوله قرابة ثلاثة أميال ..وكان عندما رأيته في وضع جيد نسبيا..وهو سور كامل باستثناء فجوة كبيرة فيه في الزاوية الجنوبية الشرقية وللمدينة تسع بوابات هي باب سنجار,باب الشط ,باب السراي ,باب الجسر,باب العراق, باب جديد، باب الطوب, باب لكش, باب البيض..[يستخدم واليس بج تسميات باب كبريت وباب القلعة وباب القصر والباب الضيق لبعض ابواب المدينة]...وكانت بوابات الموصل في بواكير عهدها على الحكم العربي اقل عددا ويرجح ان مدينة الموصل العربية كان لها اربع بوابات فقط..وشوارع الموصل ضيقة جدا ورديئة التبليط فضلا عن كونها وسخة حتى في اجواء الصيف ولكن وضعها بعد سقوط الثلوج او المطر الغزير لايوصف..ومن البيوت مايبنى بالمرمر الرمادي الذي يجلب من محاجر قريبة من الموصل..وهو نوع من الحجارة سهلة التقطيع ويمكن حملها واستعمالها في كل الأوقات وبخاصة في بداية نقلها من المحاجر..وغالبا مانراها في مداخل البيوت وفي عتباتها وفي جدران الغرف وفناءات البيوت وايواناتها..ومعظم البيوت في الموصل له سطوح مستوية تحيطها ستائر واطئة..وتوفر السطوح مكانا جيدا للنوم في الليل في اثناء الصيف..ويوفر الفناء [الحوش] مكانا جيدا للجلوس في ايام الحر غير ان الفناء في الأوقات الأخرى غالبا ما يكون باردا ورطبا..ويلجأ اهل الموصل في ظهيرة الصيف شديد الحرارة الى السراديب الواسعة التي تبنى لهذا الغرض.زغير ان الأجانب غالبا مايصابون بنوبات الحمى في اعقاب نومهم فيها..ـ
والسوق في الموصل بناية شامخة حيث يتم اجراء معظم انواع الأعمال التجارية هناك..ولكنه لايحتوي مايثير اهتمام الرحالة الذي شاهد اسواق اسطنبول او القاهرة او بغداد...فلم اجد محلات لبيع التحف [الأنتيكات] وليس للتجار الذين يتعاملون بالمنسوجات ما يعرضونه مما يشد انتباه الزائر باستثناء الأقمشة الأنكليزية المستوردة من مانجستر والأقمشة الحلبية..وسألت من غير ما جدوى على عينة من الموسولين الذي اخذ اسمه من مدينة الموصل، وكان ذائع الصيت في المشرق برمته لألوانه الجذابة وجودته الفائقة..ولكن كل ماعرض علي كان من منتجات انكلترة وكان مطويا على الواح كرتونية مصنوعة في انكلترة ومحفوظ بورق انكليزي ويحمل اختام شركات انكليزية معروفة..وفي أحد المحلات رأيت علب ادوية ايطالية قديمة تحمل اسماء ادوية لاتينية وهاون نحاسي مع يدته وهي من متروكات طبيب ايطالي وفد الموصل من جزيرة ابن عمر ويذكر انه كان فائق الذكاء..ـ
وكان عرض الخضراوات في ايام التسوق في غاية العناية الا ان الأسعار بدت لي باهضة. ولم اجد سكائر في المدينة والنوع الوحيد من التبوغ المتوفرة هو [التتن] الذي يزرع في الجبال الكردية..ويباع بشكل اوراق كبيرة يقوم المشتري بكسرها وتفتيتها بيديه ثم يدخنها بعد لفها بورق خشن كيفما اتفق ويكون شكل السكارة المعمولة بهذه الطريقة مدبب من جهة وكبير من الجهة الثانية وغالبا ماتتفكك الورقة مما يؤدي الى سقوط الجزء المشتعل من السكارة فوق [ثياب] المدخن [ أي ان السكارة "تتفلش" مما يؤدي الى سقوط جزء كبير من التتن المحترق]..ـ
والكلاب في الموصل تقدر بفيلق، ولابد ان يكون منها بضع عشرات في السوق وحده.. ومن هذه الكلاب المتوحش والهجومي وهي فيما يبدو متحدرة من انواع كردية او جبلية أخرى) ..[ويضيف واليس بج في ملاحظة]،ويشتم أهل الموصل الكلاب كلها باستثناء السلوقي..إذ يقوم المسيحيون والمسلمون على حد السواء بشراء الخبز من السوق في كل يوم جمعة ليطعمون الكلاب الجائعة في طريقهم الى المقابر لزيارة قبور موتاهم..ولاحظت ان اكثر من ينفق المال لهذا الغرض هم المسلمون. ثم يتطرق الى الجوامع والمساجد:ـ
ـ (وهنالك في الموصل العديد من الجوامع والمساجد ولكن ليس فيها مابدا لي مثيرا للأهتمام من الناحية المعمارية. بيد أن أبرز ملامح الجوامع المتميزة هي المنائر التي تعطي المدينة مظهرا فاتنا وبخاصة عندما تشاهد على بعد من المدينة..غير ان معظمها لايقف بأستقامة,ونشاهد في برج [منارة الجامع الكبير الذي يطلق عليها "الحدباء" انتفاخا..ومن المنائر والقبب ماكان مزين بالفسيفساء الملونة والمزخلرفة بأشكال جذابة .. ومنها ماتزينه فسيفساء حجرية ولكن لم يبق من تلك الزخارف ومظاهر الزينة سوى كسر صغيرة مابرحت مكانها..وإن منارة تغطيها قطع الفسيفساء اللامعة لازوردية اللون لابد ان تكون شيئا ملفتا للنظر في وقتها [اي قبل ان تزول عنها زينتها بفعل الزمن والأنواء او التخريب]، ولم اجد في الموصل اية إشارة على اية محاولة تبذل لصيانة المباني الإسلامية أو ترميمها..ولم يتبين لي أن هناك اي أموال مخصصة لصيانة عمارتها والحفاظ عليها من البلى..ويبدو ان النهج المتبع لدى السلطات هنا يتمثل في ترك جدار او قنطرة أو قبة لحين ان تخرب تماما قبل البدء في اصلاحها..ويمتلك الآباء الدومنيكان في المدينة عددا من المباني متقنة البناء..وهي تقوم بمهام كبيرة)..ـ
ويتناول واليس باجر دجلة وجسر القوارب وصلته الجسر الحجري في النص الآتي:ـ
ـ (تقع الموصل على الضفة الغربية لدجلة مقابل ذلك الجزء من نينوى المعروف بالتل الكبير قوينجاق..والمسافة بين تلقوينجق والنهر حوالي ميل ونصف..والوسيلة الرئيسة للأنتقال بين المدينة والضفة الشرقية [اليسرى] هي جسر القوارب المتجهة في نهاياتها المدببة باتجاه التيار ويرتبط أحدها بالآخر بواسطة سلسلة حديدية، وفوق الجسر طبقة من التراب مفروشة فوق اغصان الأشجار التي ترتكز بدورها على طبقة من القضبان المفلوقة والكاملة وتشكل هذه الطبقات الطريق فوق الجسر..والقوارب نفسها قديمة ومخلخلة ولم ادهش عندما سمعت ان معظم تلك القوارب تحطم بعد ارتفاع مياه دجلة بشهر او نحو ذلك..وترتبط النهاية الشرقية لجسر القوارب ببقايا جسر حجري شيده العرب[؟] في القرون الوسطى فوق دجلة..وماتزال عقود [أقواس] من ذلك الجسر قائمة وبمقدورها حمل الناس ووسائط النقل المارة فوقها..ويوجد حول هذه الأقواس [عقود الجسر الحجري] وفي المساحة الممتدة امامها ضربا من المعارض الدائمية تقام هناك عندما تنخفض مياه دجلة حيث ينصب الباعة المتجولين من مختلف القوميات خيامهم ليبيعوا البيض والسمك والخبز والفاكهة والرقي والبطيخ وماإلى ذلك كما يقوم الحواة والبهلوانات على نحو متكرر بعرض مهاراتهم على الصبيان والأطفال الذين يتابعون مايقوم به الحواة والبهلوانات بإنبهار شديد بينما ينشد الكبار الى أحاديثم ونكاتهم التي لاتخلو من طرافة وإثارة..وعندما ينخفض النهر تستخدم بعض الأقواس كأصطبلات من قبل اصحاب القوافل ممن لايعبر النهر الى الموصل بينما تحجب اقسام أخرى منها لشاذ الآفاق الذين يستخدمونها لأغراض غير أخلاقية حتى في وضح النهار)..ـ
يبدو من علامة الأستفهام التي وضعها واليس بج انه غير متأكد من ان العرب هم من بنى الجسر الحجري الذي يذكر رحالة آخرون أن مهندسا ايطاليا أشرف على بنائه وهنالك صورة قديمة نادرة ترينا عمالا منهمكين في بناء الجسر الحجري تعود الى مكتبة هولندية يبدو من ملابسهم وقبعات بعضهم انهم مشارقة ومعهم أجانب، ومن المصادر ماينسب انشائه الى الرومان ...ولكن يبقى هذا الجسر مع كل هذه الإشارات لغزا محيرا بسبب صمت المصادر شبه المطلق عن تاريخ وكيفية بنائه والجهة التي قامت ببنائه..ـ
ثم يتطرق واليس بج الى سكان الموصل وطوائفهم والسنتهم والى حكومة المدينة فيخبرنا في هذا الصدد:ـ
ـ( أما ماعدد سكان الموصل! فهذا مالم أتوصل اليه أبدا ففي كل محاولة لتعداد السكان يرى المشرقي دائما تدخلا هجوميا من قبل جباة الضرائب فياتي رده على اسئلة الموظفين تفاديا لشرور يتوقعها منهم..ولكن أهل الموصل يتألفون من العرب والفرس [الشبك] والكرد واليهود والمسيحيين ويتضمن المسيحيون النسطوريين والنسطوريين البابويين، والسريان والسريان البابويين [الكاثوليك]،والأرمن والبروتستانت.. ويتألف السكان وفق تعداد عام 1849 الذي أعتمده باجر من 3.350 بيت أو اسرة منها 2.050 اسرة مسلمة، و 350 أسرة كلدانية "نسطورية" ، و 450 اسرة يعقوبية و300 أسرة سريانية بابوية و200 أسرة يهودية..ويقدر ساخاو [رحلته ص. 349] سكان الموصل ب 42.000 نسمة على الرغم من اعتقاده انهم ربما يكونون أكثر..بينما قدر بكنكهام عدد سكان الموصل ب 50.000 نسمة.. وقد أمضى السيد جرميا شامير [ ترجمان ومرافق لواليس بج في اثناء اقامته بالموصل] يومين في البحث والتدقيق في تلك المسألة فخلص الى أن سكان الموصل في شباط عام 1889 يقدرون ب 63.000 نسمة ممن يقيمون في الموصل..وليس من المناسب، في رأيي، [والكلام لواليس بج] تضمين الحديث عن معتقدات وعقائد الطوائف المسيحية المتنوعة في الموصل على الرغم من اهمية ذلك من الناحيتين التاريخية والإجتماعية في متن هذا الكتاب..وللحصول على معلومات وافية عنهم أشير القاريء الى مؤلفات باجر [جورج بيرسي باجر مؤلف "النسطوريين وطقوسهم"]، وفليجر [جيمس فيليبز فليجر مرافق باجر ومؤلف " ملاحظات من نينوى" وساندرزكي [كارل فون ساندرزكي ، مؤلف رحلة الى الموصل عبر اورميا وكردستان] وباري [اوزوالد باري، مؤلف "ستة أشهر في دير سرياني" ] وآخرين..ـ
واللغة التي يتحدث بها اكثر اهل الموصل هي العربية وهناك عدد كبير من سكان الموصل ممن يتحدثون باللغة الفليحية أي لغة الفلاحين وهي لهجة سريانية تتضمن الكثير من الكلمات السريانية القديمة وقليل من الكلمات الكردية..وكان التبشيريون الأميركان في أروميا على بحيرة وان أول من طبع اجزاءا من الأنجيل بهذه اللهجة السريانية الصعبة والمحببة جدا..ونلاحظ ان نسخ الأنجيل بأكمله المطبوعة بالنسختين القديمة والحديثة للسريانية في عمودين متقابلين تعد من اندر وأثمن النسخ للأنجيل في الوقت الحاضر [1889] وهي نسخة بالغة الأهمية لتعلم اللهجة المحلية [السرياني الفليحي]..ويتحدث القرويون في القرى المنتشرة الى شمالي الموصل وشرقيها [قرى الشبك] لهجة [فارسية مخلوطة بمفردات كردية]..وكنت عثرت على نسخ من "صحيفة زهريرا دي بهرا" [القبس] التي تطبع وتحرر باللهجة الفليحية والتي ساعد التبشيريون البروتستانت في اصدارها منذ عام 1848..[وهو تاريخ بائس في ذاكرة السريان والآشوريين لأنه يوافق المذابح التي راح العديد من اسلافهم ومنهم المار شمعون واعضاء من اسرته ضحية لها]..وهي الأخرى ضرورية لمن يرغب في تعلم السريانية في لهجتها المحلية [الفليحية او السريانية الموصلية التي يتحدث بها السريان في سهل نينوى].ـ
ولعل من غير اللائق لغريب يمضي بضعة اسابيع في مدينة شرقية ان يتعرض بالنقد لحكومتها، ولكن يبدو لي أن ادارة بلدية الموصل [تأسست فيما ذكر الدكتور ابراهيم العلاف عام1869] هي الأسوء على الإطلاق..ففي السابق، فيما أخبرني تجار الموصل، عندما كانت الموصل تدار من بغداد كان هناك بعض الإستقرار في اوضاع المدينة.. ولكن منذ عام 1878 عندما استقلت الموصل بإدارتها عن ولاية بغداد لتصبح ولاية بحد ذاتها، تدهور كل شيء فيها وسار نحو الأسوء..فالوالي باشا او الحاكم يصار الى تبديله على نحو متكرر..وكل وال جديد يبذل قصارى جهده لجمع أكبر كمية من الأموال بأسرع وقت ممكن..ويتفق العرب والأكراد واليهود والمسيحيين كلهم في كراهيتهم للحكام الأتراك الذين لاتهمهم المدينة باي حال من الأحوال..فليس ثمة شيء يمكن عمله مع السلطة بدون بخشيش [رشوة] والشخص الذي يدفع أكثر يفعل مايشاء وكما يحلو له..ومجلس البلدة الذي يضم العديد من التجار العرب الأثرياء حاول التخلص من الأتراك ولم يضيع الأعضاء العرب اية فرصة في تحريك الناس ضد الباشا وسلطته..وكانوا ينفقون الأموال بدون حدود لتحقيق خططهم..وكان الناس يقولون ان هدفهم الرئيس هو اقراض المال للوالي لكي يتمكنوا من التحكم به..ومما طال سمعي يبدو انهم [تجار الموصل] قد نجحوا في تحقيق هدفهم..ـ
اما إدارة العدالة فمتراخية بما لايقاس، وكان الشاهد المحترف [شاهد الزور] يعيش بافضل حال لأن أجوره تتزايد مع حجم جهله بالقضية التي يحضر لتقديم الشهادة فيها..وهناك قضية أثارت اهتمامي من شأنها توضيح ماذهبت اليه بخصوص العدالة في الموصل.." جاء احد الجنود الى قوينجق وكان واجبه هو اجراء دورية في التل بينما كنا نقوم بالتنقيب فيه..وكنا منشغلين بالتنقيب عندما لفتت انتباهنا مشاجرة [كلامية] بين الجندي وضابط صادف وجوده هناك فقام الضابط بانتزاع بندقية الجندي ورفعها في الهواء وانهال بإخمصها على رأس الجندي فسمعنا صوت ارتطامها بقوة وراينا الجندي وهو يسقط على الأرض بدون حراك..وفي اليوم نفسه جاء الي بعض اقرباء الجندي وتوسلوا الي ان اصاحبهم الى الوالي لمطالبته بتحقيق العدالة يما يتعلق بجريمة القتل..ولأنني اعرف تماما وقائع القضية بالتفصيل، وافقت على الذهاب معهم فاستقبلني الباشا باهتمام بالغ وشكرني لزيارتي ووعد بالتحقيق في القضية..وفي اليوم التالي ذهبت مجددا الى الباشا لأرى ما تم عمله [بشأن القضية] فعرفت ان الجندي قد دفن في الليلة الماضية، وبعد يوم على زيارتي ارسل لي الباشا رسالة يقول فيها ان الضابط سوف يحاكم في محكمته في السراي، ويوجه لي الدعوة بحضور المحكمة..فذهبت في موعد المحاكمة ورأيت العديد من الشهود الذين جاءوا لتقديم الشهادة لصالح الضابط..وذكر الجميع الحكاية نفسها بصياغات مختلفة ومفادها أن الجندي هو من هاجم الضابط بالبندقية وانه فقد توازنه في اثناء هجومه فسقط على البندقية وبذلك جرح نفسه وان الجرح الذي تسبب به بنفسه هو سبب الوفاة..ولكن أحدا لم يصدق شهادات هؤلاء الشهود المأجورين لأنهم عند استجوابهم ظهر ان أحدا منهم لم يكن حاضرا مقتل الجندي..وبعد الكثير من الكلام، طلب الباشا حضور طبيب نمساوي او بولوني لتقديم شهادته..فقال الطبيب بأنه اجرى فحصا عدليا لجثمان الضحية فرأى فوق قلبه بقعة اظهرت انه مقدر له ان يموت حتما في اللحظة نفسها التي مات فيها..وان الضربة التي تلقاها من البندقية [ والتي هشمت جمجمته] لا علاقة لها بسبب الوفاة.. وتم اطلاق سراح الضابط بعد الإدلاء بتلك الشهادة.... وعندما دعاني الباشا الى غرفته واعطاني الفرصة للأعراب عن رأيي وسرد ما أعرفه عن الجريمة..فذكرت التفاصيل كما عاينتها، ابدى ذهوله وارتباكه..واكد لي ان فحص الجثة قد تم نزولا عند طلبه وهذا يؤكد نزاهته في التعامل مع تلك القضية..ولكني أكدت له بأني أشك بشهادة الدكتور واني لا أصدق بماقاله حول وجود بقعة على قلب الرجل..فانبرى الباشا قائلا: وهل انا الله لأعرف بهذه الأشياء؟ لاسامح الله..ثم أضاف العبارة العدمية (مكتوبي)، ثم سألني ان كنا قد عثرنا على كنز في التل..وبانه يشعر بالأسف لأننا سنغادر الموصل في وقت قريب لأنه يحب الأنكليز..وبينما قلت له مع السلامة، قال: (ماشاهد أحد الجمل ولا الجمال) في اشارة منه على عدم رغبته في التحدث عن المحاكمة التي حضرتها ذلك اليوم)..ـ
وينتقل واليس بج للحديث عن الحياة في الموصل عند وصوله اليها بصحبة ابن السفير البريطاني وجنديين ضمن قافلة تعرضت لهجوم من قبل الشمر..وهي روايات انقلها بتفاصيلها لما تنطوي عليه من طرافة وفائدة ومتعة:ـ
ـ(انتشر خبر وصول ابن السفير البريطاني في القسطنطينية الموصل ووجودي فيها بسرعة في المدينة..وسرعان ما استقرينا في بيت نمرود رسام، ارسلت الجنديين اللذين جاءا بصحبة وايت الى السراي لأبلاغ الحاكم العسكري بوجودهما في الموصل ولشراء خروف ورز واشياء اخرى تكفي لعمل مادبة في ذلك المساء، وكانا منهكين تماما مثلنا فوافقنا على اطعام حصانيهما لأسبوع واعطائهما نصف الأجور لحين مغادرتهما الموصل..وقد قررا العودة الى حلب بطريق جزيرة ابن عمر وديار بكر تفاديا لمخاطرة مواجهة ثانية مع الشمر..وكانا ممتنان لتناولهما وجبة طعام كاملة بأمان في الموصل..وبعد خروجهما من السراي عادا الى السوق وجلسا في مقهى حيث بدءا في رواية تعرض قافلتهما لهجوم من الشمر وقالا بان قافلتنا خاضت معركة دامية مع الشمر انتهت بهرب الشمر..وعرضا جعبتيهما الخاليتان من الرصاص وبندقيتيهما الوسختين ومزوق في بزتيهما تأكيدا للمعركة..واقسما بالله ان المزوق بسبب هجوم الشمر بحرابهم، وكان تجار الموصل الدهاة ممن طال أسماعهم هذا الحديث يعرفون جيدا زيف تلك الروايات.. لأنهم أكثر خبرة بالطريق ومخاطره من غيرهم..ـ
وفي صباح اليوم التالي لوصولنا كنت متعبا وكذلك وايت [ابن السفير البريطاني] وكنا نرغب في النوم بشدة.. غير اننا وبعد السابعة بقليل بدأنا باستقبال الزوار الذين بدءوا بالتدفق للترحيب بوايت وبالتعهد لوضع خدماتهم تحت تصرفه، فطلبت من نمرود ان يجلسهم في افضل البالكونات في بيته وأن يقدم لهم القهوة والفواكه المطبوخة بالمربى لكي نرتدي ثيابنا ونتناول فطورنا الذي هيأته على نار الفحم..وكان اول الزائرين مدير البلدية او رئيس مجلس بلدة الموصل الذي كان في غاية الذكاء واللطف واللباقة التي تصف التركي المنتمي للمدرسة القديمة وكان في صحبته ضابطان تركيان انيقان رحبا بنا بأسم الجنرال الذي لم يقدر على المجيء شخصيا بسبب وعكة صحية عابرة..ثم اعقبهم موظف من السراي ذكر بانه جاء للحصول على معلومات بخصوص حجم واهداف تنقيباتنا وانه مستعد لتقديم اية مساعدة ممكنة لنا..ومن الزوار الآخرين الذين جلسوا بصبر في انتظار دخولهم الينا القس النسطوري ورجال دين يمثلون طوائف اخرى من مراتب مختلفة واصدقائهم ممن دفعهم حب الأستطلاع الى الحضور لرؤية مايمكن رؤيته..وتحدث رئيس مجلس البلدة باللغة العربية فبدأ حديثه بعد الترحيب بجملة اسئلة:لماذا جئتم؟ وماذا تريدون ان تفعلون؟ وقال لي انه يتوجب علي قبل البدء بالحفر شراء المزروعات الموجودة فوق تلقوينجق، وعرض علي تجهيز العمال والمعدات الضرورية وبانه سيكون حاضرا خلال مقابلتي مع الباشا عند تقديمي لأوراق تخويلي بالتنقيب..وتفرغ الضباط للحديث مع وايت الذي سهل تحدثه باللغة التركية التفاهم معهم فدعوه لزيارتهم واصطحابه في جولات صيد في الجبال القريبة.. وناقشت ومعي نمرود مع القس النسطوري المخطوطات السريانية وإمكانية شرائها..ولم يخف وايت الذي كان قد عاد للجلوس معنا ضجره الشديد من هذه المواضيع فغادرنا في صحبة الضباط الأتراك لرؤية المدينة..وعندما عرف الزوار بمغادرة وايت بدأوا بالمغادرة حتى تمكنت من توديع آخر الزوار قبل حلول الظهيرة..ـ
وفي الصباح التالي ارسلت رسولا الى السراي لمعرفة فراغ الباشا من الإنشغالات فتلقيت دعوة بالغة الأدب للحضور فورا، على ذلك اتجهت الى السراي بصحبة نمرود الذي اتفقت معه على تعيينه مراقبا على العمال [في التنقيب] على أن ادفع له راتبا شهريا، وكنت محظوظا في الحصول على خدمات رجل مقتدر وموضع ثقة..فهو [نمرود] يتحدث العربية والتركية والسريانية [الفليحية] بطلاقة وبمقدوره قراءة وكتابة هذه اللغات بيسر وبالجودة نفسها، كما يعرف بعض الفرنسية..فهو عالم ممتاز بالسريانية وله معرفة تامة بالفرع النسطوري من الأدب السرياني..ولكنه لم يكن يستسيغ اليعاقبة وكتبهم واعمالهم كلها..وهو نساخ ممتاز ويكتب بخط نسطوري سرياني غاية في الجمال وبدقة غير اعتيادية..وعندما وصلنا السراي، وجدنا الفناء مكتظا بحشد محموم من رجال المدينة والفلاحين والملاكين، فعرف نمرود بسرعة انهم محتشدون هناك للمطالبة بتعويضات من الحكومة من جراء نهب الشمر لخيولهم وحميرهم وبضائعهم التي كانت في قافلة متجهة الى الموصل..ورحب الرجال المحتشدين بي باعتباري شريكهم في مصيبة مماثلة سابقا .. وكانوا يتطلعون في كسب تعاطفي ومساعدتي فتجمعوا حولي وحول نمرود على نحو مزعج للغاية..وترتب علي التوقف والإصغاء ولأن مايقارب من نصف درزينة [ستة رجال] كانوا يقاطعون احدهم الآخر بالصياح والشتائم على الحكومة، لم تتيسر لي معرفة الوقائع.. ولكني عرفت على الأقل سبب المظاهرة العنيفة والغضب الصاخب. إذ يبدو ان شمر قد هاجموا قافلة كبيرة مؤلفة من ثلاثمائة بعير وناقة متجهة الى الموصل وبلاد فارس وكلها محمل بالبضائع الثمينة، وان قافلة أصغر تتألف من جمال ونوق [يافعة] بأكملها قد نهبت وأن النوق والجمال سيقت شرقا للبيع في مدن مختلفة.. وقد حاول الكراوانباشي [قائد القافلة] التوصل الى اتفاق مع الشمر ولكنه اخفق في ذلك، فنشب قتال كبير قتل على اثره الكراوانباشي والعديد من رجاله وثلاثة من الشمر مما اغضب الشمر فاستولوا على احمال الجمال وطعام القافلة وساقوا الأذواد [الفصائل او الجمال والنوق اليافعة] ثم شرعوا بنزع ثياب الرجال وأخذ كل ماعثروا عليه معهم..وكان الهجوم مدروسا بعناية لأن بعران الشمر ظهرت على حين غرة وكأنها نبعت من تحت الأرض [ربما موه الشمر البعران بعدما اناخوها في خفضة من الأرض فلم تظهر مباشرة للعيان].. فحمل الشمر الأحمال على ظهور جمالهم وساق الخيالة منهم ألأذواد اليافعة ..وعمد عدد من الخيالة الشمر الى تقييد الأسرى المجردين من الثياب على اسرجة خيولهم تاركين بقية الرجال وعدد قليل من الجمال ليواصلوا سيرهم الى الموصل في رحلة تستغرق أربعة او خمسة أيام..ومات في الطريق رجلان بسبب الجراح او الجوع والعري، ولم يسلم من مجموع ثلاثمائة بعير وناقة في القافلة الكبيرة سوى عشرين جمل أو ناقة جرجرت قوائمها الى الموصل التي وصلتها قبل يومين..ومنها مانفق منذ وصولها حتى الآن. انها قصة مروعة وتفاصيلها لاتقبل الدحض..واراد الرجال المحتشدين في الفناء مني ان اجعل وايت يبرق لأبيه وان ابرق أنا الى الكولونيل تالبوت الذي حل محل الكولونيل تويدي قنصلا عاما لبريطانيا في بغداد..ولكني قلت لهم أني يجب ان اسمع ماسيقوله الباشا أولا، وانه الشخص الذي يحتم عليه واجبه حماية قوافلهم..ـ
في تلك اللحظة جاء معتمدون لأخباري ان الباشا في غرفته [مكتبه] ينتظر ان يراني مع نمرود، فتبعتهم الى الطابق العلوي من السراي حيث وجدنا الباشا جالسا في غرفة كبيرة وحوله ديوان جيد التنجيد يجلس عليه وجهاء المدينة كلهم تقريبا..وحالما دخلنا نهض الجميع مرددين كلمة السلام [وعليكم السلام] واضعين في الوقت نفسه ايديهم اليمنى على صدورهم ثم نقلوها الى شفاههم ثم الى جباههم وعادوا الى الجلوس بكبار عظيم..وقدم لي الباشا مقعدا الى جانبه وصفق بيديه في إشارة لمرافقيه لجلب القهوة والسكائر والأراجيل، وبينما اتخذت النرجيلة طريقها للباشا افتتح حديثه بكلمات ترحيب طيبة شاكرا الله الذي انقذنا من الشمر، فسرت همهمة استحسان حول الغرفة..ثم قال انه يأمل بتأجيل الحديث عن التنقيبات ليوم آخر لأنه يرى ان من الضروري جدا ان يحصل مني اولا على وصف للنهب الذي تعرضنا له من قبل الشمر.. فأشرت الى نمرود ليتحدث غير أن الباشا قال له ان يلتزم الصمت والتفت الي قائلا (كلا تحدث انت)، فسرت همهمة استحسان أخرى في المجلس..وتبين لي من هذه الحادثة الصغيرة مدى النظرة التدوينية للمسيحيين في الموصل..ولأن خيارا آخر لايوجد، نهضت ووصفت بعربية واهنة متبترة كيف هاجمنا الشمر ونهبونا وكيف قام زعيمهم باهانة بيرق السلطان، وكيف امتنع سكان الجادر[الخيام] في الصحراء عن اعطائنا الماء او السماح لنا بالمبيت على مقربة منهم بسبب خوفهم من الشمر، وكيف توجب علينا السير 16 ساعة للوصول الى اسكي موصل..ولحسن الحظ لم يكن انشاء رواية بسيطة واضحة باللغة العربية او فهمها بالأمر الصعب، لذلك فقد فهم الباشا ووجهاء المدينة وصفي كما يتضح من الأسئلة التي وجوهوها الي بعد انتهائي من سرد ماحدث..وعندما انهى الحضور شتائمهم كاولاد الكلب وكلاب واولاد حرام واولاد الساقطات واولاد البغال والحمير واولاد لوط ، ولعنهم الله [الله ينعلم] والله يسود وجوههم [يسود وججم] وماالى ذلك، نب الباشا بسؤالي: ماذا سأفعل ردا على اعتداء الشمر؟ هل سأطالب من خلال السفير البريطاني حكومة اسطنبول بتعويض لما سرقته شمر منا على الدرب السلطاني [الطريق الملكي]..وقال بأنه يعرف بأني ابرقت الى السفير البريطاني مبلغا اياه بوصولنا ولأني لم أذكر اي شيء حول الشمر في برقيتي، فإنه يأمل بأن لا اقوم بذلك بواسطة رسالة لأنه مسؤول عن الأراضي الممتدة بين ماردين والموصل، وإنه لايريد ان يفقد واسطته او وظيفته..فقاطع عدد من وجهاء الموصل في تلك اللحظة الباشا بقولهم: أن الحادثة يجب ان تنقل بتقرير الى السفير البريطاني وبذلك قد يضطر الباب [السلطة العثمانية] على ارسال حملة عسكرية ضد الشمر لأن قافلة لاتسلم ابدا من هجماتهم.. فالتفت الباشا الي وكرر سؤاله حول مطالبتي بتعويض من الحكومة فقلت له : لا لأن هذا لن يجدي نفعا ان انا كتبت له من هنا من الموصل..ولكن مهاجمة القوافل ونهبها شيء لايمكن اخفائه ويجب نقله بتقرير الى الحكومة في اسطنبول..ثم قلت للباشا : إني تصورت أن من واجبك أرسال جنود من حامية الموصل لقتل عدد من الشمر..فنب احد الجلوس بعبارة واردف آخر برد ثم تدخل ثالث برأي فلم اتمكن من متابعة كل ماادلو به من كلام..وبعد حديث طويل بدا ان الباشا قد توصل الى قرار فقال لي إذا لم أكتب اي شيء حول القضية [مداهمة الشمر للقافلة] فإنه سيرسل جنودا ضد الشمر فورا وأنه سيكتب بنفسه لأسطنبول عندما يكون قد قتل الشمر كلهم وترك جثثهم لثعالب [سباع] الصحراء، فوافقت على اقتراحه وبعد تحديد موعد معه لمناقشة التنقيبات في تلقوينجق غادرت بصحبة نمرود السراي..ـ
وفي عصر اليوم نفسه كان السوق ضاجا بنبأ إصدار الباشا لأوامر تقضي بتهيئة 250 من قوات الفرسان لشن حملة على الشمر، واكتظت المدينة بالجنود الذين تدافعوا في السوق لجمع المعدات والطعام وماإلى ذلك..وابتهج التجار لأن إجراءا سيتخذ في آخر المطاف ضد الشمر..فبذلوا قصارى مساعيهم لمساعدة الجنود في إكمال تجهيزاتهم وتبرعوا لهم بأكياس من الزبيب والتبغ وقدور طهي الطعام وغير ذلك..واستمر هذا الحال لبضعة أيام وفي كل يوم نسمع ان القوات ستتحرك صوب جبل شمر غدا، وعندما يحل الليل نسمع تبريرا جديدا لعدم تحركهم..ثم اسمعنا أن سبب تأخرهم يعود الى نقص الخيول الجاهزة بحدوات في حوافرها لأن خيول الحكومة كلها لليس لديها حدوات وأن حدوات ومسامير ارسلت من اسطنبول الى الموصل حسب تعليمات جديدة وإنها وصلت بأمان ولكنها بيعت ولهذا بقيت الخيول بدون حدوات..فتحرك تجار الموصل لمساعدة الحاكم العسكري وقاموا بتجهيز حدوات ومسامير وزادو على ذلك بتاجير حدائين [منعلجية] متخصصين على حسابهم.. ثم جرت اشاعات جديدة منها ان عدد الجنود تم تقليصه الى 150 ثم الى100، وأخيرا تم اعداد 86 جندي اعدادا كاملا..وفي اليوم السادس عشر بعد أعلان الباشا عن الحملة انتشر خبر في المدينة ان الحملة التأديبية ستنطلق بعد ظهر اليوم، فخرجت الموصل برمتها الى باب سنجارلرؤية انطلاقها..وكان الرجال انفسهم ضخام الأجسام تبدو عليهم سمات القوة والنشاط إلا ان بزاتهم العسكرية ومعداتهم تبدو مهلهلة وبالية فكانت ستر العديد منهم مفتوقة في الكتف ولايوجد ازرار تثبتها أما احذيتهم [البساطيل البروسية] فوسخة ومعظمها بحاجة الى ترقيع وكانت احزمة العتاد تحتوي خراطيش قديمة كما يبدو من شكل الرصاصات وكانت بنادقهم معلقة خلف أكتافهم بواسطة اسلاك مشدودة الى بعضها..وتتنوع مكابح خيولهم في اشكالها والوانها..ويحمل كل جندي العديد من الحزم [البقج] الصغيرة مشدودة بحزامه او باخراج حصانه..وعلى الرغم من ان بعض الجنود يمتطي الخيول وبعضهم البغال وبعضهم الحمير يبدو ان مايحمله كل واحد منهم يماثل مايحمله الآخر..ولم اشاهد اي قافلة صغيرة لحمل امتعة الجنود تتقدمهم او تتبعهم بينما كانوا يغادرون البوابة ..وكنت افترض ان جمالا تحمل علفا للحيوانات وماءا ومؤونة للجنود كانت قد غادرت الموصل في وقت مبكر من اليوم لتسبقهم الى جبل سنجار..وعندما نظرت الى الرجال الستة والثمانين المتجهين غربا وقارنتهم في فكري بخيالة الشمر الذين داهمونا ونهبوا قافلتنا، لم اشعر بغير الإشفاق عليهم..غير ان الموصل كلها كانت في بهجة غامرة..ويبدو ان الناس لم يخامرهم شك بأن الجنود الأتراك سوف يأكلون الشمر..فطردت افكاري الكئيبة وعقدت آمالي على ان الشمر سوف يؤكلون..ـ
وبعد خمسة او ستة ايام وفد الموصل فارسان على حصانيهما ...جاءا من الغرب وذكرا انهما شاهدا على البعد الجنود الذين ارسلوا في حملة ضد الشمر متجهين نحو الموصل ومعهم زمرة من عرب الشمر..فأحدثت تلك الأنباء ضجة في المدينة وبدأ الناس بالتدفق على باب سنجار ومنهم من غادر باب سنجار الى الصحراء في انتظار الجنود المنتصرين..وكان الأعتقاد السائد ان الشمر الذين أخبروا انهم كانوا بصحبتهم لابد ان يكونوا اسرى يقتادونهم الى الموصل..ولم تبرح الظهيرة على الزوال حتى لاحت سحابة عظيمة من الغبار تتصاعد في الأفق الغربي..وبعد ساعة رأينا الجنود عائدين..وكانت رواية الفارسين الذين وفدا الموصل في وقت مبكر هذا اليوم صحيحة فقد كان بصحبتهم شمر..وراقبنا المجموعتين [الشمر والجنود] وهما تقتربان أكثر فأكثر..ولكن عندما أصبحوا على مقربة رأينا الشمر يحملون حرابهم الطويلة بأيديهم بينما تتدلى بنادقهم طويلة المواسير [تفنكات] خلف أكتافهم..ولا يبدو عليهم باليقين القاطع مظهر الأسرى..وعندما وصلوا على مسافة ميل تقريبا عن سور المدينة..توقف الجنود والشمر..وتحرك قائد الشمر والضابط الذي يقود القوة التركية أحدهما تجاه الآخروتحدثا لوقت قصير..فوقف اهل الموصل بصمت وذهول متطلعين الى ماقد يحدث! فرفع الضابط سيفه في الهواء فجأة بينما امسك قائد الشمر حربته في وضع قتالي وبدا وكأن مواجهة ستحدث بينهما غير ان قائد الشمر أدار فرسه بسرعة وانطلق صوب الغرب يتبعه رجاله بأكملهم.. ثم أمر الضابط التركي رجاله باستئناف سيرهم الى الموصل فساروا بهدوء خلفه داخلين الى الموصل..فعلم الجميع ان شيخ شمر ورجاله لم يكونوا أسرى الترك اطلاقا..وان الشمر لم يكونوا يخشوا حامية الموصل أبدا بحيث وصلوا بالقرب من السور ليجروا توديعا رسميا للضابط ورجاله الذين رافقوهم حتى بوابة المدينة لحمايتهم من الجماعات الجوالة من عشيرتهم نفسها ممن قد يهاجمونهم في الطريق.. هذا ما حدث فعلا..وبالتريج بدأت الحقائق تظهر قليلا قليلا .. وهاكم ماحدث:ـ
واصل الضابط التركي مسيره غربي الموصل على مدى يوم ونصف متصورا انه سيصل جبل سنجار في اليوم الثاني، ولم يكن لديه خارطة ولادليل يرشده على الطريق فنصب خيامه في العراء [الخواء] لعدم وجود مكمن او ملاذ طبيعي فاكتشف رجاله ان لاعلف لديهم لأطعام حيواناتهم ولامؤونة لهم ولا ماء لشربهم وسقي حيواناتهم. ولكن الجنود كانوا يحملون زبيبا وتمرا وخبزا صلبا مما اعان في تعويض الميرة العسكرية الغائبة.زولم يكن هناك ماء بالقرب من المكان الذي ضربوا خيامهم فيه، فانتشروا في المكان بحثا عن برك استقر فيها بعض ماء المطر فعثروا على العديد من البرك فشربوا وجلبوا حيواناتهم لتشرب.. وبينما كانوا في تلك الحال من الفوضى، داهمتهم جماعة كبيرة من العرب الشمر..ولكن الشمر امتنعوا من مهاجمة الجنود لأنهم يعرفون انهم يحملون بنادق وذخيرة..كما لم يكن الضابط التركي يرغب بقتال الشمر المعروفين بمهارتهم في القتال بالحراب المميتة..وألأدهى من ذلك ان الجنود الذين سيقوا كل تلك المسافة بدون ميرة كانوا كالحين وساخطين وشعر الضابط انه لايقدر ان يعتمد على ولائهم..وبينما كان الضابط و قائد الشمريتحادثان ويدخنان، ظهرت جكاعة أخرى من الشمر وهم يسوقون امامهم قطيعا كبيرا من الأغنام استولوا عليه بينما كان في طريقه الى سورية..فرحب الجنود بالجماعة الوافدة من الشمر واصبحوا اصدقاء..مما دعى الشمر الى ذبح عدد من الأغنام وطهيها اعدادا لوليمة استضاف بها الشمر الضابط وجنده في تلك الليلة..ولم نعرف ماجرى بين الضابط وزعيم الشمر من ترتيبات.. ولكن الشيء المؤكد ان الجنود حلوا ضيوفا على الشمر في الليل واليوم الذي تلاه..,كان الضابط مسرورا لقيام الشمر بمرافقته وحمايته في طريق عودته الى الموصل..وكانت احاديث الناس في السوق لاذعة استمرت لأيام وكان غضب التجار عظيما..غير ان الأمور بدأت تتجلى تدريجيا فتحول غضب الناس المر الى ضحك مر..ودار الحديث علنا بأن الباشا يعرف جيدا انه لايقدر على تحشيد القوة الكافية لدحر الشمر، فقرر ان يعالج المعضلة بالطريقة نفسها التي عمدت اليها الحكومة في معالجة مشكلة الكرد الهماوند الذين يقيمون بالقرب من كركوك ويحصلون على معيشتهم من نهب القوافل المتجهة من الموصل الى بغداد.. اي بطريق رشوتهم [عندما ثار هؤلاء الأكراد ضد الحكومة التركية عام 1879 ارسل الباشا في بغداد قوة كبيرة من الخيالة والمشاة والمدفعية لسحقهم فتمكن الأكراد من دحر الأتراك في معركة بالقرب من كركوك والإستيلاء على اسلحتهم بعد مذبحة لم يسلم منها سوى عدد قليل ممن تمكن من الهرب الى بغداد..فقام الباشا في بغداد بدفع رشوة كبيرة للأكراد "الهموند" فاسترجع بذلك البنادق وأمن جانبهم من قطع الطريق على القوافل] ..فقام بإرسال كمية كبيرة من المال لقائد الشمر وعندما سلمها الضابط له طلب منه على عادة الأتراك هدية [بخشيش]..فقدم له القائد الشمري سبعين من النعاج التي نهبها اتباعه ووعده بأنه سيسلمها له في الموصل..والتزم الشيخ بوعده ..فقد قدم عدد من الشمر بالأغنام الى الموصل بعد ايام من عودة الجنود وبعد سؤال الشمر في السوق اين يجدون الضابط لأخذ بخشيش منه، قدموا المفتاح الذي مكن اهل الموصل من حل اللغز وفهم ماجرى في المقابلة بين زعيم الشمر والضابط)...ـ
ثم يواصل واليس بج حديثه عن انتقاله الى بيت آخر غير بيت نمرود رسام وما شاهده في ذلك البيت وعاشه من تجارب مع الجيران لينتقل الى الحديث عن التنقيبات في تلقوينجق وملابساتها ثم يحدثنا عن مرافقه جرميا شامير وجهوده في استحصال المخطوطات السريانية والعربية ورحلاته المحلية الى تلكيف فبلوات فالنمرود فمدينة سرجون، ,وزياراته المتبادلة للآباء الدومنيكان والبعثة التبشيرية الأميركية في الموصل، فعودته الى بريطانيا بطريق بغداد فالمحمرة ومنها الى كراجي فمصرعبر قناة السويس فبريطانيا وكان قد حمل معه كنوزا أثرية تضمنت 1.500 رقيم من تلقوينجق وأبو حبة [سيبار او سيبار الشرقية او البابلية في محافظة بابل]، والدير[سيبارالغربية او سيبار امنانوم في ديالى] ومعها 49 ختما اسطوانيا وثلاثة برديات مصرية تحتوي على نسخة من دستور اثينا لأرسطوطاليس وبرديات احتوت أقسام من الإلياذة ونصوص سحرية وعدد كبير من المخطوطات العربية والسريانية من الموصل وأطرافها – قام بشرائها جميعا- تضمنت شرح النووي وصحيح مسلم وأخبار الدول المنقطعة لأبي الحسن علي ابن ظافر وقلائد العقيان لأبن خاقان، والقانون لأبن سيناء، وجامع الغرد لأبن القف وشرح ابن هشام ، وغيرها..ـ
خاتمة:ـ
قد نذهل احيانا ونحن نتجول في اقسام المتحف البريطاني ومكتبته الضخمة فينتابنا شعور مزدوج بالحزن البهيج والكبرياء: الحزن لأن تراثنا الشرقي بكل عظمته وجماله خارج ارضه ..وهو حزن بهيج لأن هذه المتحوفات سلمت من التخريب والسرقة والإتلاف عندما اجتاح العراق مغول القرن العشرين وما تلاهم من غوغاء بربرية جاءت على ثروات العراق المحفوظة في مكتباته ومتاحفه فاتلفتها ودمرتها..ونشعر بالكبرياء لعظمة وفرادة النتاج الفني والفكري والأدبي لأسلافنا بحيث لايمكن أن نظهر في أية طورة الى جانب اللبوة العراقية الهائلة لجسامتها بحيث لايمكن للعدسة الكاميرا احتوائها الى جانبنا في الصورة نفسها أو تلك الثيران المجنحة التي اضطر راولنسون الى تقطيعها الى ثمانية قطع لتيسير نقلها الى المتحف البريطاني.. وعزاؤنا ان الروح العظيمة التي اسست لحضارات العراق وانتجت فنه مابرحت في خلجاتنا وجوارحنا وان ما يحتاجه الخلف لمحاكاة السلف لايعدو استنهاض تلك الروح ويقظتها .. لقد عد البريطانيون والفرنسيون والألمان وغيرهم من الأمم الأوربية تشييد المتاحف وتزويدها بنوادر الفن من الشرق والغرب مسالة وطنية تتصل بالشرف القومي، فلم يترددوا بانفاق الأموال وتجشم الأهوال في السفر الى الشرق والغرب عبر البحار والمحيطات بهدف التنقيب عن تراث الأمم البائدة واستظهار آثارها واستحصال مايمكن من تراث قديم بطريق الشراء فنقل ذلك الى متاحفهم.. وتعد محاولات واليس بج في هذا الصدد أحدى اكثر المحاولات اهمية ولأنه كاتب غزير فان مادونه عن رحلاته وبخاصة تلك التي زار فيها الموصل وأطرافها يعد صفحة جديدة وثرية بالمعلومات النادرة تضاف الى صفحات كتاب ورحالة وآثاريين زاروا الموصل ونينوى فأحبوهما وكتبوا عن تجاربهم ومشاهداتهم فيهما..ـ
ملاحظة حول المصادروالصور:ـ
اعتمدت في مصادري على النسخ الألكترونية المتوفرة لكتب [واليس بج] وبخاصة كتابه التفصيلي [على ضفتي النيل ودجلة] الذي اصدره بمجلدين، وعلى مجموعة من المؤلفات المتخصصه بالعراق القديم وبأدبيات الرحلة كرحلات [كارستن نيبور] و[جان تافرنير] و[كارل ادورد ساخاو] "النص الألماني" وهو نص بالخط الألماني القديم فضلا عن رحلة الدكتور كرانت، ورحلة الجنرال رودون شيسني لأكتشاف دجلة والفرات وهما متوفرتان الكترونيا.. اما الصور فبالإضافة الى تلك التي ضمنها واليس بج كتابه اخترت من ارشيفي الصور التي جرت الإشارة اليها في سياق الترجمة كالجسر الحجري وجوامع الموصل والسوق في الموصل فضلا عن صور لـ [واليس بج] و لرحالة وآثاريين وتبشيريين وردت اسماءهم في النص مع صور نادرة للمنطقة المحيطة بجامع النبي شيت حيث كان موقع سوق الغنم واخرى لشارع باب الطوب تنشر لأول مرة.. أما حول تهجئة اسم [بج] في العنوان فقد وردت بشكلين ثانيهما [بج] يوضح كيفية التلفظ بأسمه بالإنكليزية والأولى [بوج] كيفية كتابته بالعربية..ـ
*
ـ شاهد : ملحق مصور عن رحلة ارنست واليس بوج "بج" الى الموصل
عودة الى الصفحة الرئيســـة