الحلم والقوقعة
قراءة في قصة كرم الأعرجي " في انتظار هرة"ـ
صلاح سليم علي
القصة في مضامينها العمقية تشريح للضجر..والقطة اكانت حقيقة ام رمزا محاولة من الشاعر للخروج من الضجر.. ولمن يعرف كرم جيدا يعرف أن الضجر ليس سوى حرف من ابجديات تجربته مع الحياة بما يجعل قصته هذه ضربا من البيوغرافيا او الأحلام.. فهو يحدثنا عن نفسه ونحن نتعرف من خلال حديثه على طبيعة سجن بلا قضبان وبلا سجان ... وهو يؤكد لنا بلسان الشخص الأول مرتديا ثوب الشخص الثالث أنه متعب: [كم أنا متعب..! مهزوم من داخلي، أود ان أحلق خارج الأقفاص، ابكي، لا ادري لماذا، ربما لان وحدتي خصم عنيد..] ونعرف انه ليس وحيدا فله عالمه او عوالمه الشعرية والصوفية والتاريخية... وله اواصر تشده الى اصدقاء حقيقيين .. ولكنه بهاجسه الصوفي يريد ان يردم الهوة السحيقة التي تفصل بين الذات والعالم وهو بهاجسه الشعري يسعى لأكتشاف ما هية الأشياء..فهو [يريد أن يبصم بالنقاء على جبين الحياة بهمسات نبيلة، يبحث في البياض عن الأبيض] والبحث هنا هو عن جوهر البياض ..وجوهر النقاء ..وجوهر البراءة ..وكل شيء يحيط به في حبسه الزمني يدعوه الى العودة الى البدايات في محاولة لخلق بداية جديدة.. فإن كانت التفاحة سببا في كل هذا الشقاء فأنه يأمل بتغيير سياق الحياة: [لو كنت روحاً تسبح في هذا الأثير لأخذتك على جناح اللّمحة وأعدتك الى الشجرة وخلصنا من الخطيئة] فعالمه بسيط بمفرداته التي يحملها من وجدانياته ثقلا معرفيا وعاطفيا هائلا لأنه لا يريد ان يفهمها في صيغ قوالب جاهزة كما يراها الناس لأن عالمه مثقل بالمتعارفات الجاهزة التي تشوش الرؤية وتعطل فهم الأشياء بصفتها ظواهر يراها لأول مرة ويراها الناس الف مرة.. وهو يدرك في وحدته انه ليس وحده ليس لأن فارس الغلب ينتظره في المقهى بل لأنه يجلس على جماجم الموتى فبيته في قلب نينوى القديمة وبقرب البيت منطقة مسيجة يقال انها بيت لقائد آشوري عثر فيه على لقى أثرية فحوطته الآثار بسياج ..ولكن زمن كرم الحاضر وعالمه الحياة بكل اشكالها وليس امبراطوريات الموت المطمورة بالتراب [هكذا هي الأزمان أبدا يطمرها التراب]...ولكن الرتابة اليومية سرعان ما تلاشت عندما قفزت الهرة على وجهه وخدشت له جفنيه... وكان رد الفعل في حالات مماثلة او لأشخاص مختلفين هو ركل الهرة خارج البيت لتسرح في المزابل او تضيع في سوق النبي أو تحوي عليها عجوز بيضاء مثلها ترى في بياضها دواءا للكائنات الرمادية التي تكثر في زوايا سرداب بيتها العتيق..غير انه وبأسقاط انساني واضح يختار ان يواصل حبه لهرته مختلقا لها المعاذير...ويرصد بدلا من ذلك وقتا في متابعة لقاء لها بهر[أحمر] يرتاد البيت مرتبضا حائط بيت مجاور...ولكن بينما لا تقر الحيوانات لجاما يحد من اتجاه غرائزها، يتردد الشاعر في اتخاذ اية خطوة في عالمه تكسر قيود الوحدة على نحو مماثل للهررة والبشر ممن لايترددون لحظة في الإنخراط في عالم الغريزة والمجتمع [وكان الوقت قبل نهاية شهر شباط، ذهبا يتمايلان يتكئان على بعضهما بغزل مبهج فوق الجدار]،..إنه يتعرف تدريجيا على ان البياض لا يعني البراءة وأن الألوان كلها تمتلك خصائص معرفية ورمزية غير تلك التي تعارف عليها الناس...وان الهرة لا تفرق بين سيدها وطير ما دام كلاهما اسير قفص.. وانها بعيد اقترانها بهر ستنصرف الى عالم آخر ولن تكون بالوداعة نفسها ربما ستكبر أثدائها لترضع صغارا تلدهم ...وكان من الأفضل لو أنه ركلها خارج الدار..غير ان هذا لم يكن خيارا لدى شاعر يحب حركة الكائنات وضجيجها وحركتها بل ويسقط علاقات من عالمه افنساني عليها....فالعظم عند الهرة هو العالم باسره عند الشاعر...ـ
وليس في الزمن الشعري اية مسافة بين كرم والشنفرى الذي اختار صحبة السباع بعد ان فقد صحبة البشر:ـ
ـ ولي دونكم اهلون سيد عملس وارقط زهلول وفرعاء جيأل
فما أقرب حياة أكرم من حياة الشعراء الصعاليك بعزلته ونبله وفرديته وعوالمه الغريبة الخاصة به وبه وحده..إلا أن عصر صعاليك الجاهلية كان مفتوحا ولا نهائيا كالصحراء بينما يحيا الشاعر المعاصر في المكان الذي وصفه في عالم مغلق لا تتوفر منافذ للخروج منه..عالم اشبه بقوقعة متحجرة لا منفذ منها ولا منفذ اليها.. إلا بطريق التخيل [وهو يحلق ببصره نحو ساعته العتيقة المعلقة على حائط الغرفة المطلي باللون الأزرق، انه الرمز الوحيد الذي يشده نحو السماء] مما يجعل عناصر الحياة المتوفرة لديه محدودة وضيقة بل معدومة تماما..مما دعاه لأختيار الهرة البيضاء بديلا للرتابة والضجر ولم يمض وقت طويل ليكتشف انها بديل سيء..تسبب بارباك حياته ولو لحين وضيع عليه لقاء مع القاص الذي يشبه اللقاء به التطلع من نافذة تطل على الصحراء بكل ما فيها من نظافة وكندر زكي الرائحة وأبد لا يقر بالقيد حتى عندما يكون بثقل الدنيا ذهبا ..وهو لم يشأ ان يضيع موعده معه..ولا اي موعد لحرصه على الأواصر الإنسانية وأيفائه بالوعود..ـ
وفي لحظات الإرتباك اثر تطبيب عينيه او بالأحرى جفنيه بالشاش الأبيض تمر في خلده افكار ومشاعر تستدعي اسماء لا رابط يربطها بالسياق حتى ولو كان هذيانا واعيا [سالت دموعه ثانية، ربما اعتبرها مزحة مسيّجة بابتسامات (نوزت شمدين) الضاجة بموسيقى الجبل، يبقى يجسد الانتقاد بفطرةٍ متمردة، ويعمل على تحرير السلام من المتناقضات كي يكون العالم أكثر صفاءاً، مع ابتسامة] فلنا أن نتساءل اية مزحة وما معنى ان تكون هذه المزحة مسيجة بأبتسامات (نوزت شمدين) والظفرين هنا ليسا لي بل لكرم....ومن ذا الذي يبقي يجسد الأنتقاد بفطرة متمردة!؟ واي انتقاد هو؟ ..ولمن؟ وأي سلام يتحرر من التناقضات؟ كل ذلك ربما جاء في سياق استيهامات وتداعيات حمى اصيب بها حتى قبل ان تهاجمه الهرة المتربصة خلف الباب، فأعاد كتابتها في شكل تواردها الأصلي في ذهنه في وعي كامل عند كتابته لقصته [في انتظار هرة]..التي نفهم من خاتمتها ان البطل في القصة ينتظر أنثى من بني جنسه تحطم اقفاص الوحدة الخانقة التي أحالت حياته الى جحيم لا يطاق او لربما تزيدها [في حالته الحالمة أبدا] قفصا آخر..والقلق الذي يجتاح الشاعر في قصته هذه، وهي وقفة قصيرة في رحلة طويلة، قلق وجودي يرتبط بالتطلعات العليا للأنا الكلية وهي تطلعات الذات للأنعتاق من منواليات السقوط في حفرة العالم ...فالشاعر، اي شاعر، لا يقبل الإجابات الجاهزة وهي صفة يتشاطرها الشعراء مع ابليس الذي يشعر بحزن عميق ليس بسبب فقده لحالة من الوجود ارقى من حالة السقوط في الأرض، بل لأنه يشعر بعمق انه ملاك ساقط..فلا غرابة ان يشعر آدم بالمحنة نفسها ويسعى اولاده وبخاصة الشعراء منهم برغبة جامحة للتخلص من حالة السقوط وما ترتب عليه من منواليات بيولوجية واجتماعية تكبل الذات وتربطها بقوانين الضرورة..والأنثى هرة كانت ام امرأة جزء من تلك المنواليات الاجتماعية المترتبة على حالة السقوط..ـ
وتتماثل معالجة همنغواي في قصته القصيرة [هرة تحت المطر] معالجة كرم لهرته ولكنها عند همنغواي تشكل البديل التعويضي للدافع الجنسي لدى المرأة حديثة الزواج الذي يستجيب زوجها لإلحاحها فيخرج لجلب الهرة من الشارع ويدخلها الى الغرفة ..وكان صادقا بدوافعه مقارنة بزوجته التي لم تكن تهمها الهرة قدر اهتمامها بانصراف زوجها عنها...الهرة استخدمت كايقونة للتعويض عن رغبات مكبوتة لدى المرأة وكتعويض للعجز في اشباع تلك الرغبات لدى الرجل ..والهرة في قصة كرم استخدمت كايقونة للتعويض عن رغبة غير مفهومة لدى البطل ايضا ولكنها رغبة تتجاوز عالم الغرائز الى العالم الروحي وتتخطى عالم الضرورة الى افق الحرية..ـ
والقصة مزدحمة بالإشارات والرموز ولا تخلو من استطرادات صوفية إذ يتطرق كرم في يقظته الغافية الى وصف الموت بتعابير صوفية واضحة: [والموت خطوة نحو البقاء الأبدي، لا اشعر به، وهذه الأبدية فلك الأرواح بين يدي خالقها، والقدر صدر المعنى في اللوح..، هكذا يفهم الوجود، انه العماء، العماء سكون اقفل الحواس كانت رؤاه ساخنة كما سخونة جسده الغائر في جبٍّ ما له من قرار، سحلته أفكاره نحو بصيص قبس كلما اقترب منه تباعد، يركض بروحه، لا جدوى من الوصول، لا وصول، مارد خوف مجهول يسرق منه الأمل، تلك علامات العمى]ـ
نلاحظ من هذا الأستطراد عبارات ترد بكثرة عند محي الدين ابن عربي وفريد الدين العطار والبسطامي وأضرابهم كالقدر واللوح والعماء الذي يشكل عند العطار واحدا من الوديان السبعة التي تمر بها الروح مرموزا اليها بالطيور ..في مقاماتها الى الضياع والتماهي بالذات الإلهية ...والعماء في هذا النص هو غير العمى الفيزيائي الفعلي او المجازي.. عندما قابله بالأمل ..فهو يجري بروحه نحو هدف يدله عليه بصيص ضوء كلما اقترب منه إبتعد..حتما ان الأمل هنا هو في تحقيق الذات بالمعنى الوجودي وليس على صعيد الحياة الاجتماعية فإكتماله لا يمكن له أن يتحقق خارج وجوده الشخصي في العالم وليس في البدائل الموضوعية والإجتماعية التي تحيط به ما يحقق هذا الوجود وهو في حواره الذاتي مع نفسه يعرف بدائل ذاتية كثيرة تصلح ان تكون مراقي كا [القصاصات المبعثرة ..... من شعر، ومقالات، وقصص، قد خطط لكتابتها] وان ذواتا انسانية مماثلة [فارس الغلب] [البيئة الأدبية في الموصل وأهل الموصل] يمكن ان تكون قرائن لروحه في تحليقها للحرية والحقيقة وقد اتخذتا شكل تعبير ذاتي كأن يكون قصيدة هي كل الشعر او رواية هي كل الروايات..او كرم هو كل كرم..انه يبحث عن صيغة جديدة للوجود تتجسم بها الحقيقة الجمال : [الجمال الخفي الممزوج بقداح النور، شفافا وحريرياً يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حباً لخالق الحب] وذلكم هاجس عبر عنه الشاعر الرومانتيكي جون كيتس في قصيدته [أنشودة لمزهرية يونانية] أعلن في آخرها أن [الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال]..وكان كيتس الذي أثر كثيرا بالسياب، يصف مشاهد مرسومة على زهرية او مزهرية يونانية منها ما يصور عاشقا يتقرب من شفتي حبيبته بدون ان يلامسهما ومنها ما يصور جماعة تسوق بقرة يافعة لتقديمها اضحية الى المعبد، ومنها ما تصور جماعة تعزف على آلات الموسيقى ..فيخبرنا [ان النغمات المسموعة حلوة ولكن تلك التي لا تسمع أحلى]..فهي في اللوحة تستمر بالعزف لأنها لا تخاطب الأذن بل الروح..فالجمال هنا أبدي ومثالي وحقيقي في الوقت نفسه..وهو عين الجمال الخفي والمرئي في الوقت نفسه [الممزوج بقداح النور] لدى كرم يخاطب النظر والملمس و[يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حبا لخالق الحب]..وبهذا الحل المثالي فقط يمكن للقاص أو بالأحرى الشاعر الصوفي ان يتجاوز الهوة السحيقة بين ذاته والعالم الى الحقيقة والجمال...وبذلك لا يحقق وعد لقائه مع [الغلب] وحده بل مع أقرانه ونظرائه في عالم الشعر ريلكة ومايكوفسكي وكيتس وييتس ..في الوقت نفسه ممن يبحث عن الحقيقة والجمال في العالم فيعدمونها ليعودوا ويعيدوا خلق عوالمهم شعريا...ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
قراءة في قصة كرم الأعرجي " في انتظار هرة"ـ
صلاح سليم علي
القصة في مضامينها العمقية تشريح للضجر..والقطة اكانت حقيقة ام رمزا محاولة من الشاعر للخروج من الضجر.. ولمن يعرف كرم جيدا يعرف أن الضجر ليس سوى حرف من ابجديات تجربته مع الحياة بما يجعل قصته هذه ضربا من البيوغرافيا او الأحلام.. فهو يحدثنا عن نفسه ونحن نتعرف من خلال حديثه على طبيعة سجن بلا قضبان وبلا سجان ... وهو يؤكد لنا بلسان الشخص الأول مرتديا ثوب الشخص الثالث أنه متعب: [كم أنا متعب..! مهزوم من داخلي، أود ان أحلق خارج الأقفاص، ابكي، لا ادري لماذا، ربما لان وحدتي خصم عنيد..] ونعرف انه ليس وحيدا فله عالمه او عوالمه الشعرية والصوفية والتاريخية... وله اواصر تشده الى اصدقاء حقيقيين .. ولكنه بهاجسه الصوفي يريد ان يردم الهوة السحيقة التي تفصل بين الذات والعالم وهو بهاجسه الشعري يسعى لأكتشاف ما هية الأشياء..فهو [يريد أن يبصم بالنقاء على جبين الحياة بهمسات نبيلة، يبحث في البياض عن الأبيض] والبحث هنا هو عن جوهر البياض ..وجوهر النقاء ..وجوهر البراءة ..وكل شيء يحيط به في حبسه الزمني يدعوه الى العودة الى البدايات في محاولة لخلق بداية جديدة.. فإن كانت التفاحة سببا في كل هذا الشقاء فأنه يأمل بتغيير سياق الحياة: [لو كنت روحاً تسبح في هذا الأثير لأخذتك على جناح اللّمحة وأعدتك الى الشجرة وخلصنا من الخطيئة] فعالمه بسيط بمفرداته التي يحملها من وجدانياته ثقلا معرفيا وعاطفيا هائلا لأنه لا يريد ان يفهمها في صيغ قوالب جاهزة كما يراها الناس لأن عالمه مثقل بالمتعارفات الجاهزة التي تشوش الرؤية وتعطل فهم الأشياء بصفتها ظواهر يراها لأول مرة ويراها الناس الف مرة.. وهو يدرك في وحدته انه ليس وحده ليس لأن فارس الغلب ينتظره في المقهى بل لأنه يجلس على جماجم الموتى فبيته في قلب نينوى القديمة وبقرب البيت منطقة مسيجة يقال انها بيت لقائد آشوري عثر فيه على لقى أثرية فحوطته الآثار بسياج ..ولكن زمن كرم الحاضر وعالمه الحياة بكل اشكالها وليس امبراطوريات الموت المطمورة بالتراب [هكذا هي الأزمان أبدا يطمرها التراب]...ولكن الرتابة اليومية سرعان ما تلاشت عندما قفزت الهرة على وجهه وخدشت له جفنيه... وكان رد الفعل في حالات مماثلة او لأشخاص مختلفين هو ركل الهرة خارج البيت لتسرح في المزابل او تضيع في سوق النبي أو تحوي عليها عجوز بيضاء مثلها ترى في بياضها دواءا للكائنات الرمادية التي تكثر في زوايا سرداب بيتها العتيق..غير انه وبأسقاط انساني واضح يختار ان يواصل حبه لهرته مختلقا لها المعاذير...ويرصد بدلا من ذلك وقتا في متابعة لقاء لها بهر[أحمر] يرتاد البيت مرتبضا حائط بيت مجاور...ولكن بينما لا تقر الحيوانات لجاما يحد من اتجاه غرائزها، يتردد الشاعر في اتخاذ اية خطوة في عالمه تكسر قيود الوحدة على نحو مماثل للهررة والبشر ممن لايترددون لحظة في الإنخراط في عالم الغريزة والمجتمع [وكان الوقت قبل نهاية شهر شباط، ذهبا يتمايلان يتكئان على بعضهما بغزل مبهج فوق الجدار]،..إنه يتعرف تدريجيا على ان البياض لا يعني البراءة وأن الألوان كلها تمتلك خصائص معرفية ورمزية غير تلك التي تعارف عليها الناس...وان الهرة لا تفرق بين سيدها وطير ما دام كلاهما اسير قفص.. وانها بعيد اقترانها بهر ستنصرف الى عالم آخر ولن تكون بالوداعة نفسها ربما ستكبر أثدائها لترضع صغارا تلدهم ...وكان من الأفضل لو أنه ركلها خارج الدار..غير ان هذا لم يكن خيارا لدى شاعر يحب حركة الكائنات وضجيجها وحركتها بل ويسقط علاقات من عالمه افنساني عليها....فالعظم عند الهرة هو العالم باسره عند الشاعر...ـ
وليس في الزمن الشعري اية مسافة بين كرم والشنفرى الذي اختار صحبة السباع بعد ان فقد صحبة البشر:ـ
ـ ولي دونكم اهلون سيد عملس وارقط زهلول وفرعاء جيأل
فما أقرب حياة أكرم من حياة الشعراء الصعاليك بعزلته ونبله وفرديته وعوالمه الغريبة الخاصة به وبه وحده..إلا أن عصر صعاليك الجاهلية كان مفتوحا ولا نهائيا كالصحراء بينما يحيا الشاعر المعاصر في المكان الذي وصفه في عالم مغلق لا تتوفر منافذ للخروج منه..عالم اشبه بقوقعة متحجرة لا منفذ منها ولا منفذ اليها.. إلا بطريق التخيل [وهو يحلق ببصره نحو ساعته العتيقة المعلقة على حائط الغرفة المطلي باللون الأزرق، انه الرمز الوحيد الذي يشده نحو السماء] مما يجعل عناصر الحياة المتوفرة لديه محدودة وضيقة بل معدومة تماما..مما دعاه لأختيار الهرة البيضاء بديلا للرتابة والضجر ولم يمض وقت طويل ليكتشف انها بديل سيء..تسبب بارباك حياته ولو لحين وضيع عليه لقاء مع القاص الذي يشبه اللقاء به التطلع من نافذة تطل على الصحراء بكل ما فيها من نظافة وكندر زكي الرائحة وأبد لا يقر بالقيد حتى عندما يكون بثقل الدنيا ذهبا ..وهو لم يشأ ان يضيع موعده معه..ولا اي موعد لحرصه على الأواصر الإنسانية وأيفائه بالوعود..ـ
وفي لحظات الإرتباك اثر تطبيب عينيه او بالأحرى جفنيه بالشاش الأبيض تمر في خلده افكار ومشاعر تستدعي اسماء لا رابط يربطها بالسياق حتى ولو كان هذيانا واعيا [سالت دموعه ثانية، ربما اعتبرها مزحة مسيّجة بابتسامات (نوزت شمدين) الضاجة بموسيقى الجبل، يبقى يجسد الانتقاد بفطرةٍ متمردة، ويعمل على تحرير السلام من المتناقضات كي يكون العالم أكثر صفاءاً، مع ابتسامة] فلنا أن نتساءل اية مزحة وما معنى ان تكون هذه المزحة مسيجة بأبتسامات (نوزت شمدين) والظفرين هنا ليسا لي بل لكرم....ومن ذا الذي يبقي يجسد الأنتقاد بفطرة متمردة!؟ واي انتقاد هو؟ ..ولمن؟ وأي سلام يتحرر من التناقضات؟ كل ذلك ربما جاء في سياق استيهامات وتداعيات حمى اصيب بها حتى قبل ان تهاجمه الهرة المتربصة خلف الباب، فأعاد كتابتها في شكل تواردها الأصلي في ذهنه في وعي كامل عند كتابته لقصته [في انتظار هرة]..التي نفهم من خاتمتها ان البطل في القصة ينتظر أنثى من بني جنسه تحطم اقفاص الوحدة الخانقة التي أحالت حياته الى جحيم لا يطاق او لربما تزيدها [في حالته الحالمة أبدا] قفصا آخر..والقلق الذي يجتاح الشاعر في قصته هذه، وهي وقفة قصيرة في رحلة طويلة، قلق وجودي يرتبط بالتطلعات العليا للأنا الكلية وهي تطلعات الذات للأنعتاق من منواليات السقوط في حفرة العالم ...فالشاعر، اي شاعر، لا يقبل الإجابات الجاهزة وهي صفة يتشاطرها الشعراء مع ابليس الذي يشعر بحزن عميق ليس بسبب فقده لحالة من الوجود ارقى من حالة السقوط في الأرض، بل لأنه يشعر بعمق انه ملاك ساقط..فلا غرابة ان يشعر آدم بالمحنة نفسها ويسعى اولاده وبخاصة الشعراء منهم برغبة جامحة للتخلص من حالة السقوط وما ترتب عليه من منواليات بيولوجية واجتماعية تكبل الذات وتربطها بقوانين الضرورة..والأنثى هرة كانت ام امرأة جزء من تلك المنواليات الاجتماعية المترتبة على حالة السقوط..ـ
وتتماثل معالجة همنغواي في قصته القصيرة [هرة تحت المطر] معالجة كرم لهرته ولكنها عند همنغواي تشكل البديل التعويضي للدافع الجنسي لدى المرأة حديثة الزواج الذي يستجيب زوجها لإلحاحها فيخرج لجلب الهرة من الشارع ويدخلها الى الغرفة ..وكان صادقا بدوافعه مقارنة بزوجته التي لم تكن تهمها الهرة قدر اهتمامها بانصراف زوجها عنها...الهرة استخدمت كايقونة للتعويض عن رغبات مكبوتة لدى المرأة وكتعويض للعجز في اشباع تلك الرغبات لدى الرجل ..والهرة في قصة كرم استخدمت كايقونة للتعويض عن رغبة غير مفهومة لدى البطل ايضا ولكنها رغبة تتجاوز عالم الغرائز الى العالم الروحي وتتخطى عالم الضرورة الى افق الحرية..ـ
والقصة مزدحمة بالإشارات والرموز ولا تخلو من استطرادات صوفية إذ يتطرق كرم في يقظته الغافية الى وصف الموت بتعابير صوفية واضحة: [والموت خطوة نحو البقاء الأبدي، لا اشعر به، وهذه الأبدية فلك الأرواح بين يدي خالقها، والقدر صدر المعنى في اللوح..، هكذا يفهم الوجود، انه العماء، العماء سكون اقفل الحواس كانت رؤاه ساخنة كما سخونة جسده الغائر في جبٍّ ما له من قرار، سحلته أفكاره نحو بصيص قبس كلما اقترب منه تباعد، يركض بروحه، لا جدوى من الوصول، لا وصول، مارد خوف مجهول يسرق منه الأمل، تلك علامات العمى]ـ
نلاحظ من هذا الأستطراد عبارات ترد بكثرة عند محي الدين ابن عربي وفريد الدين العطار والبسطامي وأضرابهم كالقدر واللوح والعماء الذي يشكل عند العطار واحدا من الوديان السبعة التي تمر بها الروح مرموزا اليها بالطيور ..في مقاماتها الى الضياع والتماهي بالذات الإلهية ...والعماء في هذا النص هو غير العمى الفيزيائي الفعلي او المجازي.. عندما قابله بالأمل ..فهو يجري بروحه نحو هدف يدله عليه بصيص ضوء كلما اقترب منه إبتعد..حتما ان الأمل هنا هو في تحقيق الذات بالمعنى الوجودي وليس على صعيد الحياة الاجتماعية فإكتماله لا يمكن له أن يتحقق خارج وجوده الشخصي في العالم وليس في البدائل الموضوعية والإجتماعية التي تحيط به ما يحقق هذا الوجود وهو في حواره الذاتي مع نفسه يعرف بدائل ذاتية كثيرة تصلح ان تكون مراقي كا [القصاصات المبعثرة ..... من شعر، ومقالات، وقصص، قد خطط لكتابتها] وان ذواتا انسانية مماثلة [فارس الغلب] [البيئة الأدبية في الموصل وأهل الموصل] يمكن ان تكون قرائن لروحه في تحليقها للحرية والحقيقة وقد اتخذتا شكل تعبير ذاتي كأن يكون قصيدة هي كل الشعر او رواية هي كل الروايات..او كرم هو كل كرم..انه يبحث عن صيغة جديدة للوجود تتجسم بها الحقيقة الجمال : [الجمال الخفي الممزوج بقداح النور، شفافا وحريرياً يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حباً لخالق الحب] وذلكم هاجس عبر عنه الشاعر الرومانتيكي جون كيتس في قصيدته [أنشودة لمزهرية يونانية] أعلن في آخرها أن [الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال]..وكان كيتس الذي أثر كثيرا بالسياب، يصف مشاهد مرسومة على زهرية او مزهرية يونانية منها ما يصور عاشقا يتقرب من شفتي حبيبته بدون ان يلامسهما ومنها ما يصور جماعة تسوق بقرة يافعة لتقديمها اضحية الى المعبد، ومنها ما تصور جماعة تعزف على آلات الموسيقى ..فيخبرنا [ان النغمات المسموعة حلوة ولكن تلك التي لا تسمع أحلى]..فهي في اللوحة تستمر بالعزف لأنها لا تخاطب الأذن بل الروح..فالجمال هنا أبدي ومثالي وحقيقي في الوقت نفسه..وهو عين الجمال الخفي والمرئي في الوقت نفسه [الممزوج بقداح النور] لدى كرم يخاطب النظر والملمس و[يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حبا لخالق الحب]..وبهذا الحل المثالي فقط يمكن للقاص أو بالأحرى الشاعر الصوفي ان يتجاوز الهوة السحيقة بين ذاته والعالم الى الحقيقة والجمال...وبذلك لا يحقق وعد لقائه مع [الغلب] وحده بل مع أقرانه ونظرائه في عالم الشعر ريلكة ومايكوفسكي وكيتس وييتس ..في الوقت نفسه ممن يبحث عن الحقيقة والجمال في العالم فيعدمونها ليعودوا ويعيدوا خلق عوالمهم شعريا...ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة