الى الموصل
صلاح سليم علي
مقدمة هيئة التحرير: تعقيبا على ما اورده احد القراء من نقد لترجمة الاستاذ صلاح سليم لرحلات مارك سايكس في موقع عينكاوا. يسرنا ان ننشر رد المترجم الفاضل على ذلك والذي تضمن توضيحا لمسؤولية المترجم من النصوص التي يترجمها ، وضرورة عدم الخلط بين المترجم والمؤلف، ونحن في بيت الموصل نقدر للمترجم القدير الاستاذ صلاح سليم، حياديته وموضوعيته ودوافعه ؛مترجما وكاتبا وبخاصة ما ترجمه او كتبه عن الموصل ؛ مدينته التي احبها كثيرا، واننا نقدر له انجاز كتاباته هذه وطباعتها في ظل ظروف صحية صعبة فنحن نعلم انه يعاني من يد مكسورة عدلت بعملية معقدة بالبلاتين وكذلك من مشكلات في القلب شافاه الله ومتعه بالصحة، ونشكره لارساله صور جميلة عن الموصل.
***
جاءت ترجمتي للرحلات في سياق مشروع ترجمة واسع يغطي رحلات الأوربيين الى الموصل وفي النية تقديمه الى مركز دراسات الموصل للنظر في نشره كتابا مع ترك خيار التحرير والأختيار للمركز .. ولا يمكن للمترجم ان يضيف الى النصوص التي يترجمها او ينقص منها او يحورها ..وتتلخص مسؤوليته بالنقل وأحيانا التوضيح بطريق الهوامش او في مجرى السياق على ان يبين توضيحاته بطريق اقواس مضلعة او اشارات تضمين كالفوارز المقلوبة..أوغير ذلك.. ، ولا يترتب على المترجم اهمال رحلة من الرحلات بسبب وصف سلبي تتضمنه تلك الرحلة وذلك لأن الوصف السلبي لايلزم القاريء تصديقه أو قبوله ..كما لايتوجب على المترجم تغييره لأن تغيير النص ينفي وظيفة المترجم المتمثلة بالنقل وليس التأليف ..
وبينما يتحمل المترجم مسؤولية النصوص الدينية والقانونية التي يترجمها لأرتباطها باالمعتقدات الجوهرية الثابتة نسبيا للناس، او ارتباطها بحياتهم، فإنه لايتحمل اية مسؤولية عن النصوص التاريخية التي يترجمها وذلك لعدم امكانية تبديل الحوادث التاريخية أو تغييرها..لذا تنحصر مسؤولية المترجم للنص التاريخي بإختيار النص المترجم في حال توفر بدائل مماثلة لهذا النص الذي يختاره..وتنتفي مسألة الأختيار في حال عدم توفر البدائل..كما في ترجمة الرحلات حيث لا يوجد اختيار بين النصوص لأن الرحلات الى الموصل معدودة ومحدودة ولابد من شمولها كلها في اي عمل او مشروع كتاب حول أدب الرحلة الى الموصل..
لذا لابد من توضيح اسباب ودوافع اختيار نص من النصوص دون غيره للترجمة...وهذا يتم عادة ضمن المقدمة التي يكتبها المترجم للرحلة..، ولا مراء بأن رحلة مارك سايكس او بالأحرى رحلاته الثلاث الى الموصل هي على قدر كبير من الأهمية لطالب التاريخ لأنها تبين وبوضوح جانبا من الدوافع التي دعت السياسي البريطاني ومصمم خارطة الشرق الأوسط وعلم الثورة العربية الذي اعتمدته دولنا في تصميم اعلامها ومنها اعلام العراق الملكي والجمهوري التخلي عن الموصل لفرنسا في المعاهدة التي تحمل اسمه... ويؤكد البعد الشخصي والمزاجي في السياسة البريطانية تجاه الشرق الأوسط...، كما نتعرف في وصفه السلبي لمدينتنا واهلنا في الموصل طبيعة السياسة العثمانية تجاه الولايات واهمال العثمانيين الشديد للموصل ... ونعرف ان اختيار الإدارة العثمانية لضفة النهر مكانا للمدبغة والمصبغة والمسلخ انما يدل على جهل كبير بالبيئة وضرورة الحفاظ عليها ... وان الإستعمار العثماني لايختلف في جوهره الإستغلالي عن الإستعمار البريطاني بل يعود الفضل الى البريطانيين في وضع مشاريع اسالة الماء وتشجير الغابات والحدائق ثم تأسيس الجيش العراقي والمتحف الوطني وما الى ذلك من مشاريع لم يفكر العثمانيون بها..
كما اود الإشارة الى ان الترجمة والعثور على المصادر ومقارنتها ليست بالمهمام اليسيرة بأي حال من ألأحوال..وكما يعلم القاريء من ترجمتي لرحلة فون مولتكة الألماني الى الموصل وسفين هدين السويدي اليها، فأن المصادر كانت باللغة الألمانية وبالخط المكسر الذي لايقدر الألمان انفسهم على فك ملاغيزه..مع ذلك تمكنت بحول الله وبدافع حب مدينتي الجميلة وقرائي الأحباء ان اذلل تلك الصعاب واقدم ترجمة لرحلتي الرمزين الكبيرين المذكورين الى الموصل..وغالبا ما أسافر مئات الأميال بحثا عن المصادر والكتب..فضلا عن المراسلات؟ فالقى عنتا وصعوبة في تحصيل المصادر..
ولكن الغريب ان اسمع بعد كل هذا الضنى والضنك كلمات تأنيبية لما اقوم به من جهد في خدمة مدينتي وأخوتي..مما يحبط عزمي في مواصلة البحث والترجمة..بما يذكرني بقوة بجهود صديقي طلال عبد الرحمن رحمه الله والذي لايعدل حبه للعراق حبا..كان يكتب عن تجربته بدافع نقل صورة عن العالم المتمدن والاستفادة منها فاتهم تهما باطلة ظالمة...
ولابد ان نسأل انفسنا: هل اطلعنا على النص الأصلي للكاتب في كتبه المتوفرة الكترونيا؟ وهل جاءت الترجمة مطابقة للنص؟ فإن نحن تأكدنا من ذلك فلابد أن نسأل انفسنا : هل كان الكاتب اي الرحالة صادقا في وصفه لمدينتنا ام كان يكذب؟ وان كان صادقا في وصفه للمدينة فما هي دوافعه؟ الوصف لمجرد الوصف ام الوصف بقصد التجريح..وما هي مصلحته بالتجريح في وقت كانت الموصل تابعة فيه للسلطة العثمانية ومن يقصد بالتجريح ان وجد؟ وله القدرة على صنع الدول وتكوين الأمم في وقته ومركزه..بدليل الأتفاقية التي تحمل اسمه الى جانب المندوب الفرنسي والتي اقتسمت بموجبها بريطانيا تركة الأمبراطورية العثمانية مع فرنسا وروسيا وثلة من الحلفاء؟
واخيرا لابد من كلمة بخصوص كيفية تفكير الأوربيين ..هنا لابد من التأكيد على ان الأوربيين يكتبون بحرية اكبر وبلا خوف وإني لا اكتب بالقدر نفسه من الحرية على الرغم من غياب الخوف ..وكنت اتجاوز كثيرا من النصوص التي تصف الموصل على نحو سلبي وخلال الفترة الزمنية نفسها لأسباب اعتبارية..ومن النصوص ما لاتجد فيه وصفا ايجابيا واحدا كما في وصف الرحالة والسياسي الأنكليزي مارك سايكس...مما جعلني في اختيارين اما اهماله برحلاته الثلاث الى الموصل ... وهي رحلات لا تخلو من اهمية بسبب اهمية الرجل ودوره في تاريخ العراق والشرق الأوسط ، او تضمينه للأسباب نفسها وترك الحكم للقاريء ..، ولحسن الحظ هناك من القراء البحاثة والمؤرخين والعلماء ممن اثنى ثناءا عاطرا على الترجمة و ممن يعرف الحقائق ويقدر الجهد المبذول في البحث والإستقصاء والترجمة..وممن يعرف ان المدن تغير صورتها بقدر جهد اهلها وحرصهم على عمارتها ونظافتها..وانها تتحول وتتغير عبر الزمن ..وان صورة الموصل قبل قرن من الزمن هي غيرها في الوقت الحاضر...ولو كنت في رحلة مارك سايكس وشاهدت ما شاهد لكتبت كما كتب...ولكني ابن الموصل بها ولدت وفيها ترعرعت واعرف دجلة معرفة حميمية لسباح ماهرمن الرشيدية وحتى الدوامة [الكرة] امام قرة سراي..واعرف شجر الغابات واحدة واحدة وحفر فروع المجموعة وازقة الموصل كلها..اعرف مدينتي جيدا واحبها كثيرا على الرغم من انتشار الذعر والإرهاب والمزابل ... ولدي عنها من الصور والمعلومات النادر والغزير والأثير..اليس هذا حبا يذكرنا بعصفور طلال الذي ينتظر زوال المزنة ليطير ..حتما سأطير ولكن الى الموصل وليس الى سواها ابدا ...
وقد نشر ت الترجمة في موقع عينكاوا، فانبرى في التعقيب عليه شخص من سكان القوش وليس الموصل متهما الكاتب بالتحريض والتلفيق.. واني لم اجد في وصفه الموصل اي تحريض لأن التحريض يكون بين ثلاثة محرض [بفتح الراء]ومحرض [بكسر الراء]ومحرض عليه..كما لم اجد تلفيقا..لأن التلفيق هو قلب الحقائق..والرجل لم يذكر غير الحقائق التي عاشها وعاينها منذ قرن.. ، وأنا لا أدافع عن الكاتب بقدر دفاعي عن صدق ترجمتي وأمانتها..واني معروف بصدق ترجماتي وامانتها حرفيا ومضمونيا في الأوساط الأكاديمية..وهدفي فائدة القاريء ..فهي مترجمة من لغات أجنبية الى اللغة العربية أي انها مقدمة للقاريء العربي..وليس للقاريء الأجنبي الذي يجهل العربية ..فأي ضير في نص مترجم الى العربية بمقدور القاريء حذفه او الأمتناع عن قرائته..ان هو كان من الحساسية بحيث تخدشه صورتجريدية من الماضي في وقت يتعرض فيه كل شيء فيه وحوله في حاضر هزيل الى التخلخل والتآكل والتلاشي..
واقدم بهذه المناسبة عددا من الصور النادرة للموصل ومنها مايرينا كيف ان المدرسة الدينية المجاورة لجامع النبي شيت مقابل مكتبة الأوقاف والتي اصبحت بيتي في الموصل، كانت قبل ذلك بنصف قرن مكانا لبيع الأغنام..وكيف كان المكان الذي شيد فيه بريد الدواسة خانا بائسا تتصل به مقبرة النبي شيت وكيف تحولت حديقة البلدية الى ساحة لوقوف السيارات وغير ذلك مما يؤكد ان المدن تتغير والمكان الذي كان يوما قمامة قد يصير حديقة وبالعكس..