الرحالة سفين أندرز هدين
وصورة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى
بقلم: صلاح سليم علي
*
وصورة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى
بقلم: صلاح سليم علي
*
مقدمة:
يشابه البحث التاريخي احيانا الأستكشاف الجغرافي الذي لايتحقق إلا في خوض تجربة التحرك في المكان واستكناه التجربة التاريخية لفرد أو أمة برمتها بطريق اقتفاء خطى ذلك الفرد وتلك الأمة في المكان..والتجربة الزمانية، على الرغم من أولويتها على التجربة المكانية، تتخذ إذن تجسيماتها كاملة او تكاد من خلال التجربة المكانية لأن الحركة توحد الفكر والجغرافيا او الزمان والمكان في إطار التجربة المعاشة سواء في حقيقتها التاريخية أم في امتثالاتها التخيلية..ويشبه الإكتشاف المعرفي الأستكشاف الجغرافي من حيث كون الظاهرة التي يصار الى أكتشافها أو استكشافها موجودة ..ولكنها تبقى حتى لحظة إكتشافها خارج طائلة الوعي الإنساني..وهنا لابد من التفريق بين العام والخاص من خلال هذه التجربة فالأستكشاف الجغرافي مهما تعددت دوافعه وأهدافه عام سرعان مايصبح كالأنترنت والهاتف النقال ملكا للبشرية جمعاء غير أن الأكتشاف المعرفي خاص وان انتقل الى الدائرة الإجتماعية يبقى محدودا بزمن معين او لغة معينة او مجتمع ما..ويصبح اكثر خصوصية اذا كان نتاجا معرفيا ادبيا او شعريا فيكون خاصا بحضارة بحدها ومجموعة لسانية معينة لابد من نقل معانيها بطريق الترجمة ..ونستثني من ذلك النتاج الفني كالتصوير والموسيقى والنحت والزخرفة والعمارة وغيرها مما يكسر الحدود القومية والحضارية واللسانية لأنه يقع خارج الكلام، و يخاطب العين والأذن مباشرة ولايحتاج في نقله لمترجم او ترجمان.. ه
وبحكم إتساع العالم وتعدد الشعوب والأمم وتنوع تجاربها الحضارية وتقاطع حدودها الحضارية واللسانية تتعدد التجارب الفردية وتتنوع..وتبدو مهمة الإحاطة بها شبه مستحيلة على الرغم من توفر الموسوعات المتنوعة والمؤلفات والوثائق وتيسر المعلومات بطريق الشبكة العنكبوتية ..مما يدعو البحاثة المتخصص او الهاوي، كما هو الحال معي، إلى تضييق مجال البحث ليشمل مرحلة معينة من مراحل التاريخ في مضمار صلتها بمحور ما، كأن يكون مدينة او حقل معرفي أو مرحلة تاريخية أو مدرسة فكرية ثم الإنتقال الى حلقة أخرى وهكذا دواليك ..وهو جهد سرعان مايكتشف البحاثة أنه أمضى ردحا ليس بقليل من الزمن في استقصائه والإلمام بأطرافه وقد امتدت وانتشرت وفقدت الوانا واكتسبت الوانا أخرى ..وذلكم ديدن العارف الموسوعي..الذي سرعان مايدرك انه في قلب ثقب أسود يساهم في ميلاد كون آخر على انقاض هلاك أكوان أخرى..وهذا عناء يدعوني إلى التمسك بأطراف أثواب فلاسفة أختصروا التجربة الإنسانية افتراضيا وتصوريا من امثال لايبنتس ولابلاس وكانت وهيجل، وربما توسعا،رينيه ديكارت و أدمند هسرل..وعلى اية حال يحمل الفرد كما قال ادونيس [شعريا] اسراره كما تحمل البراكين حممها في اعماقها ويموت ..كما تموت البراكين بعد ما تركت في رماد حريقها ارضا خصبة معطاء للزارعين والحاصدين والآكلين..غير أنه لايلبث ان ينبعث مجددا في عصر آخر وفي مكان آخر..بطريق ماتركته روحه من بصمات في صفحات الأبداع والمحاولة الأنسانية الكبرى في كشف اسرار العالم والسيطرة على الطبيعة.. ه
وتلكم إحدى نتائج تجربتي المعرفية في الكتابة عن الرحالة السويدي سفين أندرز هدين في رحلته الى العراق ووصفه الموصل بعد طوافه العالم مقتفيا خطى الأسكندر المقدوني وماركو بولو.. ولعل انجاز سفين هدين في ميدان الإستكشافات الجغرافية وادب الرحلة يتجاوز انجاز ماركو بولو..فقد حقق بمفرده مايندر ان يحققه اي رحالة آخر في عصره وفي العصور كلها بحيث لايمكن مقارنة منجزاته لفرادتها بأي منجزات أخرى من نوعها..فقد أمضى عشرين سنة في آسيا وحدها متنقلا بين أصقاع لم يرتادها أحد من قبله وانجز 65 كتابا واكثر من 55 تقريرا علميا ومئآت البحوث فضلا عن إلقائه المحاضرات في عواصم عالمية مختلفة خلال النصف الأول من القرن لعشرين. ومن الملوك والقادة الذين قابلهم وتلقى تكريما منهم الملك اوسكار الثاني عام 1890، وشاه ايران ناصرالدين شاه في السنة نفسها، وقيصر روسيا في 1896 و1909، وأجرى لقاءات عديدة بفرانس جوزيف الأول قيصر النمسا-المجر، والتقى عام 1902 باللورد كرزون الممثل البريطاني في الهند، والتقى بالقيصر البروسي ويلهلم الثاني خمس مرات بين عامي 1903 و1936، وبالممثل البريطاني الثاني على الهند اللورد مينتو، والتقى برئيس كهنة اللاما التبتي شوكي نييما 1907، 1914، و1933، وقابل امبراطور اليابان موتسوهيتو في 1908، واالبابا بيوس العاشر عام 1910، وتيودور روزفلت في السنة نفسها، ثم التقى بالسياسي والرئيس الألماني لاحقا فون هندنبرج عام 1915، وبالزعيم الصيني القومي شيانغ كي شيك عامي 1929 و1935 واخيرا بأدولف هتلرثلاث مرات في 1935 و1939 و 1940...وتتجاوز اهتمامات سفين هدين الجغرافيا وعلوم الأرض والطوبوغرافيا والأنثروبولوجيا والخرائط الى الأدب والسياسة والتاريخ والتصوير والرسم واللغات والدبلوماسية..وفيه مسك ختام الجهود التي بذلها الغرب لأستكشاف الأرض منذ ماركو بولو..وبينما تتخلل روايات ماركو بولو الخرافات ويشوبها الخيال، تتصف روايات سفين هدين بالواقعية والعلمية والموضوعية..بل ومنها ماقدم فيه تأويلات علمية لظواهر طبيعية غامضة لم تفسر من قبله كتفسيره لظاهرة البحيرة المتجولة (لوب نور) التي تغير مكانها في حوض نهر تاريم في الجزء الصيني من طريق الحرير ووضح تلك الظاهرة في كتاب عنونه (البحيرة المتجولة)، كما استظهر مدينة لولان الغائبة تحت رمال صحراء لوب والتي كانت محطة التجار عبر طريق الحرير..كما اكتشف الجبل المقدس كايلاش في هملايا التبت وهو مصدر انهار الهند ك انجا وبراهامابوترا وسوتلج والإندوس ومقر الإله شيفا وطريق بوذا الى النرفانا..وهو جبل تحيطه الأساطير اشبه بهرم مربع الأضلاع تغطيه الثلوج طيلة أيام السنة تقع في سفحه اعلى بحيرة في العالم. وتكريما لجهوده العلمية الفذة أطلق اسمه على نهر جليد في كندا وعلى أحدى فوهات القمر وعلى نوع من النباتات الزهرية ونوعين من خنفساء الرمال وعلى نوع من الفراشات وعلى نوع من السحالي الصحراوية و نوع من المتحجرات فضلا عن إطلاقه على عدد من الشوارع في الكثير من البلدان واقيمت له نصب وتماثيل في السويد وغيرها..هذا فضلا عن معرض دائم لكتاباته ومعداته ورسومه في المتحف الأثنوغرافي في ستوكهولم..وقد زار كاتب المقال المتحف وصور عددا من الكتب والمقالات والصور ذات الصلة برحلة سفين هدين الى الموصل و قد دونت العبارة الآتية على نصب كرس لتخليد منجزاته: (موطنه السويد أماعالمة فمفازات آسيا ومجاهيلها). ه
ثقافته ورحلاته: ه
ولد سفين أندرز هدين في ستوكهولم في 19 شباط عام 1865 مما يضعه ضمن مواليد برج الحوت الذي انعكس في شخصيته الأريحية المحبة للحرية وميله الى الأدب والمغامرة..والمطاولة منقطعة النظير..في اسرة محافظة تنتسب في احدى تفرعاتها لنبلاء السويد وكان والده لودويج هدين المهندس المعماري الأول للعاصمة السويدية ستوكهولم..وجده الأول لأبيه طبيبا خاصا للملك كوستاف الثالث..وكان سفين هدين في الخامسة عشرة من عمره عندما خرجت ستوكهولم للترحيب بعودة المستكشف السويدي ورائد علم الخرائط أدولف إريك نوردنشالد (1832-1901) لمنطقة القطب الشمالي من رحلة عبر الممر الشمالي الشرقي للأطلسي وهي المناسبة التي ولدت في روحه حب المغامرة والأستكشاف الجغرافي. ه
وبعد إنهاء دراسته التحضيرية، شرع بأولى رحلاته عام 1885-1886 في روسيا وعبر القفقاس الى باكو ومنها إلى بلاد فارس وتركيا العثمانية والعراق ووثق لرحلته الأولى في كتاب صدر عام 1887 عنوانه عبر بلاد فارس ومابين النهرين والقفقاس قدم له المستشرق الهنغاري أرمينيوس فامبري المعروف بأسم (رشيد أفندي) أستاذ أيجناس كولديزيهر ومساعد مهندس الأصلاحات التركي محمد فؤاد باشا ودليل السلطان عبد العزيز في رحلته الى مصر..وفي باكو عكف على تعلم اللغات الشرقية الروسية والفارسية والأيغورية اضافة الى مخزونه من اللغات الأوربية كالروسية والألمانية والإنكليزية..فضلا عن ممارسته فن الرسم والتصوير البانورامي والطوبوغرافي استعدادا لسيرة طويلة تنتظره من الرحلات في قلب آسيا. ه
وعند عودته الى أوربا شرع في دراسة اكاديمية لعلم الأحفوريات والجغرافية وعلوم الأرض واصدر كتابا ثانيا حول رحلات المكتشف الروسي لآسيا نيقولاي زيفاسكي (1839- 1888) الذي قدم له نوردنشالد..ودرس في جامعة برلين بأشراف الجغرافي الألماني فرديناند فون ريختهوفن الذي كان أول من أطلق تسمية [طريق الحرير] على الطريق التجاري الشهيرعبر آسيا والشرق الأدنى..وفي عامي 1890- 1891 أختير لعضوية البعثة الدبلوماسية السويدية الى بلاد فارس ثم اصبح بعدئذ رحالة مستقلا في روسيا الآسيوية حيث امضى الشتاء في جبال قاشغر ثم قاشغر نفسها وهي عاصمة تركستان الشرقية التي غير الصينيون اسمها الى شينغيانغ بعد احتلالهم لها عام 1949..وتمخضت رحلته تلك عن كتابين اولهما (سفارة الملك أوسكار)، وثانيهما (عبر خراسان وتركستان) الذي صدر بمجلدين..وقد مكنته هذه الرحلة من توسيع معرفته ببلاد فارس وبخاصة جبل داماوند الذي درسه بالتفصيل ..وعند عودته إلى برلين واصل دراسته لعلوم الأرض التي اختتمها بكتابة أطروحته لنيل الدكتوراه في الجغرافيا عن جبل داماوند في بلاد فارس قدمها لجامعة هالة عام 1892..وقد تعرض لعدوى افقدته البصر في إحدى عينيه ..مع ذلك لم تعرقله تلك الإصابة من مواصلة رحلاته.. ه
وفي عام 1893، شرع سفين هدين برحلة ثالثة كبرى هذه المرة عبر آسيا الوسطى بتمويل من الملك اوسكار أخذته من روسيا إلى سلسلة جبال بامير او (سقف العالم) حيث تلتقي عند همالايا سلاسل الجبال الآسيوية وهي المنجم الذي كان الآشوريون يتزودن منه باللازورد (اللابيزلازولي)..فرسم طوبوغرافيا بامير ثم انتقل الى حوض نهر تاريم واستكشف المفازات المجهولة في الصحراء المحيطة بالنهر بحثا عن المدينة الأسطورية لولان بهدف التعرف على طبيعة التغيرات الجيولوجية التي ادت الى اختفائها تحت رمال الصحراء ومن تاريم انتقل الى مارال باشي (رأس الغزال) وتوموشوق عام 1895 ، ثم انتقل الى مواقع مملكة خوطان القديمة على الأطراف الجنوبية لصحراء تكلمكان المأخوة من عبارة عربية معناها (أرض التهلكة أو الهلاك) والتي كاد سفين هدين ان يهلك فيها كما يخبرنا في وصفه لهذه التجربة الفريدة من نوعها: ه
(في تلك الليلة سرنا لساعات حتى بدأت شمس الرابع من ايار بالسخونة، عندما جثونا عراة على الرمال..وفي الليل واصلنا تقدمنا ولكن على ايدينا وارجلنا معا وبعد كل عشر ياردات نتوقف لنسترد انفاسنا ونعاود الزحف..أردت البقاء على قيد الحياة..وشعرت ان حياتي يجب ألا يرمى بها [تنتهي] على هذا النحو..فوجددنا شجيرات حور ثلاث على بقعة ترابية خالية من الرمال..حاولنا ان نحفر على أمل ان نجد تحتها ماء ولكن الوهن كان أخذ منا وكانت الأرض شديدة الصلابة فلم نحفر أكثر من ستة انجات..ثم ارتمينا على وجوهنا وبدأنا بتغوير التراب باصابعنا وكانها كلاليب يائسة..ولكن لم نقدر ان نحفر عميقا..فتخلينا عن امل ايجاد ماء في هذا المكان واشعلنا النار على أمل ان يراها إسلامباي الذي بقي مع الجمال ويلحق بنا..وهذا ماحدث فعلا ولكني عرفت ذلك فيما بعد..ودارت ليلة الخامس من أيار فنهضنا وواصلنا السير شرقا..كانت خيبة الأمل قد استحوذت علينا تماما.لأن الحور كان قد أعطانا أملا بعد ان تجاوزنا حزاما واسعا من الرمال الماحلة الجرداء..وأخيرا شاهدنا خطا اسودا في الأفق ..فعرفنا انها لابد ان تكون غابة خوطان داريا، فوصلناها مع تزايد حرارة الشمس..وكانت الغابة غاية في العمق والكثافة..غابة سوداء من الأشجار المكتهلة. وشاهدنا آثار حيوانات برية فاستلقينا سحابة النهار كله عراة في ظلال الغابة التي لم نجد فيها اثرا للماء. وفي المساء إرتديت ثيابي وقلت لقاسم أن ينهض..فلم يقدر على الحركة..وراح في نوبة خبال فقد كان مستلقيا على ظهرة مادا ذراعيه على طولهما عاريا فاتحا فاه وبعينين مذهولتين يحدق في الفراغ..فواصلت السير متهالكا..الغابة كثيفة حالكة السواد وتبدو في الليل بلا اتجاه...ولم اكن قد أكلت شيئا خلال عشرة ايام او شربت شيئا خلال تسعة ايام [القصد أنه تقوت مايكفيه للبقاء على قيد الحياة فحسب] ..فجزت الغابة زحفا على اطرافي الأربعة..مترنحا اتشبث بالشجرة تلو الأخرى..وكنت استند على ذراع المعول لكي انهض لأستبيان الدرب حتى وصلت مكانا مفتوحا..هو مجرى نهر "خوطان داريا" الناضب وكأنني لم اقطع غابة بل هضبة ماحلة حل بها الدمار..لم اجد قطرة ماء واحدة ..وادركت ان الموسم هو الأسوء بالنسبة للماء..فالنهر ينضب في الربيع لأن الثلوج التي تغذيه لم تكن قد ذابت في الجبال بعد..لكن لابد من المطاولة ..أريد أن أعيش..سأجد الماء..كنت واهنا تماما لكنني زحفت على أطرافي الأربعة، وأخيرا عبرت مجرى النهر، فسمعت صوت بطة وفوضى تصدر عن تحريك ماء..فزحفت باتجاه الصوت، فرأيت بركة كبيرة من الماء الصافي النقي..فشكرت الله أولا وتحسست نبضي..أردت أن أرى تاثيرشرب الماء عليه..وكان بمعدل 48 نبضة..فشربت...شربت بخوف..وكان لدي علبة صغيرة كان بها شوكلاتة كنت قد رميتها لأني لم اكن اقدر أن ابتلع شيئا، بيد اني كنت واثقا طول الوقت باني سأجد الماء وبأني سأستخدم تلك العلبة القصديرية كأسا لشربه..فشربت وشربت وشربت..وكان شعورا غامرا بالبهجة..شعرت بان دمي يترقرق..وبدأ يجري في شراييني..وأن مساماتي تتفتح..وزادت نبضات قلبي لتصل 53 نبضة..فشعرت بالعنفوان والحياة مجددا..وبينما كنت مستلقيا عند البركة سمعت فوضى أشبه بصوت حيوان يتحرك..ففكرت انه لابد ان يكون نمرا..فهناك نمور في خوطان داريا..ولم أكن لأشعر بأي خوف..فالحياة التي رجعت الي لتوها لايمكن ان ينتزعها مني نمر..فانتظرته بحبور..أردت أن احدق في عينيه..إلا أنه لم يأت لعله يخشى أن يرى انسان..فتذكرت قاسم، فخلعت فردتا حذائي السويديان وملئتهما بالماء وعلقتهما في نهاية ذراع المعول الخشبي وعدت على آثار قدمي..فبمقدوري أن أمشي الآن..ولكن الظلام أخذ يطبق على الغابة عند وصولي لها فلم اقدر على رؤية آثار قدماي وبدأت اصيح: قاسم! قاسم! قاسم!..ولكني لم اسمع ردا..ففكرت انه ربما يكون قد مات..فأشعلت النار في الغابة - خوفا من النمور- نارا عظيمة فأنارت المكان على نحو رائع ذلك الظلام الغامض الذي يكتنف الغابة البدائية..وشعرت ببهجة عظيمة لرؤية تلك النار..وعند شروق الشمس بحثت عن قاسم ووجدته..فناديت عليه فرفع رأسه قليلا ..فصحت "ماء" فهز رأسه ..اريد أن اموت..فقربت الحذاء من وجهه فانسكب بعض الماء فاندفع مثل وحش ضار ورمى نفسه على آنيتي الماء مفرغا اياهما واحدة تلو الأخرى حتى آخر قطرة ثم استلقى ورفض الوقوف على الرغم من طلبي منه ان يصاحبني الى البركة ليستحم ..فحملته وعدت إلى البركة ..وفي البركة سبحت [اغتسلت] ثم اتجهت جنوبا مع مجرى
النهر.. ) ه
تلكم كانت معاناة سفين هدين في صحراء [التهلكة] تكلمكان التي وصفها تجار طريق الحرير بمتاهة الموت..وهي متاهة لم يتمكن من تجاوزها وقهرها في اوقات الجفاف سوى نزر قليل من الرحالة ، لما تتصف به رمالها من قدرة على التنقل وتشكيل الكثبان المرتفعة..بل من غمرها لحواضر وكنوزعديدة تكونت في الأزمنة الغابرة وغارت تحت الرمال...بيد ان سفين هدين واصل سيره..راجلا مرة وراكبا أخرى زاحفا طورا وراكضا أطوارا أخرى، فاكتشف المواقع الآركيولوجية لدندان اوليج (مدينة بيوت العاج) و (قرة دونغ) على طريق الحرير في عمق صحراء تكلمكان ثم درس ظاهرة انتقال بحيرة لوب نور من مكان إلى آخر وتغيرحجمها..وانتقل لأكتشاف الأطراف السفلى لنهر تاريم قبل ان يعبر صحراء كوبي ويصل بكين عام 1897 حتى انهى رحلته بوضع خارطة متكاملة للجزء الشمالي لهضبة التبت..ثم عاد الى السويد عبرسيبيريا فبطرسبورغ التي قابل فيها القيصر..ثم وصل ستوكهولم لينشر كتابين يصف في احدهما تفاصيل رحلته عنوانه (رحلة عبر آسيا) وضمن الثاني التقارير العلمية التي كتبها خلال الرحلة، وفي عام 1898 تلقى ميداليات عديدة اهمها ميدالية المؤسسين من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية وميدالية فيكا من الجمعية الجغرافية السويدية.. ه
و شرع سفين في عام 1899 في رحلة رابعة الى آسيا بدعم من الملك الروسي الذي زوده بدليل من القوزاق حيث تابع طوبوغرافيا نهر تاريم ودرس بحيرة لاب نور مجددا وزار اطلال مدينة لولان على طريق الحرير ثم استكشف التبت ووضع خرائط متنوعة لها..وحاول ان يزور عاصمة الدالي لاما (لاسا) او المدينة الممنوعة التي حدثنا عنها ماركو بولو، متنكرا.. غير ان رهبان الدالي لاما اكتشفوا امره ومنعوه من زيارتها وارفقوا معه حرسا قاده خارج التبت فعاد عبر لاداخ وكشمير الى كلكتا حيث قابل اللورد كورزون الذي لعب دورا فيما بعد في تكوين تركيا الكمالية ، ثم اتجه الى روسيا ومنها عاد الى السويد عام 1902 حيث منحه ملك السويد اوسكار لقب نبيل وكان آخر سويدي يمنح هذا اللقب..ونشر نتائج رحلته في كتاب بمجلدين عنونهما (آسيا: الف ميل عبر الصحراء) و النتائج العلمية لرحلة في وسط آسيا..واعقب هذا المجلد الضخم باطلس تضمن 84 خارطة نشر له في 1904-1907، ومنح على أثر ذلك ميدالية الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.. ه
ورجل من طراز سفين هدين لايعرف معنى للأستقرار..وفي قاموسه لانعثر على مفردة للراحة لم يلبث طويلا في ستوكهولم بل شرع في الرحلة الخامسة الى آسيا، الثالثة الكبرى، في سلسلة رحلاته (1906-1908)، واخذته عربته هذه المرة الى شرقي بلاد فارس لدراسة صحراء الملح العظمى المعروفة (بدشتي كافر) والتي نشرها بكتاب عنوانه ( دراسة في طرق شرقي آسيا) 1927، وعندما تهيأ للسفر الى التبت لأنجاز مهمته الرئيسة وهي أستكشاف المناطق الواقعة ماوراء جبال همالايا واجهته صعوبات كثيرة بسبب اعتراض حكومات بريطانيا والصين والتبت على رحلته مع ذلك تمكن من تجاوز الحواجز الجبلية ومسح المناطق الواقعة وراء جبال الهمالايا وكان قد استكشف في رحلة سابقة هضبة التبت في قسميها الشرقي [نين شينغ تانغ لا] والغربي الذي اطلق عليه اسم [كايليس] او [كايلاش] ومازال يعرف بهذا الأسم..فتمكن من استكشاف وتخطيط الجزء الأوسط والأصعب من مرتفعات التبت وبحيراتها فحدد درجات ارتفاع الممرات الرئيسة واظهر التكوينات الجيولوجية..وتوغل الى منابع أنهار الأندوس وسوتلج وبراهمابوترا ثم زار اكبر المدن في المنطقة (شيكاتسي) ووضع خرائط لروافد ألأنهار الرئيسة..وسجل هذه الرحلة بكتابين اولهما (الرحلة برا الى الهند) 1910، و(ماوراء جبال همالايا) 1909-1913، ووثق النتائج العلمية في كتاب اسماه (جنوبي التبت) 1916-1922. وعاد من التبت الى الهند عام 1908 ثم الى اليابان حيث التقى بالأمبراطور الياباني ثم اتجه شرقا على قطار سيبيريا وعندما عاد الى السويد، استقبل بحفاوة من قبل الملك السويدي ووجهاء السويد.. ه
وفي السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى انشغل سفين هدين بالشؤون السياسية ودعا الى اعادة التسلح كما اصدر افضل كتبه مبيعا في ذلك الوقت في جغرافيا العالم (من القطب الى القطب). وعمل خلال الفترة (1914-1915) مراسلا في الجبهات الشرقية والغربية فزار الجبهات الألمانية في بلجيكا وفرنسا والمانيا ولوكسمبورغ ووثق جولاته في الجبهات بكتاب عنونه (مع الجيوش الألمانية في الغرب) 1915 وكان سفين هدين شديد الولاء لألمانيا..وهو ولاء تأكد خلال الحرب العالمية الثانية فقد سافر الى برلين بصحبة شقيقته ..وكان الأجنبي الوحيد الذي القى كلمة في افتتاحية الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، كما التقى بأدولف هتلر مما تسبب في اتهامه بالنازية..إلا أن الوثائق تذهب الى القول بأنه كان قد وظف نفوذه لدى الألمان في محاولات إطلاق سراح سجناء اوربيين - نرويجيين ويهود - من المعتقلات النازية غير أن اليهود على الرغم من حسن نواياه لم يغفروا له حتى هذه اللحظة صداقته لهتلر وتأييده للحركة القومية ليس في المانيا وحدها بل في العالم باسره..ورأيي ان سفين هدين هيجلي في ميوله السياسية إذ تعود لهيجل فكرة فينومينولوجيا الروح وان الدولة القومية هي التعبير النهائي لروح الأمة..وكان موقفه هذا سببا في قيام جمعية الجغرافيين الملكية البريطانية في وقت لاحق بحذف اسمه من قائمة الشرف للجغرافيين المتميزين في العالم.. ه
وفي عام 1916 توجه في رحلة الى الشرق العربي زار فيها القدس وسوريا فالعراق الذي دخله بطريق حلب فالرقة فدير الزور فعانة فهيت حتى وصل بغداد فزار بابل وعاد الى بغداد ومنها الى الموصل التي أقام فيها لفترة، وتمخضت رحلته هذه عن كتابين هما (الى القدس) 1917، و( بغداد وبابل ونينوى) ---1917 - 1918 ايضا،وهذا الكتاب الأخير هو مصدرنا عن تفاصيل رحلته الى الموصل ووصفه لأحوالها في اثناء الحرب العالمية الأولى. وقد سافر سفين هدين الى الولايات المتحدة عام 1923 ومن نتائج زيارته كتابين هما (الأخدود الكبير) و (حياتي كمكتشف) 1925، فضلا عن اطلس خرائط ثم عاد عبر بكين فمنغوليا ثم موسكو ومنها الى ستوكهولم. ه
وقام سفين هدين برحلة سادسة الى الشرق هي رحلته الرابعة الكبرى الى آسيا خلال الفترة (1926-1935)، واصطحب معه هذه المرة فرقا علمية وجيولوجية وآثارية ومساحين ومن تخصصات أخرى من المانيا والسويد والدنمارك والصين. فأمضى وقتا في منغوليا وفي الطريق الى حوض نهر تاريم وقع في أسرالقوات المسلمة الثائرة بقيادة الجنرال ما شوا المعروفة بثورة الدنكان او ثورة شيانغ يانغ، ثم اطلق الثوار سراحه بعد التعرف عليه..وكان قد التقى رئيس الحكومة القومية الصينية شيانغ كاي شيك وكتب عنه كتابا لاحقا عنوانه (شيانغ كاي شيك: مارشال الصين) 1940.. كما ساعد الحكومة الصينية عام 1933 في استعادة السيطرة على مقاطعة [شيانغ يانغ] بوضعه لخارطة حدد فيها طريق الحرير القديم الذي استخدمه ماركو بولو لأستعماله لتسيير الآليات.. وقد عكف سفين هدين خلال هذه الرحلة على دراسة بحيرة [لاب نور] المتجولة التي كانت قد انتقلت الى موقعها السابق فشرح سبب الظاهرة ودون ذلك بكتاب عنوانه (البحيرة المتجولة) 1940 آنف الذكر.. وقدم بالمشاركة مع افراد البعثة عددا من التقارير العلمية تم طبعها ب 54 مجلدا ظهر آخرها عام 1980 اي بعد وفاته ب 28 سنة، كما نشر كتابين آخرين هما (تحليق الحصان الكبير) 1936،
و (طريق الحرير) 1936.. ه
وفي الفترة الممتدة بين عامي 1939 و1943 انهمك سفين هدين في انجاز عدد من المهمات الدبلوماسية الشخصية في المانيا أردفها بنشاط طباعي تمثل بنشر عدد من مؤلفاته باللغة الألمانية كما الف عددا من الكتب منها كتابا عنوانه (اميركا والصراع بين القارات) 1944 نحى باللائمة في نشوب الحرب العالمية الثانية على روزفلت..وألف بالأشتراك مع رولف بيرجمان كتابا عنوانه (تاريخ رحلات آسيا 1927-1935، 1943-1945)،..وامضى السنوات الآخيرة من عمره في تأليف ونشر عدد من المذكرات ككتابه (أسفار وذكريات في بلادي) 1944، و (اشارة جديدة) 1944، و(وجهاء وملوك) 1950،و (عمليات الدفاع) 1951..كما كتب عن كلابه التي رافقته في آسيا (كلابي في آسيا) 1952
وفي 29 تشرين الثاني عام 1952 توفي سفين هدين في ستوكهولم عن عمر يناهز ال 88 سنة واعقب وفاته تأسيس مؤسسة سفين هدين في الأكاديمية الملكية للعلوم ومتحف الأثنوغرافيا في ستوكهولم..وكان على منضدته تقويما دينيا صغيرا قد وضع فيه صورة لرحالة مجهول هو [ميل ليندستروم] كان قد كتب فيه شعرا: (رحلتنا الحالمة عبر البحار بلغت نهايتها الأمينة ..حيث يركن قبرك الوحيد صامتا ..ولا من احد يعرف اسمك)..وبموت سفين هدين الذي خلد اسمه بمنجزاته واشعاره ينتهي آخر عظماء الأستكشافات الجغرافية الكبرى في العالم.. ه
وكتب عن سفين هدين الكثير الغزير من المقالات والكتب، وترجمت كتبه ومذكراته وبحوثه الى معظم لغات العالم..ومنها مارافق العقد الأخير من حياته ككتاب مذكراته (في برلين بلا مهمة) الذي ترجمه الى الألمانية وعقب عليه جان بولمان..وكتب عديدة ظهرت بعد وفاته ككتاب (سفين هدين فنانا) بقلم مونتيل وفولكه هولمر 1964، و(أطلس آسيا الوسطى – مذكرات على الخرائط) بثلاثة مجلدات مع فهرست بأسماء الأماكن 1967- 1980، (عبر صحراء كوبي) ترجمة انكليزية بقلم إج. جي. كرانت 1968، و(اسطورة آسيوية) بقلم إريك فينرهولم 1980، و (الى الأرض المحرمة : أكتشافات ومغامرات في التبت) ويعتمد على روايات سفين هدين فيماوراء جبال همالايا، وغيرها كثير.. ه
هنا نكون قد تعرفنا على سفين أندرز هدين ومهاراته ومنجزاته وجوانب من معتقداته وميوله السياسية..بل ولمسنا فيه قدرة على المطاولة منقطعة النظير في قطعه لطريق ماركوبولو الممتد لأكثر من 10.000 ميل عبر آسيا واكتشافاته لأحواض الأنهار الآسيوية الكبرى ومرتفعات همالايا والتبت..على نحو اقرب للخيال بل هو في تجربته يقدم نموذجا بطوليا حرى بالقاريء العربي التعلم منه إيقاد روح المغامرة والبحث والأستقصاء التي ميزت أسلافه..والأغرب ان سفين هدين خاض غمار الصعاب كلها بعين واحدة فقد كان قد فقد البصر في احدى عينيه ولم يسترده إلا بعد عملية جراحية أجريت له خلال العقد الأخير من عمره..وهو بخبرته الواسعة تلك، يعد شخصية فريدة يكتسب وصفه للموصل أهمية خاصة ليس بما تضمنه من بلاغة وانتخاب ذكي للمجازات والتشبيهات فحسب بل بما ورد فيه من معلومات زينتها دقة في الوصف والرواية الموثقة بالصورالفوتوغرافية النادرة والرسوم التخطيطية. ه
رحلة سفين هدين الى الموصل: ه
من غير الممكن القطع بدوافع سفين هدين لزيارة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى وهو المعروف بميوله الإيجابية تجاه المانيا، غير ان تتبعنا لمسار الرحلة ومازامنها من حوادث من شانه القاء ضوء على دوافعه: فالعراق كان احدى جبهات المواجهة بين الحلفاء ودول المحور ..كما تشكل حواضر العراق بابل وبغداد ونينوى والموصل مراكز حضارية كبرى كون بغداد عاصمة الخلافة العباسية تقع على طريق الحرير القديم وتقع نينوى والموصل على الطريق الملكي الذي يلتقي بطريق الحرير في تركيا، وكان سفين في رحلاته الاسيوية معنيا بالدرجة الأولى بطريق الحرير واستكشاف اهم الأوابد المندثرة الواقعة على امتداده وجانبيه..ثم هناك الجانب العسكري للرحلة فقد عمل سفين مراسل حرب في الجبهات الغربية لصالح المانيا ولعل انتقاله الى العراق كان استمرارا لأهتمامه بتغطية انباء الحرب فضلا عن وجود قنصلية المانية في الموصل (1905-1918)..ووقوع الموصل في الحافة الجنوبية للقوة العثمانية..ولربما لرغبة شخصية لدى سفين في اقتفاء خطى ماركو بولو وهلموث فون مولتكه الأكبر رئيس أركان الجيش البروسي الذي زار الموصل عام 1837 ووصفها واقام في البطريركية الكلدانية التي زارها سفين هدين لاحقا..وكانت مؤشرات الحرب في الجبهات العراقية تشير الى تقدم الألمان ولاسيما بعد حصار الكوت من قبل الألمان..وهو حصار استسلمت اثره القوات البريطانية ومرتزقتها من السيخ والكورخة واقتيد الأسرى الى حلب بعد وفاة القائد الألماني البارون دير فون كولتز متاثرا بالتيفوئيد في بغداد في 16 نيسان اي قبيل وصول سفين هدين اليها أذ كان آنذاك في طريقه الى الرقة..وقد دفن البارون كولتز في بغداد غير أن الحكومة الأمانية أخرجت رفاته واعادت دفنه في ألمانيا فيما بعد... فهل كان من بين اهداف سفين هدين تغطية الحصار الألماني لكوت العمارة وتسبب تأخره بتغيير اهداف الرحلة؟ هذا مالانقدر ان نقطع فيه ويبقى الحكم فيه في مضمار التكهنات..إلا ان سفين هدين يشكل حضورا سياسيا مؤثرا على الصعيد الإعلامي على الأقل الى جانب المانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما يدعونا الى وضع زيارته للموصل خلال الحرب في مضمار تلك الحرب وتاييده المطلق للفكر القومي الألماني.. ه
وفي الموصل التي وصلها في عنفوان الصيف في باكورة حزيران عام 1916، كان اول شيء يقوم به زيارته القنصلية الألمانية في جنوبي المدينة ووصف بنايتها والعلم الألماني الذي يرفرف فوق سطوحها..وكانت القنصلية الألمانية قد أسست في الموصل عام 1905 في اعقاب الأتفاق بين اسطنبول وبرلين على انشاء خط سكك برلين- بغداد وربطه بخط الأناضول في سياق التنافس بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر والهند وتسيطر على قناة السويس وتحالفها مع روسيا قبيل الثورة البلشفية من جهة والأمبراطورية العثمانية التي ارادت استرجاع نفوذها في مصر بدعم الألمان من جهة اخرى..ولأن الخط الجديد الذي يعتقد انه احد اسباب اشتعال الحرب العالمية الأولى، يمر في الموصل من بين مدن اخرى وصولا الى البصرة، عمدت الحكومة الألمانية الى تأسيس قنصلية لها في الموصل مما يفسر اختيار موقع السفارة بالقرب من باب البيض في مكان قريب الى المنطقة المزمع مرور قطار بغداد - برلين بها..هذا بالأضافة إلى منح الحكومة العثمانية امتياز استثمار النفط في العراق..وتخطيط المانيا لبناء ميناء في البصرة يربط الخليج العربي بميناء الأسكندرونة مما يمهد للأستغناء عن قناة السويس..كل ذلك يفسر الوجود الألماني في العراق..إلا أن القنصلية الألمانية في الموصل ارتبطت بالأقدار السياسية ونتائج الحرب..ولذلك لم تعش طويلا بعد انتهاء الحرب لصالح الأنكليز..وكان هرز اندرا اول قنصل الماني عين في الموصل اعقبه والتر هولشتاين الذي وثق لمجازر المسيحيين والأرمن ورحب بسفين هدين في الموصل واستمر في منصبه قنصلا في الموصل منذ عام 1911 وحتى نيسان عام 1918.. وبالأضافة الى القنصلية الألمانية، اسس الألمان مدرسة المانية في الموصل عام 1909 وثكنة عسكرية فضلا عن قيام عدد من الألمان بالتنقيبات الآثارية في بابل كروبرت كولدوي في بابل وولتر أندريه في آشور..وكان الأخير قد انهى تنقيباته وغادر الشرقاط قبيل وصول سفين هدين اليها في طريقه الى الموصل..وكان العراق آنذاك مسرحا للمعارك بين بريطانيا والمانيا مع حليفتها تركيا مما يجعل وصف سفين هدين لسجن البريطانيين ومرتزقتهم السيخ والكورخة واوضاعهم المزرية في الموصل احدى الوثائق المهمة لشاهد عيان على الحوادث في العراق عموما والموصل بوجه خاص في معمعان الحرب العالمية الأولى.. وسفين هدين واصل وصف البريطانيين والأرمن والهنود عبر طريقه من حلب فالرقة فدير الزور ثم مدن الفرات العراقية حتى الحلة فصعودا الى الموصل فقد كان القرار الألماني يقضي بنقل اسرى البريطانيين من كوت العمارة إلى الموصل ثم من الموصل الى حلب ..وكان عدد الأسرى اكثر من 8000 بريطاني بضمنهم هنود من السيخ والكورخة..وقد صادف وصول سفين هدين الموصل وجود الأسرى البريطانيين في معتقل الماني بالقرب من شاطيء دجلة..(كانوا في حال مزرية ومرتبكة الى جانب حيواناتهم وامتعتهم..اما وجوههم فشاحبة كالحة من الجوع والمرض)..ولم تفت سفين هدين، وهو معروف بموالاته الشديدة للألمان، فرصة زيارة الأسرى الأنكليز: (وشاهدنا رتلا يتألف من 500 جندي انكليزي وهندي يسيرون ببطء شديد مغادرين المدينة في طريقهم الى راس العين تحوم فوق رؤوسهم وحولهم سحابة قاتمة من الغبار..تبدو عند ضاحية المدينة حمراء واجمة بسبب اقتراب الشمس من المغيب، يسيرون أحدهم الى جانب الآخر في موكب جنائزي وكأنهم يشيعون أحلامهم في الهيمنة المطلقة على الشرق..وكان بين الأسرى قس أيرلندي كنت التقيته في بغداد ومرة أخرى في سامراء أخبر احد المرافقين الألمان للأسرى ان هناك في مستشفى الموصل انكليز يحتضرون، وحتى الأقوياء من بينهم لايقدرون على السير في حر الصيف) ثم يذكر سفين رقما اكبر من الرقم الذي تورده المصادر الأنكليزية هو 8600 أسير قال انهم انتقلوا من الموصل الى راس العين ومنها الى حلب..ويعرج سفين هدين الى وصف القنصلية الألمانية في الموصل (كان بيت القنصل هولشتاين اشبه بالنادي المحلي بالنسبة لنا وكنا نتناول فيه الغداء والعشاء وكان اللبن البارد الممزوج بالماء [الشنينة] يمنحنا طاقة لمقاومة الحر الشديد وبخاصة عند الظهيرة..وعندما تقترب الشمس من المغيب، نجلس تحت السقيفة لنقرأ آخر البرقيات والأخبار في الصحف التي تأتي متأخرة عن وقت صدورها ثلاثة او اربعة اسابيع احيانا)؛ وكان قد التقى في القنصلية بالدكتور الشاب داوود جلبي وناقشه حول افضل الطرق للسفر الى سورية عبر حلب ام دمشق او هل طريق نصيبين راس العين هو الأفضل كون سفين هدين يحب المغامرة ويريد انتخاب الطرق الواعدة والجديدة دائما..(ولكن السفير هولشتاين كان له صديق هو حميدي الياور الذي دعاه وعرفه بي وكلفه بتوفير الحماية لي..وقدم حميدي المعلومات كلها التي احتاج اليها مفضلا طريق الحضر دير الزور على الطرق الأخرى).. ه
وفي يوم الأحد 11 حزيران اي بعد يوم من اعلان الشريف حسين للثورة العربية، اصطحب سفين هدين الطبيب النمساوي يارلميك دليلا للتجوال في الموصل: (انطلقنا من بيتنا بمحاذاة سور المدينة الشمالي الغربي وتوقفنا في باب البيض الذي اتخذ تسميته من كلمات محفورة في عقد احدى قناطر الموصل مفادها ان مجاعة سوف تسود المدينة وينتشر فيها الغلاء بحيث تكفي بارة واحدة لشراء اربعين بيضة..واليوم لاتوجد مجاعة مع ذلك فان سعر البيضة الواحدة يكلف بين ست وسبع بارات)..وبينما لا يرد هذا التفسير لتسمية باب البيض في اي مكان آخر..تصمت المصادر عن ذكر اية كلمات محفورة في عقد قنطرة من القناطر الموصلية تتحدث عن الغلاء والمجاعة واسعار البيض الباهضة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف سور الموصل فيذكر ان عمره 300 سنة ويزينه برج دائري [يقصد به قلعة باشطابيا] وجاء على ذكر بواباته فسماها باب الجديد وباب سنجار وباب لكش وباب الطوب..وعد باب سنجار وباب الطوب من افقر احياء المدينة.. ويبدو من وصفه للسور الرمادي بالبديع - انه وبواباته كما تركتهما يد المعماري..ويظهر ان سفين هدين واصل سيره من باب البيض الى باب لكش قبل دخوله باب الطوب اذ يرد في وصفه: (مررنا بمدرسة حورت الى مستشفى بالقرب من حي اليهود الذي يوصف بانه من افقر احياء المدينة ويحصل يهود الموصل على خبزهم من صياغة الفضة وعمل الأساور والخواتم والمجوهرات [ربما المقصود هنا الحجارة شبه الكريمة كالعقيق والشذر]، والى اليسار تقع القنصلية الأنكليزية التي استولت عليها الحكومة في الوقت الحاضر ثم عرجنا الى مكان شاهدنا منه القلعة السلجوقية المطلة على السور في الساحل الأيمن لدجلة).. ربما المقصود بالقنصلية الأنكليزية بيت القنصل كريستيان رسام الذي وظف في أثناء الحرب مستشفى لأستيعاب الجرحى البريطانيين ومعالجتهم ..و يبدو ان مصادر سفين هدين حول قلعة الموصل سماعية لأن القلعة بناها العقيليون.. وأميل الى الرأي القائل بقدم القلعة وارتباطها بنينوى الآشورية وهذا ارجح لأن الآشوريين درجوا هلى تحصين ضفتي النهر وبحكم تقادم القلعة بنيت فوق اوابدها الآشورية تحصينات اسلامية على العهدين الراشدي والأموي ثم تناول العقيليون هذه التحصينات وعمروها واكمل السلاجقة السور بابوابه وابراجه لحين الهجوم المغولي الذي دمر معظم القلعة وابقى هيكلها وبرجها المدور..ولم ينل منها غير الزمن واهمال اهلها فمالت في الآونة الأخيرة محاكية منارة الحدباء في عصر يبدو أن كل شيء فيه يتجه الى الميلان ..ويواصل سفين هدين جولته في الموصل بوصف قلعة باشطابيا: (ومن الصعوبة بمكان تخيل قلعة تشاد فوق صخرة شديدة الإنحدار ترفرف شاهقة فوق ذلك النهر الملكي [دجلة].. وبتسلقنا الطريق المتعرج اليها واتخاذنا موقعا فوق السور رأينا مشهدا ينافس في جماله اروع المناظر في العالم، وهو مشهد يتكرر في كل خطوة تاخذنا صوب القلعة..ومن أعلى القلعة إرتسمت امامنا آثار عاصمة ملوك العالم القديم نينوى في تلقوينجق والى جانبها تل النبي يونس وهما من اغنى اماكن العالم بما يحتويانه من نوادر ومعادن ثمينة وآثار..ووراء التلال تترامى جبال أرمينيا وطوروس التي تكسوها الثلوج معظم ايام السنة)..ثم يتطلع سفين من قمة باشطابيا الى الأسفل ليرى الموصليات وقد جلسن على ضفة دجلة لغسل ملابسهن ..وفيما يبدو من وصفه ان نشاطهن لم يقتصر على غسل الثياب فحسب: (وعند الشاطيء شاهدنا مئات النساء يغسلن ويعصرن [ينشفن] ويعلقن ثيابهن لتجف تحت حرارة الشمس المحرقة..وعلمت ان تلك النساء يخرجن في الشتاء الى النهر ليغسلن الثياب على الرغم من كون الماء شديد البرودة غير انهن اعتدن احتمال البرد القارص احتمالهن الحر اللاهب في عنفوان الصيف..والحر في الموصل عينه في صيف بغداد، إلا أن شتاء الموصل أبرد منه في بغداد..ذلك أن بغداد تقع على ارتفاع 50 متر عن مستوى سطح البحر بينما تقع الموصل على ارتفاع 250 متر عن هذا المستوى..) ..ويبدو من هذا الوصف ان نساء الموصل كن قد شددن حبالا ربما شددنها حول قضبان من الخشب لتعليق الثياب عليها وانتظارها لتجف تماما قبل العودة الى بيوتهن ..مما يفترض احتمال انشغالهن بالأحاديث المتنوعة وربما بتناول الغداء في ظل باشطابيا قبل العودة الى البيت..ولم تفت سفين المدرب على دقة الملاحظة وروعة الوصف ملاحظة قطعان الجاموس تمخر مثل اكياس عملاقة منفوخة عباب دجلة: (وبالقرب من النساء المنهمكات في غسل ثيابهن ونشرها تردى قطعان الجاموس عائمة في امواج دجلة تنعم بضوء الشمس الغاربة قبل ان تنحدر صوب الجسر لتخرج عند الشاطيء يقطر منها الماء، والى جنوب القلعة وتحتها ينتصب مزار يحيى ابو القاسم بواجهته بديعة الزينة حديثة البناء، وعند مدخله سقف معمد يوفر الظل للزائرين)..تؤيد هذا النص صور ارشيف جرترود بيل التي زارت المكان عام 1909 ونستدل من ذلك ان تجديد الضريح قد تم قبيل عام 1917..وكان سفين قد زار بغداد قبل وصوله الموصل وتعرف على معالمها ومنها قبة اسماها بقبة زبيدة وهو خطأ شائع لأن القبة التي رآها في بغداد هي لزمرد خاتون زوجة المستضيء بالله وتشبه بمخروطيتها قبب لاليش في شمالي العراق وتماثل قبة السهروردي في مقبرة الشيخ معروف..اذ يخبرنا ان مزار ابو القاسم: (تعلوه قبة شاقولية مدببة النهاية تشبه قبة قبر زبيدة في بغداد وهي نموذج لقبب اخرى شيدت في المنطقة..وبالقرب من المزار تنتصب قلعة خربة كانت على الارجح جامعا يطلق عليها بدر الدين سلطان لؤلؤ حيث توقفنا لوهلة للنظر الى اسراب السمك وهي تسبح ضد التيار رافعة افواهها المدببة ودافعة اجسامها بزعانفها نائية بنفسها عن صرير الناعور الذي يروي الحقل الضيق الممتد بمحاذاة الشاطيء [الشاروق] ومن حين لآخر يأتي قارب ليرسو تحت الجسر في الجانب الأيمن ويبدو وكأنه جزيرة صغيرة يتوسطه رجلان يتحدث احدهما الى الآخر وكأنهما بيضتان في طبق من الأسبيناخ الأخضر)..ويسترسل سفين هدين في وصفه النهر والأكلاك والمدينة بعفوية وبلغة ادبية رائعة تجمع بين العرض التفصيلي والتنوع التصويري وعلى نحو يدعونا الى معايشة التجربة الحية لمايرى ويحيا وعلى نحو مباشر: (ويستخدم اهل الموصل الأكلاك التي هي عبارة عن الواح خشبية مشدودة الى بعضها بحبال توضع تحتها جلود معيز منفوخة تستخدم لنقل البضائع والناس في دجلة ويقوم الكلاكون بتحميلها وتفريغها..أما الموصل نفسها فتمتد على شكل هلال في الجانب الأيمن من نهر دجلة..وفي الموصل لاتكثر المساحات الخضراء او الأشجار التي تزين الشوارع بجماله كما هو الحال في بغداد المزدانة بالملامح المميزة للمدن الشرقية؛ غير أن بيوت الموصل تختلف عن بيوت بغداد من حيث كونها اقوى واكثر تماسكا فهي ليست مبنية من الطابوق المحروق كبيوت بغداد..وبمقدورها الصمود مئات السنوات، وهي مصممة ومشيدة وفق الطراز العربي..ويمكن ان نجد بيوتا مماثلة لها في بغداد من حيث التصميم لكن بيوت الموصل متقنة في عمارتها..وغالبا ماتقع في زقاق ضيق لم يعنى بتنظيفه يقودنا الى مدخل رخامي ذي بوابة خشبية تتوسطه صقالة من الحديد معلقة بحلقة الى الباب الذي يأخذنا الى مجاز قصير يفضي الى فناء واسع ذي ارضية مربعة مرصوفة بالحجارة في وسطه شجرة توث او برتقال، ومن البيوت مايحتضن في قلبه حوض فيه نافورة مزينة على نحو أخاذ يتدفق منها الماء بما يبعث في النفس شعورا بالراحة والبرودة وبخاصة في ايام الصيف الساخنة..وتحيط بالفناء الأرائك والمقاعد المتاحة للجلوس وحيث تمضي الأسرة ولاسيما النساء والأطفال اوقات الراحة والمحادثة وتناول الطعام..وفي الطابق الأرضي يوجد المطبخ والمخزن والى جانبه قاطع خشبي يفصل غرفة الخدم والأسطبل..ويماثل الطابق الأرضي في البيوت الموصلية، الأيوان في بغداد حيث يستقبل الضيوف اما في الموصل فيصعد الى غرفة الضيوف بدرجات قليلة تقود الى الأيوان الداخلي في صدر البيت، ويؤدي الأيوان الداخلي الى غرف النوم الخاصة بالأسرة ويصعد اليها بدرج جانبي..ولايسمح للغرباء الدخول الى غرف النوم..ويوجد درج يؤدي الى السطوح حيث ينام اعضاء الأسرة في ايام الصيف..ويعمد الموصلي، ان لم يكن لأسباب تتعلق بالدين، فبدافع الخوف من الغيرة والحسد؛ الى حجب بيته واسرته ونسائه عن العالم ولهذا تكون زينة البيت وواجهته مكشوفة على الداخل وليس على الخارج..وهذا لاينطبق على المسلمين في المدينة وحدهم بل على السريان الكاثوليك والكلدان ايضا..ومن الممكن في بيوت النصارى للزائر ان يجلس مع النساء ويتناول المرطبات وهن كالمعتاد غير محجبات ولكني لاحظت وجود اختلاف هائل بينهن وبين قريناتهن الأوربيات فهن على الرغم من الدين المشترك فيما بيننا، خجلات وجلات ولابد من تعودهن على الضيوف والزائرين فترة طويلة لكي يتغلبن على خجلهن..وواجهات الجدران المقابلة لفناء الدار الموصلي غالبا ماتكون مزدانة بالزخارف العربية الزهرية التي تغطي الواجهات الرخامية في الجزء الأسفل من الجدار في جوانبه كلها باستثناء جانبي الدرج الذي يقود الى ايوان صدر البيت.. ويوجد قوس كبير تشغله نافذة السرداب او [الرهرة] التي تلجأ اليها الأسرة الموصلية للقيلولة في ظهيرة الصيف..والرهرة تكون باردة ينعم فيها الموصلي بنوم هانيء مريح..أما الشبابيك فمزودة بقضبان حديدية متداخل احدها بالآخر بحلقات تربط فيما بينها عموديا وافقيا وذلك لمنع السراق او تأخير اختراقهم للبيت او اي من غرفه بهدف السرقة..وتزود النوافذ العالية أحيانا بمشربيات خشبية تشبه نوافذ البيوت في القسطنطينية لغرض فتحها لنفاذ اشعة الشمس الى الغرف..وتحتضن الموصل العديد من هذه البيوت فريدة الطراز اما اصحابها فرهبان كنيسة او تجار اعتمدوا على ثروة ورثوها او اكتسبوها من المتاجرة ببالات القطن او خصافات التمور او المنسوجات الملونة وماإلى ذلك من تبادل للسلع بين الشرق والغرب او نقلها بين الجماعات والأمم الشرقية..ومنها ما توالد في سياقات الأرستقراطية التجارية وانتفع من عملات الذهب المتراكمة والمحملة في صناديق مكنونة تنقلها القوافل الصامتة المحملة ببضائع التجار وقد افلتت من سطو القراصنة ومداهمات قطاع الطرق ولعلها لاتفلت من قطاع الطرق ولاسيما قبائل شمر الذين غالبا ما يباغتون القوافل على حين غرة فينهبونها ويسوقون حمولاتها الى اماكن مجهولة قبل ان يختفوا في مفازات الصحراء).. ه
ونلاحظ في وصف سفين هدين لعمارة بيوت الموصل والعادات الإجتماعية لسكانها أن الموصل كانت تحتضن طبقة من التجار الأثرياء يشاطرهم ثرائهم رجال الدين من النصارى وإن لهذه الطبقة من التجار تاريخ طويل من النشاط التجاري الأقليمي والعالمي يمتد لقرون بعيدة في التاريخ وان هذا النشاط وجد انعكاسه في حياة من الترف والرفاهية ترفل فيهما اسر التجار والطبقات الموسرة مما يؤكد وصف ماركو بولو للمدينة باعتبارها مملكة تجارية قائمة بذاتها..كما ان هذا النمط من عمارة بيوت الموصل مازال موجودا في احياء الموصل القديمة كالمياسة والميدان والساعة والمكاوي وباب لكش والسرجخانة وغيرها من الأحياء غير ان اهل الموصل غادروا في معظمهم هذه المنازل القديمة ورهراتها الى بيوت غربية حديثة حلت الحجارة الحلان فيها محل المرمر الموصلي والحدائق الغناء محل النافورة والتوثة في قلب البيت..اما عادات اهل الموصل الإجتماعية فلم تتغير كثيرا اذ مابرح الطابع المحافظ مميزا للعائلة الموصلية..وينعكس في عمارة الجدران العالية والشبابيك الداخلية التي توفر الأمن والأطلالة على الحديقة الداخلية اكثر منها على خارج البيت..فالموصلي المحافظ كالأنكليزي المحافظ يعد بيته قلعته ..ويتطرق سفين هدين الى الحرب وتاثيراتها على التجارة والحياة في الموصل: (والآن تسود الحرب العالم بأسره والتجارة تكاد تكون معطلة بالكامل فالهند لاتجلب شيئا الى البصرة والبصرة لا تقدم شيئا الى الموصل..وطريق الشمال من القفقاس حتى الأناضول معطل هو الآخر، وسكة حديد الأناضول خصصت باكملها للأغراض العسكرية. إلا ان اهل الموصل كانوا يواجهون الحرب بضرب من الهدوء العدمي في انتظار زمن افضل وهي الروح عينها المميزة للمشارقة في مثل هذه الأزمات..وخزينة الموصل العتيقة المذخورة لن تسترد عافيتها إلا بعد انجاز خط بغداد- برلين الذي سيغير كل شيء ويعيد للتجارة حياتها..لكن الحرب دمرت المواصلات وسكك الحديد اقتلعت وعربات القطار نهبت ودمرت وترى الجمال منتشرة بين حلب ورأس العين وكأنها كائنات كليلة منهكة طالتها يد الدهر الكالحة تتصادى اصوات اجراسها في فضاء فارغ..مع ذلك فالبيوت القديمة لأرستقراطية الموصل ستبقى تذكرنا بأشراف روما). نخلص من هذا الوصف الرائع الى ان سفين هدين كان يتفاعل مع المشهد الموصلي بعمق يتضح من خلال اسلوبه الأدبي الذي انضجته تجاربه الآسيوية الفريدة ..ولأن خط حديد بغداد فكرة المانية ولدت من التنافس بين بريطانيا والمانيا من جهة وتركيا وروسيا من جهة ثانية و الهدف منها الأستغناء عن قناة السويس التي سيطر عليها الأنكليز ببناء ميناء على الخليج العربي يكون طرفه الأوربي برلين، عمل لورنس وحلفائه العرب على عرقلة عملية بناء خط سكة حديد بغداد- برلين بطريق اقتلاع السكك في المناطق غير الماهولة واتلاف المنشئات التي شيدها الألمان عبر خط سكة حديد بغداد – برلين كجزء من عمليات الحرب العالمية الأولى..ولأن سفين هدين مواليا حد التطرف لألمانيا فقد ربط بين تعطل التجارة والتخريب الذي حصل لخط سكك حديد بغداد - برلين الذي مولته المانيا ..ولعل من مفارقات التاريخ ان تستولي بريطانيا على قناة السويس التي مولتها فرنسا بالمشاركة مع مصر ثم على خط سكك بغداد - برلين في اعقاب الحرب وتحول الأوراق التركية كلها تقريبا الى الغرب.. ونعود الى صيف الموصل مع سفين هدين لنرى احوال المدينة في قيظ الظهيرة: (ولكن ثمة شعور بالأرتياح ينتاب المرء عندما يغادر الشارع او الزقاق ليدلف في فناء البيت، وكأنك تغادر الصحراء المحرقة الكالحة الى واحة حيث خرير الماء وحيث تمنحنا شجرة التوث واعمدة الأيوان شعورا هانئا بالبرودة..وبين الآونة والأخرى يطرق الباب سقاء حاملا جربة مليئة بماء البئر يرش به ارضية الفناء مما يفضي الى تلاشي الحرارة اكثر فأكثر بحيث تنسى لوهلة حر المدينة الساخنة مثل فرن.. ولكن تبقى الحاجة قائمة الى وجود نافذة فلا شيء يمكن له ان يخترق هذه الفناءات المغلقة في البيوت الموصلية ولا من كائن يمكن له ان ينقل ماترويه شجرة التوث البهيجة من حكايات مثيرة واسرار..وفي الفصول التي تخلو من العواصف التي تهب على البلد فتغدو معها البيوت الآمنة غير آمنة إذ تضرب بكل عنفها وعنفوانها سقوف البيوت مهيلة اياها على الأرض، تصبح خيام العرب في البادية مريحة تبهج القلب لأنها لا تفقد اية نسمة تفدها راقصة عبر الحقول)..تتماثل تجربة سفين هدين في صيف الموصل مع تجربة اهلها ممن يعيش حر الصيف كل عام فالمدينة لاتوفر لخلوها من الأشجار الظل الا في ازقتها الضيقة وقناطرها في احيائها القديمة أو بالقرب من شواطيء دجلة حيث يعمل النهر على تخفيف وطأة الحر وترى الصبيان يسبحون هنا وهناك في مياه دجلة الخضراء فمنهم من يستحم بالقرب من قلعة باشطابيا وفي المجرى السريع قبالة عين كبريت ومنهم من يسبح قبالة جامع الخضر في الجانب الأيسر للنهر او حدر النهر في منطقة الدندان التي لم تكن على عهد سفين هدين خطرة بما يرمى اليها من بقايا عجلات السيارات وقطع الخرسانة الضخمة التي خلفتها شركات بناء الجسور، او يلجأ الى أحدى المقاهي ليشتري الظهيرة بعشر روبيات تماما كما اعتاد الموصليين في السبعينيات والثمانينيات الى امضاء حر الظهيرة في السينمات ولكن باربعين فلسا..ولكن الأكثرية من أهل الموصل يفضلون امضاء الظهيرة في السراديب التي يوفر مرمرها العتيق سريرا باردا يمدون عليه الحصران والبسط الموصلية المعمولة من الصوف الناعم والقطن والمتميزة بنماذجها الزخرفية الحمراء والزرقاء والخضراء والعاجية التي تبعث على الراحة. كما نلاحظ ان البيوت الموصلية القديمة مازالت تتوسط فناءاتها نافورة الى جانبها شجرة توث ويحيط النافورة سياج خشبي يتكيء في احد زواياه زير ماء تغطيه قطعة قماش من الشاش لمنع الحشرات عنه و يحظنه مشبك من الخشب يلون باللون الأخضر او الأصفر أوالأزرق، يوضع تحته مايعرف في الموصل بالناقوط وهو حاوية فخارية صغيرة تشبه الزير يتجمع فيها الماء المترشح من الزير من فوقه وهذا الماء المترشح او ماء الناقوط هو انقى واعذب وابرد ماء للشاربين.. في تلك السراديب التي يسميها اهل الموصل بالرهرات تمضي الأسرة الظهيرة في قيلولة هانئة يستيقظون بعدها لتناول وجبة خفيفة من الجبن والزيتون أواللبن وخبز الرقاق الذي يفدهم من القرى المجاورة او من جيرانهم من النصارى مع قدح من الشاي السيلاني قبل خروجهم لمباشرة اعمالهم حتى صلاة العشاء في واحد من جوامع المدينة..وتعرف هذه الوجبة العصرية لدى اهل الموصل بالعصرونة "عصغونيي"..ومازالت هذه العادات قائمة غير ان اجهزة التبريد الحديثة عملت على الغاء معظم تلك المظاهر المميزة للحياة الموصلية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وصولا الى سبعينياته..ويعلل سفين هدين سبب بناء البيوت الموصلية على هذا النحو قائلا: (ويبدو ان بيوت الموصل وبخاصة قصورها المبنية من المرمر قد شيدت لتستجيب لظروف مناخ الموصل، وهي لاريب نتيجة مئات السنوات من الخبرة في العمارة والزينة المعمارية..فالبيوت في الموصل تتحول في موسم الصيف الى أفران..وحرارة الصيف تتغلغل في صخور الجدران التي تتحول الى مخازن لها حتى تصبح الحرارة جحيما لايطاق، ويبدو ان البيت الموصلي يشاكه البيوت القديمة التي كشفت عنها التنقيبات الحديثة في آشور وبابل..أما بيوت الفقراء فهي أبسط كثيرا من هذه القصور فهي مبنية من اللبن المفخور او من الحجارة غير المهندمة، وتكثر في الأحياء الفقيرة النفايات فضلا عن كونها بيئة مكتظة تتعدد فيها مصادر الفوضى والأعتراك..ولكن حتى في مثل هذه البيئة تحتاج الى الظل وإلى سطح تلوذ الأسرة الفقيرة ببرودته في اثناء الليل..وعندما نتطلع من فوق سطوح البيوت المطلة على المدينة، نشاهد بانوراما واسعة من البيوت الممتدة بما يحاكي مربعات لوحة الشطرنج بستائر متفاوتة الإرتفاع وجدران رمادية متصمتة خالية من النوافذ تتشابه في طراز بنائها وبساطة شكلها وايقاعها الرتيب الذي لاتقطع رتابته غير ابراج الكنائس والقبب والمنائر باحواضها حيث يقف المؤذن داعيا الناس الى الصلاة..إلا ان الزائر الغريب الذي يسعى الى تكوين انطباع مباشرعن حياة المدينة النابضة من خلال نظرة شاملة، يترتب عليه ان يدور ويدور في متاهات ازقتها وزوايا اسواقها وكأنه درويش مولوي منغمس في الدوران بلا كلل او ملل، ويستحسن ان يصطحب هذا الزائر الغريب معه في جولته أحد أعيان الموصل وإلا فسيغمى عليه عشر مرات قبل ان يعثر على قلب المدينة سواء أبدأ الجولة من باب البيض أو من اي مكان أو طرف آخر.. وتشبه شوارع الموصل نظائرها في بغداد في ضيقها وتعرجاتها، ولكن بينما تزين نوافذ البيوت في مدينة الخلفاء الظلات الخشبية تندر مشاهدة مثل تلك الظلات في الموصل..والأرصفة في الأحياء المأهولة بغزارة في الموصل تغطيها الحجارة المتعرجة التي قد تتسبب بموت صاحب المركبة إن هو سقط فوقها إثر انقلاب مركبته ان سمح الزقاق الضيق بمرورها..وفي الأسواق تجد أكواما من كل انواع الزبالة والفضلات والأسمال المتهرئة والفواكه التالفة وبقايا الحيوانات الذبيحة التي ربما لاتغري الكلاب الضالة بتناولها إن لم تكن متضورة جوعا..وغالبا ماتهب ريح قوية على الموصل فتغطي سحب التراب المدينة بأسرها..وتنتشر في الأسواق دوامات التراب لترتفع في السماء مثل غيمة سوداء كالحة من الغبار وقد خالطتها شتى الأوساخ..وكأن مكنسة عملاقة مرت في المدينة لوهلة فاقتلعت اوساخها..إلا أن الزبالة المتراكمة تبقى بعد مرور الريح على حالها ولكن بتشكيلات جديدة في كل مرة).. ه
تتضح من وصف سفين هدين للموصل حال الأهمال الذي صارت اليه المدينة في اثناء الحرب العالمية الأولى فالخدمات البلدية تكاد تكون معدومة، وعلى الرغم من كثرة المساجد والجوامع لم يكن للورع دورا في تقليل الفوارق الطبقية الهائلة بين الفقراء والأغنياء أما المناخ فلم يتغير كثيرا خلال قرن تقريبا فالمدينة مابرحت الرياح الترابية تعبث فيها لعدم وجود حزام اخضر يخفف من وطأة الريح لأن الغابات القريبة من الموصل وحديقتيها في الساحل الأيمن والأيسر لم يكن لهما وجود في ذلك الوقت ويعود الفضل في استنباتها الى الأنكليز في اعقاب الحرب..لكن اهل الموصل اعتادوا على نزوات مناخهم وحرارة صيفهم وبرد شتائهم فكانوا اشبه بالنحل في نشاطهم على الرغم من وعورات الحياة..كما يخبرنا سفين هدين في وصفه المثير للموصل: ه
(وشاهدنا في اقسام السوق المختلفة الحدادين وافرانهم في دكاكين متقابلة في ازقة ضيقة تليها دكاكين الصفارين والقصابين وباعة الفواكه فباعة التوابل والمكسرات والى جانبها الزبيب واللوز والخيار واشياء اخرى كالثياب واغطية الرأس..ومررنا على سوق باعة الكتب حيث يمضي احد الباعة وقته في قراءة كتاب..ويبدو بائع الأواني الفخارية الأسعد فهو الأكثر ربحا في الموصل لأن الموصل كلها تبرد الماء وتشربه في هذه الأواني الفخارية الجميلة التي تضعها النساء فوق رؤوسهن على نحو متقن بدون ان تسقط ..ولم يعد التبغ والغليونات والولاعات المعدنية من الأشياء التي نراها لدى الجنود، بل من التحف النادرة التي تباع للموثوق بهم من الزبائن فقط..أما الأقمشة الأوربية فتجدها متوفرة على الدوام بحزم ضخمة جذّابة للعين الشرقية..وكنا خلال جولتنا سمعنا عن حمامات الموصل وانها تنتشر هنا وهناك..فدخلنا أحدها لألقاء نظرة فشاهدنا صالة ارتداء الثياب والمستحمين وهم يخرجون من بوابة صغيرة يندفع منها البخار وهم يرتدون مآزر يلفونها حول خواصرهم..وفي القناطر التي تتخلل السوق رأينا سلعا غير تلك التي تحملها قوافل تجار الموصل الأغنياء هناك يعرض الباعة ثيابا مستعملة في اماكن [بسطات] مفتوحة على الأرض عارضين بذلك اوكارا للأمراض الوبائية والهوام والحشرات التي لاترى بالعين المجردة. وترتبط شوارع الأسواق الرئيسة بشبكة من الأزقة الضيقة شاهدت في احدها حلاقين قد بسطوا عدة الحلاقة على الأرض وهم يحلقون زبائنهم في ظل القنطرة مستمتعين بهوائها الطلق..وفي الجوار يقع جامع محشور بين البيوت بمنارته وقبته المزينة بالآجر، ويبدو انهم يريدون هدمها بسبب ثقلها الهائل..وفوق قبة الجامع اشاهد لقلقا قد بنت عشها وتحتها تجلس مئات الحمائم الزرقاء واللازوردية وعلى الرغم من ان الحمائم واللقالق ليست جزءا من زخارف الجامع، فإنها دخلت المشهد بصفتها احد العناصر المتممة للزخرفة المعمارية).. ه
من اليسر بمكان ان نقارن موصل اليوم بموصل الأمس من خلال وصف سفين هدين لها، فلم يتغير شيء في السوق القديمة من باب السراي مرورا بباب الطوب فسوق العطارين فالكوازين وحتى باب الجسر..ولكن يبدو ان الجامع ذي القبة والمنارة المزخرفة بالآجرالملون والذي نشاهده في العديد من الصوروالرسوم القديمة كما في لوحة فلاندين قد هدم فعلا وأن مبنى آخر حل محله..ولا نعرف ان كانت منطقة بيع البالات والحلاقين في القنطرة التي ذكرها هي منطقة السرجخانة.. والأرجح أن قنطرة الحلاقين هي نفسها قنطرة القطانين وان زقاقا كان يصل بين قنطرة القطانين وقنطرة بيت أغوان وان هذا الزقاق متصل بباب السراي وانه يتقاطع مع سوق باعة الكتب المتصل هو الآخر بزقاق متصل بسوق الشعارين المتقاطع بزقاق يتصل بالميدان مما يؤكد ان شارع النجفي كان موجودا قبل الشروع بشق شارع نينوى الواصل بين رأس الجسر ورأس الجادة على عهد والي الموصل سليمان نظيف..ولكن الموصل لم تكن في افضل احوالها فقد كانت تعيش حالة بائسة من الغلاء وانعدام الخدمات ولم يكن للبلدية ماتنفقه لتنظيف المدينة من النفايات؛ وعلى الرغم من ازدحام الأسواق بالحركة والمقاهي بالمرتادين وتوفر السلع لم يكن بمقدور الفقراء شراء مايحتاجون اليه كما يخبرنا سفين هدين ونشاهد من صور المدينة في تلك الفترة: (ودكاكين الموصل تحميها من اشعة الشمس ظلات من ألواح الكارتون أو من الحصران الخفيفة تسندها من فوق الدكاكين قضبان خشبية بما يعطي عمارة الشارع بألوانه المتحركة ابعادا جمالية زاهية..وتزين العقود في واجهات القناطر زخارف قديمة متصلة على امتداد الأقواس المدببة وفوق الشريط الرخامي المحفور بأقواس رخامية متجاورة تحاكي العقود المتتالية في رواق مسجد..ومن هذه القناطر ما يؤدي الى الخانات..و من هذه العقود المدببة في قلب السوق إثنان تتوسطهما زاوية هي الأغنى في زخارفها الناتئة في الرخام..وتتدلى من الشريط الرخامي في مجاز احدى القناطر سلسلة حديدية مسحوبة الى جانب مدخل القنطرة التي يغلق اهل الموصل بوابتها الكبيرة في اثناء الليل).. ه
وقلب السوق عبارة عن مربع غير منتظم تتعدد الطرق الداخلة فيه والخارجة منه ..وتوجد في عدد من جهات السوق مقاهي مفتوحة الواجهات مطلة على باحة السوق من فوق ظلات الدكاكين يجلس الزبائن على مقاعدها "كنباتها" الفارهة لشرب القهوة بأقداح صغيرة من دلاء فضية تفوح منها رائحة زاكية..وتقع هذه المقاهي بالقرب من شاطيء دجلة..ويفد الناس اليها من بوابة كبيرة متصلة بعقد يزين قنطرة في باب الجسر..والمشهد من باب الجسر في اتجاه الشمال يشد الإنتباه إذ نشاهد طائفة من الظلال المتعاكسة منها مايبدو في حركة ابدية في دغل القناطر ومنها مايطل على جسر الموصل الشهير الذي يربط بين هذا الجانب من المدينة وأطلال نينوى البادية في الجانب الأيسر منها).. ه
يبدو جليا ان سفين هدين يتحدث عن منطقة باب الجسر وسوق الحبالين بعد ان وصل اليها من زقاق يخترق شارع غازي الذي لم يكن له وجود في ذلك الوقت والأرجح انه مر بحمام العلاء الذي كان قائما تحت عيادة الدكتور سالم قاسم الجلبي حاليا، والذي هدم في الخمسينيات، ليستمر في زقاق يخترق باب السراي من جهة شارع غازي ويدلف في سوق العطارين ومنه الى الزقاق المؤدي الى سباهي بزار حيث البورصة التي كانت سوقا متصلا بالإزقة وتتوسطه ساحة تطل عليها المقاهي من الطابق الثاني؛ وهي مقاهي تتصل احداها بالأخرى وتبدو تحتها فتحات القناطر وكانها مداخل انفاق معتمة..كما يرجح ان مقاه أخرى اندثرت كانت توجد فوق سوق الأطرقجية وبالقرب من خان الجلود ..مابرحت أتذكر احداها وقد تحولت فندقا كان يرتاده الأيزيدية في الستينيات..أما الظلال المتحركة التي حدثنا سفين هدين عنها فالأرجح انه يعني بها شلالات الضوء الفضية النازلة من فتحات الأسواق المسقفة ولاسيما (سوق العتمي) الذي خلده المصور مراد الداغستاني بعدد من الصور الفريدة الجميلة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف الناس عيانيا من مقعده في احدى شرفات المقهى المطلة على ساحة سباهي بزار: (وبمقدور الزائر ان يجلس في هذه المقهى الواقعة قبالة باب الجسر ليشاهد تحته وكرا من النمل البشري بثيابهم الشرقية والغربية فمنهم من يرتدي الكوفية والعقال،ومنهم من يعتمر الطرابيش..ويكثر البدو بعباءاتهم البيضاء والبنية والمخططة (المقلمة) اما السريان والكلدان فيرتدون الطرابيش في حين يرتدي الرهبان والشحاذين ملابس نصف اوربية..وترى نساءا محجبات وغي محجبات بينما يمر الصبيان الصاخبين يدفعون عرباتهم او يسوقون حميرهم العنيدة منتصبة الآذان والى جانبها تمرق قوافل الجمال يمتطيها اصحابها بعد تحميلها بالمشتريات او تفريغ حمولتها من البضائع..فالحركة دائبة وتبدو بلانهاية..والموصل لاتخلو من شارع اشبه بشارع فاليز المكتظ بهوس المتسوقين..واذا نظرنا الى المدينة بعد اكمال محطة قطار بغداد وخط الحديد الذي سيمتد مثل شريان وسط المدينة بمحاذاة دجلة مزيلا العديد من البيوت سيبدو الشارع المجاور للنهر اشبه بمكان اكتسحه الروس بعد اجتياحهم لراوندوز فتجد السراق وقد ازدهرت تجارتهم تماما كما في مدن بروسيا الشرقية، ونشاهد في قيادة الشرطة والإدارة الجديدة مايشبه معرضا لصورقادة الحلف المركزي الى جانب قصاصات تتحدث عن اتراك وعرب وماالى ذلك من اشياء فلتت من الدمار...وعلى نحو مماثل تم توسيع شارع فرعي يربط الشارع الرئيسي للمدينة بالقسام الجنوبية منها وهو لايستحق كلمة ثناء بل اصبنا بالإحباط عندما شاهدنا ايوانات البيوت القديمة واعمدتها والواح الرخام المزينة بالنقوش والزخارف العربية قد غادرها اهلها وبدت نصف عارية وكأن فأسا عملاقة قد قطعت اوصالها..وكان الإنطباع الذي تركه الشارع كله مماثلا لما يتركه زلزال مدمر أحال كل عمارته الى خرائب..فالحرب قد حالت دون إكمال الخطة ولكن الحجارة التي خلفتها تلك البيوت التي لا تقدر بثمن والتي ازيلت لتسهيل المرور في هذا الشارع ستجعل المرور عبره وخلاله في حكم المستحيل).. نلاحظ من هذا الوصف الدقيق لمنطقة باب الجسر وسباهي بزار (اي القليعات) ومقاهيها وحركة الناس وتنوع ثيابهم ومهنهم ان للمدن ومنهن الموصل حياة لا تتأثر بمرور الزمن فالمنطقة مابرحت في حركة على الرغم من التغييرات الذي طرأت عليها :أختفاء المقاهي المطلة على السوق في منطقة البورصة بالتحديد..ويتطرق سفين هدين الى مشروع سكك برلين بغداد غير انه كان تصور ان خط السكك الذي كان آنذاك قيد الإنشاء وبتمويل ألماني سيمر بمحاذاة دجلة ويؤدي الى إزالة البيوت ذات الأيوانات الرخامية والزينة المعمارية مشبها الخراب الذي سيحصل بمحاذاة نهر دجلة بالخراب الذي يتركه اكتساح جيش للمنطقة عبر مروره من الشمال واكتساحه لمدنه مستذكرا مدينة راوندوز ومقارنا ماقد يحدث للموصل بما حدث لبروسيا الشرقية من خراب نتيجة اكتساح الجيش الروسي لها على مدى ثلاثة اشهر من آب وحتى أيلول عام 1914 فخربت البيوت واحرقت المزارع وتكبد الألمان خسائر فادحة بالأموال والأرواح..كما ويقصد بالإدارة الجديدة لبروسيا الإدارة الروسية المؤقتة لبروسيا بعد اكتساح الروس لمدن بروسيا الشرقية وتخريبهم لها .. غير ان وقائع التاريخ جرت عكس تصور سفين هدين..فقد تمكن الألمان بقيادة بول فون هيندنبرج (الرئيس الألماني لاحقا والمسؤول عن تعيين ادولف هتلر مستشارا لألمانيا)، ومساعده اريك لدندورف من أخراج الروس من بروسيا الشرقية..لكن الحرب العالمية الأولى لم تكن خلال زيارة سفين هدين الموصل قد وضعت اوزارها بعد، وكانت الأمور مفتوحة على التوقعات كلها، ويبدو ان سفين هدين لم يكن يعرف خلال وجوده في الموصل بالثورة البلشفية وانسحاب روسيا الشيوعية من الحرب على الرغم من متابعته لأنباء الحرب من خلال القنصلية الألمانية في الموصل وعلاقته الطيبة مع الألمان وتأييده لهم او انه عرف بها ولكنه لم يدرك جسامتها والتحولات العميقة الكبرى التي احدثتها..وكانت مقارنته الثانية لخرائب الحرب بخرائب الهدم هو ما كان يحدث في الموصل من تغييرات ترتبت على فتح شارع نينوى ويبدو من وصفه ان الشارع الذي تسبب في تهديم عدد من البيوت القديمة والذي سيصل على حد تعبيره بين منطقة راس الجسر والجزء الجنوبي للمدينة هو شارع الملك غازي الذي كان زقاقا ضيقا قبل تعريضه،ان لم يكن الشارع الذي يصفه سفين هدين هو الشارع الذي يخترق السوق القديم هو شارع سوق العطارين القائم حاليا والمتصل بعلوة الحنطة في باب الطوب..ونلاحظ ان تلك المناطق كانت او كانت تتخللها مناطق سكنية متصلة مع الميدان شمالا وباب لكش جنوبا وان شق شوارع جديدة ادى الى تخريب العديد من هذه البيوت القديمة ..كما لا أدري سبب تطرقه الى السراق بدون اي ذكر لحادثة سرقة ومقارنته اياهم باقرانهم في بروسيا الشرقية بعيد احتلال الروس لها ولكن وجود سراق في الموصل آنذاك ممكن بسبب الحرب والغلاء..وخلاصة القول ان سفين هدين ترك الحبل على الغارب لخياله في إطلاق مقارنات لايمكن لأي قاريء محلي في الثلاثينيات إستيعابها..ولكن المؤكد ان العقل الغربي ولاسيما لمثقف كبير كسفين هدين يأسف للتدمير الذي لحق المباني والبيوت القديمة في الموصل من جراء شق الشوارع الجديدة..ويبدو ان سفين هدين كان مهتما بالحوادث التي تحدث في الموصل كلها وبمتابعتها ويرجح انه اصطحب مترجما معه، يقول: (سألت ضابط الجندرمة الذي رافقني بصفة دليل عينه القائد لهذا الغرض إذا كانوا قد شنقوا مجرما عاتيا كانوا قد القوا القبض عليه؟ فرد ضاحكا: نال لقب مواطن شرف من الدرجة الأولى في الموصل!)..ويبدوأن سفين هدين كان يسأل مرافقه الضابط الموصلي عن عبود القليجي الذي ذاعت شهرته آنذاك في الموصل بسبب ذبحه للأطفال وطبخهم في مطعمه من جراء المجاعة التي اجتاحت الموصل قبيل الأحتلال البريطاني لها في أواخر تشرين الثاني من عام 1918..وتلك حادثة مشهورة تؤكد إهمال الحكومة التركية لولاياتها على الرغم من تنبيه محمد أمين العمري وكان نقيبا (يوزباشي) الموصل ومسؤولا عن المواصلات في الجيش العثماني آنذاك والي بغداد خليل باشا الذي كان قائدا عسكريا في العراق قبل اكثر من سنة بخطر المجاعة الداهم نتيجة المحل وشحة الموارد الزراعية لعامين متتاليين وماصاحب ذلك من ظروف الحرب والتعبة الى جبهات الحرب (السفربرلك)..ولكن خليل باشا لم يتابع تقرير العمري مما أدى الى كارثة المجاعة وماترتب عليها من مآسي وويلات وجرائم كجريمة عبود شاويش القليجي وزوجته في ذبح الأطفال وطبخهم وبيع لحومهم كأطباق قلية ...ويبدو أن الضابط المرافق لسفين علم بأعدام عبود وزوجته في منطقة باب الطوب ولكنه صاغ رده لسفين هدين على نحو ساخر على عادة أهل الموصل في عكس المعنى تأكيدا لضده بقوله: (نال لقب مواطن شرف من الدرجة الأولى في الموصل!) ويقصد انه تم اعدامه علنا امام اهل الموصل) الذين مزقوا جثته وجثة زوجته انتقاما لأولادهم... ه
ويمضي سفين هدين في وصفه جولته في لموصل: (واصلنا سيرنا حتى باب الجسر ثم مررنا في القنطرة المؤدية الى الجسر في الجانب الأيمن من نهر دجلة فأمضينا وقتا طويلا بالنظر الى هذا الجسر الرائع متقن البناء بعقوده التي تبلغ 35 عقدا والأعمدة التي تشكل مرتكزاتها..وجسر الموصل الحجري هذا لايغطي دجلة بعرضه كله بدءا من الضفتين بينما يمتد الجزء المتصل بالجانب الأيسر منه عبر النهر الى اليابسة بمسافة تتجاوز كثيرا حافة النهر في جزره..والجزء الأعمق من دجلة في جانبه الأيمن وليس الأيسر مما يجعل التيار يندفع بقوة هائلة الى الجهة اليمنى في مواسم ذوبان الثلج وغزارة المطر في الربيع مما تسبب بدفع الماء الى الجهة اليمنى وانجراف جزء من كتف الشاطيء الأيمن مما دعى اهل الموصل الى معالجة المشكلة ببناء جسر من القوارب تغطيه الواح خشبية كما جعلوا مقدمة القوارب المدببة نسبيا بإتجاه التيار..ويلتقي جسر القوارب هذا بالجسر الحجري بمنطقة عازلة تستند على دعامات خشبية قوية تغير موقعها تلقائيا مع ارتفاع منسوب المياه..ولاحظت وجود ممر من الحجارة المرصوفة مزود بحاجز مما اعطى الجسر منظرا رائعا في اطلالته على النهر والموصل ونينوى القديمة..وقد أخبرني احدهم أن الجسر الحجري قد شيد منذ اكثر من 80 سنة من قبل معماري ايطالي وأن ابن هذا البناء مازال يعيش في الموصل..وتقععلى الضفة اليمنى الى جانب النهر مباشرة مقهيان كل واحدة بطابقين واجهاتيهما مفتوحة على السوق وتطل عليه، إحداهما للوجهاء والأخرى لعامة الناس.فزرت كلتيهما وهما مقهيان بهيجتان لاتغادرهما أشعة الشمس في ساعات الصباح وبمقدور الزبون ان يشرب قدرما يشاء من القهوة طيلة النهار لقاء عشربارات ثم يغادر المكان المشمس الى الظل لأمضاء بقية النهار ويشرب القهوة بحرية بدون ان يضطر للدفع أكثر من مرة واحدة..فالزبون يشرب ويدخن ويسترخي في الشمس والظل في ثوبه الخفيف بدون ان يعمل اي شيء على الإطلاق ...وقد تراه منهمكا بلعبة الشطرنج مع صديق قدم الى الموصل من بغداد، أو منهمكا في حديث مع زميل له تاجر حول البضاعة والسوق والمال وما الى ذلك من شؤون تخص المال والربح والخسارة..اما الحرب العالمية فلايهمهم منها سوى التأثير الذي قد تتسبب به المعارك على الطرق وسلامة التجارة..فالموجة لا تصلهم إلا اذا بلغت أقصى درجات علوها والحرب التي تؤثر على الإنسانية بأسرها يواجهها اهل الموصل بروح من عدم التأثر واللامبالاة..والمهم بالنسبة لهم ألا يخسروا الكثير في هذه الحرب بل حتى عندما يحتدم الصراع وتتشابك اسبابه وتتعدد الجهات المشاركة فيه، يفضل الموصلي البقاء في جهل عميق بما يحدث لأن مايرمي اليه هو أن تسير دورة العمل على نحو سلس وان لايحدث اي شيء من شانه الإضرار بمصالحه...ومايريد الموصلي سماعه صوت الذهب وهو يسقط في خزانته الحديدية...فاهل الموصل لايعرفون افضل من ذلك ولايبدون اي استعداد لتحمل اية مسؤولية ..وينبغي عليا الا نلومهم لأننا اعتدنا على التعامل مع ذلك النوع من الناس الذين يحتلون مواقع رفيعة ويشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه واقع بلدانهم ومستقبلها...مع ذلك فليس لنا الا نستمتع بما يستمتعون به على شرفات المقهى حيث يتركون العنان طليقا لأبدانهم الخمولة واعينهم الغافية وهي تسبح مع امواج دجلة، والحياة التي تبعثها حركة الناس وهم يعبرون الجسر والصبيان وهم يسبحون على الشاطيء وقطعان الجاموس العائمة والقوارب والأكلاك المحملة بالخضراوات وهي تنحدر ببطء لترسو بالقرب من قوارب الجسر العائم بينما يمضي الموصلي الوقت متجاهلا الفوضى المنبعثة من الجسر في الوقت الذي يترك فيه خرزات المسبحة لتتزحلق بين اصابع يده غير معني بالوقت الذي يمضي ويتسرب من مجرى الحياة فهو لايسمع اصوات الخراب وهي تردد اغنية الأنتصار من تلال نينوى).. ه
شهد عام 1918 [7 تشرين الثاني] إحتلال الموصل من قبل القوات البريطانية وانسحاب القوات التركية الى ماوراء الحدود العراقية..غير ان سفين هدين يتحدث قبيل ألإحتلال البريطاني للموصل اي في شهر حزيران..وهو بحكم موالاته للألمان كان يأمل ان يعقد الأنتصار للقوات العثمانية المتحالفة مع ألمانيا حيث كانت المعارك تمضي سجالا في مد وجزر بين الطرفين المتحاربين وكانت القوات العثمانية الألمانية المشتركة قد احرزت انتصارات ملحوظة في كاليبولي وكوت العمارة قبيل احتلال بغداد ..مما يدعونا الى تفسير قوله في آخر النص السابق على انه أنتصارا [افتراضيا] أو [توقعا منه لمثل هذا الإنتصار].. لألمانيا والعثمانيين على بريطانيا وحلفائها مما يلحق اضرارا كبيرة بعدد من تجار الموصل الذين كانوا يعتمدون على بريطانيا في جوانب عديدة من مشترياتهم واهمها الأقمشة..أما وصفه لطبيعة الموصليين في أثناء الحرب فأرجح أنه يخص فئة التجار ممن شاهدهم في المقهى المطلة على دجلة لأن الموصل وحتى قبل بدايات الحرب كانت تخضع للتجنيد القسري في الجيوش العثمانية..وهو ما أكده الرحالة على عهد إينجة بيرقدار محمد باشا...وكانت الموصل في فترة تعبئة تعرف تاريخيا بالسفر برلك مما يؤكد ان العديد من شرائح المجتمع الموصلي وبخاصة الفقراء كانوا يعيشون ظروفا مؤلمة من جراء فقدهم اولادهم في غربة وضنك ربما يتمخضان عن فقدهم في الأسرأوالضياع او الشهادة في حرب لاناقة لهم فيها ولاجمل..ولكن حاجز اللغة ووجود مرافق حكومي حالا دون توصل سفين هدين الى الطبقات الفقيرة والتعرف على أوضاعها...ووصفه لعينة من التجار وصف دقيق وواقعي، فنحن بحكم كوننا موصليين لدينا مايكفي من التجارب التي تؤكد مصداقية سفين هدين ودقته في هذا الوصف النادر الفريد... ه
ثم يواصل سفين هدين جولته حتى يصل الأمام عون الدين فيقول عنه: ه
(والإمام عون الدين بن الحسن مكان يستحق المشاهدة واول ماتلتقيه العين فيه مدخلا صروحيا مستطيلا من الرخام تزينه النقوش الشجرية وتعلوه قطعة مستطيلة ايضا من المرمر في اعلاها زخارف مؤلفة من كلمات عربية وفي اسفلها قطعة رخامية أخرى محفورة بنقوش شجرية تمتد حتى جانبي المدخل...الذي سرعان ماتتجاوزه لتجد نفسك في قاعة مربعة تستند عقودها على أعمدة مضلعة وتتوسط القاعة من الداخل قبة مزخرفة بالنقوش الناتئة...وإلى يسار المدخل ترى مدخلا رخاميا غاية في الجمال تعلوه افاريز مثمنة الأضلاع منقوشة بالكتابات العربية..هناك ترى نساء محجبات يجلسن في ورع ويصلين من اجل الأطفال والسعادة وربما ايضا من اجل الخبز (الرزق)...وعلى خلاف اهل بغداد، يبدي اهل الموصل تسامحا كبيرا تجاه الأجانب...فهنالك على سبيل المثال أسرة هنريك الأيطالي الذي تزوج من أمرأة المانية واسهم الى عمارة المدينة فبنى ىبيت ضيافة كبير ومسجد تتوسطه قبة واسعة يقع في نهاية الشارع الجديد بين ثكنات المشاة والخان (الفندق) ومبنى السراي حيث تقيم السلطة المدنية رسميا...وكان هنريك رجلا لطيفا مضيافا فقد اعتاد على ان يقدم لنا افضل المشروبات في حرالصيف كلما زرناه وهو عصير الليمون المثلج.. ه
والسير من هذا المكان الرحب الكبير باتجاه الجنوب صوب القنصلية الألمانية (في باب البيض] كما يروق للشخص ان يفعل في مثل هذه المنطقة تخترمه المشاهد الجذابة فتجد الى يسارك مزرعة مسيجة تقيم فيها 12 امرأة انكليزية قيل لي انهن زوجات ضباط انكليز وأنهن كن يقمن في بغداد عند نشوب الحرب وإنهن جئن الى الموصل بسبب انتهاء المدة المحددة لبقائهن في بغداد، وأنهن في الموصل لسبب آخر..ولكني لم ار في حياتي نساء إنكليزيات يتجولن في شمس المغيب خارج مناطق محمية لهذا لا أماري بما يقال عنهن بأن 3 منهن فقط يتحدرن من اصول انكليزية وسبع منهن من دماء مختلطة..وقد سمعت ان هناك اشاعة حول نقلهن الى مكان ما في آسيا الصغرى [تركيا] ولكنهن يفضلن فيما يبدو البقاء في الموصل حيث يتمتعن بحرية أكبرولكن اذا ترتب عليهن الذهاب [الى تركيا] فالأرجح انهن سيعللن انفسهن بأن آسيا الصغرى تعني الطريق الى القسطنطينية فأوربا..غير أن الوقت متأخر للترحيل الى آسيا الصغرى..ويبدو لي أنهن يرين بالخضوع لقدرهن متعة خاصة[ اي مستسلمات لقدرهن راضيات به])... ه
ونطالع في كتاب سفين هدين [بغداد وبابل ونينوى] الذي يفصل فيه رحلته الى العراق رسما يمثل جامع الإمام عون الدين الذي يقع في محلة الأمام عون الدين المتاخمة لباب لكش وكانت تسمى محلة الطالبيين لأن أغلب سكانها كانوا من السادة الطالبيين ويرجع تأريخ بناء المرقد أول مرة سنة 620هـ-1222م أيام بدر الدين لؤلؤ، والمرقد هو للسيد عمر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وهوغيرمرقد الأمام عون في ضواحي مدينة كربلاء..وقد اقيمت مقبرة عند المرقد الموصلي ضمت عددا من نقباء الموصل وأعيانها كالطالبيين والجليليين والعمرية فضلا عن متصوفة..وتجدر الإشارة الى أن سفين هدين لم يشاهد المرقد الذي يحاكي في زخرفته ارقى الزخارف الإسلامية في الأندلس ودمشق وبغداد ..وكان ماشاهده هو المدخل الخارجي و باب المقبرة الجعفرية حيث الأفريز الرخامي الذي يحيط به ..اما الكتابة العربية فهي آية الكرسي المحفورة في رخامه ثم يتلو هذا الأفريز افريز آخر يتلوه ركنا الباب اللذان تعلوهما قمة متكونة من خمس قطع من المرمر مسننة ومتداخلة [معشقة] أحدها بالأخرى وقد تدلى تحت هذه القطع قنديلان من المرمر عليهما نقوش مشجرة..اما السبب فنرجح فيه رواية نوردها بنصها: ه
(انه قبل اكثر من قرنيين هجرت المنطقة بأمر من والي الموصل على اثر معارك حدثت بين ابناء العلويين والعمريين، وقد تعرض المرقد لمأساة حينما داهمته المياه الجوفية فبدلاً مما تعالج المياه بالسحب، جيء، في فعل لا يخلو من القصد السيئ، بمئات الاطنان من التراب لتغمر المرقد الامر الذي ادى الى تغير معالمه وخاصة الضريح الذي ما يزال قائماً يطاول الزمن تحت انقاض الدفن والذي يقع في الزاوية الشمالية من المرقد وقد كان هذا الفعل موضع استهجان من علم به ونتيجة التحقيق عن اسم صاحب المرقد فقد ثبت مرقد [السيد عمر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين شهيد كربلاء بن الإمام علي بن أبي طالب، عليهم السلام] وقد ذكره الحموي عند وصفه لبلد وبها مشهد عمر بن علي المذكور. اما ما يتعلق بالبناء وشكله فهو اية في طريقة زخرفته ولا نبالغ اذا قلنا انه من العجائب الزخرفية فالقبة ونقوش المرمر وصندوق الابنوس كلها من العجائب تحكي بصدق عن امكانية المعمار الموصلي وتبلغ مساحة القبر خمسة عشر متراً مربعاً وعرض جداره متران وينزل اليه اكثر من اربعة امتار اما قبته فترتفع اكثر من ثلاثين متراً ويدخل الى المرقد عبر بابين من الخشب الصاج وقد زينتا بروائع الخط وتنتصب النقوش المحفورة في المرمر التي تزين الجدران لتضفي عن المرقد ابهة. وللمرقد كرامات كثيرة يرويها الناس لاسيما المجاورون، ولكي يبلغ المرء الضريح عليه ان ينزل درجات تفضي الى غرفة مساحتها [24×27 قدماً] يتوسطها القبر وتعلوها قبة ذات ستة عشر ضلعاً مخروطية الشكل مشيدة بالاجر والجص ويبلغ ارتفاعها ما يربو على [20 متر] ولهذا المرقد باب من الرخام يبلغ ارتفاعه [3.5 امتار] وعرضه [2.10 متراً] وهو مكون من قطعة مستطيلة من المرمر مرتكزة فوق الباب مكتوب عليها: [أمر بعمله تقربا الى الله تعالى الملك الرحيم بدر الدين أبو الفضائل عز الدين] ويأتي بعد هذه القطعة اطار من المرمر ايضاً عليه نقوش مشجرة بشكل الواح مزخرفة تكون سلسلة محيطة بجوانب باب المرقد. اما قمة الباب فمكونة من قطعتين متداخلتين ببعضهما والباب الخشبي مكسو من الخارج بغلاف من النحاس الاصفر ذي نقوش متقاطعة بديعة وداخل المرقد قاعة مربعة محاطة بالواح من الرخام تحتوي على كتابات بالخط النسخي محفورة ومطعمة بالمرمر الابيض، والقبة من الداخل مزخرفة بالنقوش الناشئة على شكل نجوم متحدة المركز مثمنة الاضلاع مجسمة ومشيدة بالقاشاني الملون لاتزال محافظة على الوانها الزاهية).... ه
كما لاأدري سبب إستغراق سفين هدين في حديثه عن الفتيات الأنكليزيات...ولكن الأرجح انه يريد ان يلمح الى انهن في الموصل بعد بغداد لأغراض تتعلق بالجيش البريطاني او ببريده الزاجل..وإنهن بعد انتفاء الحاجة اليهن سيرحلن الى تركيا..وهدين يعلم ان تركيا ليست المكان المناسب لهن في وقت انهزم فيه الأنكليز في كاليبولي واحتمال كون ازواجهن، ان كن متزوجات فعلا ، قد اسروا او قتلوا في معارك العراق.. ه
وكان سفين هدين ضليعا بالتاريخ القديم مطلعا على التقدم الذي احرزه الأنكليز والفرنسيين في التنقيب عن آثار الشرق الأدنى عامة والعراق بوجه خاص وكان قد استظهر في صحراء كوبي في الصين مدينة لولان الغائرة في الرمال وزار قرقميش المصحفة عن كلكامش [جرابلس] التي جمعت لورنس العرب بليونارد وولي مكتشف المقبرة الملكية في اور..وزار بابل وبغداد وقلعة الشرقاط [آشور] قبل مجيئه الى الموصل ولابد أن تكون نينوى التي وضعها في عنوانه لكتاب رحلته الى العراق إحدى أكثر العواصم التاريخية أهمية في سيرته ...ويبدو أن نينوى نقلت سحرها وعظمة تاريخها لكل من زار العراق ..وكانت زيارة سفين هدين لها بعد ان تم استكشافها وذاع صيتها في العالم.. إذ يخبرنا في هذا الصدد: ه
(كان البروفسور تافل قد وصل من بغداد فقررنا ان نذهب سوية الى [أطلال] نينوى فأجرنا مركبة مشدودة الى بعضها بالحبال ولكن دواليبها عتيقة تكاد تنخلع منها وهي تمربنا فوق حجارة الجسر في طريقنا الى الجانب الأيسر من دجلة..وبوصولنا نهاية الجسر استدارت العربة الى اليسار ثم الى اليمين مودعة ايانا الى مايشبه القوس في بداية طريق يؤدي الى جامع النبي يونس..ويفضل الناس الصعود الى قمة التل حيث الجامع على الأرجل.. وجاءت زيارتنا في وقت أداء صلاة الجمعة في 16 حزيران [1918]..فاستقبلنا بلطف وحفاوة واخذنا الى المسجد وارتقينا بوابة تقود الى المصلى..ويوجد الى جانب المدخل المؤدي الى المصلى كشك صغير او غرفة صغيرة اشبه ببرج طيور تحيط بها النوافذ من جوانبها وتتوسطها مروحة ترسل هواءا باردا حيثما دارت..ويبدو منظر الموصل من اعلى الجامع في هذا المكان بهيجا ورائعا ولايعترض عليك احد إن انت جلست وانتظرت في هذا المكان لحين انتهاء صلاة الجمعة وخطبتها..وكان في صحبتنا رجل صغير الحجم أبيض اللحية يرتدي عوينات ومعه جماعة من المسلمين.. ه
وعند انتهاء الصلاة بدأ المسلمون الأتقياء بمغادرة الجامع ..وكان الواعظ يدعو الله لحفظ السلطان والقيصر وليم والأمبراطورفرانس جوزيف امبراطور النمسا...ودعى بالنصر على الأعداء بعد ان كان يدعو لنصرة عملاء الأنكليز الذين يرجح انهم يركنون في اعماق روحه حيث تكمن مشاعر الموالاة لبريطانيا...ثم خلعنا أحذيتنا ودخلنا غرفة الضريح وهي في غاية البساطة إذ تخلو من الزخارف وكانت البسط المفروشة على الأرضية قديمة قد اكل الدهر عليها وشرب..ورأينا بالقرب من الضريح عددا من الهنود المسلمين يؤدون الصلا في مكان منخفض بالقرب من الضريح بما يشبه الكهف المعتم الي يتوسطه مستطيل اشبه بتابوت كبير هو الضريح الذي يعتقد انه يضم رفات النبي يونس في هذا الجامع الي يحمل اسمه..وهناك منارة منحنية في الموصل تذكر حكاية شعبية في الموصل انها انحنت احتراما للنبي يونس عندما القاه الحوت على جانب القرية التي تحمل اسمه وأن منائرجوامع الموصل كلها سجدت احتراما بوجل وخوف ثم نهضت من سجدتها الا منارة واحدة مابرحت ساجدة تقديسا للنبي يونس).. ه
لايمكن باي حال التاكد من صدقية رواية سفين هدين حول دعاء الواعظ لحفظ القيصر وليم والأمبراطور فرانس جوزيف..لطبيعة اسلوبه الأدبي وميله الى التهكم والمزاح أحيانا..كما لا نعلم كيف تكهن بمشاعر الواعظ إن كانت موالية لبريطانيا أم لسواها من مجرد زيارة للمرقد أوكيف تيسرله فهم الخطبة باللغة العربية اللهم الا اذا كان يفسر ولاء الواعظ للسلطان باعتباره ولاءا لحلفاء تركيا من دول المركز..وبقدر تعلق الأمر بمنارة الحدباء نلاحظ تعدد الروايات الشعبية بخصوص انحناءتها فمنها مايذهب الى ان الخضر (ع) مر من تحتها فانحنت بل ذهب بعض الروايات الى القطع انها انحنت تحية للرسول (ص) وانه (ص) مر بها في اثناء عروجه الى السماء وهذا غير معقول لأن المنارة شيدت بعد وفاة النبي (ص) بقرون ومنها ان الإمام علي(ع) جاء لزيارة حفيده علي الأصغر في الموصل فانحنت احتراما له، ويستدلون باسم منطقة (دوسة علي) المجاورة للمنارة، وينطبق على هذه الرواية الحكم نفسه كالذي على قبلها.. ..وهناك رواية تذهب الى ان النبي جرجيس [الخضر] (ع) ظهر بصحبة النبي الياس (ع) لقتال الفرس بتأييد من مريم (ع) التي كانت تجلت فوق سور الموصل ممسكة بقبضة من التراب نثرتها باتجاه جند نادر شاه المتعسكر على الجانب الأيسر لدجلة بينما كان الخضر(ع) ومعه ألياس (ع) مدججان بالسلاح يقاتلان الفرس ..وان منارة الحدباء أنحنت احتراما لمريم بنت عمران (ع)..غير أن الأرجح أسباب تتعلق بالمياه الجوفية وطبيعة التربة التي شيدت عليها فضلا عن تاثير الريح الغربية التي درجت على الهبوب على الموصل..غير أن سفين هدين يميل الى توثيق الروايات الشعبية كجزء من اهتماماته بتاريخ الأمم وتراثها الحضاري والأثني والأنثروبولوجي والمعماري..ويقينا فليس هناك تخوم تعرف لأهتمامات سفين هدين بتفاصيل المكان الذي يزوره سواء بالكلمات او بالتصوير الفوتوغرافي اوبالرسم ان نفذت امكانية التصوير الفوتوغرافي سعيا الى تكوين صورة شمولية تتضمن ملاحظات من سلفه من الرحالة والآثاريين والبلدانيين مزدانة بالألوان المحلية والإنطباعات الفريدة يقدمها بأسلوب أدبي مفعم بالشاعرية والحيوية والصدق..ويواصل سفين جولته في الجانب الأيسر من الموصل الحدباء فيقول: ه
(ثم واصلنا الجولة تحت الشمس المشرقة في التل وبين البيوت المنتشرة على نحو غير منتظم فوقه فراينا في فناء أحد البيوت عوائل أرمنية مهجرة بوضع بائس وقد اهلكها الجوع البادي على اجسامهم النحيلة ..فكان كل ما تمكنا من فعله لهم اننا اعطيناهم بعض النقود لشراء الخبز...ثم اتجهنا شمالا صوب نهر الخوصر الذي يجتازه جسر حجري حديث البناء مؤلف من عقود وقناطر وكان علينا بسبب الحجارة والفضلات المنتشرة فوقه ترك العربة جانبا ومواصلة السير على الأقدام.. وشاهدنا على جانب الخوصر قطيعا من الحمير يسرح حول بركة راكدة والى جانبهم اشخاصا منهم من يتخوض بمياه الضفة ومنهم من يغمر يديه او يرش وجهه بالماء ليتبرد من حر الشمس ومنهم من يسبح في النهر..والى جانب الخوصر يوجد احد تلال نينوى فارتقينا التل وتجولنا بين الحصى والأشواك والسحالي..ولكننا وجدنا معالم مايشبه اطلال عاصمة من عواصم الماضي وعثرنا على ىثار تنقيبات وأخاديد هنا وهناك..والمكان مهجور يسوده الصمت..وتنتشر فيه كسر الأواني الفخارية التي منها ماينقصه كسرة او اثنتين ليسترد شكله السابق..وشاهدنا اسس الأسوار التي كانت تحتضن يوما القصور الملكية والقلاع الشاهقة وقد غطتها القبور العديدة المنتشرة فوق التل..والأحرى ان لانجلس بين القبور بل نجلس على صخرة لنرسل اعيننا لتسرح عبر الحقول من ذلك السكون المطلق المقيم في هذا التل القبر الذي ينطوي على عظمة الماضي بأسره بينما ترى اليوم السحالي وهي تجري بين الحصى وكأنها تحاول ان تترك بأرجلها الناعمة أثرا على بريق صخور نينوى..أهذا مابقي حقا من عاصمة الاشوريين العظيمة! ولوهلة شعرنا بوطء حرار الشمس فعدنا الى دجلة لنجلس بعض الوقت في ظل الشرفة العليا المطلة على السوق في ذلك القاطع من المقهى الذي يرتاده البدوالى يمين رأس الجسر...وفي الطابق الأرضي من المقهى يجلس رجال يرتدون الطرابيش.. ويمضون وقتهم [نهارهم] الذي دفعوا لأمضائه عشر بارات بتمامها..ثم نزلنا الى الدكاكين حيث البالات الضخمة من المنسوجات والأقطان والى جانبها انواع الفاكهة المجففة التي تملأ السوق...وكانت الشمس ترسل اشعتها من جنوبي السوق موزعة اعمدة ضياءها بألوان جذابة تبدو كأنها أعمدة من الشيح مترامية بين كتل الظل العميقة)... ه
لابد من الإشارة الى أن علامة التعجب في النص اعلاه ليست لسفين نفسه بل جاءت بحكم العلاقات الدلالية للسياق..وتجربة سفين يتقابل فيها الواقع بالتاريخ تقابلا ضديا صارخا..فالتل الذي نعرفه نحن ابناء الموصل شبرا شبرا تكثر فيه السحالي التي نسميها محليا ب (حية سليمانية) وهي سحالي تكثرفي الخرائب والوشائع والمناطق المهجورة الشائكة والقبور..مما دعى سفين هدين الى تسمية تلقوينجق بالتل القبر..وهي عبارة توحي بالحياة الهائلة المدفونة تحته ..وهو كمؤرخ وعالم آثار، يعرف معنى التاريخ في مراحله العظيمة واممه الجبارة ..يتساءل غير مصدق لمايرى: (أهذا مابقي حقا من عاصمة الآشوريين العظيمة!) ونتوقف على تشبيهه الجميل لأعمدة الضياء الساقطة من فتحات السوق المسقف القريب من باب الجسر والمقابل لسوق سباهي المعروف بسباهي بزار بالشيح الي يكثر في دول البلطيق وتعرفه السويد حتى انها خصصت متحفا للشيح في مدينة هولفيكن على الحدود مع الدنمارك ..وكان الشيح احد اهم مفردات التجارة بين الدول الأسكندنافية ودول البلطيق واالحضارات الآسيوية عبر التاريخ فلا غرابة ان يفرض هذا التشبيه الموفق نفسه على مخيلة سفين هدين الخصبة وهو في مكان في الموصل لايخلو من الشيح في محلات الصاغة وفي المسابح الكثيرة في ايدي الجالسين في المقاهي الموصلية التي يرتادها وقد لفتت صورة شلالات الضوء الساقطة في اسواق الموصل القديمة المسقفة انتباه الفنان مراد الداغستاني فخلدها في صور فوتوغرافية جميلة تحاكي صورا سابقة التقطها سفين هدين بعدسته في عصر فجر التصوير الضوئي..ثم يواصل سفين هدين وصفه للأماكن التي زارها في الموصل فيقول: ه
(وبعد زيارة قصيرة لمكان رسو الأكلاك على دجلة ، عرجنا على البطريركية الكلدانية حيث استقبلنا رجل وقور ابيض اللحية كثها بعينين مودتين ملتمعتين وراء نضارة مدورة العدستين يرتدي ثوبا بنفسجيا مشدودا بحزام، ويرتدي صليبا يتدلى من قلادة حول رقبته..وكان بصحبتي الدوق أدولف فردريك وشولفينج وكويبان وستاودينجر والقنصل الألماني في الموصل والتر هولشتاين الذي كان قد حضر في الليلة الماضية احتفالا في الكنيسة بدعوة من البطريرك وتضمن الإحتفال العديد من الكهنة والرهبان..ثم صعدنا الى سطح البناية المؤلفة من ثلاثة طوابق لنشاهد بإعجاب الموصل وهي نائمة في ضوء القمر..ومن هذا المكان سيكون لي فرصة لتصوير المدينة في ضوء الشمس غدا..وكانت هذه البطريركية قد رممت عام 1810 ثم اعيد ترميمها وتجديدها عام 1896 وهي الأقدم في الموصل ..وكان فون مولتكة المارشال الألماني مؤسس المانيا الحديثة مع بسمارك وصديق السلطان محمود الثاني قد اقام في هذه البطريركية خلال زيارته الموصل عدة اشهر عام 1837 واشترى من القساوسة فيها نسخة قديمة من الأنجيل مدونة بالسيريانية والعربية [وسنتطرق الى رحلته الى الموصل في دراسة مستقلة لاحقة]) ه
كان البطريرك الكلداني الذي زاره سفين وبصحبته الظباط الألمان والقنصل الألماني هو ماريوسف عمانويل الثاني توما..وكان القنصل الألماني والتر هولشتاين قد وثق المذابح التي راح ضحيتها الأرمن والنصارى على يد الأكراد والأتراك في أثناء تسفيرهم من موطنهم التاريخي في تركيا الى الأراضي العربية ..وكتب بذلك تقاريرا ورد في أحدها ألآتي:ه
ه (الرقم 60
الموصل 4 تشرين الثاني 1915
عاجل وبالغ الأهمية
(وصل خليل بيك هنا [الموصل] البارحة مع موظفيه.وهو نفسه مريض ويجب عليه ان يخلد الى الفراش لعدة أيام. وقد ابلغني أحد القادة من ظباطه انه يتوجب ذبح الأرمن في الموصل أيضا وأنه ينوي القيام بذلك. وأن أحدا لن يمنعه من المضي في ذلك حتى أنا. إن الألمان يتنكرون لصداقتهم للترك بمحاولتهم منعهم من قتل الأرمن. ه
إن من الضروري جدا إصدار أوامر فورية وقطعية لخليل بيك لمنع المزيد من المذابح في كل الأحوال.علما إن قوات خليل التي نفذت مذابح في الشمال يتوقع ان تصل هنا غدا او بعد غد..
هولشتاين...... ) ه
وتشكل تقارير والتر هولشتاين ومعها تقارير السفراء الألمان في مدن حلب والأسكندرونة ودياربكر ومدن أخرى فضلا عن مشاهدات سفين هدين نفسه خلال عام 1916 في الرقة مصدرا مهما لشهود عيان عن الجرائم التي ارتكبها الترك وأعوانهم وراح ضحيتها الأرمن العزل وبخاصة الأطفال والنساء منهم..وقد ورد في تقرير لألماني مقيم في حلب تضمن شهادات القنصل الألماني في الأسكندرونة والقنصل الألماني في الموصل الآتي: ه
(عندما عدت الى حلب في ايلول عام 1915 من اجازة ثلاثة اشهر امضيتها في بيروت سمعت بذعر ان صفحة جديدة من مذابح الأرمن قد بدات ,ان المذابح هذه المرة اكثر وحشية من تلك التي جرت مبكرا على عهد عبد الحميد وان الهدف منها إبادة الأرمن الأذكياء والمكافحين والتقدميين عن بكرة ابيهم وألإستيلاء على أراضيهم وتحويلها الى الأتراك...ووان حلب تكتظ بالناجين من قوافل المهجرين وهم يتضورون جوعا..وللتأكد من الأنباء قمت بزيارة الخانات المزرية لأرى أكواما من الجثث نصف المتفسخة وبينها أحياء على وشك لفظ انفاسهم الأخيرة..وفي اماكن اخرى رأيت مرضى ومتضورين منببوذين في العراء..والى جوار المدرسة التقنية الألمانية التي أعمل فيها مدرسا هناك اربعة خانات تحتضن 700 او 800 منفي ارمني معظهم يتضور جوعا او يحتضر..وكنا واطلبتنا نمر بهم كل يوم فنشاهد من خلال النوافذ احوالهم المثيرة للشفقة وقد هزلت ابدانهم التي تغطيها الأسمال المتهرئة..وفي الصباح يمر طلبة المدارس بالعربات التي تجرها الثيران وهي محملة بالجثث المتخشبة العارية بلا كفن او غطاء واطرافها تتدلى من العربات..وإني بعد مشاهدتي لهذه المشاهد عدة أيام أشعر أن من واجبي أن اكتب هذا التقرير:[ بصفتنا مدرسين في المدرسة التكنولولوجية ألألمانية في حلب نعرب عن رغبتنا بكل احترام واجب ان ندون التقرير الآتي: نشعر ان من واجبنا لفت الإنتباه الى ان عملنا التربوي سيفقد قاعدته الأخلاقية وأحترام الأهالي اذا لم تتمكن الحكومة الألمانية من وضع حد للمعاملة الوحشية التي يتعرض لها أطفال وزوجات ضحايا المذابح الأرمنية هنا.ومن المهجرين الذين تجاوز عددهم الآلاف في اراضيهم الأرمنية لم يصل سوى 200 او 300 منهم الى الجنوب [حلب] ..وقد ذبح الرجال في الطريق اما النساء والأطفال فبأسثتناء المسنات من النساء والقبيحات منهن ومن مازالت طفلة تعرضن للأغتصاب من قبل الجنود والضباط الأتراك..ثم نقلوا بعد اغتصابهن الى القرى التركية والكردية لأرغامهن على اعتناق الإسلام) ه
ويستمر هذا التقرير في وصف وحشية الأتراك وقسوتهم المفرطة ويتطرق الى ردود فعل الناس تجاه الأتراك واحتمال تواطوء الحكومة الألمانية مع الأتراك حلفائهم بالحرب الدائرة..وتشكل مذابح الأرمن والنصارى المتكررة في تركيا والعراق صفحة كالحة سوداء من صفحات التاريخ الإنساني ووصمة عار على جبين مرتكبيها على مر العصور..ويقينا فإن القنصل الألماني والألمان المقيمين في الموصل وحلب وكذلك الرحالة والعلماء من طراز سفين هدين قد اسهموا في توثيق تلك الجرائم والتخفيف من آثارها على الرغم من عدم قدرتهم على منعها..ومما يميز معاناة الأرمن استمرارالمجازر لسنوات الحرب كلها. ويخبرنا سفين هدين عن جانب من معاناتهم خلال مروره بالرقة: ه
(وقد اطلعت على بؤسهم (الأرمن) بجلاء عند وصولي لمدينة الرقة التي تقع في سفح سلسلة من الجبال تعلوها خمس قمم في 18 نيسان عام 1916.. على الشاطيء الأيسر [لنهر الفرات] رأيت العديد من النساء (السوريات) يغسلن الثياب بينما يتراشق الأطفال (السوريين) بالمياه ويملأ السقائين جعب الماء الجلدية المحمولة على حميرهم...فواصلت سيري مع القائمقام وفي اعقابنا جيش من الأطفال الفقراء والنساء كلهم أرمن وعندما وصلت محلا لبيع الخبز الذي وضع على شكل اقراص مدورة فوق المناضد لم اتردد لحظة بشراء الخبز المتوفر بالمحل كله ووزعته على المتضورين جوعا..فشعرت بسعادة وأنا أراهم يأكلون وتفكرت بحزن مؤلم بالالاف الخمسة من ألأرمن الذين يتطلعون الينا تحت القيظ الذي لايطاق في الضفة الأخرى)... ه
ومما يؤكد ان الترك كانوا عازمين على ابادة الأرمن وان غدرهم بهم كان مبيتا في كل مرة، استهدافهم الأطفال الأرمن حتى في أرحام امهاتهم، وبترهم لأيدي المئات من الأطفال بقسوة تتنزه عنها اشد الحيوانات ضراوة ووحشية..إذ يخبرنا القنصل الألماني في الموصل والتر هولشتاين في هذا الصدد: ه
(في طريقي من الموصل الى حلب رأيت في اماكن عديدة أيد مقطعة لأطفال ملقية على حافتي الطريق بغزارة تكفي لتعبيد الطريق كله بها..وفي قرية عربية في الطريق الى حلب رأيت قبورا ضحلة تغطي اتربتها جثث لأرمن دفنوا حديثا...وذكر عرب القرية انهم قتلوا هؤلاء الأرمن بأوامر من الحكومة وأكد أحدهم بتفاخر أنه قام بقتل ثمانية منهم بمفرده) ه
ثم يتناول سفين هدين في معرض وصفه لرحلته الى الموصل الخصائص الأنثروبولوجية لسكان الموصل وبخاصة الكلدان ويعزز دراسته بصور تخطيطية لعدد منهم.. وفي زيارته للموصل عدد كبير من الصور الفوتوغرافية للأماكن التي زارها في الموصل والعراق تمكنا من جمعها..وتعد زيارته للموصل إحدى أكثر الزيارات أهمية لأنها جاءت في فترة ضعيفة التوثيق بالغة الخطورة في معمعان الحرب العالمية الأولى بما وفر معلومات نادرة عن الحرب وأحوال الموصل في أثنائها فضلا عما تخلل الحرب من حوادث أهمها محاولة الأتحاديين الترك إبادة الأرمن والتي يشهد لها الدبلوماسيين الألمان وسفين هدين نفسه كما أسلفنا..ولأن سفين هدين يعد واحدا من أعظم الرحالة والمغامرين في التاريخ الإنساني وأغزرهم انتاجا وتنويعا في نشاطاته واهتماماته التي تغطي حقول المعرفة كافة فهوفضلا عن اهتمامه بعلوم الآثار والجغرافيا ورسم الخرائط رسام يسجل باللوحة التخطيطية والتصوير اللوني والفوتوغرافي مشاهداته، ومؤرخ واسع الإطلاع واديب له بصمته المتميزة في الأسلوب والمجاز والوصف..مما يعطي لهذه الدراسة مكانها في المكتبة العربية والسويدية معا..ه
وتجدر الإشارة الى أن كتابه المعنون (بغداد وبابل ونينوى) الذي اعتمدناه مصدرا رئيسيا لمعلوماتنا عن الموصل في هذه الدراسة والصادر في لايبزج عام 1918 مطبوع بالألمانية القديمة (الفراكتور) التي تتعذر قراءتها على غير المتخصصين، مما دعاني الى الإتصال بمدير المتحف الأنثروبولوجي في ستوكهولم السيد [هوكان ولكويست] الذي زودني مشكورا بترجمة سويدية للجزء الخاص بالموصل من هذا الكتاب فعالجت استحصال الصور من الطبعة الألمانية المتوفرة الكترونيا..وتعد دراستي هذه الأولى باللغة العربية لهذا الرحالة السويدي ورحلته نادرة المثال الى الموصل.. ه
ملاحظة عن الصور: ه
يتفرد سفين هدين بأهتمام هائل بالتوثيق لرحلاته بالصور الفوتوغرافية والتخطيطية والخرائط..وتزخر مؤلفاته بالصور وكتابه عن رحلته الى العراق الذي دخله بطريق دير الزور ليس استثناءا...إلا أن الصور التي اعيد اخراجها الكترونيا غالبا ماتعاني من مشكلات الوضوح لأن معظمها بالأسود والأبيض أخذت بتقنية قديمة، والتعقيبات عليها باللغة الألمانية القديمة وهي أشبه بالزخرفة تتداخل فيها الحروف ويتعذر تأويلها..غير أن معرفتي بالعراق [بعرضه وبطوله وبرافديه وباسقات نخيله] وماسبق ان ارشفته من صور يسرعلي معرفة الأماكن التي وثق لها سفين هدين بصوره الفوتوغرافية والتخطيطية الكثيرة..وهناك في الطبعة السويدية للكتاب صورنادرة أضافها المتحف الأنثروبولوجي في ستوكهولم تمثل الموصل وعددها ثلاث صور سوف اعيد تصويرها واخراجها الكترونيا ثم ارسالها في وقت لاحق استزادة للفائدة وحبا بالشمولية في ضم كل مايخص الموصل ضمن ارشيفي ونقله الى المهتمين من ابناء المدينة. وجاءت مجموعة الصور التي اخترتها مع هذا المقال الذي حرصت على ان يكون شاملا لتغطي الموصل تحديدا والطريق اليها من الشرقاط مرورا بالقيارة مع عدد من الصور لبغداد رايت ندرتها سببا لإرسالها ..وهي غيض من فيض...آملا ان اكون قد اكملت الموضوع وأرضيت القراء والمتابعين والله والوطن من وراء القصد.. ه
صلاح سليم علي .. كرستنساند..النرويج
عودة الى الصفحة الاولى
نشر في بيت الموصل في 13-6-2013
يشابه البحث التاريخي احيانا الأستكشاف الجغرافي الذي لايتحقق إلا في خوض تجربة التحرك في المكان واستكناه التجربة التاريخية لفرد أو أمة برمتها بطريق اقتفاء خطى ذلك الفرد وتلك الأمة في المكان..والتجربة الزمانية، على الرغم من أولويتها على التجربة المكانية، تتخذ إذن تجسيماتها كاملة او تكاد من خلال التجربة المكانية لأن الحركة توحد الفكر والجغرافيا او الزمان والمكان في إطار التجربة المعاشة سواء في حقيقتها التاريخية أم في امتثالاتها التخيلية..ويشبه الإكتشاف المعرفي الأستكشاف الجغرافي من حيث كون الظاهرة التي يصار الى أكتشافها أو استكشافها موجودة ..ولكنها تبقى حتى لحظة إكتشافها خارج طائلة الوعي الإنساني..وهنا لابد من التفريق بين العام والخاص من خلال هذه التجربة فالأستكشاف الجغرافي مهما تعددت دوافعه وأهدافه عام سرعان مايصبح كالأنترنت والهاتف النقال ملكا للبشرية جمعاء غير أن الأكتشاف المعرفي خاص وان انتقل الى الدائرة الإجتماعية يبقى محدودا بزمن معين او لغة معينة او مجتمع ما..ويصبح اكثر خصوصية اذا كان نتاجا معرفيا ادبيا او شعريا فيكون خاصا بحضارة بحدها ومجموعة لسانية معينة لابد من نقل معانيها بطريق الترجمة ..ونستثني من ذلك النتاج الفني كالتصوير والموسيقى والنحت والزخرفة والعمارة وغيرها مما يكسر الحدود القومية والحضارية واللسانية لأنه يقع خارج الكلام، و يخاطب العين والأذن مباشرة ولايحتاج في نقله لمترجم او ترجمان.. ه
وبحكم إتساع العالم وتعدد الشعوب والأمم وتنوع تجاربها الحضارية وتقاطع حدودها الحضارية واللسانية تتعدد التجارب الفردية وتتنوع..وتبدو مهمة الإحاطة بها شبه مستحيلة على الرغم من توفر الموسوعات المتنوعة والمؤلفات والوثائق وتيسر المعلومات بطريق الشبكة العنكبوتية ..مما يدعو البحاثة المتخصص او الهاوي، كما هو الحال معي، إلى تضييق مجال البحث ليشمل مرحلة معينة من مراحل التاريخ في مضمار صلتها بمحور ما، كأن يكون مدينة او حقل معرفي أو مرحلة تاريخية أو مدرسة فكرية ثم الإنتقال الى حلقة أخرى وهكذا دواليك ..وهو جهد سرعان مايكتشف البحاثة أنه أمضى ردحا ليس بقليل من الزمن في استقصائه والإلمام بأطرافه وقد امتدت وانتشرت وفقدت الوانا واكتسبت الوانا أخرى ..وذلكم ديدن العارف الموسوعي..الذي سرعان مايدرك انه في قلب ثقب أسود يساهم في ميلاد كون آخر على انقاض هلاك أكوان أخرى..وهذا عناء يدعوني إلى التمسك بأطراف أثواب فلاسفة أختصروا التجربة الإنسانية افتراضيا وتصوريا من امثال لايبنتس ولابلاس وكانت وهيجل، وربما توسعا،رينيه ديكارت و أدمند هسرل..وعلى اية حال يحمل الفرد كما قال ادونيس [شعريا] اسراره كما تحمل البراكين حممها في اعماقها ويموت ..كما تموت البراكين بعد ما تركت في رماد حريقها ارضا خصبة معطاء للزارعين والحاصدين والآكلين..غير أنه لايلبث ان ينبعث مجددا في عصر آخر وفي مكان آخر..بطريق ماتركته روحه من بصمات في صفحات الأبداع والمحاولة الأنسانية الكبرى في كشف اسرار العالم والسيطرة على الطبيعة.. ه
وتلكم إحدى نتائج تجربتي المعرفية في الكتابة عن الرحالة السويدي سفين أندرز هدين في رحلته الى العراق ووصفه الموصل بعد طوافه العالم مقتفيا خطى الأسكندر المقدوني وماركو بولو.. ولعل انجاز سفين هدين في ميدان الإستكشافات الجغرافية وادب الرحلة يتجاوز انجاز ماركو بولو..فقد حقق بمفرده مايندر ان يحققه اي رحالة آخر في عصره وفي العصور كلها بحيث لايمكن مقارنة منجزاته لفرادتها بأي منجزات أخرى من نوعها..فقد أمضى عشرين سنة في آسيا وحدها متنقلا بين أصقاع لم يرتادها أحد من قبله وانجز 65 كتابا واكثر من 55 تقريرا علميا ومئآت البحوث فضلا عن إلقائه المحاضرات في عواصم عالمية مختلفة خلال النصف الأول من القرن لعشرين. ومن الملوك والقادة الذين قابلهم وتلقى تكريما منهم الملك اوسكار الثاني عام 1890، وشاه ايران ناصرالدين شاه في السنة نفسها، وقيصر روسيا في 1896 و1909، وأجرى لقاءات عديدة بفرانس جوزيف الأول قيصر النمسا-المجر، والتقى عام 1902 باللورد كرزون الممثل البريطاني في الهند، والتقى بالقيصر البروسي ويلهلم الثاني خمس مرات بين عامي 1903 و1936، وبالممثل البريطاني الثاني على الهند اللورد مينتو، والتقى برئيس كهنة اللاما التبتي شوكي نييما 1907، 1914، و1933، وقابل امبراطور اليابان موتسوهيتو في 1908، واالبابا بيوس العاشر عام 1910، وتيودور روزفلت في السنة نفسها، ثم التقى بالسياسي والرئيس الألماني لاحقا فون هندنبرج عام 1915، وبالزعيم الصيني القومي شيانغ كي شيك عامي 1929 و1935 واخيرا بأدولف هتلرثلاث مرات في 1935 و1939 و 1940...وتتجاوز اهتمامات سفين هدين الجغرافيا وعلوم الأرض والطوبوغرافيا والأنثروبولوجيا والخرائط الى الأدب والسياسة والتاريخ والتصوير والرسم واللغات والدبلوماسية..وفيه مسك ختام الجهود التي بذلها الغرب لأستكشاف الأرض منذ ماركو بولو..وبينما تتخلل روايات ماركو بولو الخرافات ويشوبها الخيال، تتصف روايات سفين هدين بالواقعية والعلمية والموضوعية..بل ومنها ماقدم فيه تأويلات علمية لظواهر طبيعية غامضة لم تفسر من قبله كتفسيره لظاهرة البحيرة المتجولة (لوب نور) التي تغير مكانها في حوض نهر تاريم في الجزء الصيني من طريق الحرير ووضح تلك الظاهرة في كتاب عنونه (البحيرة المتجولة)، كما استظهر مدينة لولان الغائبة تحت رمال صحراء لوب والتي كانت محطة التجار عبر طريق الحرير..كما اكتشف الجبل المقدس كايلاش في هملايا التبت وهو مصدر انهار الهند ك انجا وبراهامابوترا وسوتلج والإندوس ومقر الإله شيفا وطريق بوذا الى النرفانا..وهو جبل تحيطه الأساطير اشبه بهرم مربع الأضلاع تغطيه الثلوج طيلة أيام السنة تقع في سفحه اعلى بحيرة في العالم. وتكريما لجهوده العلمية الفذة أطلق اسمه على نهر جليد في كندا وعلى أحدى فوهات القمر وعلى نوع من النباتات الزهرية ونوعين من خنفساء الرمال وعلى نوع من الفراشات وعلى نوع من السحالي الصحراوية و نوع من المتحجرات فضلا عن إطلاقه على عدد من الشوارع في الكثير من البلدان واقيمت له نصب وتماثيل في السويد وغيرها..هذا فضلا عن معرض دائم لكتاباته ومعداته ورسومه في المتحف الأثنوغرافي في ستوكهولم..وقد زار كاتب المقال المتحف وصور عددا من الكتب والمقالات والصور ذات الصلة برحلة سفين هدين الى الموصل و قد دونت العبارة الآتية على نصب كرس لتخليد منجزاته: (موطنه السويد أماعالمة فمفازات آسيا ومجاهيلها). ه
ثقافته ورحلاته: ه
ولد سفين أندرز هدين في ستوكهولم في 19 شباط عام 1865 مما يضعه ضمن مواليد برج الحوت الذي انعكس في شخصيته الأريحية المحبة للحرية وميله الى الأدب والمغامرة..والمطاولة منقطعة النظير..في اسرة محافظة تنتسب في احدى تفرعاتها لنبلاء السويد وكان والده لودويج هدين المهندس المعماري الأول للعاصمة السويدية ستوكهولم..وجده الأول لأبيه طبيبا خاصا للملك كوستاف الثالث..وكان سفين هدين في الخامسة عشرة من عمره عندما خرجت ستوكهولم للترحيب بعودة المستكشف السويدي ورائد علم الخرائط أدولف إريك نوردنشالد (1832-1901) لمنطقة القطب الشمالي من رحلة عبر الممر الشمالي الشرقي للأطلسي وهي المناسبة التي ولدت في روحه حب المغامرة والأستكشاف الجغرافي. ه
وبعد إنهاء دراسته التحضيرية، شرع بأولى رحلاته عام 1885-1886 في روسيا وعبر القفقاس الى باكو ومنها إلى بلاد فارس وتركيا العثمانية والعراق ووثق لرحلته الأولى في كتاب صدر عام 1887 عنوانه عبر بلاد فارس ومابين النهرين والقفقاس قدم له المستشرق الهنغاري أرمينيوس فامبري المعروف بأسم (رشيد أفندي) أستاذ أيجناس كولديزيهر ومساعد مهندس الأصلاحات التركي محمد فؤاد باشا ودليل السلطان عبد العزيز في رحلته الى مصر..وفي باكو عكف على تعلم اللغات الشرقية الروسية والفارسية والأيغورية اضافة الى مخزونه من اللغات الأوربية كالروسية والألمانية والإنكليزية..فضلا عن ممارسته فن الرسم والتصوير البانورامي والطوبوغرافي استعدادا لسيرة طويلة تنتظره من الرحلات في قلب آسيا. ه
وعند عودته الى أوربا شرع في دراسة اكاديمية لعلم الأحفوريات والجغرافية وعلوم الأرض واصدر كتابا ثانيا حول رحلات المكتشف الروسي لآسيا نيقولاي زيفاسكي (1839- 1888) الذي قدم له نوردنشالد..ودرس في جامعة برلين بأشراف الجغرافي الألماني فرديناند فون ريختهوفن الذي كان أول من أطلق تسمية [طريق الحرير] على الطريق التجاري الشهيرعبر آسيا والشرق الأدنى..وفي عامي 1890- 1891 أختير لعضوية البعثة الدبلوماسية السويدية الى بلاد فارس ثم اصبح بعدئذ رحالة مستقلا في روسيا الآسيوية حيث امضى الشتاء في جبال قاشغر ثم قاشغر نفسها وهي عاصمة تركستان الشرقية التي غير الصينيون اسمها الى شينغيانغ بعد احتلالهم لها عام 1949..وتمخضت رحلته تلك عن كتابين اولهما (سفارة الملك أوسكار)، وثانيهما (عبر خراسان وتركستان) الذي صدر بمجلدين..وقد مكنته هذه الرحلة من توسيع معرفته ببلاد فارس وبخاصة جبل داماوند الذي درسه بالتفصيل ..وعند عودته إلى برلين واصل دراسته لعلوم الأرض التي اختتمها بكتابة أطروحته لنيل الدكتوراه في الجغرافيا عن جبل داماوند في بلاد فارس قدمها لجامعة هالة عام 1892..وقد تعرض لعدوى افقدته البصر في إحدى عينيه ..مع ذلك لم تعرقله تلك الإصابة من مواصلة رحلاته.. ه
وفي عام 1893، شرع سفين هدين برحلة ثالثة كبرى هذه المرة عبر آسيا الوسطى بتمويل من الملك اوسكار أخذته من روسيا إلى سلسلة جبال بامير او (سقف العالم) حيث تلتقي عند همالايا سلاسل الجبال الآسيوية وهي المنجم الذي كان الآشوريون يتزودن منه باللازورد (اللابيزلازولي)..فرسم طوبوغرافيا بامير ثم انتقل الى حوض نهر تاريم واستكشف المفازات المجهولة في الصحراء المحيطة بالنهر بحثا عن المدينة الأسطورية لولان بهدف التعرف على طبيعة التغيرات الجيولوجية التي ادت الى اختفائها تحت رمال الصحراء ومن تاريم انتقل الى مارال باشي (رأس الغزال) وتوموشوق عام 1895 ، ثم انتقل الى مواقع مملكة خوطان القديمة على الأطراف الجنوبية لصحراء تكلمكان المأخوة من عبارة عربية معناها (أرض التهلكة أو الهلاك) والتي كاد سفين هدين ان يهلك فيها كما يخبرنا في وصفه لهذه التجربة الفريدة من نوعها: ه
(في تلك الليلة سرنا لساعات حتى بدأت شمس الرابع من ايار بالسخونة، عندما جثونا عراة على الرمال..وفي الليل واصلنا تقدمنا ولكن على ايدينا وارجلنا معا وبعد كل عشر ياردات نتوقف لنسترد انفاسنا ونعاود الزحف..أردت البقاء على قيد الحياة..وشعرت ان حياتي يجب ألا يرمى بها [تنتهي] على هذا النحو..فوجددنا شجيرات حور ثلاث على بقعة ترابية خالية من الرمال..حاولنا ان نحفر على أمل ان نجد تحتها ماء ولكن الوهن كان أخذ منا وكانت الأرض شديدة الصلابة فلم نحفر أكثر من ستة انجات..ثم ارتمينا على وجوهنا وبدأنا بتغوير التراب باصابعنا وكانها كلاليب يائسة..ولكن لم نقدر ان نحفر عميقا..فتخلينا عن امل ايجاد ماء في هذا المكان واشعلنا النار على أمل ان يراها إسلامباي الذي بقي مع الجمال ويلحق بنا..وهذا ماحدث فعلا ولكني عرفت ذلك فيما بعد..ودارت ليلة الخامس من أيار فنهضنا وواصلنا السير شرقا..كانت خيبة الأمل قد استحوذت علينا تماما.لأن الحور كان قد أعطانا أملا بعد ان تجاوزنا حزاما واسعا من الرمال الماحلة الجرداء..وأخيرا شاهدنا خطا اسودا في الأفق ..فعرفنا انها لابد ان تكون غابة خوطان داريا، فوصلناها مع تزايد حرارة الشمس..وكانت الغابة غاية في العمق والكثافة..غابة سوداء من الأشجار المكتهلة. وشاهدنا آثار حيوانات برية فاستلقينا سحابة النهار كله عراة في ظلال الغابة التي لم نجد فيها اثرا للماء. وفي المساء إرتديت ثيابي وقلت لقاسم أن ينهض..فلم يقدر على الحركة..وراح في نوبة خبال فقد كان مستلقيا على ظهرة مادا ذراعيه على طولهما عاريا فاتحا فاه وبعينين مذهولتين يحدق في الفراغ..فواصلت السير متهالكا..الغابة كثيفة حالكة السواد وتبدو في الليل بلا اتجاه...ولم اكن قد أكلت شيئا خلال عشرة ايام او شربت شيئا خلال تسعة ايام [القصد أنه تقوت مايكفيه للبقاء على قيد الحياة فحسب] ..فجزت الغابة زحفا على اطرافي الأربعة..مترنحا اتشبث بالشجرة تلو الأخرى..وكنت استند على ذراع المعول لكي انهض لأستبيان الدرب حتى وصلت مكانا مفتوحا..هو مجرى نهر "خوطان داريا" الناضب وكأنني لم اقطع غابة بل هضبة ماحلة حل بها الدمار..لم اجد قطرة ماء واحدة ..وادركت ان الموسم هو الأسوء بالنسبة للماء..فالنهر ينضب في الربيع لأن الثلوج التي تغذيه لم تكن قد ذابت في الجبال بعد..لكن لابد من المطاولة ..أريد أن أعيش..سأجد الماء..كنت واهنا تماما لكنني زحفت على أطرافي الأربعة، وأخيرا عبرت مجرى النهر، فسمعت صوت بطة وفوضى تصدر عن تحريك ماء..فزحفت باتجاه الصوت، فرأيت بركة كبيرة من الماء الصافي النقي..فشكرت الله أولا وتحسست نبضي..أردت أن أرى تاثيرشرب الماء عليه..وكان بمعدل 48 نبضة..فشربت...شربت بخوف..وكان لدي علبة صغيرة كان بها شوكلاتة كنت قد رميتها لأني لم اكن اقدر أن ابتلع شيئا، بيد اني كنت واثقا طول الوقت باني سأجد الماء وبأني سأستخدم تلك العلبة القصديرية كأسا لشربه..فشربت وشربت وشربت..وكان شعورا غامرا بالبهجة..شعرت بان دمي يترقرق..وبدأ يجري في شراييني..وأن مساماتي تتفتح..وزادت نبضات قلبي لتصل 53 نبضة..فشعرت بالعنفوان والحياة مجددا..وبينما كنت مستلقيا عند البركة سمعت فوضى أشبه بصوت حيوان يتحرك..ففكرت انه لابد ان يكون نمرا..فهناك نمور في خوطان داريا..ولم أكن لأشعر بأي خوف..فالحياة التي رجعت الي لتوها لايمكن ان ينتزعها مني نمر..فانتظرته بحبور..أردت أن احدق في عينيه..إلا أنه لم يأت لعله يخشى أن يرى انسان..فتذكرت قاسم، فخلعت فردتا حذائي السويديان وملئتهما بالماء وعلقتهما في نهاية ذراع المعول الخشبي وعدت على آثار قدمي..فبمقدوري أن أمشي الآن..ولكن الظلام أخذ يطبق على الغابة عند وصولي لها فلم اقدر على رؤية آثار قدماي وبدأت اصيح: قاسم! قاسم! قاسم!..ولكني لم اسمع ردا..ففكرت انه ربما يكون قد مات..فأشعلت النار في الغابة - خوفا من النمور- نارا عظيمة فأنارت المكان على نحو رائع ذلك الظلام الغامض الذي يكتنف الغابة البدائية..وشعرت ببهجة عظيمة لرؤية تلك النار..وعند شروق الشمس بحثت عن قاسم ووجدته..فناديت عليه فرفع رأسه قليلا ..فصحت "ماء" فهز رأسه ..اريد أن اموت..فقربت الحذاء من وجهه فانسكب بعض الماء فاندفع مثل وحش ضار ورمى نفسه على آنيتي الماء مفرغا اياهما واحدة تلو الأخرى حتى آخر قطرة ثم استلقى ورفض الوقوف على الرغم من طلبي منه ان يصاحبني الى البركة ليستحم ..فحملته وعدت إلى البركة ..وفي البركة سبحت [اغتسلت] ثم اتجهت جنوبا مع مجرى
النهر.. ) ه
تلكم كانت معاناة سفين هدين في صحراء [التهلكة] تكلمكان التي وصفها تجار طريق الحرير بمتاهة الموت..وهي متاهة لم يتمكن من تجاوزها وقهرها في اوقات الجفاف سوى نزر قليل من الرحالة ، لما تتصف به رمالها من قدرة على التنقل وتشكيل الكثبان المرتفعة..بل من غمرها لحواضر وكنوزعديدة تكونت في الأزمنة الغابرة وغارت تحت الرمال...بيد ان سفين هدين واصل سيره..راجلا مرة وراكبا أخرى زاحفا طورا وراكضا أطوارا أخرى، فاكتشف المواقع الآركيولوجية لدندان اوليج (مدينة بيوت العاج) و (قرة دونغ) على طريق الحرير في عمق صحراء تكلمكان ثم درس ظاهرة انتقال بحيرة لوب نور من مكان إلى آخر وتغيرحجمها..وانتقل لأكتشاف الأطراف السفلى لنهر تاريم قبل ان يعبر صحراء كوبي ويصل بكين عام 1897 حتى انهى رحلته بوضع خارطة متكاملة للجزء الشمالي لهضبة التبت..ثم عاد الى السويد عبرسيبيريا فبطرسبورغ التي قابل فيها القيصر..ثم وصل ستوكهولم لينشر كتابين يصف في احدهما تفاصيل رحلته عنوانه (رحلة عبر آسيا) وضمن الثاني التقارير العلمية التي كتبها خلال الرحلة، وفي عام 1898 تلقى ميداليات عديدة اهمها ميدالية المؤسسين من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية وميدالية فيكا من الجمعية الجغرافية السويدية.. ه
و شرع سفين في عام 1899 في رحلة رابعة الى آسيا بدعم من الملك الروسي الذي زوده بدليل من القوزاق حيث تابع طوبوغرافيا نهر تاريم ودرس بحيرة لاب نور مجددا وزار اطلال مدينة لولان على طريق الحرير ثم استكشف التبت ووضع خرائط متنوعة لها..وحاول ان يزور عاصمة الدالي لاما (لاسا) او المدينة الممنوعة التي حدثنا عنها ماركو بولو، متنكرا.. غير ان رهبان الدالي لاما اكتشفوا امره ومنعوه من زيارتها وارفقوا معه حرسا قاده خارج التبت فعاد عبر لاداخ وكشمير الى كلكتا حيث قابل اللورد كورزون الذي لعب دورا فيما بعد في تكوين تركيا الكمالية ، ثم اتجه الى روسيا ومنها عاد الى السويد عام 1902 حيث منحه ملك السويد اوسكار لقب نبيل وكان آخر سويدي يمنح هذا اللقب..ونشر نتائج رحلته في كتاب بمجلدين عنونهما (آسيا: الف ميل عبر الصحراء) و النتائج العلمية لرحلة في وسط آسيا..واعقب هذا المجلد الضخم باطلس تضمن 84 خارطة نشر له في 1904-1907، ومنح على أثر ذلك ميدالية الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.. ه
ورجل من طراز سفين هدين لايعرف معنى للأستقرار..وفي قاموسه لانعثر على مفردة للراحة لم يلبث طويلا في ستوكهولم بل شرع في الرحلة الخامسة الى آسيا، الثالثة الكبرى، في سلسلة رحلاته (1906-1908)، واخذته عربته هذه المرة الى شرقي بلاد فارس لدراسة صحراء الملح العظمى المعروفة (بدشتي كافر) والتي نشرها بكتاب عنوانه ( دراسة في طرق شرقي آسيا) 1927، وعندما تهيأ للسفر الى التبت لأنجاز مهمته الرئيسة وهي أستكشاف المناطق الواقعة ماوراء جبال همالايا واجهته صعوبات كثيرة بسبب اعتراض حكومات بريطانيا والصين والتبت على رحلته مع ذلك تمكن من تجاوز الحواجز الجبلية ومسح المناطق الواقعة وراء جبال الهمالايا وكان قد استكشف في رحلة سابقة هضبة التبت في قسميها الشرقي [نين شينغ تانغ لا] والغربي الذي اطلق عليه اسم [كايليس] او [كايلاش] ومازال يعرف بهذا الأسم..فتمكن من استكشاف وتخطيط الجزء الأوسط والأصعب من مرتفعات التبت وبحيراتها فحدد درجات ارتفاع الممرات الرئيسة واظهر التكوينات الجيولوجية..وتوغل الى منابع أنهار الأندوس وسوتلج وبراهمابوترا ثم زار اكبر المدن في المنطقة (شيكاتسي) ووضع خرائط لروافد ألأنهار الرئيسة..وسجل هذه الرحلة بكتابين اولهما (الرحلة برا الى الهند) 1910، و(ماوراء جبال همالايا) 1909-1913، ووثق النتائج العلمية في كتاب اسماه (جنوبي التبت) 1916-1922. وعاد من التبت الى الهند عام 1908 ثم الى اليابان حيث التقى بالأمبراطور الياباني ثم اتجه شرقا على قطار سيبيريا وعندما عاد الى السويد، استقبل بحفاوة من قبل الملك السويدي ووجهاء السويد.. ه
وفي السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى انشغل سفين هدين بالشؤون السياسية ودعا الى اعادة التسلح كما اصدر افضل كتبه مبيعا في ذلك الوقت في جغرافيا العالم (من القطب الى القطب). وعمل خلال الفترة (1914-1915) مراسلا في الجبهات الشرقية والغربية فزار الجبهات الألمانية في بلجيكا وفرنسا والمانيا ولوكسمبورغ ووثق جولاته في الجبهات بكتاب عنونه (مع الجيوش الألمانية في الغرب) 1915 وكان سفين هدين شديد الولاء لألمانيا..وهو ولاء تأكد خلال الحرب العالمية الثانية فقد سافر الى برلين بصحبة شقيقته ..وكان الأجنبي الوحيد الذي القى كلمة في افتتاحية الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، كما التقى بأدولف هتلر مما تسبب في اتهامه بالنازية..إلا أن الوثائق تذهب الى القول بأنه كان قد وظف نفوذه لدى الألمان في محاولات إطلاق سراح سجناء اوربيين - نرويجيين ويهود - من المعتقلات النازية غير أن اليهود على الرغم من حسن نواياه لم يغفروا له حتى هذه اللحظة صداقته لهتلر وتأييده للحركة القومية ليس في المانيا وحدها بل في العالم باسره..ورأيي ان سفين هدين هيجلي في ميوله السياسية إذ تعود لهيجل فكرة فينومينولوجيا الروح وان الدولة القومية هي التعبير النهائي لروح الأمة..وكان موقفه هذا سببا في قيام جمعية الجغرافيين الملكية البريطانية في وقت لاحق بحذف اسمه من قائمة الشرف للجغرافيين المتميزين في العالم.. ه
وفي عام 1916 توجه في رحلة الى الشرق العربي زار فيها القدس وسوريا فالعراق الذي دخله بطريق حلب فالرقة فدير الزور فعانة فهيت حتى وصل بغداد فزار بابل وعاد الى بغداد ومنها الى الموصل التي أقام فيها لفترة، وتمخضت رحلته هذه عن كتابين هما (الى القدس) 1917، و( بغداد وبابل ونينوى) ---1917 - 1918 ايضا،وهذا الكتاب الأخير هو مصدرنا عن تفاصيل رحلته الى الموصل ووصفه لأحوالها في اثناء الحرب العالمية الأولى. وقد سافر سفين هدين الى الولايات المتحدة عام 1923 ومن نتائج زيارته كتابين هما (الأخدود الكبير) و (حياتي كمكتشف) 1925، فضلا عن اطلس خرائط ثم عاد عبر بكين فمنغوليا ثم موسكو ومنها الى ستوكهولم. ه
وقام سفين هدين برحلة سادسة الى الشرق هي رحلته الرابعة الكبرى الى آسيا خلال الفترة (1926-1935)، واصطحب معه هذه المرة فرقا علمية وجيولوجية وآثارية ومساحين ومن تخصصات أخرى من المانيا والسويد والدنمارك والصين. فأمضى وقتا في منغوليا وفي الطريق الى حوض نهر تاريم وقع في أسرالقوات المسلمة الثائرة بقيادة الجنرال ما شوا المعروفة بثورة الدنكان او ثورة شيانغ يانغ، ثم اطلق الثوار سراحه بعد التعرف عليه..وكان قد التقى رئيس الحكومة القومية الصينية شيانغ كاي شيك وكتب عنه كتابا لاحقا عنوانه (شيانغ كاي شيك: مارشال الصين) 1940.. كما ساعد الحكومة الصينية عام 1933 في استعادة السيطرة على مقاطعة [شيانغ يانغ] بوضعه لخارطة حدد فيها طريق الحرير القديم الذي استخدمه ماركو بولو لأستعماله لتسيير الآليات.. وقد عكف سفين هدين خلال هذه الرحلة على دراسة بحيرة [لاب نور] المتجولة التي كانت قد انتقلت الى موقعها السابق فشرح سبب الظاهرة ودون ذلك بكتاب عنوانه (البحيرة المتجولة) 1940 آنف الذكر.. وقدم بالمشاركة مع افراد البعثة عددا من التقارير العلمية تم طبعها ب 54 مجلدا ظهر آخرها عام 1980 اي بعد وفاته ب 28 سنة، كما نشر كتابين آخرين هما (تحليق الحصان الكبير) 1936،
و (طريق الحرير) 1936.. ه
وفي الفترة الممتدة بين عامي 1939 و1943 انهمك سفين هدين في انجاز عدد من المهمات الدبلوماسية الشخصية في المانيا أردفها بنشاط طباعي تمثل بنشر عدد من مؤلفاته باللغة الألمانية كما الف عددا من الكتب منها كتابا عنوانه (اميركا والصراع بين القارات) 1944 نحى باللائمة في نشوب الحرب العالمية الثانية على روزفلت..وألف بالأشتراك مع رولف بيرجمان كتابا عنوانه (تاريخ رحلات آسيا 1927-1935، 1943-1945)،..وامضى السنوات الآخيرة من عمره في تأليف ونشر عدد من المذكرات ككتابه (أسفار وذكريات في بلادي) 1944، و (اشارة جديدة) 1944، و(وجهاء وملوك) 1950،و (عمليات الدفاع) 1951..كما كتب عن كلابه التي رافقته في آسيا (كلابي في آسيا) 1952
وفي 29 تشرين الثاني عام 1952 توفي سفين هدين في ستوكهولم عن عمر يناهز ال 88 سنة واعقب وفاته تأسيس مؤسسة سفين هدين في الأكاديمية الملكية للعلوم ومتحف الأثنوغرافيا في ستوكهولم..وكان على منضدته تقويما دينيا صغيرا قد وضع فيه صورة لرحالة مجهول هو [ميل ليندستروم] كان قد كتب فيه شعرا: (رحلتنا الحالمة عبر البحار بلغت نهايتها الأمينة ..حيث يركن قبرك الوحيد صامتا ..ولا من احد يعرف اسمك)..وبموت سفين هدين الذي خلد اسمه بمنجزاته واشعاره ينتهي آخر عظماء الأستكشافات الجغرافية الكبرى في العالم.. ه
وكتب عن سفين هدين الكثير الغزير من المقالات والكتب، وترجمت كتبه ومذكراته وبحوثه الى معظم لغات العالم..ومنها مارافق العقد الأخير من حياته ككتاب مذكراته (في برلين بلا مهمة) الذي ترجمه الى الألمانية وعقب عليه جان بولمان..وكتب عديدة ظهرت بعد وفاته ككتاب (سفين هدين فنانا) بقلم مونتيل وفولكه هولمر 1964، و(أطلس آسيا الوسطى – مذكرات على الخرائط) بثلاثة مجلدات مع فهرست بأسماء الأماكن 1967- 1980، (عبر صحراء كوبي) ترجمة انكليزية بقلم إج. جي. كرانت 1968، و(اسطورة آسيوية) بقلم إريك فينرهولم 1980، و (الى الأرض المحرمة : أكتشافات ومغامرات في التبت) ويعتمد على روايات سفين هدين فيماوراء جبال همالايا، وغيرها كثير.. ه
هنا نكون قد تعرفنا على سفين أندرز هدين ومهاراته ومنجزاته وجوانب من معتقداته وميوله السياسية..بل ولمسنا فيه قدرة على المطاولة منقطعة النظير في قطعه لطريق ماركوبولو الممتد لأكثر من 10.000 ميل عبر آسيا واكتشافاته لأحواض الأنهار الآسيوية الكبرى ومرتفعات همالايا والتبت..على نحو اقرب للخيال بل هو في تجربته يقدم نموذجا بطوليا حرى بالقاريء العربي التعلم منه إيقاد روح المغامرة والبحث والأستقصاء التي ميزت أسلافه..والأغرب ان سفين هدين خاض غمار الصعاب كلها بعين واحدة فقد كان قد فقد البصر في احدى عينيه ولم يسترده إلا بعد عملية جراحية أجريت له خلال العقد الأخير من عمره..وهو بخبرته الواسعة تلك، يعد شخصية فريدة يكتسب وصفه للموصل أهمية خاصة ليس بما تضمنه من بلاغة وانتخاب ذكي للمجازات والتشبيهات فحسب بل بما ورد فيه من معلومات زينتها دقة في الوصف والرواية الموثقة بالصورالفوتوغرافية النادرة والرسوم التخطيطية. ه
رحلة سفين هدين الى الموصل: ه
من غير الممكن القطع بدوافع سفين هدين لزيارة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى وهو المعروف بميوله الإيجابية تجاه المانيا، غير ان تتبعنا لمسار الرحلة ومازامنها من حوادث من شانه القاء ضوء على دوافعه: فالعراق كان احدى جبهات المواجهة بين الحلفاء ودول المحور ..كما تشكل حواضر العراق بابل وبغداد ونينوى والموصل مراكز حضارية كبرى كون بغداد عاصمة الخلافة العباسية تقع على طريق الحرير القديم وتقع نينوى والموصل على الطريق الملكي الذي يلتقي بطريق الحرير في تركيا، وكان سفين في رحلاته الاسيوية معنيا بالدرجة الأولى بطريق الحرير واستكشاف اهم الأوابد المندثرة الواقعة على امتداده وجانبيه..ثم هناك الجانب العسكري للرحلة فقد عمل سفين مراسل حرب في الجبهات الغربية لصالح المانيا ولعل انتقاله الى العراق كان استمرارا لأهتمامه بتغطية انباء الحرب فضلا عن وجود قنصلية المانية في الموصل (1905-1918)..ووقوع الموصل في الحافة الجنوبية للقوة العثمانية..ولربما لرغبة شخصية لدى سفين في اقتفاء خطى ماركو بولو وهلموث فون مولتكه الأكبر رئيس أركان الجيش البروسي الذي زار الموصل عام 1837 ووصفها واقام في البطريركية الكلدانية التي زارها سفين هدين لاحقا..وكانت مؤشرات الحرب في الجبهات العراقية تشير الى تقدم الألمان ولاسيما بعد حصار الكوت من قبل الألمان..وهو حصار استسلمت اثره القوات البريطانية ومرتزقتها من السيخ والكورخة واقتيد الأسرى الى حلب بعد وفاة القائد الألماني البارون دير فون كولتز متاثرا بالتيفوئيد في بغداد في 16 نيسان اي قبيل وصول سفين هدين اليها أذ كان آنذاك في طريقه الى الرقة..وقد دفن البارون كولتز في بغداد غير أن الحكومة الأمانية أخرجت رفاته واعادت دفنه في ألمانيا فيما بعد... فهل كان من بين اهداف سفين هدين تغطية الحصار الألماني لكوت العمارة وتسبب تأخره بتغيير اهداف الرحلة؟ هذا مالانقدر ان نقطع فيه ويبقى الحكم فيه في مضمار التكهنات..إلا ان سفين هدين يشكل حضورا سياسيا مؤثرا على الصعيد الإعلامي على الأقل الى جانب المانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما يدعونا الى وضع زيارته للموصل خلال الحرب في مضمار تلك الحرب وتاييده المطلق للفكر القومي الألماني.. ه
وفي الموصل التي وصلها في عنفوان الصيف في باكورة حزيران عام 1916، كان اول شيء يقوم به زيارته القنصلية الألمانية في جنوبي المدينة ووصف بنايتها والعلم الألماني الذي يرفرف فوق سطوحها..وكانت القنصلية الألمانية قد أسست في الموصل عام 1905 في اعقاب الأتفاق بين اسطنبول وبرلين على انشاء خط سكك برلين- بغداد وربطه بخط الأناضول في سياق التنافس بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر والهند وتسيطر على قناة السويس وتحالفها مع روسيا قبيل الثورة البلشفية من جهة والأمبراطورية العثمانية التي ارادت استرجاع نفوذها في مصر بدعم الألمان من جهة اخرى..ولأن الخط الجديد الذي يعتقد انه احد اسباب اشتعال الحرب العالمية الأولى، يمر في الموصل من بين مدن اخرى وصولا الى البصرة، عمدت الحكومة الألمانية الى تأسيس قنصلية لها في الموصل مما يفسر اختيار موقع السفارة بالقرب من باب البيض في مكان قريب الى المنطقة المزمع مرور قطار بغداد - برلين بها..هذا بالأضافة إلى منح الحكومة العثمانية امتياز استثمار النفط في العراق..وتخطيط المانيا لبناء ميناء في البصرة يربط الخليج العربي بميناء الأسكندرونة مما يمهد للأستغناء عن قناة السويس..كل ذلك يفسر الوجود الألماني في العراق..إلا أن القنصلية الألمانية في الموصل ارتبطت بالأقدار السياسية ونتائج الحرب..ولذلك لم تعش طويلا بعد انتهاء الحرب لصالح الأنكليز..وكان هرز اندرا اول قنصل الماني عين في الموصل اعقبه والتر هولشتاين الذي وثق لمجازر المسيحيين والأرمن ورحب بسفين هدين في الموصل واستمر في منصبه قنصلا في الموصل منذ عام 1911 وحتى نيسان عام 1918.. وبالأضافة الى القنصلية الألمانية، اسس الألمان مدرسة المانية في الموصل عام 1909 وثكنة عسكرية فضلا عن قيام عدد من الألمان بالتنقيبات الآثارية في بابل كروبرت كولدوي في بابل وولتر أندريه في آشور..وكان الأخير قد انهى تنقيباته وغادر الشرقاط قبيل وصول سفين هدين اليها في طريقه الى الموصل..وكان العراق آنذاك مسرحا للمعارك بين بريطانيا والمانيا مع حليفتها تركيا مما يجعل وصف سفين هدين لسجن البريطانيين ومرتزقتهم السيخ والكورخة واوضاعهم المزرية في الموصل احدى الوثائق المهمة لشاهد عيان على الحوادث في العراق عموما والموصل بوجه خاص في معمعان الحرب العالمية الأولى.. وسفين هدين واصل وصف البريطانيين والأرمن والهنود عبر طريقه من حلب فالرقة فدير الزور ثم مدن الفرات العراقية حتى الحلة فصعودا الى الموصل فقد كان القرار الألماني يقضي بنقل اسرى البريطانيين من كوت العمارة إلى الموصل ثم من الموصل الى حلب ..وكان عدد الأسرى اكثر من 8000 بريطاني بضمنهم هنود من السيخ والكورخة..وقد صادف وصول سفين هدين الموصل وجود الأسرى البريطانيين في معتقل الماني بالقرب من شاطيء دجلة..(كانوا في حال مزرية ومرتبكة الى جانب حيواناتهم وامتعتهم..اما وجوههم فشاحبة كالحة من الجوع والمرض)..ولم تفت سفين هدين، وهو معروف بموالاته الشديدة للألمان، فرصة زيارة الأسرى الأنكليز: (وشاهدنا رتلا يتألف من 500 جندي انكليزي وهندي يسيرون ببطء شديد مغادرين المدينة في طريقهم الى راس العين تحوم فوق رؤوسهم وحولهم سحابة قاتمة من الغبار..تبدو عند ضاحية المدينة حمراء واجمة بسبب اقتراب الشمس من المغيب، يسيرون أحدهم الى جانب الآخر في موكب جنائزي وكأنهم يشيعون أحلامهم في الهيمنة المطلقة على الشرق..وكان بين الأسرى قس أيرلندي كنت التقيته في بغداد ومرة أخرى في سامراء أخبر احد المرافقين الألمان للأسرى ان هناك في مستشفى الموصل انكليز يحتضرون، وحتى الأقوياء من بينهم لايقدرون على السير في حر الصيف) ثم يذكر سفين رقما اكبر من الرقم الذي تورده المصادر الأنكليزية هو 8600 أسير قال انهم انتقلوا من الموصل الى راس العين ومنها الى حلب..ويعرج سفين هدين الى وصف القنصلية الألمانية في الموصل (كان بيت القنصل هولشتاين اشبه بالنادي المحلي بالنسبة لنا وكنا نتناول فيه الغداء والعشاء وكان اللبن البارد الممزوج بالماء [الشنينة] يمنحنا طاقة لمقاومة الحر الشديد وبخاصة عند الظهيرة..وعندما تقترب الشمس من المغيب، نجلس تحت السقيفة لنقرأ آخر البرقيات والأخبار في الصحف التي تأتي متأخرة عن وقت صدورها ثلاثة او اربعة اسابيع احيانا)؛ وكان قد التقى في القنصلية بالدكتور الشاب داوود جلبي وناقشه حول افضل الطرق للسفر الى سورية عبر حلب ام دمشق او هل طريق نصيبين راس العين هو الأفضل كون سفين هدين يحب المغامرة ويريد انتخاب الطرق الواعدة والجديدة دائما..(ولكن السفير هولشتاين كان له صديق هو حميدي الياور الذي دعاه وعرفه بي وكلفه بتوفير الحماية لي..وقدم حميدي المعلومات كلها التي احتاج اليها مفضلا طريق الحضر دير الزور على الطرق الأخرى).. ه
وفي يوم الأحد 11 حزيران اي بعد يوم من اعلان الشريف حسين للثورة العربية، اصطحب سفين هدين الطبيب النمساوي يارلميك دليلا للتجوال في الموصل: (انطلقنا من بيتنا بمحاذاة سور المدينة الشمالي الغربي وتوقفنا في باب البيض الذي اتخذ تسميته من كلمات محفورة في عقد احدى قناطر الموصل مفادها ان مجاعة سوف تسود المدينة وينتشر فيها الغلاء بحيث تكفي بارة واحدة لشراء اربعين بيضة..واليوم لاتوجد مجاعة مع ذلك فان سعر البيضة الواحدة يكلف بين ست وسبع بارات)..وبينما لا يرد هذا التفسير لتسمية باب البيض في اي مكان آخر..تصمت المصادر عن ذكر اية كلمات محفورة في عقد قنطرة من القناطر الموصلية تتحدث عن الغلاء والمجاعة واسعار البيض الباهضة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف سور الموصل فيذكر ان عمره 300 سنة ويزينه برج دائري [يقصد به قلعة باشطابيا] وجاء على ذكر بواباته فسماها باب الجديد وباب سنجار وباب لكش وباب الطوب..وعد باب سنجار وباب الطوب من افقر احياء المدينة.. ويبدو من وصفه للسور الرمادي بالبديع - انه وبواباته كما تركتهما يد المعماري..ويظهر ان سفين هدين واصل سيره من باب البيض الى باب لكش قبل دخوله باب الطوب اذ يرد في وصفه: (مررنا بمدرسة حورت الى مستشفى بالقرب من حي اليهود الذي يوصف بانه من افقر احياء المدينة ويحصل يهود الموصل على خبزهم من صياغة الفضة وعمل الأساور والخواتم والمجوهرات [ربما المقصود هنا الحجارة شبه الكريمة كالعقيق والشذر]، والى اليسار تقع القنصلية الأنكليزية التي استولت عليها الحكومة في الوقت الحاضر ثم عرجنا الى مكان شاهدنا منه القلعة السلجوقية المطلة على السور في الساحل الأيمن لدجلة).. ربما المقصود بالقنصلية الأنكليزية بيت القنصل كريستيان رسام الذي وظف في أثناء الحرب مستشفى لأستيعاب الجرحى البريطانيين ومعالجتهم ..و يبدو ان مصادر سفين هدين حول قلعة الموصل سماعية لأن القلعة بناها العقيليون.. وأميل الى الرأي القائل بقدم القلعة وارتباطها بنينوى الآشورية وهذا ارجح لأن الآشوريين درجوا هلى تحصين ضفتي النهر وبحكم تقادم القلعة بنيت فوق اوابدها الآشورية تحصينات اسلامية على العهدين الراشدي والأموي ثم تناول العقيليون هذه التحصينات وعمروها واكمل السلاجقة السور بابوابه وابراجه لحين الهجوم المغولي الذي دمر معظم القلعة وابقى هيكلها وبرجها المدور..ولم ينل منها غير الزمن واهمال اهلها فمالت في الآونة الأخيرة محاكية منارة الحدباء في عصر يبدو أن كل شيء فيه يتجه الى الميلان ..ويواصل سفين هدين جولته في الموصل بوصف قلعة باشطابيا: (ومن الصعوبة بمكان تخيل قلعة تشاد فوق صخرة شديدة الإنحدار ترفرف شاهقة فوق ذلك النهر الملكي [دجلة].. وبتسلقنا الطريق المتعرج اليها واتخاذنا موقعا فوق السور رأينا مشهدا ينافس في جماله اروع المناظر في العالم، وهو مشهد يتكرر في كل خطوة تاخذنا صوب القلعة..ومن أعلى القلعة إرتسمت امامنا آثار عاصمة ملوك العالم القديم نينوى في تلقوينجق والى جانبها تل النبي يونس وهما من اغنى اماكن العالم بما يحتويانه من نوادر ومعادن ثمينة وآثار..ووراء التلال تترامى جبال أرمينيا وطوروس التي تكسوها الثلوج معظم ايام السنة)..ثم يتطلع سفين من قمة باشطابيا الى الأسفل ليرى الموصليات وقد جلسن على ضفة دجلة لغسل ملابسهن ..وفيما يبدو من وصفه ان نشاطهن لم يقتصر على غسل الثياب فحسب: (وعند الشاطيء شاهدنا مئات النساء يغسلن ويعصرن [ينشفن] ويعلقن ثيابهن لتجف تحت حرارة الشمس المحرقة..وعلمت ان تلك النساء يخرجن في الشتاء الى النهر ليغسلن الثياب على الرغم من كون الماء شديد البرودة غير انهن اعتدن احتمال البرد القارص احتمالهن الحر اللاهب في عنفوان الصيف..والحر في الموصل عينه في صيف بغداد، إلا أن شتاء الموصل أبرد منه في بغداد..ذلك أن بغداد تقع على ارتفاع 50 متر عن مستوى سطح البحر بينما تقع الموصل على ارتفاع 250 متر عن هذا المستوى..) ..ويبدو من هذا الوصف ان نساء الموصل كن قد شددن حبالا ربما شددنها حول قضبان من الخشب لتعليق الثياب عليها وانتظارها لتجف تماما قبل العودة الى بيوتهن ..مما يفترض احتمال انشغالهن بالأحاديث المتنوعة وربما بتناول الغداء في ظل باشطابيا قبل العودة الى البيت..ولم تفت سفين المدرب على دقة الملاحظة وروعة الوصف ملاحظة قطعان الجاموس تمخر مثل اكياس عملاقة منفوخة عباب دجلة: (وبالقرب من النساء المنهمكات في غسل ثيابهن ونشرها تردى قطعان الجاموس عائمة في امواج دجلة تنعم بضوء الشمس الغاربة قبل ان تنحدر صوب الجسر لتخرج عند الشاطيء يقطر منها الماء، والى جنوب القلعة وتحتها ينتصب مزار يحيى ابو القاسم بواجهته بديعة الزينة حديثة البناء، وعند مدخله سقف معمد يوفر الظل للزائرين)..تؤيد هذا النص صور ارشيف جرترود بيل التي زارت المكان عام 1909 ونستدل من ذلك ان تجديد الضريح قد تم قبيل عام 1917..وكان سفين قد زار بغداد قبل وصوله الموصل وتعرف على معالمها ومنها قبة اسماها بقبة زبيدة وهو خطأ شائع لأن القبة التي رآها في بغداد هي لزمرد خاتون زوجة المستضيء بالله وتشبه بمخروطيتها قبب لاليش في شمالي العراق وتماثل قبة السهروردي في مقبرة الشيخ معروف..اذ يخبرنا ان مزار ابو القاسم: (تعلوه قبة شاقولية مدببة النهاية تشبه قبة قبر زبيدة في بغداد وهي نموذج لقبب اخرى شيدت في المنطقة..وبالقرب من المزار تنتصب قلعة خربة كانت على الارجح جامعا يطلق عليها بدر الدين سلطان لؤلؤ حيث توقفنا لوهلة للنظر الى اسراب السمك وهي تسبح ضد التيار رافعة افواهها المدببة ودافعة اجسامها بزعانفها نائية بنفسها عن صرير الناعور الذي يروي الحقل الضيق الممتد بمحاذاة الشاطيء [الشاروق] ومن حين لآخر يأتي قارب ليرسو تحت الجسر في الجانب الأيمن ويبدو وكأنه جزيرة صغيرة يتوسطه رجلان يتحدث احدهما الى الآخر وكأنهما بيضتان في طبق من الأسبيناخ الأخضر)..ويسترسل سفين هدين في وصفه النهر والأكلاك والمدينة بعفوية وبلغة ادبية رائعة تجمع بين العرض التفصيلي والتنوع التصويري وعلى نحو يدعونا الى معايشة التجربة الحية لمايرى ويحيا وعلى نحو مباشر: (ويستخدم اهل الموصل الأكلاك التي هي عبارة عن الواح خشبية مشدودة الى بعضها بحبال توضع تحتها جلود معيز منفوخة تستخدم لنقل البضائع والناس في دجلة ويقوم الكلاكون بتحميلها وتفريغها..أما الموصل نفسها فتمتد على شكل هلال في الجانب الأيمن من نهر دجلة..وفي الموصل لاتكثر المساحات الخضراء او الأشجار التي تزين الشوارع بجماله كما هو الحال في بغداد المزدانة بالملامح المميزة للمدن الشرقية؛ غير أن بيوت الموصل تختلف عن بيوت بغداد من حيث كونها اقوى واكثر تماسكا فهي ليست مبنية من الطابوق المحروق كبيوت بغداد..وبمقدورها الصمود مئات السنوات، وهي مصممة ومشيدة وفق الطراز العربي..ويمكن ان نجد بيوتا مماثلة لها في بغداد من حيث التصميم لكن بيوت الموصل متقنة في عمارتها..وغالبا ماتقع في زقاق ضيق لم يعنى بتنظيفه يقودنا الى مدخل رخامي ذي بوابة خشبية تتوسطه صقالة من الحديد معلقة بحلقة الى الباب الذي يأخذنا الى مجاز قصير يفضي الى فناء واسع ذي ارضية مربعة مرصوفة بالحجارة في وسطه شجرة توث او برتقال، ومن البيوت مايحتضن في قلبه حوض فيه نافورة مزينة على نحو أخاذ يتدفق منها الماء بما يبعث في النفس شعورا بالراحة والبرودة وبخاصة في ايام الصيف الساخنة..وتحيط بالفناء الأرائك والمقاعد المتاحة للجلوس وحيث تمضي الأسرة ولاسيما النساء والأطفال اوقات الراحة والمحادثة وتناول الطعام..وفي الطابق الأرضي يوجد المطبخ والمخزن والى جانبه قاطع خشبي يفصل غرفة الخدم والأسطبل..ويماثل الطابق الأرضي في البيوت الموصلية، الأيوان في بغداد حيث يستقبل الضيوف اما في الموصل فيصعد الى غرفة الضيوف بدرجات قليلة تقود الى الأيوان الداخلي في صدر البيت، ويؤدي الأيوان الداخلي الى غرف النوم الخاصة بالأسرة ويصعد اليها بدرج جانبي..ولايسمح للغرباء الدخول الى غرف النوم..ويوجد درج يؤدي الى السطوح حيث ينام اعضاء الأسرة في ايام الصيف..ويعمد الموصلي، ان لم يكن لأسباب تتعلق بالدين، فبدافع الخوف من الغيرة والحسد؛ الى حجب بيته واسرته ونسائه عن العالم ولهذا تكون زينة البيت وواجهته مكشوفة على الداخل وليس على الخارج..وهذا لاينطبق على المسلمين في المدينة وحدهم بل على السريان الكاثوليك والكلدان ايضا..ومن الممكن في بيوت النصارى للزائر ان يجلس مع النساء ويتناول المرطبات وهن كالمعتاد غير محجبات ولكني لاحظت وجود اختلاف هائل بينهن وبين قريناتهن الأوربيات فهن على الرغم من الدين المشترك فيما بيننا، خجلات وجلات ولابد من تعودهن على الضيوف والزائرين فترة طويلة لكي يتغلبن على خجلهن..وواجهات الجدران المقابلة لفناء الدار الموصلي غالبا ماتكون مزدانة بالزخارف العربية الزهرية التي تغطي الواجهات الرخامية في الجزء الأسفل من الجدار في جوانبه كلها باستثناء جانبي الدرج الذي يقود الى ايوان صدر البيت.. ويوجد قوس كبير تشغله نافذة السرداب او [الرهرة] التي تلجأ اليها الأسرة الموصلية للقيلولة في ظهيرة الصيف..والرهرة تكون باردة ينعم فيها الموصلي بنوم هانيء مريح..أما الشبابيك فمزودة بقضبان حديدية متداخل احدها بالآخر بحلقات تربط فيما بينها عموديا وافقيا وذلك لمنع السراق او تأخير اختراقهم للبيت او اي من غرفه بهدف السرقة..وتزود النوافذ العالية أحيانا بمشربيات خشبية تشبه نوافذ البيوت في القسطنطينية لغرض فتحها لنفاذ اشعة الشمس الى الغرف..وتحتضن الموصل العديد من هذه البيوت فريدة الطراز اما اصحابها فرهبان كنيسة او تجار اعتمدوا على ثروة ورثوها او اكتسبوها من المتاجرة ببالات القطن او خصافات التمور او المنسوجات الملونة وماإلى ذلك من تبادل للسلع بين الشرق والغرب او نقلها بين الجماعات والأمم الشرقية..ومنها ما توالد في سياقات الأرستقراطية التجارية وانتفع من عملات الذهب المتراكمة والمحملة في صناديق مكنونة تنقلها القوافل الصامتة المحملة ببضائع التجار وقد افلتت من سطو القراصنة ومداهمات قطاع الطرق ولعلها لاتفلت من قطاع الطرق ولاسيما قبائل شمر الذين غالبا ما يباغتون القوافل على حين غرة فينهبونها ويسوقون حمولاتها الى اماكن مجهولة قبل ان يختفوا في مفازات الصحراء).. ه
ونلاحظ في وصف سفين هدين لعمارة بيوت الموصل والعادات الإجتماعية لسكانها أن الموصل كانت تحتضن طبقة من التجار الأثرياء يشاطرهم ثرائهم رجال الدين من النصارى وإن لهذه الطبقة من التجار تاريخ طويل من النشاط التجاري الأقليمي والعالمي يمتد لقرون بعيدة في التاريخ وان هذا النشاط وجد انعكاسه في حياة من الترف والرفاهية ترفل فيهما اسر التجار والطبقات الموسرة مما يؤكد وصف ماركو بولو للمدينة باعتبارها مملكة تجارية قائمة بذاتها..كما ان هذا النمط من عمارة بيوت الموصل مازال موجودا في احياء الموصل القديمة كالمياسة والميدان والساعة والمكاوي وباب لكش والسرجخانة وغيرها من الأحياء غير ان اهل الموصل غادروا في معظمهم هذه المنازل القديمة ورهراتها الى بيوت غربية حديثة حلت الحجارة الحلان فيها محل المرمر الموصلي والحدائق الغناء محل النافورة والتوثة في قلب البيت..اما عادات اهل الموصل الإجتماعية فلم تتغير كثيرا اذ مابرح الطابع المحافظ مميزا للعائلة الموصلية..وينعكس في عمارة الجدران العالية والشبابيك الداخلية التي توفر الأمن والأطلالة على الحديقة الداخلية اكثر منها على خارج البيت..فالموصلي المحافظ كالأنكليزي المحافظ يعد بيته قلعته ..ويتطرق سفين هدين الى الحرب وتاثيراتها على التجارة والحياة في الموصل: (والآن تسود الحرب العالم بأسره والتجارة تكاد تكون معطلة بالكامل فالهند لاتجلب شيئا الى البصرة والبصرة لا تقدم شيئا الى الموصل..وطريق الشمال من القفقاس حتى الأناضول معطل هو الآخر، وسكة حديد الأناضول خصصت باكملها للأغراض العسكرية. إلا ان اهل الموصل كانوا يواجهون الحرب بضرب من الهدوء العدمي في انتظار زمن افضل وهي الروح عينها المميزة للمشارقة في مثل هذه الأزمات..وخزينة الموصل العتيقة المذخورة لن تسترد عافيتها إلا بعد انجاز خط بغداد- برلين الذي سيغير كل شيء ويعيد للتجارة حياتها..لكن الحرب دمرت المواصلات وسكك الحديد اقتلعت وعربات القطار نهبت ودمرت وترى الجمال منتشرة بين حلب ورأس العين وكأنها كائنات كليلة منهكة طالتها يد الدهر الكالحة تتصادى اصوات اجراسها في فضاء فارغ..مع ذلك فالبيوت القديمة لأرستقراطية الموصل ستبقى تذكرنا بأشراف روما). نخلص من هذا الوصف الرائع الى ان سفين هدين كان يتفاعل مع المشهد الموصلي بعمق يتضح من خلال اسلوبه الأدبي الذي انضجته تجاربه الآسيوية الفريدة ..ولأن خط حديد بغداد فكرة المانية ولدت من التنافس بين بريطانيا والمانيا من جهة وتركيا وروسيا من جهة ثانية و الهدف منها الأستغناء عن قناة السويس التي سيطر عليها الأنكليز ببناء ميناء على الخليج العربي يكون طرفه الأوربي برلين، عمل لورنس وحلفائه العرب على عرقلة عملية بناء خط سكة حديد بغداد- برلين بطريق اقتلاع السكك في المناطق غير الماهولة واتلاف المنشئات التي شيدها الألمان عبر خط سكة حديد بغداد – برلين كجزء من عمليات الحرب العالمية الأولى..ولأن سفين هدين مواليا حد التطرف لألمانيا فقد ربط بين تعطل التجارة والتخريب الذي حصل لخط سكك حديد بغداد - برلين الذي مولته المانيا ..ولعل من مفارقات التاريخ ان تستولي بريطانيا على قناة السويس التي مولتها فرنسا بالمشاركة مع مصر ثم على خط سكك بغداد - برلين في اعقاب الحرب وتحول الأوراق التركية كلها تقريبا الى الغرب.. ونعود الى صيف الموصل مع سفين هدين لنرى احوال المدينة في قيظ الظهيرة: (ولكن ثمة شعور بالأرتياح ينتاب المرء عندما يغادر الشارع او الزقاق ليدلف في فناء البيت، وكأنك تغادر الصحراء المحرقة الكالحة الى واحة حيث خرير الماء وحيث تمنحنا شجرة التوث واعمدة الأيوان شعورا هانئا بالبرودة..وبين الآونة والأخرى يطرق الباب سقاء حاملا جربة مليئة بماء البئر يرش به ارضية الفناء مما يفضي الى تلاشي الحرارة اكثر فأكثر بحيث تنسى لوهلة حر المدينة الساخنة مثل فرن.. ولكن تبقى الحاجة قائمة الى وجود نافذة فلا شيء يمكن له ان يخترق هذه الفناءات المغلقة في البيوت الموصلية ولا من كائن يمكن له ان ينقل ماترويه شجرة التوث البهيجة من حكايات مثيرة واسرار..وفي الفصول التي تخلو من العواصف التي تهب على البلد فتغدو معها البيوت الآمنة غير آمنة إذ تضرب بكل عنفها وعنفوانها سقوف البيوت مهيلة اياها على الأرض، تصبح خيام العرب في البادية مريحة تبهج القلب لأنها لا تفقد اية نسمة تفدها راقصة عبر الحقول)..تتماثل تجربة سفين هدين في صيف الموصل مع تجربة اهلها ممن يعيش حر الصيف كل عام فالمدينة لاتوفر لخلوها من الأشجار الظل الا في ازقتها الضيقة وقناطرها في احيائها القديمة أو بالقرب من شواطيء دجلة حيث يعمل النهر على تخفيف وطأة الحر وترى الصبيان يسبحون هنا وهناك في مياه دجلة الخضراء فمنهم من يستحم بالقرب من قلعة باشطابيا وفي المجرى السريع قبالة عين كبريت ومنهم من يسبح قبالة جامع الخضر في الجانب الأيسر للنهر او حدر النهر في منطقة الدندان التي لم تكن على عهد سفين هدين خطرة بما يرمى اليها من بقايا عجلات السيارات وقطع الخرسانة الضخمة التي خلفتها شركات بناء الجسور، او يلجأ الى أحدى المقاهي ليشتري الظهيرة بعشر روبيات تماما كما اعتاد الموصليين في السبعينيات والثمانينيات الى امضاء حر الظهيرة في السينمات ولكن باربعين فلسا..ولكن الأكثرية من أهل الموصل يفضلون امضاء الظهيرة في السراديب التي يوفر مرمرها العتيق سريرا باردا يمدون عليه الحصران والبسط الموصلية المعمولة من الصوف الناعم والقطن والمتميزة بنماذجها الزخرفية الحمراء والزرقاء والخضراء والعاجية التي تبعث على الراحة. كما نلاحظ ان البيوت الموصلية القديمة مازالت تتوسط فناءاتها نافورة الى جانبها شجرة توث ويحيط النافورة سياج خشبي يتكيء في احد زواياه زير ماء تغطيه قطعة قماش من الشاش لمنع الحشرات عنه و يحظنه مشبك من الخشب يلون باللون الأخضر او الأصفر أوالأزرق، يوضع تحته مايعرف في الموصل بالناقوط وهو حاوية فخارية صغيرة تشبه الزير يتجمع فيها الماء المترشح من الزير من فوقه وهذا الماء المترشح او ماء الناقوط هو انقى واعذب وابرد ماء للشاربين.. في تلك السراديب التي يسميها اهل الموصل بالرهرات تمضي الأسرة الظهيرة في قيلولة هانئة يستيقظون بعدها لتناول وجبة خفيفة من الجبن والزيتون أواللبن وخبز الرقاق الذي يفدهم من القرى المجاورة او من جيرانهم من النصارى مع قدح من الشاي السيلاني قبل خروجهم لمباشرة اعمالهم حتى صلاة العشاء في واحد من جوامع المدينة..وتعرف هذه الوجبة العصرية لدى اهل الموصل بالعصرونة "عصغونيي"..ومازالت هذه العادات قائمة غير ان اجهزة التبريد الحديثة عملت على الغاء معظم تلك المظاهر المميزة للحياة الموصلية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وصولا الى سبعينياته..ويعلل سفين هدين سبب بناء البيوت الموصلية على هذا النحو قائلا: (ويبدو ان بيوت الموصل وبخاصة قصورها المبنية من المرمر قد شيدت لتستجيب لظروف مناخ الموصل، وهي لاريب نتيجة مئات السنوات من الخبرة في العمارة والزينة المعمارية..فالبيوت في الموصل تتحول في موسم الصيف الى أفران..وحرارة الصيف تتغلغل في صخور الجدران التي تتحول الى مخازن لها حتى تصبح الحرارة جحيما لايطاق، ويبدو ان البيت الموصلي يشاكه البيوت القديمة التي كشفت عنها التنقيبات الحديثة في آشور وبابل..أما بيوت الفقراء فهي أبسط كثيرا من هذه القصور فهي مبنية من اللبن المفخور او من الحجارة غير المهندمة، وتكثر في الأحياء الفقيرة النفايات فضلا عن كونها بيئة مكتظة تتعدد فيها مصادر الفوضى والأعتراك..ولكن حتى في مثل هذه البيئة تحتاج الى الظل وإلى سطح تلوذ الأسرة الفقيرة ببرودته في اثناء الليل..وعندما نتطلع من فوق سطوح البيوت المطلة على المدينة، نشاهد بانوراما واسعة من البيوت الممتدة بما يحاكي مربعات لوحة الشطرنج بستائر متفاوتة الإرتفاع وجدران رمادية متصمتة خالية من النوافذ تتشابه في طراز بنائها وبساطة شكلها وايقاعها الرتيب الذي لاتقطع رتابته غير ابراج الكنائس والقبب والمنائر باحواضها حيث يقف المؤذن داعيا الناس الى الصلاة..إلا ان الزائر الغريب الذي يسعى الى تكوين انطباع مباشرعن حياة المدينة النابضة من خلال نظرة شاملة، يترتب عليه ان يدور ويدور في متاهات ازقتها وزوايا اسواقها وكأنه درويش مولوي منغمس في الدوران بلا كلل او ملل، ويستحسن ان يصطحب هذا الزائر الغريب معه في جولته أحد أعيان الموصل وإلا فسيغمى عليه عشر مرات قبل ان يعثر على قلب المدينة سواء أبدأ الجولة من باب البيض أو من اي مكان أو طرف آخر.. وتشبه شوارع الموصل نظائرها في بغداد في ضيقها وتعرجاتها، ولكن بينما تزين نوافذ البيوت في مدينة الخلفاء الظلات الخشبية تندر مشاهدة مثل تلك الظلات في الموصل..والأرصفة في الأحياء المأهولة بغزارة في الموصل تغطيها الحجارة المتعرجة التي قد تتسبب بموت صاحب المركبة إن هو سقط فوقها إثر انقلاب مركبته ان سمح الزقاق الضيق بمرورها..وفي الأسواق تجد أكواما من كل انواع الزبالة والفضلات والأسمال المتهرئة والفواكه التالفة وبقايا الحيوانات الذبيحة التي ربما لاتغري الكلاب الضالة بتناولها إن لم تكن متضورة جوعا..وغالبا ماتهب ريح قوية على الموصل فتغطي سحب التراب المدينة بأسرها..وتنتشر في الأسواق دوامات التراب لترتفع في السماء مثل غيمة سوداء كالحة من الغبار وقد خالطتها شتى الأوساخ..وكأن مكنسة عملاقة مرت في المدينة لوهلة فاقتلعت اوساخها..إلا أن الزبالة المتراكمة تبقى بعد مرور الريح على حالها ولكن بتشكيلات جديدة في كل مرة).. ه
تتضح من وصف سفين هدين للموصل حال الأهمال الذي صارت اليه المدينة في اثناء الحرب العالمية الأولى فالخدمات البلدية تكاد تكون معدومة، وعلى الرغم من كثرة المساجد والجوامع لم يكن للورع دورا في تقليل الفوارق الطبقية الهائلة بين الفقراء والأغنياء أما المناخ فلم يتغير كثيرا خلال قرن تقريبا فالمدينة مابرحت الرياح الترابية تعبث فيها لعدم وجود حزام اخضر يخفف من وطأة الريح لأن الغابات القريبة من الموصل وحديقتيها في الساحل الأيمن والأيسر لم يكن لهما وجود في ذلك الوقت ويعود الفضل في استنباتها الى الأنكليز في اعقاب الحرب..لكن اهل الموصل اعتادوا على نزوات مناخهم وحرارة صيفهم وبرد شتائهم فكانوا اشبه بالنحل في نشاطهم على الرغم من وعورات الحياة..كما يخبرنا سفين هدين في وصفه المثير للموصل: ه
(وشاهدنا في اقسام السوق المختلفة الحدادين وافرانهم في دكاكين متقابلة في ازقة ضيقة تليها دكاكين الصفارين والقصابين وباعة الفواكه فباعة التوابل والمكسرات والى جانبها الزبيب واللوز والخيار واشياء اخرى كالثياب واغطية الرأس..ومررنا على سوق باعة الكتب حيث يمضي احد الباعة وقته في قراءة كتاب..ويبدو بائع الأواني الفخارية الأسعد فهو الأكثر ربحا في الموصل لأن الموصل كلها تبرد الماء وتشربه في هذه الأواني الفخارية الجميلة التي تضعها النساء فوق رؤوسهن على نحو متقن بدون ان تسقط ..ولم يعد التبغ والغليونات والولاعات المعدنية من الأشياء التي نراها لدى الجنود، بل من التحف النادرة التي تباع للموثوق بهم من الزبائن فقط..أما الأقمشة الأوربية فتجدها متوفرة على الدوام بحزم ضخمة جذّابة للعين الشرقية..وكنا خلال جولتنا سمعنا عن حمامات الموصل وانها تنتشر هنا وهناك..فدخلنا أحدها لألقاء نظرة فشاهدنا صالة ارتداء الثياب والمستحمين وهم يخرجون من بوابة صغيرة يندفع منها البخار وهم يرتدون مآزر يلفونها حول خواصرهم..وفي القناطر التي تتخلل السوق رأينا سلعا غير تلك التي تحملها قوافل تجار الموصل الأغنياء هناك يعرض الباعة ثيابا مستعملة في اماكن [بسطات] مفتوحة على الأرض عارضين بذلك اوكارا للأمراض الوبائية والهوام والحشرات التي لاترى بالعين المجردة. وترتبط شوارع الأسواق الرئيسة بشبكة من الأزقة الضيقة شاهدت في احدها حلاقين قد بسطوا عدة الحلاقة على الأرض وهم يحلقون زبائنهم في ظل القنطرة مستمتعين بهوائها الطلق..وفي الجوار يقع جامع محشور بين البيوت بمنارته وقبته المزينة بالآجر، ويبدو انهم يريدون هدمها بسبب ثقلها الهائل..وفوق قبة الجامع اشاهد لقلقا قد بنت عشها وتحتها تجلس مئات الحمائم الزرقاء واللازوردية وعلى الرغم من ان الحمائم واللقالق ليست جزءا من زخارف الجامع، فإنها دخلت المشهد بصفتها احد العناصر المتممة للزخرفة المعمارية).. ه
من اليسر بمكان ان نقارن موصل اليوم بموصل الأمس من خلال وصف سفين هدين لها، فلم يتغير شيء في السوق القديمة من باب السراي مرورا بباب الطوب فسوق العطارين فالكوازين وحتى باب الجسر..ولكن يبدو ان الجامع ذي القبة والمنارة المزخرفة بالآجرالملون والذي نشاهده في العديد من الصوروالرسوم القديمة كما في لوحة فلاندين قد هدم فعلا وأن مبنى آخر حل محله..ولا نعرف ان كانت منطقة بيع البالات والحلاقين في القنطرة التي ذكرها هي منطقة السرجخانة.. والأرجح أن قنطرة الحلاقين هي نفسها قنطرة القطانين وان زقاقا كان يصل بين قنطرة القطانين وقنطرة بيت أغوان وان هذا الزقاق متصل بباب السراي وانه يتقاطع مع سوق باعة الكتب المتصل هو الآخر بزقاق متصل بسوق الشعارين المتقاطع بزقاق يتصل بالميدان مما يؤكد ان شارع النجفي كان موجودا قبل الشروع بشق شارع نينوى الواصل بين رأس الجسر ورأس الجادة على عهد والي الموصل سليمان نظيف..ولكن الموصل لم تكن في افضل احوالها فقد كانت تعيش حالة بائسة من الغلاء وانعدام الخدمات ولم يكن للبلدية ماتنفقه لتنظيف المدينة من النفايات؛ وعلى الرغم من ازدحام الأسواق بالحركة والمقاهي بالمرتادين وتوفر السلع لم يكن بمقدور الفقراء شراء مايحتاجون اليه كما يخبرنا سفين هدين ونشاهد من صور المدينة في تلك الفترة: (ودكاكين الموصل تحميها من اشعة الشمس ظلات من ألواح الكارتون أو من الحصران الخفيفة تسندها من فوق الدكاكين قضبان خشبية بما يعطي عمارة الشارع بألوانه المتحركة ابعادا جمالية زاهية..وتزين العقود في واجهات القناطر زخارف قديمة متصلة على امتداد الأقواس المدببة وفوق الشريط الرخامي المحفور بأقواس رخامية متجاورة تحاكي العقود المتتالية في رواق مسجد..ومن هذه القناطر ما يؤدي الى الخانات..و من هذه العقود المدببة في قلب السوق إثنان تتوسطهما زاوية هي الأغنى في زخارفها الناتئة في الرخام..وتتدلى من الشريط الرخامي في مجاز احدى القناطر سلسلة حديدية مسحوبة الى جانب مدخل القنطرة التي يغلق اهل الموصل بوابتها الكبيرة في اثناء الليل).. ه
وقلب السوق عبارة عن مربع غير منتظم تتعدد الطرق الداخلة فيه والخارجة منه ..وتوجد في عدد من جهات السوق مقاهي مفتوحة الواجهات مطلة على باحة السوق من فوق ظلات الدكاكين يجلس الزبائن على مقاعدها "كنباتها" الفارهة لشرب القهوة بأقداح صغيرة من دلاء فضية تفوح منها رائحة زاكية..وتقع هذه المقاهي بالقرب من شاطيء دجلة..ويفد الناس اليها من بوابة كبيرة متصلة بعقد يزين قنطرة في باب الجسر..والمشهد من باب الجسر في اتجاه الشمال يشد الإنتباه إذ نشاهد طائفة من الظلال المتعاكسة منها مايبدو في حركة ابدية في دغل القناطر ومنها مايطل على جسر الموصل الشهير الذي يربط بين هذا الجانب من المدينة وأطلال نينوى البادية في الجانب الأيسر منها).. ه
يبدو جليا ان سفين هدين يتحدث عن منطقة باب الجسر وسوق الحبالين بعد ان وصل اليها من زقاق يخترق شارع غازي الذي لم يكن له وجود في ذلك الوقت والأرجح انه مر بحمام العلاء الذي كان قائما تحت عيادة الدكتور سالم قاسم الجلبي حاليا، والذي هدم في الخمسينيات، ليستمر في زقاق يخترق باب السراي من جهة شارع غازي ويدلف في سوق العطارين ومنه الى الزقاق المؤدي الى سباهي بزار حيث البورصة التي كانت سوقا متصلا بالإزقة وتتوسطه ساحة تطل عليها المقاهي من الطابق الثاني؛ وهي مقاهي تتصل احداها بالأخرى وتبدو تحتها فتحات القناطر وكانها مداخل انفاق معتمة..كما يرجح ان مقاه أخرى اندثرت كانت توجد فوق سوق الأطرقجية وبالقرب من خان الجلود ..مابرحت أتذكر احداها وقد تحولت فندقا كان يرتاده الأيزيدية في الستينيات..أما الظلال المتحركة التي حدثنا سفين هدين عنها فالأرجح انه يعني بها شلالات الضوء الفضية النازلة من فتحات الأسواق المسقفة ولاسيما (سوق العتمي) الذي خلده المصور مراد الداغستاني بعدد من الصور الفريدة الجميلة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف الناس عيانيا من مقعده في احدى شرفات المقهى المطلة على ساحة سباهي بزار: (وبمقدور الزائر ان يجلس في هذه المقهى الواقعة قبالة باب الجسر ليشاهد تحته وكرا من النمل البشري بثيابهم الشرقية والغربية فمنهم من يرتدي الكوفية والعقال،ومنهم من يعتمر الطرابيش..ويكثر البدو بعباءاتهم البيضاء والبنية والمخططة (المقلمة) اما السريان والكلدان فيرتدون الطرابيش في حين يرتدي الرهبان والشحاذين ملابس نصف اوربية..وترى نساءا محجبات وغي محجبات بينما يمر الصبيان الصاخبين يدفعون عرباتهم او يسوقون حميرهم العنيدة منتصبة الآذان والى جانبها تمرق قوافل الجمال يمتطيها اصحابها بعد تحميلها بالمشتريات او تفريغ حمولتها من البضائع..فالحركة دائبة وتبدو بلانهاية..والموصل لاتخلو من شارع اشبه بشارع فاليز المكتظ بهوس المتسوقين..واذا نظرنا الى المدينة بعد اكمال محطة قطار بغداد وخط الحديد الذي سيمتد مثل شريان وسط المدينة بمحاذاة دجلة مزيلا العديد من البيوت سيبدو الشارع المجاور للنهر اشبه بمكان اكتسحه الروس بعد اجتياحهم لراوندوز فتجد السراق وقد ازدهرت تجارتهم تماما كما في مدن بروسيا الشرقية، ونشاهد في قيادة الشرطة والإدارة الجديدة مايشبه معرضا لصورقادة الحلف المركزي الى جانب قصاصات تتحدث عن اتراك وعرب وماالى ذلك من اشياء فلتت من الدمار...وعلى نحو مماثل تم توسيع شارع فرعي يربط الشارع الرئيسي للمدينة بالقسام الجنوبية منها وهو لايستحق كلمة ثناء بل اصبنا بالإحباط عندما شاهدنا ايوانات البيوت القديمة واعمدتها والواح الرخام المزينة بالنقوش والزخارف العربية قد غادرها اهلها وبدت نصف عارية وكأن فأسا عملاقة قد قطعت اوصالها..وكان الإنطباع الذي تركه الشارع كله مماثلا لما يتركه زلزال مدمر أحال كل عمارته الى خرائب..فالحرب قد حالت دون إكمال الخطة ولكن الحجارة التي خلفتها تلك البيوت التي لا تقدر بثمن والتي ازيلت لتسهيل المرور في هذا الشارع ستجعل المرور عبره وخلاله في حكم المستحيل).. نلاحظ من هذا الوصف الدقيق لمنطقة باب الجسر وسباهي بزار (اي القليعات) ومقاهيها وحركة الناس وتنوع ثيابهم ومهنهم ان للمدن ومنهن الموصل حياة لا تتأثر بمرور الزمن فالمنطقة مابرحت في حركة على الرغم من التغييرات الذي طرأت عليها :أختفاء المقاهي المطلة على السوق في منطقة البورصة بالتحديد..ويتطرق سفين هدين الى مشروع سكك برلين بغداد غير انه كان تصور ان خط السكك الذي كان آنذاك قيد الإنشاء وبتمويل ألماني سيمر بمحاذاة دجلة ويؤدي الى إزالة البيوت ذات الأيوانات الرخامية والزينة المعمارية مشبها الخراب الذي سيحصل بمحاذاة نهر دجلة بالخراب الذي يتركه اكتساح جيش للمنطقة عبر مروره من الشمال واكتساحه لمدنه مستذكرا مدينة راوندوز ومقارنا ماقد يحدث للموصل بما حدث لبروسيا الشرقية من خراب نتيجة اكتساح الجيش الروسي لها على مدى ثلاثة اشهر من آب وحتى أيلول عام 1914 فخربت البيوت واحرقت المزارع وتكبد الألمان خسائر فادحة بالأموال والأرواح..كما ويقصد بالإدارة الجديدة لبروسيا الإدارة الروسية المؤقتة لبروسيا بعد اكتساح الروس لمدن بروسيا الشرقية وتخريبهم لها .. غير ان وقائع التاريخ جرت عكس تصور سفين هدين..فقد تمكن الألمان بقيادة بول فون هيندنبرج (الرئيس الألماني لاحقا والمسؤول عن تعيين ادولف هتلر مستشارا لألمانيا)، ومساعده اريك لدندورف من أخراج الروس من بروسيا الشرقية..لكن الحرب العالمية الأولى لم تكن خلال زيارة سفين هدين الموصل قد وضعت اوزارها بعد، وكانت الأمور مفتوحة على التوقعات كلها، ويبدو ان سفين هدين لم يكن يعرف خلال وجوده في الموصل بالثورة البلشفية وانسحاب روسيا الشيوعية من الحرب على الرغم من متابعته لأنباء الحرب من خلال القنصلية الألمانية في الموصل وعلاقته الطيبة مع الألمان وتأييده لهم او انه عرف بها ولكنه لم يدرك جسامتها والتحولات العميقة الكبرى التي احدثتها..وكانت مقارنته الثانية لخرائب الحرب بخرائب الهدم هو ما كان يحدث في الموصل من تغييرات ترتبت على فتح شارع نينوى ويبدو من وصفه ان الشارع الذي تسبب في تهديم عدد من البيوت القديمة والذي سيصل على حد تعبيره بين منطقة راس الجسر والجزء الجنوبي للمدينة هو شارع الملك غازي الذي كان زقاقا ضيقا قبل تعريضه،ان لم يكن الشارع الذي يصفه سفين هدين هو الشارع الذي يخترق السوق القديم هو شارع سوق العطارين القائم حاليا والمتصل بعلوة الحنطة في باب الطوب..ونلاحظ ان تلك المناطق كانت او كانت تتخللها مناطق سكنية متصلة مع الميدان شمالا وباب لكش جنوبا وان شق شوارع جديدة ادى الى تخريب العديد من هذه البيوت القديمة ..كما لا أدري سبب تطرقه الى السراق بدون اي ذكر لحادثة سرقة ومقارنته اياهم باقرانهم في بروسيا الشرقية بعيد احتلال الروس لها ولكن وجود سراق في الموصل آنذاك ممكن بسبب الحرب والغلاء..وخلاصة القول ان سفين هدين ترك الحبل على الغارب لخياله في إطلاق مقارنات لايمكن لأي قاريء محلي في الثلاثينيات إستيعابها..ولكن المؤكد ان العقل الغربي ولاسيما لمثقف كبير كسفين هدين يأسف للتدمير الذي لحق المباني والبيوت القديمة في الموصل من جراء شق الشوارع الجديدة..ويبدو ان سفين هدين كان مهتما بالحوادث التي تحدث في الموصل كلها وبمتابعتها ويرجح انه اصطحب مترجما معه، يقول: (سألت ضابط الجندرمة الذي رافقني بصفة دليل عينه القائد لهذا الغرض إذا كانوا قد شنقوا مجرما عاتيا كانوا قد القوا القبض عليه؟ فرد ضاحكا: نال لقب مواطن شرف من الدرجة الأولى في الموصل!)..ويبدوأن سفين هدين كان يسأل مرافقه الضابط الموصلي عن عبود القليجي الذي ذاعت شهرته آنذاك في الموصل بسبب ذبحه للأطفال وطبخهم في مطعمه من جراء المجاعة التي اجتاحت الموصل قبيل الأحتلال البريطاني لها في أواخر تشرين الثاني من عام 1918..وتلك حادثة مشهورة تؤكد إهمال الحكومة التركية لولاياتها على الرغم من تنبيه محمد أمين العمري وكان نقيبا (يوزباشي) الموصل ومسؤولا عن المواصلات في الجيش العثماني آنذاك والي بغداد خليل باشا الذي كان قائدا عسكريا في العراق قبل اكثر من سنة بخطر المجاعة الداهم نتيجة المحل وشحة الموارد الزراعية لعامين متتاليين وماصاحب ذلك من ظروف الحرب والتعبة الى جبهات الحرب (السفربرلك)..ولكن خليل باشا لم يتابع تقرير العمري مما أدى الى كارثة المجاعة وماترتب عليها من مآسي وويلات وجرائم كجريمة عبود شاويش القليجي وزوجته في ذبح الأطفال وطبخهم وبيع لحومهم كأطباق قلية ...ويبدو أن الضابط المرافق لسفين علم بأعدام عبود وزوجته في منطقة باب الطوب ولكنه صاغ رده لسفين هدين على نحو ساخر على عادة أهل الموصل في عكس المعنى تأكيدا لضده بقوله: (نال لقب مواطن شرف من الدرجة الأولى في الموصل!) ويقصد انه تم اعدامه علنا امام اهل الموصل) الذين مزقوا جثته وجثة زوجته انتقاما لأولادهم... ه
ويمضي سفين هدين في وصفه جولته في لموصل: (واصلنا سيرنا حتى باب الجسر ثم مررنا في القنطرة المؤدية الى الجسر في الجانب الأيمن من نهر دجلة فأمضينا وقتا طويلا بالنظر الى هذا الجسر الرائع متقن البناء بعقوده التي تبلغ 35 عقدا والأعمدة التي تشكل مرتكزاتها..وجسر الموصل الحجري هذا لايغطي دجلة بعرضه كله بدءا من الضفتين بينما يمتد الجزء المتصل بالجانب الأيسر منه عبر النهر الى اليابسة بمسافة تتجاوز كثيرا حافة النهر في جزره..والجزء الأعمق من دجلة في جانبه الأيمن وليس الأيسر مما يجعل التيار يندفع بقوة هائلة الى الجهة اليمنى في مواسم ذوبان الثلج وغزارة المطر في الربيع مما تسبب بدفع الماء الى الجهة اليمنى وانجراف جزء من كتف الشاطيء الأيمن مما دعى اهل الموصل الى معالجة المشكلة ببناء جسر من القوارب تغطيه الواح خشبية كما جعلوا مقدمة القوارب المدببة نسبيا بإتجاه التيار..ويلتقي جسر القوارب هذا بالجسر الحجري بمنطقة عازلة تستند على دعامات خشبية قوية تغير موقعها تلقائيا مع ارتفاع منسوب المياه..ولاحظت وجود ممر من الحجارة المرصوفة مزود بحاجز مما اعطى الجسر منظرا رائعا في اطلالته على النهر والموصل ونينوى القديمة..وقد أخبرني احدهم أن الجسر الحجري قد شيد منذ اكثر من 80 سنة من قبل معماري ايطالي وأن ابن هذا البناء مازال يعيش في الموصل..وتقععلى الضفة اليمنى الى جانب النهر مباشرة مقهيان كل واحدة بطابقين واجهاتيهما مفتوحة على السوق وتطل عليه، إحداهما للوجهاء والأخرى لعامة الناس.فزرت كلتيهما وهما مقهيان بهيجتان لاتغادرهما أشعة الشمس في ساعات الصباح وبمقدور الزبون ان يشرب قدرما يشاء من القهوة طيلة النهار لقاء عشربارات ثم يغادر المكان المشمس الى الظل لأمضاء بقية النهار ويشرب القهوة بحرية بدون ان يضطر للدفع أكثر من مرة واحدة..فالزبون يشرب ويدخن ويسترخي في الشمس والظل في ثوبه الخفيف بدون ان يعمل اي شيء على الإطلاق ...وقد تراه منهمكا بلعبة الشطرنج مع صديق قدم الى الموصل من بغداد، أو منهمكا في حديث مع زميل له تاجر حول البضاعة والسوق والمال وما الى ذلك من شؤون تخص المال والربح والخسارة..اما الحرب العالمية فلايهمهم منها سوى التأثير الذي قد تتسبب به المعارك على الطرق وسلامة التجارة..فالموجة لا تصلهم إلا اذا بلغت أقصى درجات علوها والحرب التي تؤثر على الإنسانية بأسرها يواجهها اهل الموصل بروح من عدم التأثر واللامبالاة..والمهم بالنسبة لهم ألا يخسروا الكثير في هذه الحرب بل حتى عندما يحتدم الصراع وتتشابك اسبابه وتتعدد الجهات المشاركة فيه، يفضل الموصلي البقاء في جهل عميق بما يحدث لأن مايرمي اليه هو أن تسير دورة العمل على نحو سلس وان لايحدث اي شيء من شانه الإضرار بمصالحه...ومايريد الموصلي سماعه صوت الذهب وهو يسقط في خزانته الحديدية...فاهل الموصل لايعرفون افضل من ذلك ولايبدون اي استعداد لتحمل اية مسؤولية ..وينبغي عليا الا نلومهم لأننا اعتدنا على التعامل مع ذلك النوع من الناس الذين يحتلون مواقع رفيعة ويشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه واقع بلدانهم ومستقبلها...مع ذلك فليس لنا الا نستمتع بما يستمتعون به على شرفات المقهى حيث يتركون العنان طليقا لأبدانهم الخمولة واعينهم الغافية وهي تسبح مع امواج دجلة، والحياة التي تبعثها حركة الناس وهم يعبرون الجسر والصبيان وهم يسبحون على الشاطيء وقطعان الجاموس العائمة والقوارب والأكلاك المحملة بالخضراوات وهي تنحدر ببطء لترسو بالقرب من قوارب الجسر العائم بينما يمضي الموصلي الوقت متجاهلا الفوضى المنبعثة من الجسر في الوقت الذي يترك فيه خرزات المسبحة لتتزحلق بين اصابع يده غير معني بالوقت الذي يمضي ويتسرب من مجرى الحياة فهو لايسمع اصوات الخراب وهي تردد اغنية الأنتصار من تلال نينوى).. ه
شهد عام 1918 [7 تشرين الثاني] إحتلال الموصل من قبل القوات البريطانية وانسحاب القوات التركية الى ماوراء الحدود العراقية..غير ان سفين هدين يتحدث قبيل ألإحتلال البريطاني للموصل اي في شهر حزيران..وهو بحكم موالاته للألمان كان يأمل ان يعقد الأنتصار للقوات العثمانية المتحالفة مع ألمانيا حيث كانت المعارك تمضي سجالا في مد وجزر بين الطرفين المتحاربين وكانت القوات العثمانية الألمانية المشتركة قد احرزت انتصارات ملحوظة في كاليبولي وكوت العمارة قبيل احتلال بغداد ..مما يدعونا الى تفسير قوله في آخر النص السابق على انه أنتصارا [افتراضيا] أو [توقعا منه لمثل هذا الإنتصار].. لألمانيا والعثمانيين على بريطانيا وحلفائها مما يلحق اضرارا كبيرة بعدد من تجار الموصل الذين كانوا يعتمدون على بريطانيا في جوانب عديدة من مشترياتهم واهمها الأقمشة..أما وصفه لطبيعة الموصليين في أثناء الحرب فأرجح أنه يخص فئة التجار ممن شاهدهم في المقهى المطلة على دجلة لأن الموصل وحتى قبل بدايات الحرب كانت تخضع للتجنيد القسري في الجيوش العثمانية..وهو ما أكده الرحالة على عهد إينجة بيرقدار محمد باشا...وكانت الموصل في فترة تعبئة تعرف تاريخيا بالسفر برلك مما يؤكد ان العديد من شرائح المجتمع الموصلي وبخاصة الفقراء كانوا يعيشون ظروفا مؤلمة من جراء فقدهم اولادهم في غربة وضنك ربما يتمخضان عن فقدهم في الأسرأوالضياع او الشهادة في حرب لاناقة لهم فيها ولاجمل..ولكن حاجز اللغة ووجود مرافق حكومي حالا دون توصل سفين هدين الى الطبقات الفقيرة والتعرف على أوضاعها...ووصفه لعينة من التجار وصف دقيق وواقعي، فنحن بحكم كوننا موصليين لدينا مايكفي من التجارب التي تؤكد مصداقية سفين هدين ودقته في هذا الوصف النادر الفريد... ه
ثم يواصل سفين هدين جولته حتى يصل الأمام عون الدين فيقول عنه: ه
(والإمام عون الدين بن الحسن مكان يستحق المشاهدة واول ماتلتقيه العين فيه مدخلا صروحيا مستطيلا من الرخام تزينه النقوش الشجرية وتعلوه قطعة مستطيلة ايضا من المرمر في اعلاها زخارف مؤلفة من كلمات عربية وفي اسفلها قطعة رخامية أخرى محفورة بنقوش شجرية تمتد حتى جانبي المدخل...الذي سرعان ماتتجاوزه لتجد نفسك في قاعة مربعة تستند عقودها على أعمدة مضلعة وتتوسط القاعة من الداخل قبة مزخرفة بالنقوش الناتئة...وإلى يسار المدخل ترى مدخلا رخاميا غاية في الجمال تعلوه افاريز مثمنة الأضلاع منقوشة بالكتابات العربية..هناك ترى نساء محجبات يجلسن في ورع ويصلين من اجل الأطفال والسعادة وربما ايضا من اجل الخبز (الرزق)...وعلى خلاف اهل بغداد، يبدي اهل الموصل تسامحا كبيرا تجاه الأجانب...فهنالك على سبيل المثال أسرة هنريك الأيطالي الذي تزوج من أمرأة المانية واسهم الى عمارة المدينة فبنى ىبيت ضيافة كبير ومسجد تتوسطه قبة واسعة يقع في نهاية الشارع الجديد بين ثكنات المشاة والخان (الفندق) ومبنى السراي حيث تقيم السلطة المدنية رسميا...وكان هنريك رجلا لطيفا مضيافا فقد اعتاد على ان يقدم لنا افضل المشروبات في حرالصيف كلما زرناه وهو عصير الليمون المثلج.. ه
والسير من هذا المكان الرحب الكبير باتجاه الجنوب صوب القنصلية الألمانية (في باب البيض] كما يروق للشخص ان يفعل في مثل هذه المنطقة تخترمه المشاهد الجذابة فتجد الى يسارك مزرعة مسيجة تقيم فيها 12 امرأة انكليزية قيل لي انهن زوجات ضباط انكليز وأنهن كن يقمن في بغداد عند نشوب الحرب وإنهن جئن الى الموصل بسبب انتهاء المدة المحددة لبقائهن في بغداد، وأنهن في الموصل لسبب آخر..ولكني لم ار في حياتي نساء إنكليزيات يتجولن في شمس المغيب خارج مناطق محمية لهذا لا أماري بما يقال عنهن بأن 3 منهن فقط يتحدرن من اصول انكليزية وسبع منهن من دماء مختلطة..وقد سمعت ان هناك اشاعة حول نقلهن الى مكان ما في آسيا الصغرى [تركيا] ولكنهن يفضلن فيما يبدو البقاء في الموصل حيث يتمتعن بحرية أكبرولكن اذا ترتب عليهن الذهاب [الى تركيا] فالأرجح انهن سيعللن انفسهن بأن آسيا الصغرى تعني الطريق الى القسطنطينية فأوربا..غير أن الوقت متأخر للترحيل الى آسيا الصغرى..ويبدو لي أنهن يرين بالخضوع لقدرهن متعة خاصة[ اي مستسلمات لقدرهن راضيات به])... ه
ونطالع في كتاب سفين هدين [بغداد وبابل ونينوى] الذي يفصل فيه رحلته الى العراق رسما يمثل جامع الإمام عون الدين الذي يقع في محلة الأمام عون الدين المتاخمة لباب لكش وكانت تسمى محلة الطالبيين لأن أغلب سكانها كانوا من السادة الطالبيين ويرجع تأريخ بناء المرقد أول مرة سنة 620هـ-1222م أيام بدر الدين لؤلؤ، والمرقد هو للسيد عمر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وهوغيرمرقد الأمام عون في ضواحي مدينة كربلاء..وقد اقيمت مقبرة عند المرقد الموصلي ضمت عددا من نقباء الموصل وأعيانها كالطالبيين والجليليين والعمرية فضلا عن متصوفة..وتجدر الإشارة الى أن سفين هدين لم يشاهد المرقد الذي يحاكي في زخرفته ارقى الزخارف الإسلامية في الأندلس ودمشق وبغداد ..وكان ماشاهده هو المدخل الخارجي و باب المقبرة الجعفرية حيث الأفريز الرخامي الذي يحيط به ..اما الكتابة العربية فهي آية الكرسي المحفورة في رخامه ثم يتلو هذا الأفريز افريز آخر يتلوه ركنا الباب اللذان تعلوهما قمة متكونة من خمس قطع من المرمر مسننة ومتداخلة [معشقة] أحدها بالأخرى وقد تدلى تحت هذه القطع قنديلان من المرمر عليهما نقوش مشجرة..اما السبب فنرجح فيه رواية نوردها بنصها: ه
(انه قبل اكثر من قرنيين هجرت المنطقة بأمر من والي الموصل على اثر معارك حدثت بين ابناء العلويين والعمريين، وقد تعرض المرقد لمأساة حينما داهمته المياه الجوفية فبدلاً مما تعالج المياه بالسحب، جيء، في فعل لا يخلو من القصد السيئ، بمئات الاطنان من التراب لتغمر المرقد الامر الذي ادى الى تغير معالمه وخاصة الضريح الذي ما يزال قائماً يطاول الزمن تحت انقاض الدفن والذي يقع في الزاوية الشمالية من المرقد وقد كان هذا الفعل موضع استهجان من علم به ونتيجة التحقيق عن اسم صاحب المرقد فقد ثبت مرقد [السيد عمر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين شهيد كربلاء بن الإمام علي بن أبي طالب، عليهم السلام] وقد ذكره الحموي عند وصفه لبلد وبها مشهد عمر بن علي المذكور. اما ما يتعلق بالبناء وشكله فهو اية في طريقة زخرفته ولا نبالغ اذا قلنا انه من العجائب الزخرفية فالقبة ونقوش المرمر وصندوق الابنوس كلها من العجائب تحكي بصدق عن امكانية المعمار الموصلي وتبلغ مساحة القبر خمسة عشر متراً مربعاً وعرض جداره متران وينزل اليه اكثر من اربعة امتار اما قبته فترتفع اكثر من ثلاثين متراً ويدخل الى المرقد عبر بابين من الخشب الصاج وقد زينتا بروائع الخط وتنتصب النقوش المحفورة في المرمر التي تزين الجدران لتضفي عن المرقد ابهة. وللمرقد كرامات كثيرة يرويها الناس لاسيما المجاورون، ولكي يبلغ المرء الضريح عليه ان ينزل درجات تفضي الى غرفة مساحتها [24×27 قدماً] يتوسطها القبر وتعلوها قبة ذات ستة عشر ضلعاً مخروطية الشكل مشيدة بالاجر والجص ويبلغ ارتفاعها ما يربو على [20 متر] ولهذا المرقد باب من الرخام يبلغ ارتفاعه [3.5 امتار] وعرضه [2.10 متراً] وهو مكون من قطعة مستطيلة من المرمر مرتكزة فوق الباب مكتوب عليها: [أمر بعمله تقربا الى الله تعالى الملك الرحيم بدر الدين أبو الفضائل عز الدين] ويأتي بعد هذه القطعة اطار من المرمر ايضاً عليه نقوش مشجرة بشكل الواح مزخرفة تكون سلسلة محيطة بجوانب باب المرقد. اما قمة الباب فمكونة من قطعتين متداخلتين ببعضهما والباب الخشبي مكسو من الخارج بغلاف من النحاس الاصفر ذي نقوش متقاطعة بديعة وداخل المرقد قاعة مربعة محاطة بالواح من الرخام تحتوي على كتابات بالخط النسخي محفورة ومطعمة بالمرمر الابيض، والقبة من الداخل مزخرفة بالنقوش الناشئة على شكل نجوم متحدة المركز مثمنة الاضلاع مجسمة ومشيدة بالقاشاني الملون لاتزال محافظة على الوانها الزاهية).... ه
كما لاأدري سبب إستغراق سفين هدين في حديثه عن الفتيات الأنكليزيات...ولكن الأرجح انه يريد ان يلمح الى انهن في الموصل بعد بغداد لأغراض تتعلق بالجيش البريطاني او ببريده الزاجل..وإنهن بعد انتفاء الحاجة اليهن سيرحلن الى تركيا..وهدين يعلم ان تركيا ليست المكان المناسب لهن في وقت انهزم فيه الأنكليز في كاليبولي واحتمال كون ازواجهن، ان كن متزوجات فعلا ، قد اسروا او قتلوا في معارك العراق.. ه
وكان سفين هدين ضليعا بالتاريخ القديم مطلعا على التقدم الذي احرزه الأنكليز والفرنسيين في التنقيب عن آثار الشرق الأدنى عامة والعراق بوجه خاص وكان قد استظهر في صحراء كوبي في الصين مدينة لولان الغائرة في الرمال وزار قرقميش المصحفة عن كلكامش [جرابلس] التي جمعت لورنس العرب بليونارد وولي مكتشف المقبرة الملكية في اور..وزار بابل وبغداد وقلعة الشرقاط [آشور] قبل مجيئه الى الموصل ولابد أن تكون نينوى التي وضعها في عنوانه لكتاب رحلته الى العراق إحدى أكثر العواصم التاريخية أهمية في سيرته ...ويبدو أن نينوى نقلت سحرها وعظمة تاريخها لكل من زار العراق ..وكانت زيارة سفين هدين لها بعد ان تم استكشافها وذاع صيتها في العالم.. إذ يخبرنا في هذا الصدد: ه
(كان البروفسور تافل قد وصل من بغداد فقررنا ان نذهب سوية الى [أطلال] نينوى فأجرنا مركبة مشدودة الى بعضها بالحبال ولكن دواليبها عتيقة تكاد تنخلع منها وهي تمربنا فوق حجارة الجسر في طريقنا الى الجانب الأيسر من دجلة..وبوصولنا نهاية الجسر استدارت العربة الى اليسار ثم الى اليمين مودعة ايانا الى مايشبه القوس في بداية طريق يؤدي الى جامع النبي يونس..ويفضل الناس الصعود الى قمة التل حيث الجامع على الأرجل.. وجاءت زيارتنا في وقت أداء صلاة الجمعة في 16 حزيران [1918]..فاستقبلنا بلطف وحفاوة واخذنا الى المسجد وارتقينا بوابة تقود الى المصلى..ويوجد الى جانب المدخل المؤدي الى المصلى كشك صغير او غرفة صغيرة اشبه ببرج طيور تحيط بها النوافذ من جوانبها وتتوسطها مروحة ترسل هواءا باردا حيثما دارت..ويبدو منظر الموصل من اعلى الجامع في هذا المكان بهيجا ورائعا ولايعترض عليك احد إن انت جلست وانتظرت في هذا المكان لحين انتهاء صلاة الجمعة وخطبتها..وكان في صحبتنا رجل صغير الحجم أبيض اللحية يرتدي عوينات ومعه جماعة من المسلمين.. ه
وعند انتهاء الصلاة بدأ المسلمون الأتقياء بمغادرة الجامع ..وكان الواعظ يدعو الله لحفظ السلطان والقيصر وليم والأمبراطورفرانس جوزيف امبراطور النمسا...ودعى بالنصر على الأعداء بعد ان كان يدعو لنصرة عملاء الأنكليز الذين يرجح انهم يركنون في اعماق روحه حيث تكمن مشاعر الموالاة لبريطانيا...ثم خلعنا أحذيتنا ودخلنا غرفة الضريح وهي في غاية البساطة إذ تخلو من الزخارف وكانت البسط المفروشة على الأرضية قديمة قد اكل الدهر عليها وشرب..ورأينا بالقرب من الضريح عددا من الهنود المسلمين يؤدون الصلا في مكان منخفض بالقرب من الضريح بما يشبه الكهف المعتم الي يتوسطه مستطيل اشبه بتابوت كبير هو الضريح الذي يعتقد انه يضم رفات النبي يونس في هذا الجامع الي يحمل اسمه..وهناك منارة منحنية في الموصل تذكر حكاية شعبية في الموصل انها انحنت احتراما للنبي يونس عندما القاه الحوت على جانب القرية التي تحمل اسمه وأن منائرجوامع الموصل كلها سجدت احتراما بوجل وخوف ثم نهضت من سجدتها الا منارة واحدة مابرحت ساجدة تقديسا للنبي يونس).. ه
لايمكن باي حال التاكد من صدقية رواية سفين هدين حول دعاء الواعظ لحفظ القيصر وليم والأمبراطور فرانس جوزيف..لطبيعة اسلوبه الأدبي وميله الى التهكم والمزاح أحيانا..كما لا نعلم كيف تكهن بمشاعر الواعظ إن كانت موالية لبريطانيا أم لسواها من مجرد زيارة للمرقد أوكيف تيسرله فهم الخطبة باللغة العربية اللهم الا اذا كان يفسر ولاء الواعظ للسلطان باعتباره ولاءا لحلفاء تركيا من دول المركز..وبقدر تعلق الأمر بمنارة الحدباء نلاحظ تعدد الروايات الشعبية بخصوص انحناءتها فمنها مايذهب الى ان الخضر (ع) مر من تحتها فانحنت بل ذهب بعض الروايات الى القطع انها انحنت تحية للرسول (ص) وانه (ص) مر بها في اثناء عروجه الى السماء وهذا غير معقول لأن المنارة شيدت بعد وفاة النبي (ص) بقرون ومنها ان الإمام علي(ع) جاء لزيارة حفيده علي الأصغر في الموصل فانحنت احتراما له، ويستدلون باسم منطقة (دوسة علي) المجاورة للمنارة، وينطبق على هذه الرواية الحكم نفسه كالذي على قبلها.. ..وهناك رواية تذهب الى ان النبي جرجيس [الخضر] (ع) ظهر بصحبة النبي الياس (ع) لقتال الفرس بتأييد من مريم (ع) التي كانت تجلت فوق سور الموصل ممسكة بقبضة من التراب نثرتها باتجاه جند نادر شاه المتعسكر على الجانب الأيسر لدجلة بينما كان الخضر(ع) ومعه ألياس (ع) مدججان بالسلاح يقاتلان الفرس ..وان منارة الحدباء أنحنت احتراما لمريم بنت عمران (ع)..غير أن الأرجح أسباب تتعلق بالمياه الجوفية وطبيعة التربة التي شيدت عليها فضلا عن تاثير الريح الغربية التي درجت على الهبوب على الموصل..غير أن سفين هدين يميل الى توثيق الروايات الشعبية كجزء من اهتماماته بتاريخ الأمم وتراثها الحضاري والأثني والأنثروبولوجي والمعماري..ويقينا فليس هناك تخوم تعرف لأهتمامات سفين هدين بتفاصيل المكان الذي يزوره سواء بالكلمات او بالتصوير الفوتوغرافي اوبالرسم ان نفذت امكانية التصوير الفوتوغرافي سعيا الى تكوين صورة شمولية تتضمن ملاحظات من سلفه من الرحالة والآثاريين والبلدانيين مزدانة بالألوان المحلية والإنطباعات الفريدة يقدمها بأسلوب أدبي مفعم بالشاعرية والحيوية والصدق..ويواصل سفين جولته في الجانب الأيسر من الموصل الحدباء فيقول: ه
(ثم واصلنا الجولة تحت الشمس المشرقة في التل وبين البيوت المنتشرة على نحو غير منتظم فوقه فراينا في فناء أحد البيوت عوائل أرمنية مهجرة بوضع بائس وقد اهلكها الجوع البادي على اجسامهم النحيلة ..فكان كل ما تمكنا من فعله لهم اننا اعطيناهم بعض النقود لشراء الخبز...ثم اتجهنا شمالا صوب نهر الخوصر الذي يجتازه جسر حجري حديث البناء مؤلف من عقود وقناطر وكان علينا بسبب الحجارة والفضلات المنتشرة فوقه ترك العربة جانبا ومواصلة السير على الأقدام.. وشاهدنا على جانب الخوصر قطيعا من الحمير يسرح حول بركة راكدة والى جانبهم اشخاصا منهم من يتخوض بمياه الضفة ومنهم من يغمر يديه او يرش وجهه بالماء ليتبرد من حر الشمس ومنهم من يسبح في النهر..والى جانب الخوصر يوجد احد تلال نينوى فارتقينا التل وتجولنا بين الحصى والأشواك والسحالي..ولكننا وجدنا معالم مايشبه اطلال عاصمة من عواصم الماضي وعثرنا على ىثار تنقيبات وأخاديد هنا وهناك..والمكان مهجور يسوده الصمت..وتنتشر فيه كسر الأواني الفخارية التي منها ماينقصه كسرة او اثنتين ليسترد شكله السابق..وشاهدنا اسس الأسوار التي كانت تحتضن يوما القصور الملكية والقلاع الشاهقة وقد غطتها القبور العديدة المنتشرة فوق التل..والأحرى ان لانجلس بين القبور بل نجلس على صخرة لنرسل اعيننا لتسرح عبر الحقول من ذلك السكون المطلق المقيم في هذا التل القبر الذي ينطوي على عظمة الماضي بأسره بينما ترى اليوم السحالي وهي تجري بين الحصى وكأنها تحاول ان تترك بأرجلها الناعمة أثرا على بريق صخور نينوى..أهذا مابقي حقا من عاصمة الاشوريين العظيمة! ولوهلة شعرنا بوطء حرار الشمس فعدنا الى دجلة لنجلس بعض الوقت في ظل الشرفة العليا المطلة على السوق في ذلك القاطع من المقهى الذي يرتاده البدوالى يمين رأس الجسر...وفي الطابق الأرضي من المقهى يجلس رجال يرتدون الطرابيش.. ويمضون وقتهم [نهارهم] الذي دفعوا لأمضائه عشر بارات بتمامها..ثم نزلنا الى الدكاكين حيث البالات الضخمة من المنسوجات والأقطان والى جانبها انواع الفاكهة المجففة التي تملأ السوق...وكانت الشمس ترسل اشعتها من جنوبي السوق موزعة اعمدة ضياءها بألوان جذابة تبدو كأنها أعمدة من الشيح مترامية بين كتل الظل العميقة)... ه
لابد من الإشارة الى أن علامة التعجب في النص اعلاه ليست لسفين نفسه بل جاءت بحكم العلاقات الدلالية للسياق..وتجربة سفين يتقابل فيها الواقع بالتاريخ تقابلا ضديا صارخا..فالتل الذي نعرفه نحن ابناء الموصل شبرا شبرا تكثر فيه السحالي التي نسميها محليا ب (حية سليمانية) وهي سحالي تكثرفي الخرائب والوشائع والمناطق المهجورة الشائكة والقبور..مما دعى سفين هدين الى تسمية تلقوينجق بالتل القبر..وهي عبارة توحي بالحياة الهائلة المدفونة تحته ..وهو كمؤرخ وعالم آثار، يعرف معنى التاريخ في مراحله العظيمة واممه الجبارة ..يتساءل غير مصدق لمايرى: (أهذا مابقي حقا من عاصمة الآشوريين العظيمة!) ونتوقف على تشبيهه الجميل لأعمدة الضياء الساقطة من فتحات السوق المسقف القريب من باب الجسر والمقابل لسوق سباهي المعروف بسباهي بزار بالشيح الي يكثر في دول البلطيق وتعرفه السويد حتى انها خصصت متحفا للشيح في مدينة هولفيكن على الحدود مع الدنمارك ..وكان الشيح احد اهم مفردات التجارة بين الدول الأسكندنافية ودول البلطيق واالحضارات الآسيوية عبر التاريخ فلا غرابة ان يفرض هذا التشبيه الموفق نفسه على مخيلة سفين هدين الخصبة وهو في مكان في الموصل لايخلو من الشيح في محلات الصاغة وفي المسابح الكثيرة في ايدي الجالسين في المقاهي الموصلية التي يرتادها وقد لفتت صورة شلالات الضوء الساقطة في اسواق الموصل القديمة المسقفة انتباه الفنان مراد الداغستاني فخلدها في صور فوتوغرافية جميلة تحاكي صورا سابقة التقطها سفين هدين بعدسته في عصر فجر التصوير الضوئي..ثم يواصل سفين هدين وصفه للأماكن التي زارها في الموصل فيقول: ه
(وبعد زيارة قصيرة لمكان رسو الأكلاك على دجلة ، عرجنا على البطريركية الكلدانية حيث استقبلنا رجل وقور ابيض اللحية كثها بعينين مودتين ملتمعتين وراء نضارة مدورة العدستين يرتدي ثوبا بنفسجيا مشدودا بحزام، ويرتدي صليبا يتدلى من قلادة حول رقبته..وكان بصحبتي الدوق أدولف فردريك وشولفينج وكويبان وستاودينجر والقنصل الألماني في الموصل والتر هولشتاين الذي كان قد حضر في الليلة الماضية احتفالا في الكنيسة بدعوة من البطريرك وتضمن الإحتفال العديد من الكهنة والرهبان..ثم صعدنا الى سطح البناية المؤلفة من ثلاثة طوابق لنشاهد بإعجاب الموصل وهي نائمة في ضوء القمر..ومن هذا المكان سيكون لي فرصة لتصوير المدينة في ضوء الشمس غدا..وكانت هذه البطريركية قد رممت عام 1810 ثم اعيد ترميمها وتجديدها عام 1896 وهي الأقدم في الموصل ..وكان فون مولتكة المارشال الألماني مؤسس المانيا الحديثة مع بسمارك وصديق السلطان محمود الثاني قد اقام في هذه البطريركية خلال زيارته الموصل عدة اشهر عام 1837 واشترى من القساوسة فيها نسخة قديمة من الأنجيل مدونة بالسيريانية والعربية [وسنتطرق الى رحلته الى الموصل في دراسة مستقلة لاحقة]) ه
كان البطريرك الكلداني الذي زاره سفين وبصحبته الظباط الألمان والقنصل الألماني هو ماريوسف عمانويل الثاني توما..وكان القنصل الألماني والتر هولشتاين قد وثق المذابح التي راح ضحيتها الأرمن والنصارى على يد الأكراد والأتراك في أثناء تسفيرهم من موطنهم التاريخي في تركيا الى الأراضي العربية ..وكتب بذلك تقاريرا ورد في أحدها ألآتي:ه
ه (الرقم 60
الموصل 4 تشرين الثاني 1915
عاجل وبالغ الأهمية
(وصل خليل بيك هنا [الموصل] البارحة مع موظفيه.وهو نفسه مريض ويجب عليه ان يخلد الى الفراش لعدة أيام. وقد ابلغني أحد القادة من ظباطه انه يتوجب ذبح الأرمن في الموصل أيضا وأنه ينوي القيام بذلك. وأن أحدا لن يمنعه من المضي في ذلك حتى أنا. إن الألمان يتنكرون لصداقتهم للترك بمحاولتهم منعهم من قتل الأرمن. ه
إن من الضروري جدا إصدار أوامر فورية وقطعية لخليل بيك لمنع المزيد من المذابح في كل الأحوال.علما إن قوات خليل التي نفذت مذابح في الشمال يتوقع ان تصل هنا غدا او بعد غد..
هولشتاين...... ) ه
وتشكل تقارير والتر هولشتاين ومعها تقارير السفراء الألمان في مدن حلب والأسكندرونة ودياربكر ومدن أخرى فضلا عن مشاهدات سفين هدين نفسه خلال عام 1916 في الرقة مصدرا مهما لشهود عيان عن الجرائم التي ارتكبها الترك وأعوانهم وراح ضحيتها الأرمن العزل وبخاصة الأطفال والنساء منهم..وقد ورد في تقرير لألماني مقيم في حلب تضمن شهادات القنصل الألماني في الأسكندرونة والقنصل الألماني في الموصل الآتي: ه
(عندما عدت الى حلب في ايلول عام 1915 من اجازة ثلاثة اشهر امضيتها في بيروت سمعت بذعر ان صفحة جديدة من مذابح الأرمن قد بدات ,ان المذابح هذه المرة اكثر وحشية من تلك التي جرت مبكرا على عهد عبد الحميد وان الهدف منها إبادة الأرمن الأذكياء والمكافحين والتقدميين عن بكرة ابيهم وألإستيلاء على أراضيهم وتحويلها الى الأتراك...ووان حلب تكتظ بالناجين من قوافل المهجرين وهم يتضورون جوعا..وللتأكد من الأنباء قمت بزيارة الخانات المزرية لأرى أكواما من الجثث نصف المتفسخة وبينها أحياء على وشك لفظ انفاسهم الأخيرة..وفي اماكن اخرى رأيت مرضى ومتضورين منببوذين في العراء..والى جوار المدرسة التقنية الألمانية التي أعمل فيها مدرسا هناك اربعة خانات تحتضن 700 او 800 منفي ارمني معظهم يتضور جوعا او يحتضر..وكنا واطلبتنا نمر بهم كل يوم فنشاهد من خلال النوافذ احوالهم المثيرة للشفقة وقد هزلت ابدانهم التي تغطيها الأسمال المتهرئة..وفي الصباح يمر طلبة المدارس بالعربات التي تجرها الثيران وهي محملة بالجثث المتخشبة العارية بلا كفن او غطاء واطرافها تتدلى من العربات..وإني بعد مشاهدتي لهذه المشاهد عدة أيام أشعر أن من واجبي أن اكتب هذا التقرير:[ بصفتنا مدرسين في المدرسة التكنولولوجية ألألمانية في حلب نعرب عن رغبتنا بكل احترام واجب ان ندون التقرير الآتي: نشعر ان من واجبنا لفت الإنتباه الى ان عملنا التربوي سيفقد قاعدته الأخلاقية وأحترام الأهالي اذا لم تتمكن الحكومة الألمانية من وضع حد للمعاملة الوحشية التي يتعرض لها أطفال وزوجات ضحايا المذابح الأرمنية هنا.ومن المهجرين الذين تجاوز عددهم الآلاف في اراضيهم الأرمنية لم يصل سوى 200 او 300 منهم الى الجنوب [حلب] ..وقد ذبح الرجال في الطريق اما النساء والأطفال فبأسثتناء المسنات من النساء والقبيحات منهن ومن مازالت طفلة تعرضن للأغتصاب من قبل الجنود والضباط الأتراك..ثم نقلوا بعد اغتصابهن الى القرى التركية والكردية لأرغامهن على اعتناق الإسلام) ه
ويستمر هذا التقرير في وصف وحشية الأتراك وقسوتهم المفرطة ويتطرق الى ردود فعل الناس تجاه الأتراك واحتمال تواطوء الحكومة الألمانية مع الأتراك حلفائهم بالحرب الدائرة..وتشكل مذابح الأرمن والنصارى المتكررة في تركيا والعراق صفحة كالحة سوداء من صفحات التاريخ الإنساني ووصمة عار على جبين مرتكبيها على مر العصور..ويقينا فإن القنصل الألماني والألمان المقيمين في الموصل وحلب وكذلك الرحالة والعلماء من طراز سفين هدين قد اسهموا في توثيق تلك الجرائم والتخفيف من آثارها على الرغم من عدم قدرتهم على منعها..ومما يميز معاناة الأرمن استمرارالمجازر لسنوات الحرب كلها. ويخبرنا سفين هدين عن جانب من معاناتهم خلال مروره بالرقة: ه
(وقد اطلعت على بؤسهم (الأرمن) بجلاء عند وصولي لمدينة الرقة التي تقع في سفح سلسلة من الجبال تعلوها خمس قمم في 18 نيسان عام 1916.. على الشاطيء الأيسر [لنهر الفرات] رأيت العديد من النساء (السوريات) يغسلن الثياب بينما يتراشق الأطفال (السوريين) بالمياه ويملأ السقائين جعب الماء الجلدية المحمولة على حميرهم...فواصلت سيري مع القائمقام وفي اعقابنا جيش من الأطفال الفقراء والنساء كلهم أرمن وعندما وصلت محلا لبيع الخبز الذي وضع على شكل اقراص مدورة فوق المناضد لم اتردد لحظة بشراء الخبز المتوفر بالمحل كله ووزعته على المتضورين جوعا..فشعرت بسعادة وأنا أراهم يأكلون وتفكرت بحزن مؤلم بالالاف الخمسة من ألأرمن الذين يتطلعون الينا تحت القيظ الذي لايطاق في الضفة الأخرى)... ه
ومما يؤكد ان الترك كانوا عازمين على ابادة الأرمن وان غدرهم بهم كان مبيتا في كل مرة، استهدافهم الأطفال الأرمن حتى في أرحام امهاتهم، وبترهم لأيدي المئات من الأطفال بقسوة تتنزه عنها اشد الحيوانات ضراوة ووحشية..إذ يخبرنا القنصل الألماني في الموصل والتر هولشتاين في هذا الصدد: ه
(في طريقي من الموصل الى حلب رأيت في اماكن عديدة أيد مقطعة لأطفال ملقية على حافتي الطريق بغزارة تكفي لتعبيد الطريق كله بها..وفي قرية عربية في الطريق الى حلب رأيت قبورا ضحلة تغطي اتربتها جثث لأرمن دفنوا حديثا...وذكر عرب القرية انهم قتلوا هؤلاء الأرمن بأوامر من الحكومة وأكد أحدهم بتفاخر أنه قام بقتل ثمانية منهم بمفرده) ه
ثم يتناول سفين هدين في معرض وصفه لرحلته الى الموصل الخصائص الأنثروبولوجية لسكان الموصل وبخاصة الكلدان ويعزز دراسته بصور تخطيطية لعدد منهم.. وفي زيارته للموصل عدد كبير من الصور الفوتوغرافية للأماكن التي زارها في الموصل والعراق تمكنا من جمعها..وتعد زيارته للموصل إحدى أكثر الزيارات أهمية لأنها جاءت في فترة ضعيفة التوثيق بالغة الخطورة في معمعان الحرب العالمية الأولى بما وفر معلومات نادرة عن الحرب وأحوال الموصل في أثنائها فضلا عما تخلل الحرب من حوادث أهمها محاولة الأتحاديين الترك إبادة الأرمن والتي يشهد لها الدبلوماسيين الألمان وسفين هدين نفسه كما أسلفنا..ولأن سفين هدين يعد واحدا من أعظم الرحالة والمغامرين في التاريخ الإنساني وأغزرهم انتاجا وتنويعا في نشاطاته واهتماماته التي تغطي حقول المعرفة كافة فهوفضلا عن اهتمامه بعلوم الآثار والجغرافيا ورسم الخرائط رسام يسجل باللوحة التخطيطية والتصوير اللوني والفوتوغرافي مشاهداته، ومؤرخ واسع الإطلاع واديب له بصمته المتميزة في الأسلوب والمجاز والوصف..مما يعطي لهذه الدراسة مكانها في المكتبة العربية والسويدية معا..ه
وتجدر الإشارة الى أن كتابه المعنون (بغداد وبابل ونينوى) الذي اعتمدناه مصدرا رئيسيا لمعلوماتنا عن الموصل في هذه الدراسة والصادر في لايبزج عام 1918 مطبوع بالألمانية القديمة (الفراكتور) التي تتعذر قراءتها على غير المتخصصين، مما دعاني الى الإتصال بمدير المتحف الأنثروبولوجي في ستوكهولم السيد [هوكان ولكويست] الذي زودني مشكورا بترجمة سويدية للجزء الخاص بالموصل من هذا الكتاب فعالجت استحصال الصور من الطبعة الألمانية المتوفرة الكترونيا..وتعد دراستي هذه الأولى باللغة العربية لهذا الرحالة السويدي ورحلته نادرة المثال الى الموصل.. ه
ملاحظة عن الصور: ه
يتفرد سفين هدين بأهتمام هائل بالتوثيق لرحلاته بالصور الفوتوغرافية والتخطيطية والخرائط..وتزخر مؤلفاته بالصور وكتابه عن رحلته الى العراق الذي دخله بطريق دير الزور ليس استثناءا...إلا أن الصور التي اعيد اخراجها الكترونيا غالبا ماتعاني من مشكلات الوضوح لأن معظمها بالأسود والأبيض أخذت بتقنية قديمة، والتعقيبات عليها باللغة الألمانية القديمة وهي أشبه بالزخرفة تتداخل فيها الحروف ويتعذر تأويلها..غير أن معرفتي بالعراق [بعرضه وبطوله وبرافديه وباسقات نخيله] وماسبق ان ارشفته من صور يسرعلي معرفة الأماكن التي وثق لها سفين هدين بصوره الفوتوغرافية والتخطيطية الكثيرة..وهناك في الطبعة السويدية للكتاب صورنادرة أضافها المتحف الأنثروبولوجي في ستوكهولم تمثل الموصل وعددها ثلاث صور سوف اعيد تصويرها واخراجها الكترونيا ثم ارسالها في وقت لاحق استزادة للفائدة وحبا بالشمولية في ضم كل مايخص الموصل ضمن ارشيفي ونقله الى المهتمين من ابناء المدينة. وجاءت مجموعة الصور التي اخترتها مع هذا المقال الذي حرصت على ان يكون شاملا لتغطي الموصل تحديدا والطريق اليها من الشرقاط مرورا بالقيارة مع عدد من الصور لبغداد رايت ندرتها سببا لإرسالها ..وهي غيض من فيض...آملا ان اكون قد اكملت الموضوع وأرضيت القراء والمتابعين والله والوطن من وراء القصد.. ه
صلاح سليم علي .. كرستنساند..النرويج
عودة الى الصفحة الاولى
نشر في بيت الموصل في 13-6-2013