الموصل في ثلاث رحلات لمارك سايكس
صلاح سليم علي
صلاح سليم علي
مقدمة:
زار الموصل العديد من الرحالة ومن العديد من الدول الأوربية والغرب الأميركي.. وتنوعت اهدافهم ومراميهم من وراء تلك الرحلات.. ومنهم من زارها مرتين وثلاث مرات ..ودون معظمهم تفاصيل رحلته وما تخللها من تجارب ..مما وفر لنا صورة عن المدينة والمجتمع الموصلي منذ القرن الثالث عشر حيث سجل ماركو بولو اول وصف للموصل وسماها مملكة الموصل او يوفيميا كما يحلو لأيتالو كالفينو تسميتها في كتابه [ المدن غير المرئية] الذي استعرض فيه المدن التي زارها ماركو بولو تخيليا..فكانت الموصل اشبه بمدينة سحرية تنسج الأقمشة النادرة والحكايات الشيقة..ومن الرحالة من احب الموصل فجاء وصفه لها انعكاسا لحبه لها ومنهم من ابغضها ونفر منها فجاء وصفه انعكاسا لبغضه لها ونفوره منها..ومن هؤلاء مارك سايكس الذي زار الموصل ثلاث مرات وجاء على وصفها في كتب رحلة ثلاثة هي [في خمس ولايات تركية]، و[دار الأسلام] و[ميراث الخلفاء الأخير]..وتأتي زيارات مارك سايكس في سياق التطلعات الأمبريالية لبريطانيا في المشرق العربي وفي مضمار خطة بريطانية تهدف تقسيم العالم الإسلامي وفصل العرب عن العثمانيين..وكان يصاحب مارك سايكس في تنفيذ هذا المشروع توماس ادورد لورنس المعروف ب [لورنس العرب] وأوبري هربرت [الوزيرو الحاكم البريطاني على ايرلندة] و جرترود بيل [مؤسسة نادي العلوية والمعروفة في بغداد بالعلوية] وهاري جون بريجر فيلبي او عبد الله فيلبي [أول مدير أمن في بغداد] وكلهم موظفون في المخابرات البريطانية للفترة التي سبقت وتخللت وتلت الحرب العالمية الأولى..وقد لعب مارك سايكس بالمشاركة مع ديفد لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني في اثناء الحرب وتوماس ادورد لورنس دورا مهما في رسم خارطة الشرق الاوسط الحديث وتوزيع اراضيه فيما بين الحلفاء وفق معاهدة سايكس - بيكو التي تخللتها محادثات مع الصهاينة تمخضت عن تنفيذ وعد بلفور وتعيين الصهيوني هربرت صموئيل مندوبا عاما على فلسطين ورئيسا فعليا لدولة اسرائيل مما مهد لصراع طويل الأمد لا تعرف نتائجه بعد..وكان معظم الرحالة وبخاصة الأنكليز منهم يتنكرون خلال رحلاتهم بأزياء عربية وشرقية لأخفاء هوياتهم الحقيقية عن عامة الناس وتيسير حركتهم في الشرق ..
وشخصية مارك سايكس مركبة انعكست ومنذ طفولته في سيرة غاية في التعقيد والتشابك والتنوع..فهو ينتسب الى الأرسقراطية البريطانية ويتمتع بالوراثة بلقب بارون ..وكان بمقدوره ان ينصرف الى حياة من الدعة والرفاهية في مقاطعته في يورك [ سلدمير] غير انه كما يخبرنا ونستون تشرشل في مقدمة كتاب [مارك سايكس: حياته ورسائله] الذي الفه ابن اخت تشرشل شين ليزلي عام 1923..
(انصرف مارك سايكس الى السفر في الشرق الأدنى بدونما اي امل في ايجاد كنز دفين او تطلع لتغيير المعتقدات الدينية والأنتماءات الاثنية في اراضي الأمم التي تجول بينها..فتعرف على المشارقة والفلسطينيين وتعمق في معرفة العرب والترك..ووصل الى مناطق لم يصل اليها سوى القليل من قبله هذا ان كان قد وصل اليها احد على الأطلاق ووضع خرائط لطرق ولبلدان لم تتمكن وزارة الحرب ولا الجمعية الجغرافية في جهودهما المشتركة من تغطيتها او استيعابها..وكانت تلك سنوات من الصبر والعمل الشاق كرس لها مارك فكره وامواله في ارض قد تبدو عقيمة..فقد عقد العزم ليجعل من نفسه مرجعا من الطراز الاول في هذا الجزء الذي اختاره من العالم، وقد حافظت كتبه الأصلية والحيوية على التقدم الذي احرزه لمن جاء بعده ممن ثمن منجزاته، وعلى الرغم من قراءة كتبه على اوسع نطاق ونفادها من المطابع، فأنها تحتضن مقاطع يشعر الكتاب الأنكليز والرحالة ايضا بالأفتخار عند قراءتها..فقد تفرد للخدمة في الشرق..واصبح عاملا جوهريا في السياسات المعقدة والمتميزة كلها التي فصلت العرب عن الأتراك وقسمت العالم الإسلامي في واحد من أكثر المفاصل التاريخية الحاسمة بالغة الأهمية..فتمكن في الحلقة الأخيرة من تجهيز قوات مهمة في جبهة الصحراء لدعم جيوش اللنبي، حتى اصبح عنصرا فاعلا في حل المشكلات الناجمة فيما بين الحلفاء بخصوص الشرق الأوسط بعد الأنتصار)..
ان مراجعة لتفاصيل حياة مارك سايكس تؤكد ان الأمم العظيمة بنخبها الوطنية والقومية وسعي تلك النخب الى حماية المصالح الستراتيجية والاقتصادية لبلدانهم..ومارك سايكس واحد من نخبة صادف وجودها مرحلة مهمة من تاريخ بريطانيا والعالم ..هي مرحلة انتهاء العالم القديم ومعه مراكز القوة الآسيوية وبدء العالم الجديد ومعه مراكز القوة الغربية..وكانت للنخبة البريطانية في تلك المرحلة سمات وقواسم مشتركة .. أهمها الوعي التاريخي والجغرافي والفكرة الأمبريالية التي تتمثل في شعورهم ان بريطانيا هي مركز العالم وفي كونهم محافظين في انتمائهم السياسي وارستقراطيين اثرياء ينتسبون لأسر قوية فضلا عن اهتمامهم بالعالم الخارجي وتأكيدهم على ضرورة الأبقاء على بريطانيا امبراطورية قوية ومجيدة..ومارك سايكس كأقرانه في المخابرات البريطانية من المعجبين حد التقديس برئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الذي اشترى لبريطانيا الحصة المصرية في قناة السويس عام 1875 ..ويشاطره افكاره التاريخية واهتمامه بالأدب والكتابة [ كتب دزرائيلي عدد من القصص ذات المضامين الفكرية والتاريخية وبخاصة رواية تنجريد "القائد النورماندي للحملة الصليبية الأولى"يؤكد فيها دور الأفكار او القوة الناعمة في التغلغل في العالم وضرورة استخدامها لأخضاع الشعوب]..
ولابد من استعراض حياة مارك سايكس وسيرته قبل الدخول في وصفه للموصل ومقته الشديد لها ثم السبب في ضمها للإدارة الفرنسية في اتفاقية سايكس - بيكو سيئة الصيت..
مارك سايكس:
سير مارك سايكس هو البارون السادس لأسرة من البارونات الأثرياء، واسمه الكامل تاتون بنفينوتو مارك سايكس ولد في 16 آذار 1879 ، وهوسياسي ودبلوماسي وكاتب ورحالة وعميل مخابرات بريطاني متخصص بالشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى ويرتبط ذكره بالمبعوث الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والإتفاقية التي تحمل اسم سايكس- بيكو وهي اتفاقية وضعت خلال الحرب لأقتسام تركة النظام العثماني في الشرق الأوسط فيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا..وقد امضى مارك سايكس جانبا من طفولته في لندن بصحبة امه وجانبا آخر في يورك في صحبة ابيه وذلك بسبب انفصال ابويه..وقد اعتنقت امه المذهب الكاثوليكي الذي اصبح مذهبا لسايكس وهو في الثالثة من عمره..وكان والده الثري يصطحبه في رحلات شتوية الى الشرق الأوسط..وكانت نتيجة زياراته المتكررة لسورية ولبنان دراسة كتبها عام 1898 وكان عمره 19 عاما عنونها دروز لبنان .. ويخبرنا في هذا الصدد: (عندما كنت طفلا في العاشرة اخذني ابي الى جبلهم، ومرة اخرى اخذني ابي الى جبل الدروز عندما كنت في الحادية عشرة، ومرة ثالثة عندما بلغت الثالثة عشرة واخيرا وبعد خمس سنوات زرتهم بمفردي)..وبينما غرز فيه ابيه حب المغامرة والرحلات من المكسيك وحتى مصر، زرعت فيه امه حب اللغات والآداب الأوربية فاصبح بلزاك وديكنز وسويفت من كتابه المفضلين..وفي رحلاته غالبا ماكان يحمل في حقيبته عددا من مسرحيات شكسبير..وليس من الصعوبة ان نعثر في كتاباته وكاريكاتيراته تأثيرا واضحا للمسات سويفت وبخاصة رحلات جلفر..فقد زاوج مارك معرفة واسعة متنوعة ببساطة شخصية متميزة وصبابة دائمة.. وتمخضت ثقافته متنوعة المصادر والواجهات عن معرفة واسعة بالأدب الأنكليزي واللغتين العربية والفرنسية واطلاع واسع على الأمم والشعوب والسياسة والتاريخ وسير القادة والمفكرين ولاسيما فوبان [مركيز دي فوبان احد ابرز مصممي التحصينات الدفاعية في اوربا] وساكس [مارشال موريس ساكس قائد فرنسي احرز انتصارات كبرى لصالح فرنسا في القرن الثامن عشر] الذي كتب عن حياته ..فضلا عن اهتماماته العسكرية وبراعته في رسم الخرائط...وعندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره كان مارك سايكس قد الف اكثر من اربعة كتب تناول في احدها فن اعداد المجلات وفي آخر اساليب التدريب العسكري للمشاة فضلا عن [دار الإسلام] و[رحلة في خمس ولايات تركية] و[ميراث الخلفاء الأخير: موجز تاريخ الأمبراطورية التركية]، وهو كتاب في الرحلة اكثر منه في التاريخ.. وعندما بلغ مارك السادسة عشرة من عمره ارسلته امه الى امارة موناكو حيث تربطها بأميرتها صداقة ومنها غادر مارك الى بروكسل حيث درس الفرنسية في جامعة سانت لويس..وفي 1900-1902 سافر الى جنوبي افريقيا للمشاركة في حرب الباور الثانية [وتعني الباور المزارعين المتحدرين من اصول هولندية في جنوبي افريقيا]، وكان واجبه ينحصر بالحراسة مع قليل من المشاركة القتالية، وعمل للفترة 1904 و1905 نائبا للحاكم البريطاني العسكري على ايرلندة جورج ويندم وعين بعد خدمته في ايرلندة ملحقا في السفارة البريطانية في القسطنطينية. وفي عام 1913 اعقب ابيه في لقب البارونية في مقاطعة يورك بينما كان ومنذ 1912 عضوا محافظا في البرلمان عن مدينة هل. وشكل مارك خلال عمله في لندن علاقة حميمة مع اوبري هربرت وجرترود بيل وتوماس ادورد لورنس وبيرسي كوكس [المندوب السامي البريطاني في العراق 1920- 1923]..وكان سايكس في سياسته يتعاطف كثيرا مع الأرمن والعرب واليهود والترك حيث صمم غرفة من غرف قصره في سلدمير على طراز الزخرفة التركية وصممها له المعماري الأرمني ديفد اوناسيان..وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، كان مارك سايكس بمرتبة لفتنانت كولونيل [مقدم ] في الجيش البريطاني وقائدا للكتيبة الخامسة المعروفة بالهواردز الخضر[ كتيبة للمشاة من منطقة يورك]، غير انه لم يقد كتيبته في اي عمل عسكري لأن اللورد كيشنر وزير الحربية آنذاك استدعاه للخدمة في وزارة الحرب [الدفاع]للعمل مستشارا حول السياسة البريطانية في الشرق الأوسط ضمن لجنة دي بنزن [ وهي لجنة يرأسها البروسي موريس دي بنزن الذي خدم بريطانيا بصفة سفير لحين تعيينه رئيسا للجنة تحمل اسمه وكان هدف اللجنة دراسة مصير الأمبراطورية العثمانية وتقسيمها بعد الحرب]..وقد شارك مارك سايكس في تأسيس المكتب العربي [وهو مكتب استخباري وظيفته متابعة وتنسيق السياسة البريطانية في الشرق الأدنى وتقديم المشورة لوزارة الحربية والخارجية والأدميرالية والإدارات التابعة لبريطانيا بالتحركات العثمانية والألمانية خلال الحرب فضلا عن الدعاية لصالح بريطانيا في الأوساط العربية]..وقد عمل مارك سايكس وفريقه في المكتب العربي على احياء مصطلحات يونانية ورومانية قديمة في وصف الشرق الأوسط كسورية والعراق وفلسطين وميسوبوتاميا، كما صمم علم الثورة العربية من الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض [وهي الألوان التي مازالت تزين الأعلام العربية في الأردن وسورية والعراق ومصر والسودان وليبيا ودول عربية اخرى مع تحولات واضافات طفيفة] ولعله كان يفكر بألوان سكان البحيرة المسحورة في الف ليلة وليلة قبل ان تحولهم الساحرة الى سمك عندما صمم ألوان علم الثورة العربية.. مما يؤكد بصمات مارك سايكس في تشكيل الشرق الأوسط الحديث..
ويعد مارك سايكس ممثلا بأمتياز للسياسة البريطانية التقليدية التي تبناها المحافظون والليبراليون معا وتتمثل بمنع التوسع الروسي جنوبا في اتجاه البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي..وقد تبنى كل من بالمرستون ودزرائيلي وسالزبري وجهة النظر البريطانية هذه بينما ناصب رئيس الوزراء الليبرالي كلادستون الحكومة العثمانية العداء لما اصاب المسيحيين من رعاياها من ويلات ومذابح، ويشاطر الزعيم الليبرالي وصديق مارك سايكس ديفيد لويد جورج المحافظين وجهة النظر السياسية هذه بقوة ، فلا غرابة ان يتبنى مارك سايكس الموقف البريطاني المحافظ نفسه..وعندما نشبت الحرب برزت جملة من المشكلات انقسم السياسيون البريطانيون ازاءها..ومن ابرز المشكلات مصير الأمبراطورية العثمانية والأمم التابعة لها بعد الحرب من جهة وكيفية تسوية المصالح مع الحلفاء مما وضع مارك سايكس في قلب التحرك الدبلوماسي والسياسي المكرس لحل هذه المعضلات..وكان الوضع العربي يحظى بأهتمام كبير في السياسة البريطانية فمن الأنكليز من يفضل تأييد القضية العربية على حساب تركيا ومنهم من يؤيد تعزيز تركيا جديدة قوية وحليفة تكون منطقة عازلة تحول دون التغلغل الروسي في الشرق الأوسط ..وكان لورنس وجرترود بيل يميلون الى تشكيل دولة عربية واحدة تكون صديقة لبريطانيا بينما فضل مارك سايكس ايجاد دول عربية مستقلة صديقة تضمن سلامة الملاحة الى الهند ولاسيما بعد اعتماد النفط بديلا للفحم الحجري وقودا في السفن..
ومن جهة ثانية كانت فرنسا تتطلع الى الحصول على اراض في سورية حيث توجد اقلية مسيحية بينما طالبت ايطاليا بجزر في بحر ايجة وبحماية المسيحيين في تركيا ..وكانت روسيا تتطلع الى بسط نفوذها على المضايق التي تصل البحر الأسود ببحر أيجة وحماية المسيحيين في ارمينيا التركية وفي ساحل البحر الأسود..في الوقت الذي تقدمت اليونان في طلباتها في ضم ثراسيا وجزر في ايجة مما تسبب في تصادم مصالح مع روسيا وايطاليا وتركيا الجديدة..ومما زاد الأمور تعقيدا مطالبة الصهاينة البريطانيين بوطن قومي في فلسطين...وكان مارك سايكس يؤيد آرثر بلفوروزير خارجية بريطانيا في اثناء الحرب في وعد قطعه لليهود عام 1917 وبتأثير حاييم وايزمان الصهيوني البريطاني آنذاك، ويتضح موقف مارك من رسالة ارسلها لاحقا الى الملك فيصل الأول ملك العراق قال فيها ( ان هذا العنصر [اليهودي] المحتقر والضعيف يوجد في كل مكان ويتمتع بالقوة ولا يمكن اهماله)، وموقف مارك يتفق مع سياسة حكومته كما ينسجم مع مواقف عدد من زملائه في المكتب العربي وفي المخابرات البريطانية وبخاصة الصهاينة منهم..وتوفي مارك سايكس عام 1919 وعمره 39 سنة في اثناء مشاركته في مؤتمر باريس في غرفته في فندق لوتي بين حدائق تويلري ومتحف اللوفر وساحة الكونكورد..وقد وصف الدبلوماسي الأنكليزي الشاب هارولد نيكولسون تأثيره في المؤتمر بقوله: (وبسبب دفعه ومثابرته وحماسه وايمانه اصبحت القومية العربية والصهيونية اثنتان من انجح قضايا الحرب التي خضناها)..ووصفه ناحوم سوكولوف الزميل الصهيوني الروسي لحاييم وايزمان واحد المشاركين في مؤتمر باريس (لقد سقط كبطل يقف الى جانبنا) مما يؤكد تاييده للصهاينة.. وكان قد توفي بسبب الإصابة بالأنفلونزا الأسبانية ونقل جثمانه الى يورك ليدفن بالقرب من قصره في كنيسة انجليكانية على الرغم من كونه كاثوليكيا..وبعد 88 سنة على وفاته فتح قبره عام 2008 واخذت عينات من رفاته لأغراض البحث العلمي في الأنفلونزا التي تسببت في موته..
وعلى الرغم من كون مارك سايكس واحدا ممن عملوا على تقسيم العالم العربي الى دول مستقلة يتبع اكثرها السياسة البريطانية وبخاصة السعودية ودويلات الخليج والأردن وسعيه في تكوين دولة يهودية في فلسطين ..وعلى الرغم من موقفه المعادي للإسلام، ومقته الشديد للموصل فإنه قدم من خلال كتبه معلومات متنوعة عن الشرق الأدنى في مطلع القرن العشرين وعمل على فصل العالم العربي عن السلطة العثمانية مما مهد لعصر جديد ولحركات التحرر العربي [ التي انكفأ معظمها للأسف]..وتحتوي كتبه على خرائط طوبوغرافية متنوعة للمناطق التي زارها من الشرق الأوسط ولاسيما العراق.كما قدم مسردا بالقبائل الكردية ضمن ألإدارة العثمانية..وفي الحكم عليه كموقف، لابد من ان نأخذ بنظر الإعتبار أنه يمثل وبقوة الآخر الأجنبي على افضل وجه، فقد خدم وبأخلاص منقطع النظير مصالح بلاده في مناطق مختلفة من العالم وعلى صعد مختلفة جنديا ودبلوماسيا وكاتبا ورحالة ومنظرا عسكريا واستخباريا..وهو بذلك افضل من يمثل جيلا ضم لورنس العرب وجرترود بيل وهربرت صمويل واوبري هربرت ولويد جورج وونستون تشرشل وغيرهم..وهو بذلك يقدم نموذجا للجندية والوطنية والإقدام في خدمة البلاد..يتجاوز حدوده القومية والزمانية كرمز وطني وقومي عالمي تماما كنابليون بونابرت وفون مولتكة وغاريبالدي وغيرهم..ولعل من المفيد ان نستعرض عددا من مواقفه من قضايا مهمة في عصره قبل الإنتقال الى وصفه للموصل ..فقد كان مارك سايكس يتمتع بصداقات كثيرة مع شخصيات عسكرية ودبلوماسية واكاديمية وكان كثير المراسلات مما جعله واحدا من ابرز كتاب الرسائل في العصر الحديث..ومن ابرز صداقاته استاذ الدراسات العربية والفارسية في جامعة كمبردج ادورد كرانفيل براون مؤرخ الأدب الفارسي الذي تميز ايضا بانتقاده الشديد لسياسة الحكومة البريطانية الإستعمارية في مقالات عديدة..يبدو انه تطرق في احدها الى حادثة دنشواي [ وتتمثل بقيام ضباط الإحتلال البريطاني في مصر بمداهمة قرية دنشواي في المنوفية بدلتا مصر لصيد الحمام الذي يربيه المصريون مصدرا للغذاء وقتلهم لأمرأة مصرية وحرقهم لمخزن حبوب..وعندما هب المصريون في القرية للدفاع عن انفسهم سقط احد الضباط بسبب توقف في قلبه مما تسبب في تشكيل محكمة كان من قضاتها القبطي بطرس غالي تمخضت عن اعدام عدد من المصريين وتبرئة الأنكليز..وهي حادثة تعكس سياسة انكليزية خبيثة تعتمد خلق النقائض النوعية في البلدان المستعمرة .. وانتقد العديد لجوء الأنكليز الى العنف ..ولم اعثر على مقال براون ولكن الأرجح انه مر على ذكر الحادثة فحسب فجاء رد مارك سايكس عليه برسالة في 3 كانون الأول عام 1907 قال فيها:
(شكرا جزيلا لمقالتك الممتعة جدا..فقط تمنيت لو انك لم تذكر دنشواي لأنها لطخة كبيرة في سجل الإدارة الأنكليزية، جلبت علينا السخرية والإستهجان في غربي آسيا بأسرها..فقد كان اعدام القتلة حماقة كبيرة لأن كبيرهم هو المسؤول اي ليس الفلاح بل العمد [جمع عمدة] الذين كانوا في اسرتهم [بتشديد الراء]عندما قتل رجال سود الضباط الإنكليز..ومن احترمه شخصيا من الأمبريالييين الأنكليز فقط هم رجال ك [روبرت]كليف[مؤسس شركة الهند الشرقية] و[جون] نيكولسن[ محام وقائد بريطاني في الهند] و[ريتجارد فرانسيس] برتون [ضابط في شركة الهند الشرقية ومحارب في حرب القرم ومترجم الف ليلة وليلة ومستشرق شهير] و [تشارلس جيمس] نابير[القائد العسكري البريطاني في الهند وصاحب المقولة "ان البشر في ضلال بحيث تجد ان اية جماعة تفضل ان يساء اليها من قبل حكامها على ان يحسن اليها من قبل حكام من غير بلادها] و[تجارلس جورج] كوردن [القائد البريطاني في معركة الخرطوم]،لأنهم تمكنوا من معالجة الشرق بدون إثارته..وثمة حقيقة بارزة هي ان السفراء في تركيا ممن يحافظ على النظام عسكريون يقدرون من التحرك على خيولهم والصيد واصدار الأوامر بدون اقلاق الناس المحليين بوعود زائفة و بهراء حقوق الأنسان..ولهذا اصبح الناس ينظرون اليهم بأحترام ويعدونعهم بني آدم وليس بني [اولاد] كلاب)..
كما نتعرف في رسائله على موقفه من سكة حديد برلين بغداد التي اثارت في الفترة السابقة للحرب مخاوف البريطانيين وكانت احدى مهام لورنس العرب تخريبها بنسف الخطوط المنجزة في اماكن مختلفة..ولكن مارك سايكس له موقف مختلف:
(ليس من الممكن التنبوء بتأثير سكة الحديد على البلاد..ولكن بمقدوري أن اتخيل نتيجتين ولعلي مخطيء في ذلك: اولهما تمليها الرغبة على الفكر..انها [اي سكة الحديد ألألمانية] ستجلب السلام والإزدهار والنظام ثم نهضة تدريجية للسكان العرب من جراء الثروة والتعليم، فيتمكن الأكراد والبدو من جلب أصوافهم ولحومهم [اغنامهم ومعيزهم ومنتجاتها] للبيع..وتتزايد المصنوعات المحلية ثم يصار الى تطوير الثروات المعدنية للبلد بدون مساعدات اوربية.وتترتب ارباح على الصادرات وتجارتها أكثر من تلك المستحصلة من الأستيراد والنقل [التجارة ] الأوربي..
ومن جهة أخرى تتمثل امامي صورة رهيبة للناس وقد اتخذوا موقفا معاديا لسكة الحديد، للألمان يتدفقون على المدن العربية بنفايات منفرة وانهيار كبير بالصناعات المحلية والحرف المتبقية..لسكة الحديد تخدم المصالح الآوربية فقط مثقلة البلاد بضمانات باهضة ثم بإحتلال للأرض في آخر المطاف من قبل عنصر [الألمان] لايتعاطف مع المشارقة تماما كما لايتعاطف معنا فيتعاملون مع الناس معاملة الأسياد للعبيد بخشونة وطغيان مما يمكن لذوي الرؤوس الثخينة والأنوف المنفوخة كأنوف الخنازير..ممن يميليون الى الصخب والأمتثال لروح القطيع من التيوتونيين..وفي مثل هذه الحال أراني جاثما أصلي على ركبتي المنثنيتين أن يقوموا [الألمان] بأستعمار البلاد [سورية والعراق] وأن يطيل [الله] في عمري لأرى الجيل التالي [من الألمان] موبوءا ومتراخيا وبدينا ومتشرقا [اصبح مشرقيا] والله "ي"[القسم لمارك وبأسلوب العامية الموصلية] ! سيكون الزمن قد انتقم [من الألمان] انتقاما كاملا)..
وفي مكاان آخر: ( ان المسألة الشرقية الوحيدة الحقيقية هي سكة حديد بغداد ودخول الأسطول الألماني مياه الأسطول البريطاني..والمركزين المهمين هما الموصل والبصرة..مع ذلك لم يجر اي ذكر لألمانيا ولا لتركيا في حقيبة فضلات الأوراق اللعينة التي كتبها غراي [ادورد غراي وزير خارجية بريطانيا الذي وعد الروس بالمضايق التركية] وزملائه بالمشاركة مع عصابة منبوذة فاسدة من الهون [كلمة تدوينية لوصف الألمان والروس] الرسميين..اللعنة على قبعاتهم المسطحة وشواربهم الطويلة المعقوفة وانفاسهم التي تزخر برائحة الفودكا)..
ولمارك سايكس آراء بالأدب الأنكليزي الذي أثر في كتاباته بوضوح اذ نلمس في كتاباته أسلوب ديكنز وسخرية جوناثان سويفت..ففي مقارنته لديكنز بثاكري يقول (في مقارنتي لديكنز بثاكري..يخال لي أن ديكنز ذائع الصيت لأنه يبتكر شخصيات غريبة لايمكن تخيلها اما ثاكري فلأنه يرسم الحياة كما هي تماما)..وهو رأي نقدي صائب ...
ونلاحظ اسلوب ديكنز من خلال التكرار الذي استخدمه في النص الآتي عندما شاهد خارج قلعة شرقية عظيمة قبرا لقاطع طريق كان هو من شيدها:
( الضريح اصبح مأوى للمشردين وحوائجهم، فما اغرب ان يتحول ضريح لص سارق الى ملجأ من اللصوص..بعد مغادرتي لخرنوب [قرية في الطريق الى البتراء] باتجاه الجنوب دخلت صحراءا مخيفة رهيبة ومرعبة صحراء تتخللها جبال كبيرة من الصخور الحمراء والبيضاء صحراء بلا تخوم اشجارها ميتة ذاوية ومنكمشة كانها مصابة بطاعون نخرها وقمعها..حيث تكثر الصخور الناتئة والأكوام التي نبت فوقها الفطر وبقايا مجاري مياه ضحلت وجفت وآبار مهجورة ناضبة وتلال بلا نهاية لم تمر عليها اقدام بشر..صحراء كانت مأهولة يوما إلا ان أهلها ماتوا عن بكرة ابيهم، ماتوا كالعشب الذاوي، ماتوا كالحصى المتقد من حرارة الشمس، ماتوا كالحجارة السوداء الكالحة، ماتوا كالمجاري الخالية المحترقة المهجورة في هذه التلال والمرتفعات الميتة..وإن جاء زمان يموت فيه العالم، فأن جثته المتفسخة ستبدو تماما مثل هذا المكان! )
الموصل كما وصفها مارك سايكس في ثلاث رحلات:
زار مارك سايكس الموصل ثلاث مرات الأولى في ربيع عام 1899عندما كان طالبا في جامعة كامبردج حيث اخذ اجازة الصوم الكبير قبل عيد الفصح وفي نيته امضاء ثلاثة او اربعة اشهر في الشرق زار فيها الصحراء السورية ودمشق فحلب فبغداد فالموصل فوان وعاد بطريق جبل ارارات فأريفان فباطوم..ونشر رواية رحلته في عام 1890 بكتاب اسماه [رحلة في خمس ولايات تركية]..وكانت رغبته الرئيسة ان يصبح مكتشفا فجاءت زيارته الثانية للشرق في تشرين الثاني عام 1902 وبصحبة زميله جون هوف سميث فزار لبنان وسورية وتركيا والموصل قبل ان يعود في شهر آب عام 1903
ونجح في هذه المرة في وضع خرائط عديدة لأصقاع مجهولة وجمع مادة لكتابه الثاني في ادب الرحلة وهو[ دار الإسلام] الذي كتب مقدمته المستشرق ادورد كرانفيل براون..والذي ظهر عام 1904..وجاءت زيارته الثالثة للموصل بطريق الجزيرة فسنجار فتلعفر فالموصل عام 1906 ودون تفاصيل رحلته تلك في كتاب اسماه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي لم يظهر حتى عام 1915..وكان مارك قد القى تفاصيل رحلته في محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية في آذار عام 1907 مؤكدا على الجزيرة الفراتية التي فقدت وظيفتها كحد فاصل بين الشرق والغرب منذ ان انهى اكتشف فاسكو دي جاما الطريق البري لتصبح منطقة فاصلة بين الجنوب والشمال..
الزيارة الأولى (1899):
( الحدث الوحيد الذي يستحق الإشارة بين أربيل والموصل هو عبور الزاب بوساطة قارب والقارب كبير ومربع يمكن ان يحمل ستة خيول وعشرين رجل..وكان نقل البغال الى القارب عملا شاقا وكان المرافقين برابرة في قسوتهم..ففي أحدى الحالات قاموا بربط ارجل البغل ورموا به الى الأرض وسحبوه من راسه وكادوا بذلك يخنقون الحيوان المسكين في حمله الى القارب..وكان معي ثمانية بغال وأربعة خيول استغرق نقلهم بواسطة القوارب قرابة ثلاث ساعات..ولم يكن تنزيلهم في الضفة الثانية باسهل من أدخالهم القارب..وبعد يومين وصلت الموصل..وكان أول شيء أثار انتباهي جسر بديع..وهو عمل متقن لولا خطأ واحد ..فالمهندس الذي صممه بدأ فيه على مسافة تبعد عن الضفة حوالي مائة وسبعين ياردة، فبنى 24 ركيزة قبل ان يصل الى ضفة النهر..ثم وبعد تفكير ارتأى أن يتمم الجسر بطريق جسر آخر من القوارب ثم ربط تلك القوارب بسلسلة من الحديد بالجسر الحجري.. وعلى الرغم من ان هذا البناء لافائدة منه كجسر فقد تحول الى مأوى للشحاذين والمجذومين وباعة المعلاق والحليويات [ وكان رحالة أخرون قد أشاروا الى ان هذا الجزء من الجسر قد تحول مكانا لشذاذ الآفاق والخمارة واضرابهم وبخاصة في اثناء الليل].. وعندما وصلت الموصل كانت الأوضاع مضطربة فيها..فقد توفي الوالي الأخير [حسين حازم باشا] منذ ستة اشهر ولم يعين وال يخلفه لذا لم يوجد من يرخص بإطلاق النار على السراق..وكانت النتيجة حبس ضابطي شرطة لأطلاقهما النار دفاعا عن النفس على سراق.زوكانت السرقات ترتكب في الأسواق في وضح النهار..وتصبح المدينة في فوضى بعد الساعة السادسة فلا يغامر أحد بالخروج من بيته بعد غروب الشمس.. ويبدو لي ان التاثير الأوربي هو الأضعف في الموصل منه في المدن التي زرتها حتى الآن..اما الأسواق فممتعة والباعة المتجولين لايزعجون المارة بالحاحهم كما هو الحال في بغداد. ولفرنسا قنصل يمثلها في الموصل ولكن حكومتنا ولسبب غير واضح من اول نظرة، تفكر ان مكانا بهذه الأهمية يمكن ان يخدم في افضل الأحوال بوكيل قنصل.. والشخص الذي يشغل هذا المنصب مسيحي من اهالي الموصل هو نمرود رسام [الأخ الأصغر لهرمز رسام] ويقول الناس في الموصل ان عم نمرود [كريستيان رسام] ارسله الأنكليز لحراسة آثار نينوى]..وقد اجرت بيتا في الموصل وبقيت فيها خمسة ايام ثم غادرتها في 16 آذار متجها الى زاخو ومنها الى بتليس)..
الزيارة الثانية (1902) :
(وبعد انتهاء رحلتي في الجبال، اتجهت الى الموصل بأقصى سرعة ممكنة وبذلك عبرت من كردستان الى أرض العرب..وتقيم بين العنصرين [الأكراد والعرب] اقوام نصفية [اي لا عرب ولا أكراد ربما يقصد بهم الشبك والجرجرية]، وهؤلاء لا يشبهون أطلاقا الأقوام المتدنية التي رايتها في اورفا..فهم عنصر راق يتميزون بالنظافة وبالمثابرة التان لانشاهدهما لدى المشارقة ..ولابد لي أن اقر بأني سررت في رؤيتي مرة أخرى بدويا اشعثا وبربريا يعنى بقطعانه خارج الموصل..لقد صدق أوديسيوس [ هو السير تشارلس اليوت اوديسيوس مؤلف كتاب تركيا في اوربا]عندما ذكر في كتابه الممتاز يستلزم ان يكون الشخص ذكيا جدا لكي يميز عنصرا عن آخر بطريق الفراسة في تركيا الأوربية..وكذلك الأمر في المنطقة المحيطة بالموصل فهنالك قرى يزيدية وقرى مسيحية وقرى عربية وقرى لبدو اكراد وأخرى لبدو عرب ولبدو شمر وشبه بدو وشيعة ززوفي الواقع تجد حول الموصل العقائد كلها والعتاصر كلها.. وعلى الرغم من امكانية تمييز كردي من الجبل عن بدوي تماما كتمييز زنجي من انكليزي..فإن العناصر الوسطية تحتضن موالفة من العنصرين..فقد رأيت اناس يعرفون بأنهم أكراد إلا ان لديهم خصائص العرب كلها فهم يرتدون العقال وملامحهم خشنة كملامح البدو بما يترك لنا ان نتساءل اذا كان عنصر العرب من الوسامة بمكان؟ ولكن هناك جميع الأنواع من الوجوه المحيرة في تركيا.. فكيف لك ترى ان تشاهد بين اولئك الأوغاد مستديري البطون سمر السحنات من المتمرغين بالرمال في قرية من الفلاحين طفلا سرح الشعر ازرق العينين وبوجه يسر ميليس [ المصور الأنكليزي جون ايفرت ميليس صاحب لوحة اوراق الخريف الشهيرة] ان يلقي نظرة عليه؟ والسير ركوبا الى الموصل مبهج بعد ان تبدو المدينة على مسافة ميلين لأن مظهرها يكذب قذارة شوارعها وفقر اسواقها.. وسكان الموصل من عرب المدن المعروفين بكبريائهم وتعصبهم وغرورهم تماما كعرب حماة وحمص ودمشق ..وهم ملسونون ، ماكرون وسريعوا الإثارة ورعاديد..فهم يمثلون في عقلي واحدة من اسوء الصور التي يمكن للمرء ان يراها في الشرق: فهم موبؤون من جراء سنوات من العيش الرديء، يسخرو من ألقرويين بكل الإزدراء المنفر الذي يسقطه لندني مقزوم "كوكني" [تشير الكلمة الى طبقة عمالية تسكن في شرقي لندن في عصر ديكنز] على ريفي جلف صادف ان زار لندن..ولديهم القدرة على تضمين ابيات من الشعر، يكرهون الأتراك – وهؤلاء افضل منهم بما لا يقاس – وينعتونهم بالبرابرة، وهم كسالى لا أمل فيهم، ميالين الى الشر بقدر ماتسمح لهم به اجسامهم الضعيفة، مستعدون في اية لحظة للهرج والمرج والذبح بدافع التعصب بقدرما يضمنون خلو المكان من الخطر..ويكرهون الأوربيين كراهية تنبثق من تعصب وحماقة وانعدام احساس..وتراه [الموصلي] وقحا ووضيعا..ومستعدا للهتاف بكلمة "كافر" على اي غريب ثم يلوذ بالفرار حالما يدير هذا الغريب رأسه..وعقولهم عقول كناسي الأوحال بحثا عن لقى اما مظهرهم فمظهر الفلاسفة..انهم يحزنون من يشاهدهم ويثيرون نفوره..ترى اي سقوط هذا حقا! أن هذه الكائنات البائسة هم احفاد العرب الذين حكموا، في عهود الخلفاء، امبراطورية يعد تاريخها، الذي لم يدون [بتفاصيله] بعد، أحد أعظم التوايخ في العالم فأدبهم هو الأنبل وعلومهم هي الأكثر تقدما وفلاسفتهم كانوا ألأفضل في عصرهم، مع ذلك يتجه اعتقادي الى ان السقوط لم يكن بسبب إنحلال عنصر فقد طاقته بل هو نتيجة البيئة والوسخ..فالكبرياء المتغطرس الذي لامعنى له في الوقت الحاضر، سيحول مع التعليم والثقافة، كما ينبغي أن يكون، دون تحولهم الى أوربيين [تغريبهم] على نحو يتخنثون معه كالكوزموباليت [ انسان "عالمي" فاقد الهوية يشعر انه ينتمي لأمة افتراضية]، فالأضافات الشعرية [التي يستخدمها اهل الموصل] في المحادثة تؤكد أن شيئا قليلا من تلك الروح [روح النهوض كأمة سيدة تملك قدرها] مازال باقيا، فلنأمل خيرا في رجال الموصل...
ويمثل لمصالح بريطانيا العظمى بعلم وممثل من مسيحيي الموصل اسمه نمرود [رسام]، وهذا الشخص الذي لايتحدث الإنكليزية ومايعرفه من الفرنسية نزر يسير هو الموظف الرسمي الوحيد الممثل للحكومة البريطانية في مدينة كبيرة مضطربة يديرها والي لاتصل صلته ابعد من مقر حكومته [السراي] وهو الأضعف من بين الولايات التركية كلها..ويبدو ها الشيء عصي على التصديق، ولكن هذا هو الواقع ونمرود افندي هو الحامي الوحيد للعديد من الرعايا الهنود البريطانيين..ونجد طبعا ان لفرنسا قنصلية في الموصل وهناك موظف يرتدي قبعة مسطحة يمثل نفوذ روسيا المقدسة..
وقد سررت للغاية لعثوري على عدد من مجلة السبكتيتر [المراقب او الراصد وهي مجلة اسبوعية تمثل وجهة نظر المحافظين الأنكليز مازالت تصدر في بريطانيا] في الموصل، فقرأتها من الغلاف الى الغلاف وبضمنها الأعلانات...ولأني كنت راكبا على مدى ثلاثين يوم في اراض هي الأغنى والأخصب من اية أرض شاهدتها في جنوبي أفريقيا أرى أن عبارة "صحاري آسيا" في معرض الحديث عن خط حديد بغداد، تبدو غير صحيحة..والتقيت عالم الاثار الأنكليزي السيد [ليونارد وليم] كينك، يجري تنقيباته بجهد كبير..وعلى الرغم من اهتمامي [بالآثار] فأنا لست آثاري، لذلك فإن اي شيء قد أقوله في هذا الخصوص لن يكون ثانويا فحسب بل تدخلا غير لائق..ولكن هنالك نقطة، على اية حال، مفتوحة للمناقشة تخص الدقة الملفتة للنظر للمنحوتات إذ نجد تفاصيل تشريحية في نحت الأطراف غاية في الدقة والجمال بما يذهل حقا اي شخص اعتاد على تماثيل ربات وملوك بأطراف مسطحة وأنوف اشبه بالبصل مما يزين المتحف البريطاني..ومن المثير حقا ان نلاحظ ان عددا من التفاصيل في المنحوتات الاشورية ماتزال موجودة في الوقت الحاضر كالكلك والقبعة الكلدانية والحذاء مدبب النهاية فضلا عن طريقة البناء باعتماد الزاوية المائلة قليلا في بناء جدران البيوت حفاظا على ثباتها واستقرارها وتحضين الطابوق في الواح رخامية وتحصين الأسوار بابراج ملصقة بارزة... ويعود مارك سايكس بطريق بغداد مارا بحمام علي وقلعة الشرقاط...
الزيارة الثالثة (1906):
(ومدينة سنجارمهمة لأنها ابعد المدن العراقية في اتجاه الغرب يستخدم فيها طراز بناء مماثل لعمارة الموصل..كما نشاهد فيها العديد من العادات المألوفة في العراق..وبخاصة استحمام النساء امام انظار المارة، وهي عادة شاهدتها في زاخو وراوندوز بينما تعد في الموصل فضيحة تحولت الى مضرب مثل يتندر به..وغادرنا في اليوم التالي سنجار في طريقنا الى الموصل..وتركت فكرة السفر الى الحضر بسبب انتشار عصابات قطاع الطرق وذيوع دعايات عن حرب على الحدود الفارسية...فوصلنا في اليوم الأول قرية الخان حيث وجدنا قبلة تركمانية [من القرج] قد نصبت خيامها..ولكن أهالي قرية الخان معظمهم من اليزيدية وهناك اسر مسلمة فيها ايضا بيد ان اهل القرية يعدون انفسهم قبيلة واحدة..ولأنهم عوملوا بقسوة من قبل الحكومة في الآونة الأخيرة، تراهم أكثر لطفا من أقرانهم القاطنين في انحاء ضاربة في اتجاه الغرب [يقصد جبل سنجار ومناطق غربي سنوني..ويرى سعيد الديو جي ان خانا يوجد في القرية اعطاها اسمها وأن بدر الدين لوءلوء هو الذي بنى الخان في القرية] ..وعلى الرغم من بدائيتهم وجلافتهم، يبدو انهم لم يوطن نفوسهم الشر المتأصل الذي يكمن في اقرانهم..ويوجد بالقرب من القرية خان خرب يزين اعلى المجاز في مدخله رجلين تحيط براسيهما هالة يقتلان تنينين ويرتدي الرجلان حذائين طويلين مدببي النهايتين مشدودين بأربطة على ارجلهما بينما يشبه التنينان التنانين التقليدية في الصين..وبينما كنا مع الشيخ، وصلت انباء مفادها ان الهادي ابن فرحان قد قتل من قبل رجال تابعين لخاله..وتلك حادثة مهمة تسببت بإضطراب سادّمنطقة الجزيرة بأكملها..وقررت بسبب دعايات الحرب والتحشيد على الجبهة الفارسية الأسراع بالذهاب الى الموصل لأجراء تحقيقات لمعلوماتي الشخصية.فتحركت من الخان الى تلعفر وهي قرية صغيرة تسكنها اقوام تتحدث بلغة تركية..ذكروا لي انهم عبيد لجأوا الى خرائب مدينة قديمة بعد مغادرة المغول في جيش تيمور..وترى فيهم النوع التركي من خلال عظام الوجنتين البارزة ومخاجر العيون الضيقة والوجوه العريضة المسطحة ..وهي ملامح ليست متكررة بكثرة لأن اكثرية السكان لايمكن تمييزهم من الفلاحين المحليين العرب..واخبرني المسنون في تلعفر انهم كانوا يعيشون في الماضي في استقلال وادارة خاصة بهم وكان لهم قائد يتصدون معه لغزوات الشمر وانهم لم يدفعوا للشمر ضرائب [خاوات] حتى عندما تكون الموصل خاضعة للشمر، وان مصدر قوتهم يكمن في قلعة كبيرة متينة البنيان تغطي خرائبها الآن التل المطل على القرية.. وكان هذا الملجأ [القلعة] قادر على احتضان حصن يضم 2000 رجل بالإضافة الى النساء والأطفال وهو افضل مأوى في اوقات الشدة كما يقدم مكان تجمع للقرى العديدة المتصلة بتلعفرإلا ان هذه القلعة اليوم خربة ومهجورة [كانت قلعة آشورية اصلا اسمها نيميت عشتار ثم جدد عمارتها الرومان وبعدهم العرب على عهد مروان فسميت بقلعة مروان]، وفي عهد رشيد باشا [التنظيمات] ابدى سكان تلعفر بعض المقاومة [لجباية الضرائب والتجنيد الإلزامي] مما دعى الأتراك الى انهاء استقلال المدينة بشنها حملة عسكرية عليها مما ادى الى تدمير قلعتها وضمها للإدارة العثمانية، لكن هذا الحكم لم يكن بفعالية الحكم الذي سبقه حيث تعرضت القرى المجاورة لها للتخريب من قبل العرب وتحولت تلعفر نفسها من مدينة كبيرة الى قرية بائسة ثم اجتاح المنطقة وباء الكوليرا منذ فترة قصيرة فاصبح كل مايشاهده الرحالة في تلعفر عددا قليلا من البيوت المنكمشة على نفسها وسور مهدم عليه بقايا مسننات قديمة يضم مديرا يعيش في [شكفتة] صغيرة في الخرائب..
والطريق من تلعفر الى الموصل حزين وبائس خرائب حديثة العهد واراض معطلة هي كل مايلقى العين..فالحكومة دمرت النظام الإقطاعي القديم ولم تحل محله اي نظام آخر..والشيء الوحيد الذي ادخل بعض الرضى الى نفسي هو اختفاء الأحديداب المشؤوم لجبل سنجار وراء الأفق في وقت مبكر من النهار ومعه ارتحل العديد من الأنطباعات غير المحببة التي لم تفارق فكري منذ اول يوم دخلت فيه منطقته اللعينة..
وفي الموصل وجدت العش القذر نفسه للفساد والرذيلة والفوضى والمرض تماما كما اعرفها دائما..فخلال ثماني سنوات لم تحقق اي تقدم منظور ولا تحسن من اي نوع...فقد كانت الموصل مرة مدينة اعظم مما آلت اليه الآن..ولكني لا اجد سببا لنأسف ان نرى اماكنها القذرة اقل حجما مماكانت في السابق.وليس عسيرا ان نفهم اسباب عدم ازدهار الفن والصناعة في الموصل خلال القرنين الماضيين..فالبيوت الجديدة [المشادة حديثا] متداعية وغير صحية وكريهة الرائحة تماما كالبيوت القديمة، والبيوت القديمة قبيحة وعقيمة ومنفرة كالبيوت الجديدة..والسماء الصافية لاتظفي مسحة جمال على هذه المدينة من الطين والملاط [الجص]..فأزقتها العمياء ضيقة ترسل روائحا كريهة وهي منفرة تماما كازقة وايتجابل [حي من احياء لندن تكثر فيه الجرائم على زمن مارك سايكس] وجوامعها [اي جوامع الموصل] خالية من اي خاصية معمارية تماما كمحطات القطار.. والناس يبدون ثقال فاقدين للفضائل والوعي [مسطولين] بسبب بيئتهم..ومن صفاتهم اللامبالاة والطمع فقد توالف فيهم جمودالبدوي وروح المخاتلة المميزة للبائع المتجول لتكوين شخصية راكدة غير محببة لايمكن ان تبشر، بالنسبة لمراقب عابر، بالخير فيما يتعلق بخط سكة الحديد الجديد..ولكن لابد من الإشارة الى ان المسيحيين والمسلميين تواقين لمد خط سكك الحديد في المدينة..وإن معظم سلبيات اهل الموصل انما جاءت بسبب عزلتهم الطويلة في مناخ موبوء..ومن الناس في الموصل من يرى ان الزراعة في وضع افضل مقارنة ببضع سنوات خلت وذلك على الرغم من اغارات البدو والجراد ورداءة النقل، واخبرني تاجر معروف من اهل الموصل ان هناك زيادة بمقدار 150 قرية في الولاية.. مع ذلك فمدينة الموصل موطن شر إذ يتجول السراق في اثناء الليل من بيت الى آخر بدون ان يلمسهم احد ويصبح الوقت المكرس للراحة في المساء ذعرا بسبب اطلاقات النار من المسدسات وصراخ المتشاجرين وصخبهم، اما في النهار فيكثر تعاطي الخمور والدعارة بشكل علني..فقد افسد نكد المزاج الناس وجعلهم الشراب عاجزين وغيبتهم [غيبت وعيهم] الرذائل التي اعتادوا عليها.. وانحلال الناس في المدينة ليس انحلالا ماديا فقط بل عقليا ايضا حيث تكثر الروايات عن انواع من السحر الذي يستخدم السحرة فيه بقايا الموتى وذلك من آثار الوثنية البائدة التي حاربتها المسيحية والإسلام معا ولكنهما لم يزيلانها تماما..
وفي رأيي فإن الموصل تمثل تهديدا لمستقبل الأراضي المحيطة بها، بل وتذهب توقعاتي بقوة الى ان القائمين بمشروع سكة الحديد سوف يقومون بشيء حسن ان هم تجنبوا [المرور] بالمدينة لأن الإزعاج الدائم لهذه البؤرة من المرض والخوف سوف لن يتخفف بل سيزداد بالأحرى بالثروة [التي قد تتحقق بسبب النشاط التجاري المترتب على مرور سكة الحديد بالمدينة]، وإذا ما أصبحت الموصل، بوضعها الحالي، المدينة الرئيسة في شمالي بلاد الرافدين [وقد اصبح] مزدهرا، فأنها سوف تنقل عدواها بالتأكيد الى المناطق المحيطة بها بتأثيرها الشرير نفسه تماما كأنطاكية القديمة التي انتشر تأثيرها في شمالي سورية [ يبدو ان مارك سايكس ينتهج في رأيه حول أنطاكية نهج المؤرخ الأنكليزي كيبون الذي وصف انطاكية الوثنية بقوله:" القانون الوحيد في انطاكية هو الأزياء الحديثة، والمتعة هي نهجها الوحيد وكل مايميز الناس فيها ترف الثياب والأثاث..فالمدينة تحترم كل فنون الترف وتسخر بكل الفضائل الرجولية والإهتمامات الجادة، فضلا عن احتقار الناس لأحتشام المرأة والمسنين مما يميز الفساد الشامل لعاصمة الشرق"]..وعلى الرغم من ان الفكرة تبدو ضربا من الخيال، فأني اقترح بقوة ان من المربح في آخر المطاف لجيب المستثمر اذا انشأت الشركة سكة الحديد محطة القطار على مسافة عشرة اميال عن موقع المدينة [الموصل] الحالي وبذلك تضع الأساس لموصل أحدث وأنظف، يتجه الإهتمام فيها الى تنظيم الصحة العامة والسلوك المحتشم ..فالمدينة الحالية مكتظة جدا وبناء المنازل لايكلف شيئا بحيث لايطرح هذا المشروع [بناء موصل جديدة] سوى القليل من المشكلات العملية..
ونظرتي الأخيرة للموصل انموذجية تصلح لوصف المكان بأكمله [اي الموصل] ففي وسط المدينة هنالك عنقود [مجمع] من 300 بيت عند ضفة النهر. و[تشغل] هذا المكان المذبحة والمدبغة والمصبغة الخاصة بالمدينة بأكملها والممرات فيها مملوءة باحشاء الحيوانات وفضلاتها التي تصل الكعب..وتجري فيها سواقي من الدم المتجمد الممزوج بالأصباغ منفرة الرائحة في مجاري راكدة متعددة الألوان ينفر منظرها العين وتقرف روائحها الكريهة النفس وفي الهواء تنتشر هبات من روائح اللحوم المنتنة وفي الأزقة القذرة تتوزع أكوام روث وقرون [حيوانات ذبيحة] واظلاف [أغنام وعجول]..بينما ترى هنا وهناك جثة حيوان ميت [لشة] رماها القصابون لتستلقي نافثة قبحها تحت ضوء الشمس... وتلتصق على جدران البيوت وابوابها اوساخ متكتلة بينما يتنقل رجال عراة جيئة وذهابا في ممارسة اعمالهم القبيحة المنفرة هذه..ولعل مما لايصدق فيما قد يبدو ان تجد هناك عوائل تعيش في قلب هذه المنطقة الكريهة [جوبة البكارة]..فتجد رجال ونساء وأطفال يسكنون في هذه الأوكار المكتضة بالشحوم ، ليس بسبب الفقر او عدم وجود سكن افضل بل بسبب الخمول واللامبالاة)..
واخيرا يخبرنا مارك سايكس في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] عن بدء رحلة العودة الى بريطانيا:
(من الموصل تحركنا نحو برطلة بحثا عن سلام او حرب..في الموصل كانت الأنباء والإشاعات متنوعة ومتضاربة ومنها ان أنكلترا اعلنت الحرب بدون ذكر للجهة التي اعلنت عليها الحرب، وأن ملك انكلترة في القسطنطينية بدون ان نعرف ان كان ضيفا ام اسير حرب، وان امبراطور المانيا اعتنق الإسلام، وان شيخ الكويت قتل رجلا انكليزيا، وان ابن رشيد متعاون مع الفرس وان الكرد في ثورة على الأتراك او انهم ثاروا على الفرس، وأن الأنكليز وراء المشكلات كلها، وان القوات التركية تحتشد لذبح الأرمن، وأن السلطان مات، او ان السلطان يحتضر وأنه تخلى عن العرش لأبنه..وان صنعاء سقطت وان الأنكليز احتلوا اليمن!
وعندما يغادر الرحالة الموصل و تصبح خلفه فأنه يمر في اراض غاية في الخصب والثراء)
ثم يرحل مارك سايكس الى المناطق الكردية بطريق برطلة وبعد جولة واسعة بين العشائر الكردية في الجبال يرجع الى الموصل عبر الزاب ليبحث عن مرافقين ثم يعود بطريق زاخو فبيشخابور فجزيرة ابن عمر فميديات فدياربكر وهو في كل مكان يصف سكانه وعمارته باسلوب ادبي ودقة شاهد عيان..وقد دون كل ذلك في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي ظهر عام 1915..
واخيرا:
فبالوصول الى خاتمة الرحلة الأخيرة لمارك سايكس لابد من كلمات بخصوص انطباعاته عن الموصل ولاسيما وان ماذكره عن المدينة لايتفق مع توقعات كثير من القراء عن مدينة الموصل في العقود الأخيرة للحكم العثماني ..والحق ان ما وصفه لم يكن مجافيا لواقع المدينة باي حال من الأحوال وحسبي مترجما ان انقل النص بأمانة، غير أني اوضح هنا واشرح هناك [بين قوسين مربعين] مستعينا بقراءات سابقة وحضورية ومعرفة بمدينتي وهنا لابد ان اضيف بأن مارك سايكس رجل انطباعي يميل في وصفه الى الأساليب الأدبية متأثرا بديكنز وسويفت وثاكري وغيرهم.. فضلا عن اطلاعه على ادبيات الرحلة لرحالة سبقوه في زيارة المشرق..وفضلت تجاوز موقفه [المعادي] للإسلام وهو موقف مماثل لموقف التبشيري محرر [مجلة العالم الإسلامي] صمؤيل مارينوس زويمر الذي قرا مارك سايكس كتابه [مهاد الإسلام] خلال مبيته في سراي كركوك..وكانت الموصل خلال زياراته الثلاث تفتقر الى مظاهر المدنية على عهودها السابقة واللاحقة فليس ثمة حدائق او متنزهات او خدمات بلدية كأسالة ماء او منظومة للتخلص من الفضلات ..هذا على الرغم من كون بلدية الموصل كانت قد تاسست فيما يذكر الدكتور أبراهيم خليل العلاف عام 1869 وان بنايتها شيدت عام 1913..
كما جاء نفور مارك سايكس من الموصل بسبب طبيعة نشأته في قصره في سلدمير الذي تحيط به الحدائق ودراسته في كامبريدج واقامته في ضيافة اميرة موناكو في مونتي كارلو ومنها في جامعة سانت لويس في بلجيكا..مما يتناقض بل يتنافر مع المشاهد التي رآها بين البقارة [البكارة] وساحل دجلة..هذا بالإضافة الى المحطات البائسة التي زارها قبل الوصول الى الموصل مما هيأ ذهنيته الى اتخاذ موقف سلبي أزاء كل ما يلقاه ..ففي أحدى المحطات انتزع احدهم طبق الطعام من يده والتهمه في لقم مستعجلة ..ويخبرنا في احدى محطاته في الطريق الى الموصل:
(ثم وصلنا قرية خليل أغا [ في أطراف جبل سنجار] وهو شيخ مهم بين قومه، وكان رجلا غريب يرتسم الشر على ملامحه استقبلنا بتحفظ وبرود شديدين مما هبط معنوياتنا بعد ما شهدناه من حوادث. وبينما كنت جالسا في خيمة الأغا توافد اعداد من زمرته يرتدون اثوابا بيضاء [دشاديش بدون ياقات]و بداوا يحدقون فينا بصمت كالح مريب..لقد كان هؤلاء اليزيدية غريبي المنظر حقا..فملامحهم دقيقة ومقزومة بحيث تبدو وجوههم اشبه بالصلال..والتعبير الذي تراه على وجوههم افتراسي وانتقامي..وتجد انوفهم ليست مستوية ولامعقوفة ولكنها مدببة ملتفة في نهاياتها الى اسفل وكأنها بذلك تضغط على الشفة العليا بما يضيف الى عدم الأرتياح الذي تثيره ملامحهم...اما اصواتهم فرفيعة وحادة وحركتهم سريعة خلوة من اللطف واللياقة واجسامهم هزيلة نشطة وقصفاء.. وقاماتهم تميل لأن تكون اكثر من الوسط في طولها.. وثيابهم غريبة اذ يرتدون فوق رؤوسهم قبعة طويلة مخروطية بنية اللون يلتف حولها وشاح [غترة او يشماغ] اسود او احمرفيما يرفل الجسم في قميص فضفاض ابيض [دشداشة] مقطوع بما يشبه المربع حول الرقبة..ويرتدون معطفا قصيرا من الجلد البني وتكمل احذيتهم المدببة المعقوفة الى اعلى المشهد..وعندما شاهدت هذه التكوينات الغريبة من حولي، شعرت اني رحلت اربعة آلاف سنة الى الوراء واني جلست بين اناس اوائليين اصبحوا طي النسيان تماما كأولئك الذين حفروا نصبهم البربرية على صخور افريز[موقع أثري حيثي في قونية في تركيا]..هنالك مناخ من الغرابة والغموض يحيط هؤلاء اليزيدية قد يفسر كل تلك الحكايات الوحشية التي تحكى عنهم، فبينما كنت جالسا في الخيمة، دخل رجل يرتدي ثوبا [عباءة] اسود وجلس امامي وكان يبجل من قبل اليزيدية اذ قدم الكثير لتقبيل اطراف ثوبه.. ماهو ومن هو ؟ هذا مالم اعرفه! فنهضت فورا مغادرا خيمة الأغا وذهبت الى خيمتي لأجد عددا من الرجال الصامتين وهم يتفحصون حقائبي ببطء واهتمام كبيرين بينما يجلس الحرس والجنود على مسافة من الخيمة وهم يرتجفون من الخوف. وفي المساء بدأ العديد من الرجال يتوافدون من الجبل ليلقوا نظرة على خيمتي مضاعفين عدد الناس الواقفين في حلقة نكدة حولي حتى وصل اخيرا الشيخ حمو الزعيم الديني لهذه المنطقة وبصحبته 60 رجل.وكان ذي ملامح ابهج من الآخرين مما كشف الغمة المتنامية عن قلبي طيلة النهار فدخل الخيمة ورحبت به بافضل ما اقدر عليه..فقال لي "اذا نشبت الحرب بين الفرس والترك فان رجال سنجار سيقتلون اي مسلم يقع في ايديهم فهتف الآخرين مؤيدين قوله.. وكانت صيحتهم المنفردة تلك هي في الحقيقة امارة الحياة الوحيدة التي لاحظتها عليهم طيلة اليوم .. وبعد شتمه ولعنه للسلطان، غادر الشيخ حمو وبمغادرته انسل العديد من اليزيدية في اتجاه التلال)...
ولكن هذا ليس كل شيء فقد كتب مارك سايكس رسالة حول الإصلاحات الضرورية المطلوبة في الموصل مع وصف تفصيلي للمدينة ضمن وثائقه واوراقه وهي رسالة لم افلح بالعثور عليها حتى بعد لت وعجن وجهد كبير..
وبينما كان مارك سايكس يتفاوض على اتفاقية سايكس – بيكو في باريس، كان معاصره توماس لورنس [العرب] منشغلا مع اولاد الشريف حسين في الثورة العربية.. ويتضمن ارشيف مارك سايكس في سلدمير وفي جامعة هل في بريطانيا رسائل حول لورنس والفيلق العربي وبضمنها مذكرة بتاريخ 22 تموز 1917 يصف بها مآثر لورنس بأنها رائعة ويوصي بأن يمنح لقب فارس على الرغم من اختلافه معه فيما يتعلق بالسياسة البريطانية حول الشرق الأوسط..كما اختلف مع جرترود بيل وبيرسي كوكس لأنه لم يكن يؤيد فكرة اقامة دولة عربية واحدة بل دول عربية متعددة .. بينما كان لورنس يعمل جاهدا ضد معاهدة سايكس – بيكو السرية لأقتسام الشرق الأوسط، وهي معاهدة من شأنها تعطيل الوعود التي قطعها لورنس للعرب..ويبدو ان لمارك سايكس اسبابه الشخصية في وضع الموصل ضمن النفوذ الفرنسي في المعاهدة..وتجدر الإشارة الى ان كلا جرترود بيل ولورنس العرب كانا يؤيدان بقوة مشروع الدولة العربية الواحدة..ولكن وجهة نظر جرترود بيل حول الموصل لاتختلف في خطوطها العريضة عن وجهة نظر مارك سايكس لاتختلف في خطوطها العريضة عن وجهة نظر مارك سايكس إذ تقوص في وصفها للموصل:
( لمدينة الموصل سجل مضطرب لم يفقد شيئا من خصائصه خلال السنوت القليلة الماضية. فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقاء بين ألأثنين [العرب والأكراد] نادرا ما تصاحبه المشاعر الأخوية او حسن النية من قبل الجانبين..وتنوء مقاطعة الموصل غير السعيدة بالشهوة للقتل مثل شرور موروثة تنتقل "من يدري؟" عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ الجبروت الوحشي للأمبراطورية الآشورية تاركا بصماته على الأرض..فالمدينة منصرفة لحكم اسر عربية قوية وطموحة كانت تحكمها حتى اقل من قرن مضى كل على ارضه وبسيادة لا ينازعه فيها احد.. وقد شهد هؤلاء الأسياد [الباشوات] بعدوانية يندر لهم اخفاءها يد التركي وهي تحكم الخناق ببطء على مقاطعتهم..وليس للحركة القومية العربية ان هي وصلت نقطة ازدهارها ان تجد ارضا اكثر ملائمة ترتوي فيها بكل جداول التطلعات الجامحة كالموصل. ومهما بلغ الحكم العثماني من قسوة ودموية استعرضت في هذه المناطق النائية، فإنه افضل من البيك العربي او الأغا الكردي..وأن ترتب على المسيحيين الذين ابيد نصفهم واليزيديين المضطهدين والفلاحين البائسيين من مختلف المعتقدات ممن زرعوا في ذعر الطغيان بذورا قد لايحصدوا غلالها ابدا، أن يحصلوا على الحماية والإزدهار فيجب عليهم ان ينظروا الى التركي لأنه هو وهو فقط من يقدر ان يسيطر على الأجناس المتحاربة في امبراطوريته..وعندما يتعلم [التركي] كيف يستخدم قوته من غير تحيز وباستقامة فأن النتيجة ستكون استتباب السلم.إلا ان ذلك بعيدا عن الموصل بل ولم يبد أكثر بعدا عن الموصل منه في بداية عام 1909)..
يقينا ان جانبا من تحليل جرترود بيل في منأى عن الحقيقة ..لأن اسيادها، قبل الأتراك، برهنوا على ان القوى الأمبريالية عثمانية كانت ام بريطانية هي جوهر الميول الإنقسامية وان الهيمنة الامبريالية لن تتحقق او تكتمل بدون زرع بذور الفتنة والأنقسام في الشعوب التي تسيطرعلى مقدراتها..اما نظرتها في القومية العربية وقوتها في الموصل فصائبة تماما..ويتضمن رأيها أن الموصل لم تتردى فيها الخدمات في اثناء ولاية الأسر الموصلية ..بل تردت بعد تولي محمد كرتلي وغيره من العثمانيين السلطة في الموصل حيث اتجهت الأولويات العثمانية الى جباية الضرائب وفرض التجنيد الإلزامي ..واهمال الحياة المدنية والخدمات العامة مما خرب المدن العربية كلها وليس الموصل وحدها..
ملاحظة حول المصادر والصور:
لاحصر للمصادر التي تناولت حياة وشخصية وسيرة مارك سايكس فقد كتب عنه معاصريه ومن جاء بعده من البروفسور براون وحتى لويس ماسنيون فضلا عن كتاب شين ليزلي [مارك سايكس: حياته ومراسلاته] الذي كتب مقدمته ونستون تشرشل، وهو من افضل المصادر عن حياة وسيرة مارك سايكس..واعتمدت بصورة رئيسة على مؤلفات مارك سايكس نفسه التي وصف فيها رحلاته الثلاث..وهو في كل رحلة يقدم تفاصيل جديدة او يكرر تفاصيل كان قد ذكرها في رحلة سابقة..ويتضمن كتابه [دار الإسلام] صورا فوتوغرافية منها صورة تمثل نمرود رسام هي الصورة الوحيدة المتوفرة له..مع خرائط كثيرة وكانت المواد التي تغطي عصر مارك سايكس وعلاقاته متوفرة في الموسوعات والأدبيات الصحفية الألكترونية وبخاصة معاصريه كجرترود بيل وتوماس لورنس ألمعروف خطأ بلورنس [العرب ]..وهربرت صموئيل، وأوبري هربرت، وهاري جون [عبدالله] فلبي الذي عين مديرا لأمن بغداد من قبل سلطة الإحتلال البريطانية، وغيرهم..وليس من الميسور الحصول على ارشيف الرسائل الخاصة بمارك سايكس المحفوظة في جامعة هل ومنها في قصره في سلدمير حتى بعد مراسلة الجامعة المذكورة وادارة القصر الذي تحول الى قصر سياحي مخصص لحفلات الزواج ومبيت العريسين ليلة او ليلتين..أما الصور فبالإضافة الى تلك التي تضمنها كتابه [دار الإسلام] توجد صور عديدة في الموسوعات تغطي المرحلة التي عاشها والشخصيات التي تعامل معهم مع صور لقصره المعروف بسلدمير قمنا بأختيار اندرها وأفضلها..
*
شاهد: ملحق مصور
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
زار الموصل العديد من الرحالة ومن العديد من الدول الأوربية والغرب الأميركي.. وتنوعت اهدافهم ومراميهم من وراء تلك الرحلات.. ومنهم من زارها مرتين وثلاث مرات ..ودون معظمهم تفاصيل رحلته وما تخللها من تجارب ..مما وفر لنا صورة عن المدينة والمجتمع الموصلي منذ القرن الثالث عشر حيث سجل ماركو بولو اول وصف للموصل وسماها مملكة الموصل او يوفيميا كما يحلو لأيتالو كالفينو تسميتها في كتابه [ المدن غير المرئية] الذي استعرض فيه المدن التي زارها ماركو بولو تخيليا..فكانت الموصل اشبه بمدينة سحرية تنسج الأقمشة النادرة والحكايات الشيقة..ومن الرحالة من احب الموصل فجاء وصفه لها انعكاسا لحبه لها ومنهم من ابغضها ونفر منها فجاء وصفه انعكاسا لبغضه لها ونفوره منها..ومن هؤلاء مارك سايكس الذي زار الموصل ثلاث مرات وجاء على وصفها في كتب رحلة ثلاثة هي [في خمس ولايات تركية]، و[دار الأسلام] و[ميراث الخلفاء الأخير]..وتأتي زيارات مارك سايكس في سياق التطلعات الأمبريالية لبريطانيا في المشرق العربي وفي مضمار خطة بريطانية تهدف تقسيم العالم الإسلامي وفصل العرب عن العثمانيين..وكان يصاحب مارك سايكس في تنفيذ هذا المشروع توماس ادورد لورنس المعروف ب [لورنس العرب] وأوبري هربرت [الوزيرو الحاكم البريطاني على ايرلندة] و جرترود بيل [مؤسسة نادي العلوية والمعروفة في بغداد بالعلوية] وهاري جون بريجر فيلبي او عبد الله فيلبي [أول مدير أمن في بغداد] وكلهم موظفون في المخابرات البريطانية للفترة التي سبقت وتخللت وتلت الحرب العالمية الأولى..وقد لعب مارك سايكس بالمشاركة مع ديفد لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني في اثناء الحرب وتوماس ادورد لورنس دورا مهما في رسم خارطة الشرق الاوسط الحديث وتوزيع اراضيه فيما بين الحلفاء وفق معاهدة سايكس - بيكو التي تخللتها محادثات مع الصهاينة تمخضت عن تنفيذ وعد بلفور وتعيين الصهيوني هربرت صموئيل مندوبا عاما على فلسطين ورئيسا فعليا لدولة اسرائيل مما مهد لصراع طويل الأمد لا تعرف نتائجه بعد..وكان معظم الرحالة وبخاصة الأنكليز منهم يتنكرون خلال رحلاتهم بأزياء عربية وشرقية لأخفاء هوياتهم الحقيقية عن عامة الناس وتيسير حركتهم في الشرق ..
وشخصية مارك سايكس مركبة انعكست ومنذ طفولته في سيرة غاية في التعقيد والتشابك والتنوع..فهو ينتسب الى الأرسقراطية البريطانية ويتمتع بالوراثة بلقب بارون ..وكان بمقدوره ان ينصرف الى حياة من الدعة والرفاهية في مقاطعته في يورك [ سلدمير] غير انه كما يخبرنا ونستون تشرشل في مقدمة كتاب [مارك سايكس: حياته ورسائله] الذي الفه ابن اخت تشرشل شين ليزلي عام 1923..
(انصرف مارك سايكس الى السفر في الشرق الأدنى بدونما اي امل في ايجاد كنز دفين او تطلع لتغيير المعتقدات الدينية والأنتماءات الاثنية في اراضي الأمم التي تجول بينها..فتعرف على المشارقة والفلسطينيين وتعمق في معرفة العرب والترك..ووصل الى مناطق لم يصل اليها سوى القليل من قبله هذا ان كان قد وصل اليها احد على الأطلاق ووضع خرائط لطرق ولبلدان لم تتمكن وزارة الحرب ولا الجمعية الجغرافية في جهودهما المشتركة من تغطيتها او استيعابها..وكانت تلك سنوات من الصبر والعمل الشاق كرس لها مارك فكره وامواله في ارض قد تبدو عقيمة..فقد عقد العزم ليجعل من نفسه مرجعا من الطراز الاول في هذا الجزء الذي اختاره من العالم، وقد حافظت كتبه الأصلية والحيوية على التقدم الذي احرزه لمن جاء بعده ممن ثمن منجزاته، وعلى الرغم من قراءة كتبه على اوسع نطاق ونفادها من المطابع، فأنها تحتضن مقاطع يشعر الكتاب الأنكليز والرحالة ايضا بالأفتخار عند قراءتها..فقد تفرد للخدمة في الشرق..واصبح عاملا جوهريا في السياسات المعقدة والمتميزة كلها التي فصلت العرب عن الأتراك وقسمت العالم الإسلامي في واحد من أكثر المفاصل التاريخية الحاسمة بالغة الأهمية..فتمكن في الحلقة الأخيرة من تجهيز قوات مهمة في جبهة الصحراء لدعم جيوش اللنبي، حتى اصبح عنصرا فاعلا في حل المشكلات الناجمة فيما بين الحلفاء بخصوص الشرق الأوسط بعد الأنتصار)..
ان مراجعة لتفاصيل حياة مارك سايكس تؤكد ان الأمم العظيمة بنخبها الوطنية والقومية وسعي تلك النخب الى حماية المصالح الستراتيجية والاقتصادية لبلدانهم..ومارك سايكس واحد من نخبة صادف وجودها مرحلة مهمة من تاريخ بريطانيا والعالم ..هي مرحلة انتهاء العالم القديم ومعه مراكز القوة الآسيوية وبدء العالم الجديد ومعه مراكز القوة الغربية..وكانت للنخبة البريطانية في تلك المرحلة سمات وقواسم مشتركة .. أهمها الوعي التاريخي والجغرافي والفكرة الأمبريالية التي تتمثل في شعورهم ان بريطانيا هي مركز العالم وفي كونهم محافظين في انتمائهم السياسي وارستقراطيين اثرياء ينتسبون لأسر قوية فضلا عن اهتمامهم بالعالم الخارجي وتأكيدهم على ضرورة الأبقاء على بريطانيا امبراطورية قوية ومجيدة..ومارك سايكس كأقرانه في المخابرات البريطانية من المعجبين حد التقديس برئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الذي اشترى لبريطانيا الحصة المصرية في قناة السويس عام 1875 ..ويشاطره افكاره التاريخية واهتمامه بالأدب والكتابة [ كتب دزرائيلي عدد من القصص ذات المضامين الفكرية والتاريخية وبخاصة رواية تنجريد "القائد النورماندي للحملة الصليبية الأولى"يؤكد فيها دور الأفكار او القوة الناعمة في التغلغل في العالم وضرورة استخدامها لأخضاع الشعوب]..
ولابد من استعراض حياة مارك سايكس وسيرته قبل الدخول في وصفه للموصل ومقته الشديد لها ثم السبب في ضمها للإدارة الفرنسية في اتفاقية سايكس - بيكو سيئة الصيت..
مارك سايكس:
سير مارك سايكس هو البارون السادس لأسرة من البارونات الأثرياء، واسمه الكامل تاتون بنفينوتو مارك سايكس ولد في 16 آذار 1879 ، وهوسياسي ودبلوماسي وكاتب ورحالة وعميل مخابرات بريطاني متخصص بالشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى ويرتبط ذكره بالمبعوث الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والإتفاقية التي تحمل اسم سايكس- بيكو وهي اتفاقية وضعت خلال الحرب لأقتسام تركة النظام العثماني في الشرق الأوسط فيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا..وقد امضى مارك سايكس جانبا من طفولته في لندن بصحبة امه وجانبا آخر في يورك في صحبة ابيه وذلك بسبب انفصال ابويه..وقد اعتنقت امه المذهب الكاثوليكي الذي اصبح مذهبا لسايكس وهو في الثالثة من عمره..وكان والده الثري يصطحبه في رحلات شتوية الى الشرق الأوسط..وكانت نتيجة زياراته المتكررة لسورية ولبنان دراسة كتبها عام 1898 وكان عمره 19 عاما عنونها دروز لبنان .. ويخبرنا في هذا الصدد: (عندما كنت طفلا في العاشرة اخذني ابي الى جبلهم، ومرة اخرى اخذني ابي الى جبل الدروز عندما كنت في الحادية عشرة، ومرة ثالثة عندما بلغت الثالثة عشرة واخيرا وبعد خمس سنوات زرتهم بمفردي)..وبينما غرز فيه ابيه حب المغامرة والرحلات من المكسيك وحتى مصر، زرعت فيه امه حب اللغات والآداب الأوربية فاصبح بلزاك وديكنز وسويفت من كتابه المفضلين..وفي رحلاته غالبا ماكان يحمل في حقيبته عددا من مسرحيات شكسبير..وليس من الصعوبة ان نعثر في كتاباته وكاريكاتيراته تأثيرا واضحا للمسات سويفت وبخاصة رحلات جلفر..فقد زاوج مارك معرفة واسعة متنوعة ببساطة شخصية متميزة وصبابة دائمة.. وتمخضت ثقافته متنوعة المصادر والواجهات عن معرفة واسعة بالأدب الأنكليزي واللغتين العربية والفرنسية واطلاع واسع على الأمم والشعوب والسياسة والتاريخ وسير القادة والمفكرين ولاسيما فوبان [مركيز دي فوبان احد ابرز مصممي التحصينات الدفاعية في اوربا] وساكس [مارشال موريس ساكس قائد فرنسي احرز انتصارات كبرى لصالح فرنسا في القرن الثامن عشر] الذي كتب عن حياته ..فضلا عن اهتماماته العسكرية وبراعته في رسم الخرائط...وعندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره كان مارك سايكس قد الف اكثر من اربعة كتب تناول في احدها فن اعداد المجلات وفي آخر اساليب التدريب العسكري للمشاة فضلا عن [دار الإسلام] و[رحلة في خمس ولايات تركية] و[ميراث الخلفاء الأخير: موجز تاريخ الأمبراطورية التركية]، وهو كتاب في الرحلة اكثر منه في التاريخ.. وعندما بلغ مارك السادسة عشرة من عمره ارسلته امه الى امارة موناكو حيث تربطها بأميرتها صداقة ومنها غادر مارك الى بروكسل حيث درس الفرنسية في جامعة سانت لويس..وفي 1900-1902 سافر الى جنوبي افريقيا للمشاركة في حرب الباور الثانية [وتعني الباور المزارعين المتحدرين من اصول هولندية في جنوبي افريقيا]، وكان واجبه ينحصر بالحراسة مع قليل من المشاركة القتالية، وعمل للفترة 1904 و1905 نائبا للحاكم البريطاني العسكري على ايرلندة جورج ويندم وعين بعد خدمته في ايرلندة ملحقا في السفارة البريطانية في القسطنطينية. وفي عام 1913 اعقب ابيه في لقب البارونية في مقاطعة يورك بينما كان ومنذ 1912 عضوا محافظا في البرلمان عن مدينة هل. وشكل مارك خلال عمله في لندن علاقة حميمة مع اوبري هربرت وجرترود بيل وتوماس ادورد لورنس وبيرسي كوكس [المندوب السامي البريطاني في العراق 1920- 1923]..وكان سايكس في سياسته يتعاطف كثيرا مع الأرمن والعرب واليهود والترك حيث صمم غرفة من غرف قصره في سلدمير على طراز الزخرفة التركية وصممها له المعماري الأرمني ديفد اوناسيان..وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، كان مارك سايكس بمرتبة لفتنانت كولونيل [مقدم ] في الجيش البريطاني وقائدا للكتيبة الخامسة المعروفة بالهواردز الخضر[ كتيبة للمشاة من منطقة يورك]، غير انه لم يقد كتيبته في اي عمل عسكري لأن اللورد كيشنر وزير الحربية آنذاك استدعاه للخدمة في وزارة الحرب [الدفاع]للعمل مستشارا حول السياسة البريطانية في الشرق الأوسط ضمن لجنة دي بنزن [ وهي لجنة يرأسها البروسي موريس دي بنزن الذي خدم بريطانيا بصفة سفير لحين تعيينه رئيسا للجنة تحمل اسمه وكان هدف اللجنة دراسة مصير الأمبراطورية العثمانية وتقسيمها بعد الحرب]..وقد شارك مارك سايكس في تأسيس المكتب العربي [وهو مكتب استخباري وظيفته متابعة وتنسيق السياسة البريطانية في الشرق الأدنى وتقديم المشورة لوزارة الحربية والخارجية والأدميرالية والإدارات التابعة لبريطانيا بالتحركات العثمانية والألمانية خلال الحرب فضلا عن الدعاية لصالح بريطانيا في الأوساط العربية]..وقد عمل مارك سايكس وفريقه في المكتب العربي على احياء مصطلحات يونانية ورومانية قديمة في وصف الشرق الأوسط كسورية والعراق وفلسطين وميسوبوتاميا، كما صمم علم الثورة العربية من الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض [وهي الألوان التي مازالت تزين الأعلام العربية في الأردن وسورية والعراق ومصر والسودان وليبيا ودول عربية اخرى مع تحولات واضافات طفيفة] ولعله كان يفكر بألوان سكان البحيرة المسحورة في الف ليلة وليلة قبل ان تحولهم الساحرة الى سمك عندما صمم ألوان علم الثورة العربية.. مما يؤكد بصمات مارك سايكس في تشكيل الشرق الأوسط الحديث..
ويعد مارك سايكس ممثلا بأمتياز للسياسة البريطانية التقليدية التي تبناها المحافظون والليبراليون معا وتتمثل بمنع التوسع الروسي جنوبا في اتجاه البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي..وقد تبنى كل من بالمرستون ودزرائيلي وسالزبري وجهة النظر البريطانية هذه بينما ناصب رئيس الوزراء الليبرالي كلادستون الحكومة العثمانية العداء لما اصاب المسيحيين من رعاياها من ويلات ومذابح، ويشاطر الزعيم الليبرالي وصديق مارك سايكس ديفيد لويد جورج المحافظين وجهة النظر السياسية هذه بقوة ، فلا غرابة ان يتبنى مارك سايكس الموقف البريطاني المحافظ نفسه..وعندما نشبت الحرب برزت جملة من المشكلات انقسم السياسيون البريطانيون ازاءها..ومن ابرز المشكلات مصير الأمبراطورية العثمانية والأمم التابعة لها بعد الحرب من جهة وكيفية تسوية المصالح مع الحلفاء مما وضع مارك سايكس في قلب التحرك الدبلوماسي والسياسي المكرس لحل هذه المعضلات..وكان الوضع العربي يحظى بأهتمام كبير في السياسة البريطانية فمن الأنكليز من يفضل تأييد القضية العربية على حساب تركيا ومنهم من يؤيد تعزيز تركيا جديدة قوية وحليفة تكون منطقة عازلة تحول دون التغلغل الروسي في الشرق الأوسط ..وكان لورنس وجرترود بيل يميلون الى تشكيل دولة عربية واحدة تكون صديقة لبريطانيا بينما فضل مارك سايكس ايجاد دول عربية مستقلة صديقة تضمن سلامة الملاحة الى الهند ولاسيما بعد اعتماد النفط بديلا للفحم الحجري وقودا في السفن..
ومن جهة ثانية كانت فرنسا تتطلع الى الحصول على اراض في سورية حيث توجد اقلية مسيحية بينما طالبت ايطاليا بجزر في بحر ايجة وبحماية المسيحيين في تركيا ..وكانت روسيا تتطلع الى بسط نفوذها على المضايق التي تصل البحر الأسود ببحر أيجة وحماية المسيحيين في ارمينيا التركية وفي ساحل البحر الأسود..في الوقت الذي تقدمت اليونان في طلباتها في ضم ثراسيا وجزر في ايجة مما تسبب في تصادم مصالح مع روسيا وايطاليا وتركيا الجديدة..ومما زاد الأمور تعقيدا مطالبة الصهاينة البريطانيين بوطن قومي في فلسطين...وكان مارك سايكس يؤيد آرثر بلفوروزير خارجية بريطانيا في اثناء الحرب في وعد قطعه لليهود عام 1917 وبتأثير حاييم وايزمان الصهيوني البريطاني آنذاك، ويتضح موقف مارك من رسالة ارسلها لاحقا الى الملك فيصل الأول ملك العراق قال فيها ( ان هذا العنصر [اليهودي] المحتقر والضعيف يوجد في كل مكان ويتمتع بالقوة ولا يمكن اهماله)، وموقف مارك يتفق مع سياسة حكومته كما ينسجم مع مواقف عدد من زملائه في المكتب العربي وفي المخابرات البريطانية وبخاصة الصهاينة منهم..وتوفي مارك سايكس عام 1919 وعمره 39 سنة في اثناء مشاركته في مؤتمر باريس في غرفته في فندق لوتي بين حدائق تويلري ومتحف اللوفر وساحة الكونكورد..وقد وصف الدبلوماسي الأنكليزي الشاب هارولد نيكولسون تأثيره في المؤتمر بقوله: (وبسبب دفعه ومثابرته وحماسه وايمانه اصبحت القومية العربية والصهيونية اثنتان من انجح قضايا الحرب التي خضناها)..ووصفه ناحوم سوكولوف الزميل الصهيوني الروسي لحاييم وايزمان واحد المشاركين في مؤتمر باريس (لقد سقط كبطل يقف الى جانبنا) مما يؤكد تاييده للصهاينة.. وكان قد توفي بسبب الإصابة بالأنفلونزا الأسبانية ونقل جثمانه الى يورك ليدفن بالقرب من قصره في كنيسة انجليكانية على الرغم من كونه كاثوليكيا..وبعد 88 سنة على وفاته فتح قبره عام 2008 واخذت عينات من رفاته لأغراض البحث العلمي في الأنفلونزا التي تسببت في موته..
وعلى الرغم من كون مارك سايكس واحدا ممن عملوا على تقسيم العالم العربي الى دول مستقلة يتبع اكثرها السياسة البريطانية وبخاصة السعودية ودويلات الخليج والأردن وسعيه في تكوين دولة يهودية في فلسطين ..وعلى الرغم من موقفه المعادي للإسلام، ومقته الشديد للموصل فإنه قدم من خلال كتبه معلومات متنوعة عن الشرق الأدنى في مطلع القرن العشرين وعمل على فصل العالم العربي عن السلطة العثمانية مما مهد لعصر جديد ولحركات التحرر العربي [ التي انكفأ معظمها للأسف]..وتحتوي كتبه على خرائط طوبوغرافية متنوعة للمناطق التي زارها من الشرق الأوسط ولاسيما العراق.كما قدم مسردا بالقبائل الكردية ضمن ألإدارة العثمانية..وفي الحكم عليه كموقف، لابد من ان نأخذ بنظر الإعتبار أنه يمثل وبقوة الآخر الأجنبي على افضل وجه، فقد خدم وبأخلاص منقطع النظير مصالح بلاده في مناطق مختلفة من العالم وعلى صعد مختلفة جنديا ودبلوماسيا وكاتبا ورحالة ومنظرا عسكريا واستخباريا..وهو بذلك افضل من يمثل جيلا ضم لورنس العرب وجرترود بيل وهربرت صمويل واوبري هربرت ولويد جورج وونستون تشرشل وغيرهم..وهو بذلك يقدم نموذجا للجندية والوطنية والإقدام في خدمة البلاد..يتجاوز حدوده القومية والزمانية كرمز وطني وقومي عالمي تماما كنابليون بونابرت وفون مولتكة وغاريبالدي وغيرهم..ولعل من المفيد ان نستعرض عددا من مواقفه من قضايا مهمة في عصره قبل الإنتقال الى وصفه للموصل ..فقد كان مارك سايكس يتمتع بصداقات كثيرة مع شخصيات عسكرية ودبلوماسية واكاديمية وكان كثير المراسلات مما جعله واحدا من ابرز كتاب الرسائل في العصر الحديث..ومن ابرز صداقاته استاذ الدراسات العربية والفارسية في جامعة كمبردج ادورد كرانفيل براون مؤرخ الأدب الفارسي الذي تميز ايضا بانتقاده الشديد لسياسة الحكومة البريطانية الإستعمارية في مقالات عديدة..يبدو انه تطرق في احدها الى حادثة دنشواي [ وتتمثل بقيام ضباط الإحتلال البريطاني في مصر بمداهمة قرية دنشواي في المنوفية بدلتا مصر لصيد الحمام الذي يربيه المصريون مصدرا للغذاء وقتلهم لأمرأة مصرية وحرقهم لمخزن حبوب..وعندما هب المصريون في القرية للدفاع عن انفسهم سقط احد الضباط بسبب توقف في قلبه مما تسبب في تشكيل محكمة كان من قضاتها القبطي بطرس غالي تمخضت عن اعدام عدد من المصريين وتبرئة الأنكليز..وهي حادثة تعكس سياسة انكليزية خبيثة تعتمد خلق النقائض النوعية في البلدان المستعمرة .. وانتقد العديد لجوء الأنكليز الى العنف ..ولم اعثر على مقال براون ولكن الأرجح انه مر على ذكر الحادثة فحسب فجاء رد مارك سايكس عليه برسالة في 3 كانون الأول عام 1907 قال فيها:
(شكرا جزيلا لمقالتك الممتعة جدا..فقط تمنيت لو انك لم تذكر دنشواي لأنها لطخة كبيرة في سجل الإدارة الأنكليزية، جلبت علينا السخرية والإستهجان في غربي آسيا بأسرها..فقد كان اعدام القتلة حماقة كبيرة لأن كبيرهم هو المسؤول اي ليس الفلاح بل العمد [جمع عمدة] الذين كانوا في اسرتهم [بتشديد الراء]عندما قتل رجال سود الضباط الإنكليز..ومن احترمه شخصيا من الأمبريالييين الأنكليز فقط هم رجال ك [روبرت]كليف[مؤسس شركة الهند الشرقية] و[جون] نيكولسن[ محام وقائد بريطاني في الهند] و[ريتجارد فرانسيس] برتون [ضابط في شركة الهند الشرقية ومحارب في حرب القرم ومترجم الف ليلة وليلة ومستشرق شهير] و [تشارلس جيمس] نابير[القائد العسكري البريطاني في الهند وصاحب المقولة "ان البشر في ضلال بحيث تجد ان اية جماعة تفضل ان يساء اليها من قبل حكامها على ان يحسن اليها من قبل حكام من غير بلادها] و[تجارلس جورج] كوردن [القائد البريطاني في معركة الخرطوم]،لأنهم تمكنوا من معالجة الشرق بدون إثارته..وثمة حقيقة بارزة هي ان السفراء في تركيا ممن يحافظ على النظام عسكريون يقدرون من التحرك على خيولهم والصيد واصدار الأوامر بدون اقلاق الناس المحليين بوعود زائفة و بهراء حقوق الأنسان..ولهذا اصبح الناس ينظرون اليهم بأحترام ويعدونعهم بني آدم وليس بني [اولاد] كلاب)..
كما نتعرف في رسائله على موقفه من سكة حديد برلين بغداد التي اثارت في الفترة السابقة للحرب مخاوف البريطانيين وكانت احدى مهام لورنس العرب تخريبها بنسف الخطوط المنجزة في اماكن مختلفة..ولكن مارك سايكس له موقف مختلف:
(ليس من الممكن التنبوء بتأثير سكة الحديد على البلاد..ولكن بمقدوري أن اتخيل نتيجتين ولعلي مخطيء في ذلك: اولهما تمليها الرغبة على الفكر..انها [اي سكة الحديد ألألمانية] ستجلب السلام والإزدهار والنظام ثم نهضة تدريجية للسكان العرب من جراء الثروة والتعليم، فيتمكن الأكراد والبدو من جلب أصوافهم ولحومهم [اغنامهم ومعيزهم ومنتجاتها] للبيع..وتتزايد المصنوعات المحلية ثم يصار الى تطوير الثروات المعدنية للبلد بدون مساعدات اوربية.وتترتب ارباح على الصادرات وتجارتها أكثر من تلك المستحصلة من الأستيراد والنقل [التجارة ] الأوربي..
ومن جهة أخرى تتمثل امامي صورة رهيبة للناس وقد اتخذوا موقفا معاديا لسكة الحديد، للألمان يتدفقون على المدن العربية بنفايات منفرة وانهيار كبير بالصناعات المحلية والحرف المتبقية..لسكة الحديد تخدم المصالح الآوربية فقط مثقلة البلاد بضمانات باهضة ثم بإحتلال للأرض في آخر المطاف من قبل عنصر [الألمان] لايتعاطف مع المشارقة تماما كما لايتعاطف معنا فيتعاملون مع الناس معاملة الأسياد للعبيد بخشونة وطغيان مما يمكن لذوي الرؤوس الثخينة والأنوف المنفوخة كأنوف الخنازير..ممن يميليون الى الصخب والأمتثال لروح القطيع من التيوتونيين..وفي مثل هذه الحال أراني جاثما أصلي على ركبتي المنثنيتين أن يقوموا [الألمان] بأستعمار البلاد [سورية والعراق] وأن يطيل [الله] في عمري لأرى الجيل التالي [من الألمان] موبوءا ومتراخيا وبدينا ومتشرقا [اصبح مشرقيا] والله "ي"[القسم لمارك وبأسلوب العامية الموصلية] ! سيكون الزمن قد انتقم [من الألمان] انتقاما كاملا)..
وفي مكاان آخر: ( ان المسألة الشرقية الوحيدة الحقيقية هي سكة حديد بغداد ودخول الأسطول الألماني مياه الأسطول البريطاني..والمركزين المهمين هما الموصل والبصرة..مع ذلك لم يجر اي ذكر لألمانيا ولا لتركيا في حقيبة فضلات الأوراق اللعينة التي كتبها غراي [ادورد غراي وزير خارجية بريطانيا الذي وعد الروس بالمضايق التركية] وزملائه بالمشاركة مع عصابة منبوذة فاسدة من الهون [كلمة تدوينية لوصف الألمان والروس] الرسميين..اللعنة على قبعاتهم المسطحة وشواربهم الطويلة المعقوفة وانفاسهم التي تزخر برائحة الفودكا)..
ولمارك سايكس آراء بالأدب الأنكليزي الذي أثر في كتاباته بوضوح اذ نلمس في كتاباته أسلوب ديكنز وسخرية جوناثان سويفت..ففي مقارنته لديكنز بثاكري يقول (في مقارنتي لديكنز بثاكري..يخال لي أن ديكنز ذائع الصيت لأنه يبتكر شخصيات غريبة لايمكن تخيلها اما ثاكري فلأنه يرسم الحياة كما هي تماما)..وهو رأي نقدي صائب ...
ونلاحظ اسلوب ديكنز من خلال التكرار الذي استخدمه في النص الآتي عندما شاهد خارج قلعة شرقية عظيمة قبرا لقاطع طريق كان هو من شيدها:
( الضريح اصبح مأوى للمشردين وحوائجهم، فما اغرب ان يتحول ضريح لص سارق الى ملجأ من اللصوص..بعد مغادرتي لخرنوب [قرية في الطريق الى البتراء] باتجاه الجنوب دخلت صحراءا مخيفة رهيبة ومرعبة صحراء تتخللها جبال كبيرة من الصخور الحمراء والبيضاء صحراء بلا تخوم اشجارها ميتة ذاوية ومنكمشة كانها مصابة بطاعون نخرها وقمعها..حيث تكثر الصخور الناتئة والأكوام التي نبت فوقها الفطر وبقايا مجاري مياه ضحلت وجفت وآبار مهجورة ناضبة وتلال بلا نهاية لم تمر عليها اقدام بشر..صحراء كانت مأهولة يوما إلا ان أهلها ماتوا عن بكرة ابيهم، ماتوا كالعشب الذاوي، ماتوا كالحصى المتقد من حرارة الشمس، ماتوا كالحجارة السوداء الكالحة، ماتوا كالمجاري الخالية المحترقة المهجورة في هذه التلال والمرتفعات الميتة..وإن جاء زمان يموت فيه العالم، فأن جثته المتفسخة ستبدو تماما مثل هذا المكان! )
الموصل كما وصفها مارك سايكس في ثلاث رحلات:
زار مارك سايكس الموصل ثلاث مرات الأولى في ربيع عام 1899عندما كان طالبا في جامعة كامبردج حيث اخذ اجازة الصوم الكبير قبل عيد الفصح وفي نيته امضاء ثلاثة او اربعة اشهر في الشرق زار فيها الصحراء السورية ودمشق فحلب فبغداد فالموصل فوان وعاد بطريق جبل ارارات فأريفان فباطوم..ونشر رواية رحلته في عام 1890 بكتاب اسماه [رحلة في خمس ولايات تركية]..وكانت رغبته الرئيسة ان يصبح مكتشفا فجاءت زيارته الثانية للشرق في تشرين الثاني عام 1902 وبصحبة زميله جون هوف سميث فزار لبنان وسورية وتركيا والموصل قبل ان يعود في شهر آب عام 1903
ونجح في هذه المرة في وضع خرائط عديدة لأصقاع مجهولة وجمع مادة لكتابه الثاني في ادب الرحلة وهو[ دار الإسلام] الذي كتب مقدمته المستشرق ادورد كرانفيل براون..والذي ظهر عام 1904..وجاءت زيارته الثالثة للموصل بطريق الجزيرة فسنجار فتلعفر فالموصل عام 1906 ودون تفاصيل رحلته تلك في كتاب اسماه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي لم يظهر حتى عام 1915..وكان مارك قد القى تفاصيل رحلته في محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية في آذار عام 1907 مؤكدا على الجزيرة الفراتية التي فقدت وظيفتها كحد فاصل بين الشرق والغرب منذ ان انهى اكتشف فاسكو دي جاما الطريق البري لتصبح منطقة فاصلة بين الجنوب والشمال..
الزيارة الأولى (1899):
( الحدث الوحيد الذي يستحق الإشارة بين أربيل والموصل هو عبور الزاب بوساطة قارب والقارب كبير ومربع يمكن ان يحمل ستة خيول وعشرين رجل..وكان نقل البغال الى القارب عملا شاقا وكان المرافقين برابرة في قسوتهم..ففي أحدى الحالات قاموا بربط ارجل البغل ورموا به الى الأرض وسحبوه من راسه وكادوا بذلك يخنقون الحيوان المسكين في حمله الى القارب..وكان معي ثمانية بغال وأربعة خيول استغرق نقلهم بواسطة القوارب قرابة ثلاث ساعات..ولم يكن تنزيلهم في الضفة الثانية باسهل من أدخالهم القارب..وبعد يومين وصلت الموصل..وكان أول شيء أثار انتباهي جسر بديع..وهو عمل متقن لولا خطأ واحد ..فالمهندس الذي صممه بدأ فيه على مسافة تبعد عن الضفة حوالي مائة وسبعين ياردة، فبنى 24 ركيزة قبل ان يصل الى ضفة النهر..ثم وبعد تفكير ارتأى أن يتمم الجسر بطريق جسر آخر من القوارب ثم ربط تلك القوارب بسلسلة من الحديد بالجسر الحجري.. وعلى الرغم من ان هذا البناء لافائدة منه كجسر فقد تحول الى مأوى للشحاذين والمجذومين وباعة المعلاق والحليويات [ وكان رحالة أخرون قد أشاروا الى ان هذا الجزء من الجسر قد تحول مكانا لشذاذ الآفاق والخمارة واضرابهم وبخاصة في اثناء الليل].. وعندما وصلت الموصل كانت الأوضاع مضطربة فيها..فقد توفي الوالي الأخير [حسين حازم باشا] منذ ستة اشهر ولم يعين وال يخلفه لذا لم يوجد من يرخص بإطلاق النار على السراق..وكانت النتيجة حبس ضابطي شرطة لأطلاقهما النار دفاعا عن النفس على سراق.زوكانت السرقات ترتكب في الأسواق في وضح النهار..وتصبح المدينة في فوضى بعد الساعة السادسة فلا يغامر أحد بالخروج من بيته بعد غروب الشمس.. ويبدو لي ان التاثير الأوربي هو الأضعف في الموصل منه في المدن التي زرتها حتى الآن..اما الأسواق فممتعة والباعة المتجولين لايزعجون المارة بالحاحهم كما هو الحال في بغداد. ولفرنسا قنصل يمثلها في الموصل ولكن حكومتنا ولسبب غير واضح من اول نظرة، تفكر ان مكانا بهذه الأهمية يمكن ان يخدم في افضل الأحوال بوكيل قنصل.. والشخص الذي يشغل هذا المنصب مسيحي من اهالي الموصل هو نمرود رسام [الأخ الأصغر لهرمز رسام] ويقول الناس في الموصل ان عم نمرود [كريستيان رسام] ارسله الأنكليز لحراسة آثار نينوى]..وقد اجرت بيتا في الموصل وبقيت فيها خمسة ايام ثم غادرتها في 16 آذار متجها الى زاخو ومنها الى بتليس)..
الزيارة الثانية (1902) :
(وبعد انتهاء رحلتي في الجبال، اتجهت الى الموصل بأقصى سرعة ممكنة وبذلك عبرت من كردستان الى أرض العرب..وتقيم بين العنصرين [الأكراد والعرب] اقوام نصفية [اي لا عرب ولا أكراد ربما يقصد بهم الشبك والجرجرية]، وهؤلاء لا يشبهون أطلاقا الأقوام المتدنية التي رايتها في اورفا..فهم عنصر راق يتميزون بالنظافة وبالمثابرة التان لانشاهدهما لدى المشارقة ..ولابد لي أن اقر بأني سررت في رؤيتي مرة أخرى بدويا اشعثا وبربريا يعنى بقطعانه خارج الموصل..لقد صدق أوديسيوس [ هو السير تشارلس اليوت اوديسيوس مؤلف كتاب تركيا في اوربا]عندما ذكر في كتابه الممتاز يستلزم ان يكون الشخص ذكيا جدا لكي يميز عنصرا عن آخر بطريق الفراسة في تركيا الأوربية..وكذلك الأمر في المنطقة المحيطة بالموصل فهنالك قرى يزيدية وقرى مسيحية وقرى عربية وقرى لبدو اكراد وأخرى لبدو عرب ولبدو شمر وشبه بدو وشيعة ززوفي الواقع تجد حول الموصل العقائد كلها والعتاصر كلها.. وعلى الرغم من امكانية تمييز كردي من الجبل عن بدوي تماما كتمييز زنجي من انكليزي..فإن العناصر الوسطية تحتضن موالفة من العنصرين..فقد رأيت اناس يعرفون بأنهم أكراد إلا ان لديهم خصائص العرب كلها فهم يرتدون العقال وملامحهم خشنة كملامح البدو بما يترك لنا ان نتساءل اذا كان عنصر العرب من الوسامة بمكان؟ ولكن هناك جميع الأنواع من الوجوه المحيرة في تركيا.. فكيف لك ترى ان تشاهد بين اولئك الأوغاد مستديري البطون سمر السحنات من المتمرغين بالرمال في قرية من الفلاحين طفلا سرح الشعر ازرق العينين وبوجه يسر ميليس [ المصور الأنكليزي جون ايفرت ميليس صاحب لوحة اوراق الخريف الشهيرة] ان يلقي نظرة عليه؟ والسير ركوبا الى الموصل مبهج بعد ان تبدو المدينة على مسافة ميلين لأن مظهرها يكذب قذارة شوارعها وفقر اسواقها.. وسكان الموصل من عرب المدن المعروفين بكبريائهم وتعصبهم وغرورهم تماما كعرب حماة وحمص ودمشق ..وهم ملسونون ، ماكرون وسريعوا الإثارة ورعاديد..فهم يمثلون في عقلي واحدة من اسوء الصور التي يمكن للمرء ان يراها في الشرق: فهم موبؤون من جراء سنوات من العيش الرديء، يسخرو من ألقرويين بكل الإزدراء المنفر الذي يسقطه لندني مقزوم "كوكني" [تشير الكلمة الى طبقة عمالية تسكن في شرقي لندن في عصر ديكنز] على ريفي جلف صادف ان زار لندن..ولديهم القدرة على تضمين ابيات من الشعر، يكرهون الأتراك – وهؤلاء افضل منهم بما لا يقاس – وينعتونهم بالبرابرة، وهم كسالى لا أمل فيهم، ميالين الى الشر بقدر ماتسمح لهم به اجسامهم الضعيفة، مستعدون في اية لحظة للهرج والمرج والذبح بدافع التعصب بقدرما يضمنون خلو المكان من الخطر..ويكرهون الأوربيين كراهية تنبثق من تعصب وحماقة وانعدام احساس..وتراه [الموصلي] وقحا ووضيعا..ومستعدا للهتاف بكلمة "كافر" على اي غريب ثم يلوذ بالفرار حالما يدير هذا الغريب رأسه..وعقولهم عقول كناسي الأوحال بحثا عن لقى اما مظهرهم فمظهر الفلاسفة..انهم يحزنون من يشاهدهم ويثيرون نفوره..ترى اي سقوط هذا حقا! أن هذه الكائنات البائسة هم احفاد العرب الذين حكموا، في عهود الخلفاء، امبراطورية يعد تاريخها، الذي لم يدون [بتفاصيله] بعد، أحد أعظم التوايخ في العالم فأدبهم هو الأنبل وعلومهم هي الأكثر تقدما وفلاسفتهم كانوا ألأفضل في عصرهم، مع ذلك يتجه اعتقادي الى ان السقوط لم يكن بسبب إنحلال عنصر فقد طاقته بل هو نتيجة البيئة والوسخ..فالكبرياء المتغطرس الذي لامعنى له في الوقت الحاضر، سيحول مع التعليم والثقافة، كما ينبغي أن يكون، دون تحولهم الى أوربيين [تغريبهم] على نحو يتخنثون معه كالكوزموباليت [ انسان "عالمي" فاقد الهوية يشعر انه ينتمي لأمة افتراضية]، فالأضافات الشعرية [التي يستخدمها اهل الموصل] في المحادثة تؤكد أن شيئا قليلا من تلك الروح [روح النهوض كأمة سيدة تملك قدرها] مازال باقيا، فلنأمل خيرا في رجال الموصل...
ويمثل لمصالح بريطانيا العظمى بعلم وممثل من مسيحيي الموصل اسمه نمرود [رسام]، وهذا الشخص الذي لايتحدث الإنكليزية ومايعرفه من الفرنسية نزر يسير هو الموظف الرسمي الوحيد الممثل للحكومة البريطانية في مدينة كبيرة مضطربة يديرها والي لاتصل صلته ابعد من مقر حكومته [السراي] وهو الأضعف من بين الولايات التركية كلها..ويبدو ها الشيء عصي على التصديق، ولكن هذا هو الواقع ونمرود افندي هو الحامي الوحيد للعديد من الرعايا الهنود البريطانيين..ونجد طبعا ان لفرنسا قنصلية في الموصل وهناك موظف يرتدي قبعة مسطحة يمثل نفوذ روسيا المقدسة..
وقد سررت للغاية لعثوري على عدد من مجلة السبكتيتر [المراقب او الراصد وهي مجلة اسبوعية تمثل وجهة نظر المحافظين الأنكليز مازالت تصدر في بريطانيا] في الموصل، فقرأتها من الغلاف الى الغلاف وبضمنها الأعلانات...ولأني كنت راكبا على مدى ثلاثين يوم في اراض هي الأغنى والأخصب من اية أرض شاهدتها في جنوبي أفريقيا أرى أن عبارة "صحاري آسيا" في معرض الحديث عن خط حديد بغداد، تبدو غير صحيحة..والتقيت عالم الاثار الأنكليزي السيد [ليونارد وليم] كينك، يجري تنقيباته بجهد كبير..وعلى الرغم من اهتمامي [بالآثار] فأنا لست آثاري، لذلك فإن اي شيء قد أقوله في هذا الخصوص لن يكون ثانويا فحسب بل تدخلا غير لائق..ولكن هنالك نقطة، على اية حال، مفتوحة للمناقشة تخص الدقة الملفتة للنظر للمنحوتات إذ نجد تفاصيل تشريحية في نحت الأطراف غاية في الدقة والجمال بما يذهل حقا اي شخص اعتاد على تماثيل ربات وملوك بأطراف مسطحة وأنوف اشبه بالبصل مما يزين المتحف البريطاني..ومن المثير حقا ان نلاحظ ان عددا من التفاصيل في المنحوتات الاشورية ماتزال موجودة في الوقت الحاضر كالكلك والقبعة الكلدانية والحذاء مدبب النهاية فضلا عن طريقة البناء باعتماد الزاوية المائلة قليلا في بناء جدران البيوت حفاظا على ثباتها واستقرارها وتحضين الطابوق في الواح رخامية وتحصين الأسوار بابراج ملصقة بارزة... ويعود مارك سايكس بطريق بغداد مارا بحمام علي وقلعة الشرقاط...
الزيارة الثالثة (1906):
(ومدينة سنجارمهمة لأنها ابعد المدن العراقية في اتجاه الغرب يستخدم فيها طراز بناء مماثل لعمارة الموصل..كما نشاهد فيها العديد من العادات المألوفة في العراق..وبخاصة استحمام النساء امام انظار المارة، وهي عادة شاهدتها في زاخو وراوندوز بينما تعد في الموصل فضيحة تحولت الى مضرب مثل يتندر به..وغادرنا في اليوم التالي سنجار في طريقنا الى الموصل..وتركت فكرة السفر الى الحضر بسبب انتشار عصابات قطاع الطرق وذيوع دعايات عن حرب على الحدود الفارسية...فوصلنا في اليوم الأول قرية الخان حيث وجدنا قبلة تركمانية [من القرج] قد نصبت خيامها..ولكن أهالي قرية الخان معظمهم من اليزيدية وهناك اسر مسلمة فيها ايضا بيد ان اهل القرية يعدون انفسهم قبيلة واحدة..ولأنهم عوملوا بقسوة من قبل الحكومة في الآونة الأخيرة، تراهم أكثر لطفا من أقرانهم القاطنين في انحاء ضاربة في اتجاه الغرب [يقصد جبل سنجار ومناطق غربي سنوني..ويرى سعيد الديو جي ان خانا يوجد في القرية اعطاها اسمها وأن بدر الدين لوءلوء هو الذي بنى الخان في القرية] ..وعلى الرغم من بدائيتهم وجلافتهم، يبدو انهم لم يوطن نفوسهم الشر المتأصل الذي يكمن في اقرانهم..ويوجد بالقرب من القرية خان خرب يزين اعلى المجاز في مدخله رجلين تحيط براسيهما هالة يقتلان تنينين ويرتدي الرجلان حذائين طويلين مدببي النهايتين مشدودين بأربطة على ارجلهما بينما يشبه التنينان التنانين التقليدية في الصين..وبينما كنا مع الشيخ، وصلت انباء مفادها ان الهادي ابن فرحان قد قتل من قبل رجال تابعين لخاله..وتلك حادثة مهمة تسببت بإضطراب سادّمنطقة الجزيرة بأكملها..وقررت بسبب دعايات الحرب والتحشيد على الجبهة الفارسية الأسراع بالذهاب الى الموصل لأجراء تحقيقات لمعلوماتي الشخصية.فتحركت من الخان الى تلعفر وهي قرية صغيرة تسكنها اقوام تتحدث بلغة تركية..ذكروا لي انهم عبيد لجأوا الى خرائب مدينة قديمة بعد مغادرة المغول في جيش تيمور..وترى فيهم النوع التركي من خلال عظام الوجنتين البارزة ومخاجر العيون الضيقة والوجوه العريضة المسطحة ..وهي ملامح ليست متكررة بكثرة لأن اكثرية السكان لايمكن تمييزهم من الفلاحين المحليين العرب..واخبرني المسنون في تلعفر انهم كانوا يعيشون في الماضي في استقلال وادارة خاصة بهم وكان لهم قائد يتصدون معه لغزوات الشمر وانهم لم يدفعوا للشمر ضرائب [خاوات] حتى عندما تكون الموصل خاضعة للشمر، وان مصدر قوتهم يكمن في قلعة كبيرة متينة البنيان تغطي خرائبها الآن التل المطل على القرية.. وكان هذا الملجأ [القلعة] قادر على احتضان حصن يضم 2000 رجل بالإضافة الى النساء والأطفال وهو افضل مأوى في اوقات الشدة كما يقدم مكان تجمع للقرى العديدة المتصلة بتلعفرإلا ان هذه القلعة اليوم خربة ومهجورة [كانت قلعة آشورية اصلا اسمها نيميت عشتار ثم جدد عمارتها الرومان وبعدهم العرب على عهد مروان فسميت بقلعة مروان]، وفي عهد رشيد باشا [التنظيمات] ابدى سكان تلعفر بعض المقاومة [لجباية الضرائب والتجنيد الإلزامي] مما دعى الأتراك الى انهاء استقلال المدينة بشنها حملة عسكرية عليها مما ادى الى تدمير قلعتها وضمها للإدارة العثمانية، لكن هذا الحكم لم يكن بفعالية الحكم الذي سبقه حيث تعرضت القرى المجاورة لها للتخريب من قبل العرب وتحولت تلعفر نفسها من مدينة كبيرة الى قرية بائسة ثم اجتاح المنطقة وباء الكوليرا منذ فترة قصيرة فاصبح كل مايشاهده الرحالة في تلعفر عددا قليلا من البيوت المنكمشة على نفسها وسور مهدم عليه بقايا مسننات قديمة يضم مديرا يعيش في [شكفتة] صغيرة في الخرائب..
والطريق من تلعفر الى الموصل حزين وبائس خرائب حديثة العهد واراض معطلة هي كل مايلقى العين..فالحكومة دمرت النظام الإقطاعي القديم ولم تحل محله اي نظام آخر..والشيء الوحيد الذي ادخل بعض الرضى الى نفسي هو اختفاء الأحديداب المشؤوم لجبل سنجار وراء الأفق في وقت مبكر من النهار ومعه ارتحل العديد من الأنطباعات غير المحببة التي لم تفارق فكري منذ اول يوم دخلت فيه منطقته اللعينة..
وفي الموصل وجدت العش القذر نفسه للفساد والرذيلة والفوضى والمرض تماما كما اعرفها دائما..فخلال ثماني سنوات لم تحقق اي تقدم منظور ولا تحسن من اي نوع...فقد كانت الموصل مرة مدينة اعظم مما آلت اليه الآن..ولكني لا اجد سببا لنأسف ان نرى اماكنها القذرة اقل حجما مماكانت في السابق.وليس عسيرا ان نفهم اسباب عدم ازدهار الفن والصناعة في الموصل خلال القرنين الماضيين..فالبيوت الجديدة [المشادة حديثا] متداعية وغير صحية وكريهة الرائحة تماما كالبيوت القديمة، والبيوت القديمة قبيحة وعقيمة ومنفرة كالبيوت الجديدة..والسماء الصافية لاتظفي مسحة جمال على هذه المدينة من الطين والملاط [الجص]..فأزقتها العمياء ضيقة ترسل روائحا كريهة وهي منفرة تماما كازقة وايتجابل [حي من احياء لندن تكثر فيه الجرائم على زمن مارك سايكس] وجوامعها [اي جوامع الموصل] خالية من اي خاصية معمارية تماما كمحطات القطار.. والناس يبدون ثقال فاقدين للفضائل والوعي [مسطولين] بسبب بيئتهم..ومن صفاتهم اللامبالاة والطمع فقد توالف فيهم جمودالبدوي وروح المخاتلة المميزة للبائع المتجول لتكوين شخصية راكدة غير محببة لايمكن ان تبشر، بالنسبة لمراقب عابر، بالخير فيما يتعلق بخط سكة الحديد الجديد..ولكن لابد من الإشارة الى ان المسيحيين والمسلميين تواقين لمد خط سكك الحديد في المدينة..وإن معظم سلبيات اهل الموصل انما جاءت بسبب عزلتهم الطويلة في مناخ موبوء..ومن الناس في الموصل من يرى ان الزراعة في وضع افضل مقارنة ببضع سنوات خلت وذلك على الرغم من اغارات البدو والجراد ورداءة النقل، واخبرني تاجر معروف من اهل الموصل ان هناك زيادة بمقدار 150 قرية في الولاية.. مع ذلك فمدينة الموصل موطن شر إذ يتجول السراق في اثناء الليل من بيت الى آخر بدون ان يلمسهم احد ويصبح الوقت المكرس للراحة في المساء ذعرا بسبب اطلاقات النار من المسدسات وصراخ المتشاجرين وصخبهم، اما في النهار فيكثر تعاطي الخمور والدعارة بشكل علني..فقد افسد نكد المزاج الناس وجعلهم الشراب عاجزين وغيبتهم [غيبت وعيهم] الرذائل التي اعتادوا عليها.. وانحلال الناس في المدينة ليس انحلالا ماديا فقط بل عقليا ايضا حيث تكثر الروايات عن انواع من السحر الذي يستخدم السحرة فيه بقايا الموتى وذلك من آثار الوثنية البائدة التي حاربتها المسيحية والإسلام معا ولكنهما لم يزيلانها تماما..
وفي رأيي فإن الموصل تمثل تهديدا لمستقبل الأراضي المحيطة بها، بل وتذهب توقعاتي بقوة الى ان القائمين بمشروع سكة الحديد سوف يقومون بشيء حسن ان هم تجنبوا [المرور] بالمدينة لأن الإزعاج الدائم لهذه البؤرة من المرض والخوف سوف لن يتخفف بل سيزداد بالأحرى بالثروة [التي قد تتحقق بسبب النشاط التجاري المترتب على مرور سكة الحديد بالمدينة]، وإذا ما أصبحت الموصل، بوضعها الحالي، المدينة الرئيسة في شمالي بلاد الرافدين [وقد اصبح] مزدهرا، فأنها سوف تنقل عدواها بالتأكيد الى المناطق المحيطة بها بتأثيرها الشرير نفسه تماما كأنطاكية القديمة التي انتشر تأثيرها في شمالي سورية [ يبدو ان مارك سايكس ينتهج في رأيه حول أنطاكية نهج المؤرخ الأنكليزي كيبون الذي وصف انطاكية الوثنية بقوله:" القانون الوحيد في انطاكية هو الأزياء الحديثة، والمتعة هي نهجها الوحيد وكل مايميز الناس فيها ترف الثياب والأثاث..فالمدينة تحترم كل فنون الترف وتسخر بكل الفضائل الرجولية والإهتمامات الجادة، فضلا عن احتقار الناس لأحتشام المرأة والمسنين مما يميز الفساد الشامل لعاصمة الشرق"]..وعلى الرغم من ان الفكرة تبدو ضربا من الخيال، فأني اقترح بقوة ان من المربح في آخر المطاف لجيب المستثمر اذا انشأت الشركة سكة الحديد محطة القطار على مسافة عشرة اميال عن موقع المدينة [الموصل] الحالي وبذلك تضع الأساس لموصل أحدث وأنظف، يتجه الإهتمام فيها الى تنظيم الصحة العامة والسلوك المحتشم ..فالمدينة الحالية مكتظة جدا وبناء المنازل لايكلف شيئا بحيث لايطرح هذا المشروع [بناء موصل جديدة] سوى القليل من المشكلات العملية..
ونظرتي الأخيرة للموصل انموذجية تصلح لوصف المكان بأكمله [اي الموصل] ففي وسط المدينة هنالك عنقود [مجمع] من 300 بيت عند ضفة النهر. و[تشغل] هذا المكان المذبحة والمدبغة والمصبغة الخاصة بالمدينة بأكملها والممرات فيها مملوءة باحشاء الحيوانات وفضلاتها التي تصل الكعب..وتجري فيها سواقي من الدم المتجمد الممزوج بالأصباغ منفرة الرائحة في مجاري راكدة متعددة الألوان ينفر منظرها العين وتقرف روائحها الكريهة النفس وفي الهواء تنتشر هبات من روائح اللحوم المنتنة وفي الأزقة القذرة تتوزع أكوام روث وقرون [حيوانات ذبيحة] واظلاف [أغنام وعجول]..بينما ترى هنا وهناك جثة حيوان ميت [لشة] رماها القصابون لتستلقي نافثة قبحها تحت ضوء الشمس... وتلتصق على جدران البيوت وابوابها اوساخ متكتلة بينما يتنقل رجال عراة جيئة وذهابا في ممارسة اعمالهم القبيحة المنفرة هذه..ولعل مما لايصدق فيما قد يبدو ان تجد هناك عوائل تعيش في قلب هذه المنطقة الكريهة [جوبة البكارة]..فتجد رجال ونساء وأطفال يسكنون في هذه الأوكار المكتضة بالشحوم ، ليس بسبب الفقر او عدم وجود سكن افضل بل بسبب الخمول واللامبالاة)..
واخيرا يخبرنا مارك سايكس في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] عن بدء رحلة العودة الى بريطانيا:
(من الموصل تحركنا نحو برطلة بحثا عن سلام او حرب..في الموصل كانت الأنباء والإشاعات متنوعة ومتضاربة ومنها ان أنكلترا اعلنت الحرب بدون ذكر للجهة التي اعلنت عليها الحرب، وأن ملك انكلترة في القسطنطينية بدون ان نعرف ان كان ضيفا ام اسير حرب، وان امبراطور المانيا اعتنق الإسلام، وان شيخ الكويت قتل رجلا انكليزيا، وان ابن رشيد متعاون مع الفرس وان الكرد في ثورة على الأتراك او انهم ثاروا على الفرس، وأن الأنكليز وراء المشكلات كلها، وان القوات التركية تحتشد لذبح الأرمن، وأن السلطان مات، او ان السلطان يحتضر وأنه تخلى عن العرش لأبنه..وان صنعاء سقطت وان الأنكليز احتلوا اليمن!
وعندما يغادر الرحالة الموصل و تصبح خلفه فأنه يمر في اراض غاية في الخصب والثراء)
ثم يرحل مارك سايكس الى المناطق الكردية بطريق برطلة وبعد جولة واسعة بين العشائر الكردية في الجبال يرجع الى الموصل عبر الزاب ليبحث عن مرافقين ثم يعود بطريق زاخو فبيشخابور فجزيرة ابن عمر فميديات فدياربكر وهو في كل مكان يصف سكانه وعمارته باسلوب ادبي ودقة شاهد عيان..وقد دون كل ذلك في كتابه [ميراث الخلفاء الأخير] الذي ظهر عام 1915..
واخيرا:
فبالوصول الى خاتمة الرحلة الأخيرة لمارك سايكس لابد من كلمات بخصوص انطباعاته عن الموصل ولاسيما وان ماذكره عن المدينة لايتفق مع توقعات كثير من القراء عن مدينة الموصل في العقود الأخيرة للحكم العثماني ..والحق ان ما وصفه لم يكن مجافيا لواقع المدينة باي حال من الأحوال وحسبي مترجما ان انقل النص بأمانة، غير أني اوضح هنا واشرح هناك [بين قوسين مربعين] مستعينا بقراءات سابقة وحضورية ومعرفة بمدينتي وهنا لابد ان اضيف بأن مارك سايكس رجل انطباعي يميل في وصفه الى الأساليب الأدبية متأثرا بديكنز وسويفت وثاكري وغيرهم.. فضلا عن اطلاعه على ادبيات الرحلة لرحالة سبقوه في زيارة المشرق..وفضلت تجاوز موقفه [المعادي] للإسلام وهو موقف مماثل لموقف التبشيري محرر [مجلة العالم الإسلامي] صمؤيل مارينوس زويمر الذي قرا مارك سايكس كتابه [مهاد الإسلام] خلال مبيته في سراي كركوك..وكانت الموصل خلال زياراته الثلاث تفتقر الى مظاهر المدنية على عهودها السابقة واللاحقة فليس ثمة حدائق او متنزهات او خدمات بلدية كأسالة ماء او منظومة للتخلص من الفضلات ..هذا على الرغم من كون بلدية الموصل كانت قد تاسست فيما يذكر الدكتور أبراهيم خليل العلاف عام 1869 وان بنايتها شيدت عام 1913..
كما جاء نفور مارك سايكس من الموصل بسبب طبيعة نشأته في قصره في سلدمير الذي تحيط به الحدائق ودراسته في كامبريدج واقامته في ضيافة اميرة موناكو في مونتي كارلو ومنها في جامعة سانت لويس في بلجيكا..مما يتناقض بل يتنافر مع المشاهد التي رآها بين البقارة [البكارة] وساحل دجلة..هذا بالإضافة الى المحطات البائسة التي زارها قبل الوصول الى الموصل مما هيأ ذهنيته الى اتخاذ موقف سلبي أزاء كل ما يلقاه ..ففي أحدى المحطات انتزع احدهم طبق الطعام من يده والتهمه في لقم مستعجلة ..ويخبرنا في احدى محطاته في الطريق الى الموصل:
(ثم وصلنا قرية خليل أغا [ في أطراف جبل سنجار] وهو شيخ مهم بين قومه، وكان رجلا غريب يرتسم الشر على ملامحه استقبلنا بتحفظ وبرود شديدين مما هبط معنوياتنا بعد ما شهدناه من حوادث. وبينما كنت جالسا في خيمة الأغا توافد اعداد من زمرته يرتدون اثوابا بيضاء [دشاديش بدون ياقات]و بداوا يحدقون فينا بصمت كالح مريب..لقد كان هؤلاء اليزيدية غريبي المنظر حقا..فملامحهم دقيقة ومقزومة بحيث تبدو وجوههم اشبه بالصلال..والتعبير الذي تراه على وجوههم افتراسي وانتقامي..وتجد انوفهم ليست مستوية ولامعقوفة ولكنها مدببة ملتفة في نهاياتها الى اسفل وكأنها بذلك تضغط على الشفة العليا بما يضيف الى عدم الأرتياح الذي تثيره ملامحهم...اما اصواتهم فرفيعة وحادة وحركتهم سريعة خلوة من اللطف واللياقة واجسامهم هزيلة نشطة وقصفاء.. وقاماتهم تميل لأن تكون اكثر من الوسط في طولها.. وثيابهم غريبة اذ يرتدون فوق رؤوسهم قبعة طويلة مخروطية بنية اللون يلتف حولها وشاح [غترة او يشماغ] اسود او احمرفيما يرفل الجسم في قميص فضفاض ابيض [دشداشة] مقطوع بما يشبه المربع حول الرقبة..ويرتدون معطفا قصيرا من الجلد البني وتكمل احذيتهم المدببة المعقوفة الى اعلى المشهد..وعندما شاهدت هذه التكوينات الغريبة من حولي، شعرت اني رحلت اربعة آلاف سنة الى الوراء واني جلست بين اناس اوائليين اصبحوا طي النسيان تماما كأولئك الذين حفروا نصبهم البربرية على صخور افريز[موقع أثري حيثي في قونية في تركيا]..هنالك مناخ من الغرابة والغموض يحيط هؤلاء اليزيدية قد يفسر كل تلك الحكايات الوحشية التي تحكى عنهم، فبينما كنت جالسا في الخيمة، دخل رجل يرتدي ثوبا [عباءة] اسود وجلس امامي وكان يبجل من قبل اليزيدية اذ قدم الكثير لتقبيل اطراف ثوبه.. ماهو ومن هو ؟ هذا مالم اعرفه! فنهضت فورا مغادرا خيمة الأغا وذهبت الى خيمتي لأجد عددا من الرجال الصامتين وهم يتفحصون حقائبي ببطء واهتمام كبيرين بينما يجلس الحرس والجنود على مسافة من الخيمة وهم يرتجفون من الخوف. وفي المساء بدأ العديد من الرجال يتوافدون من الجبل ليلقوا نظرة على خيمتي مضاعفين عدد الناس الواقفين في حلقة نكدة حولي حتى وصل اخيرا الشيخ حمو الزعيم الديني لهذه المنطقة وبصحبته 60 رجل.وكان ذي ملامح ابهج من الآخرين مما كشف الغمة المتنامية عن قلبي طيلة النهار فدخل الخيمة ورحبت به بافضل ما اقدر عليه..فقال لي "اذا نشبت الحرب بين الفرس والترك فان رجال سنجار سيقتلون اي مسلم يقع في ايديهم فهتف الآخرين مؤيدين قوله.. وكانت صيحتهم المنفردة تلك هي في الحقيقة امارة الحياة الوحيدة التي لاحظتها عليهم طيلة اليوم .. وبعد شتمه ولعنه للسلطان، غادر الشيخ حمو وبمغادرته انسل العديد من اليزيدية في اتجاه التلال)...
ولكن هذا ليس كل شيء فقد كتب مارك سايكس رسالة حول الإصلاحات الضرورية المطلوبة في الموصل مع وصف تفصيلي للمدينة ضمن وثائقه واوراقه وهي رسالة لم افلح بالعثور عليها حتى بعد لت وعجن وجهد كبير..
وبينما كان مارك سايكس يتفاوض على اتفاقية سايكس – بيكو في باريس، كان معاصره توماس لورنس [العرب] منشغلا مع اولاد الشريف حسين في الثورة العربية.. ويتضمن ارشيف مارك سايكس في سلدمير وفي جامعة هل في بريطانيا رسائل حول لورنس والفيلق العربي وبضمنها مذكرة بتاريخ 22 تموز 1917 يصف بها مآثر لورنس بأنها رائعة ويوصي بأن يمنح لقب فارس على الرغم من اختلافه معه فيما يتعلق بالسياسة البريطانية حول الشرق الأوسط..كما اختلف مع جرترود بيل وبيرسي كوكس لأنه لم يكن يؤيد فكرة اقامة دولة عربية واحدة بل دول عربية متعددة .. بينما كان لورنس يعمل جاهدا ضد معاهدة سايكس – بيكو السرية لأقتسام الشرق الأوسط، وهي معاهدة من شأنها تعطيل الوعود التي قطعها لورنس للعرب..ويبدو ان لمارك سايكس اسبابه الشخصية في وضع الموصل ضمن النفوذ الفرنسي في المعاهدة..وتجدر الإشارة الى ان كلا جرترود بيل ولورنس العرب كانا يؤيدان بقوة مشروع الدولة العربية الواحدة..ولكن وجهة نظر جرترود بيل حول الموصل لاتختلف في خطوطها العريضة عن وجهة نظر مارك سايكس لاتختلف في خطوطها العريضة عن وجهة نظر مارك سايكس إذ تقوص في وصفها للموصل:
( لمدينة الموصل سجل مضطرب لم يفقد شيئا من خصائصه خلال السنوت القليلة الماضية. فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقاء بين ألأثنين [العرب والأكراد] نادرا ما تصاحبه المشاعر الأخوية او حسن النية من قبل الجانبين..وتنوء مقاطعة الموصل غير السعيدة بالشهوة للقتل مثل شرور موروثة تنتقل "من يدري؟" عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ الجبروت الوحشي للأمبراطورية الآشورية تاركا بصماته على الأرض..فالمدينة منصرفة لحكم اسر عربية قوية وطموحة كانت تحكمها حتى اقل من قرن مضى كل على ارضه وبسيادة لا ينازعه فيها احد.. وقد شهد هؤلاء الأسياد [الباشوات] بعدوانية يندر لهم اخفاءها يد التركي وهي تحكم الخناق ببطء على مقاطعتهم..وليس للحركة القومية العربية ان هي وصلت نقطة ازدهارها ان تجد ارضا اكثر ملائمة ترتوي فيها بكل جداول التطلعات الجامحة كالموصل. ومهما بلغ الحكم العثماني من قسوة ودموية استعرضت في هذه المناطق النائية، فإنه افضل من البيك العربي او الأغا الكردي..وأن ترتب على المسيحيين الذين ابيد نصفهم واليزيديين المضطهدين والفلاحين البائسيين من مختلف المعتقدات ممن زرعوا في ذعر الطغيان بذورا قد لايحصدوا غلالها ابدا، أن يحصلوا على الحماية والإزدهار فيجب عليهم ان ينظروا الى التركي لأنه هو وهو فقط من يقدر ان يسيطر على الأجناس المتحاربة في امبراطوريته..وعندما يتعلم [التركي] كيف يستخدم قوته من غير تحيز وباستقامة فأن النتيجة ستكون استتباب السلم.إلا ان ذلك بعيدا عن الموصل بل ولم يبد أكثر بعدا عن الموصل منه في بداية عام 1909)..
يقينا ان جانبا من تحليل جرترود بيل في منأى عن الحقيقة ..لأن اسيادها، قبل الأتراك، برهنوا على ان القوى الأمبريالية عثمانية كانت ام بريطانية هي جوهر الميول الإنقسامية وان الهيمنة الامبريالية لن تتحقق او تكتمل بدون زرع بذور الفتنة والأنقسام في الشعوب التي تسيطرعلى مقدراتها..اما نظرتها في القومية العربية وقوتها في الموصل فصائبة تماما..ويتضمن رأيها أن الموصل لم تتردى فيها الخدمات في اثناء ولاية الأسر الموصلية ..بل تردت بعد تولي محمد كرتلي وغيره من العثمانيين السلطة في الموصل حيث اتجهت الأولويات العثمانية الى جباية الضرائب وفرض التجنيد الإلزامي ..واهمال الحياة المدنية والخدمات العامة مما خرب المدن العربية كلها وليس الموصل وحدها..
ملاحظة حول المصادر والصور:
لاحصر للمصادر التي تناولت حياة وشخصية وسيرة مارك سايكس فقد كتب عنه معاصريه ومن جاء بعده من البروفسور براون وحتى لويس ماسنيون فضلا عن كتاب شين ليزلي [مارك سايكس: حياته ومراسلاته] الذي كتب مقدمته ونستون تشرشل، وهو من افضل المصادر عن حياة وسيرة مارك سايكس..واعتمدت بصورة رئيسة على مؤلفات مارك سايكس نفسه التي وصف فيها رحلاته الثلاث..وهو في كل رحلة يقدم تفاصيل جديدة او يكرر تفاصيل كان قد ذكرها في رحلة سابقة..ويتضمن كتابه [دار الإسلام] صورا فوتوغرافية منها صورة تمثل نمرود رسام هي الصورة الوحيدة المتوفرة له..مع خرائط كثيرة وكانت المواد التي تغطي عصر مارك سايكس وعلاقاته متوفرة في الموسوعات والأدبيات الصحفية الألكترونية وبخاصة معاصريه كجرترود بيل وتوماس لورنس ألمعروف خطأ بلورنس [العرب ]..وهربرت صموئيل، وأوبري هربرت، وهاري جون [عبدالله] فلبي الذي عين مديرا لأمن بغداد من قبل سلطة الإحتلال البريطانية، وغيرهم..وليس من الميسور الحصول على ارشيف الرسائل الخاصة بمارك سايكس المحفوظة في جامعة هل ومنها في قصره في سلدمير حتى بعد مراسلة الجامعة المذكورة وادارة القصر الذي تحول الى قصر سياحي مخصص لحفلات الزواج ومبيت العريسين ليلة او ليلتين..أما الصور فبالإضافة الى تلك التي تضمنها كتابه [دار الإسلام] توجد صور عديدة في الموسوعات تغطي المرحلة التي عاشها والشخصيات التي تعامل معهم مع صور لقصره المعروف بسلدمير قمنا بأختيار اندرها وأفضلها..
*
شاهد: ملحق مصور
للعودة إلى الصفحة الرئيسة