واسهامها في رحلات الى الموصل
صلاح سليم علي
يعد العراق البلد الأول في العالم في تأسيس امبراطوريات قوية تمتد خارطة مصالحها في مناطق شاسعة خارج اراضي بلاد ما بين النهرين فقد اسس سرجون الأول مستعمرة تجارية في كانيش [قول تبة] في قلب الأناضول كما طورالعراقيون علاقات تجارية شرقا مع الهند والصين بطريق الحرير منذ العصر السومري.. وقد استمرت مستعمرة كانيش حتى العصرالآشوري الحديث حيث اصبحت منطقة الأناضول في مجملها ومناطق في عمق زاكروس جزءا من القلب الآشوري، وتجدد النشاط التجاري نفسه على العهود الإسلامية حيث امتدت ذراع القوة التجارية والعسكرية والحضارية للعراق حيث مقر العاصمة العباسية بغداد من الصين حتى الأندلس..
ولكن سرعان ما شهد العالم تحولا كبيرا في مراكز القوة لصالح الدول الأوربية بعد سقوط بغداد وبدء السيطرة التركية في الشرق الأدنى .. وترتب على هذا التحول ظهور امبراطوريات اوربية طموحة تزامنت مع الأستكشافات الجغرافية الكبرى للعالم الجديد مما تسبب في تنامي حالة التنافس بين الدول الأوربية للحصول على الموارد الأقتصادية الغزيرة للعالمين القديم والجديد معا..ولما كانت الأمبراطورية العثمانية مسيطرة على اراض مهمة في الطريق الى العالم القديم، كان لزاما على الدول الأوربية ايجاد طرق بحرية جديدة والتفاهم مع العثمانيين لتنظيم التجارة معهم وعبر الأراضي التي استورثوها من اولاد عمومتهم الذين اسقطوا بغداد..
الهند الشرقية من شركة الى امبراطورية:ـ
وترتب على التنافس بين الدول الأوربية القوية اكتشاف طريق بحري عبر رأس الرجاء الصالح الى الهند وجزر الهند الشرقية الغنية بالموارد التي تحتاج اليها اوربا كالقطن والحرير والتوابل وملح البارود والشاي والقهوة والأفيون [الذي يستخدم لأغراض طبية ودوائية وكمخدر تحشيشي]، فضلا عن الموارد الزراعية الأخرى وغير ذلك كثير..منها ومن اميركا اللاتينية وجزر الكاريبي واماكن اخرى..مما ولد شركات عملاقة تتولى مهمة التجارة والمحافظة على مستعمراتها ومصالحها في سياق التنافس مع شركات اخرى. فكانت اولى الشركات الاوربية العملاقة شركة الهند الشرقية الهولندية تلتها شركة الهند الشرقية البريطانية فشركات اقل حجما كشركة الهند الشرقية البرتغالية ثم شركة الهند الشرقية الفرنسية والشركتين الأخيرتين اصغر كثيرا في مجالات قوتيهما ومديات نشاطاتهما من الشركتين البريطانية والهولندية..والأرجح ان البرتغاليين، على الرغم من سبقهم في الأستكشافات الجغرافية، والفرنسيين ومعهم الدنماركيين والسويديين انما كانوا يحاكون الأنكليز والهولنديين في تاسيسهم لشركات هند شرقية [وغربية] لم تقدر على خوض غمار التنافس المشتعل بين الهولندين والأنكليز..فقد امتلكت شركة الهند الشرقية الهولندية التي اسست عام 1602 اسطولا تجاريا يتألف من 4.785 سفينة وكان لها سلطات شبه حكومية تتضمن القدرة على شن الحروب واعتقال المخالفين وحبسهم والتفاوض على المعاهدت و اصدار العملة وتشكيل المستعمرات وإدارتها، بينما تاسست شركة الهند الشرقية البريطانية عام 1605 لتصبح قوة امبريالية مستقلة بذاتها فقد حافظت على جيش دائمي يتألف من 200,000 جندي وضابط في مختلف الرتب ولها اسطول يتألف من 130 سفينة حمولتها الف ومائتي طن، وعلى الرغم من ان السفن العاملة في اسطولها كانت أقل عدد من السفن العاملة في الأسطول التجاري الهولندي، فقد تمكنت من احراز انتصارين عسكريين على البرتغاليين ثانيهما بمساعدة الهولنديين الذين يشاطرون الأنكليز عداوتهم للأسبان والبرتغاليين معا ولكن لأسباب مختلفة..وقد استفادت شركة الهند الشرقية البريطانية من دعم الحكومة البريطانية لها في تأسيس علاقة مع ملوك الهند من احفاد بابور[أحد احفاد تيمور ومؤسس االسلالة المغولية في الهند] ، فحصلوا على امتيازت ومواطيء قدم كثيرة في شبه القارة الهندية مهدت لأستعمار الهند بأكملها وبناء اسس الأمبراطورية البريطانية فيما وراء البحار..
ومع تطوراعمال الشركة واتساع رقعة نفوذها عمدت الى تشكيل جهاز إداري واسع مستقل عن الحكومة البريطانية التي تمكنت في أواخر القرن الثامن عشر من السيطرة التدريجية على هذه الشركة العملاقة فأصبحت تعمل ومنذ عام 1834 تحت إشراف الحكومة البريطانية حتى التمرد الهندي عام 1857 عندما تولت الدائرة الإستعمارية في الحكومة البريطانية السيطرة التامة على الشركة على الرغم من عدم مشاركتها المالية مباشرة فيها..وقد أنتهى وجود الشركة عام 1873 بعد ان تركت بصماتها في تاريخ العالم ..فقد اوجدت مستعمرات عديدة وخاضت بجيشها حروبا عديدة حددت مصائر مناطق واقاليم كثيرة في الهند وجزر شرقي آسيا..كما ادى توسيع عملياتها الى التصادم مع دول اوربية اخرى مما وسع في مجالات اهتماماتها لتشمل الجوانب الستراتيجة والسياسية بالإضافة الى الجوانب التجارية فكانت تصدر عملتها الخاصة التي تحمل عنوانها وتعين عملاء سياسيين في معظم عواصم المشرق ومدنه الكبرى ...ومنها بغداد والبصرة والموصل، وتلك مهمة تؤكد الجانب الستراتيجي والسياسي التي تتشاطر الأهتمام فيه مع الحكومة البريطانية ويتمثل بالدفاع عن الطرق البحرية والبرية الى الهند وتأمين عمل الحكومة البريطانية المحلية في الهند وغيرها من المستعمرات الآسيوية..فلابد والحال هذه من ان يحتل العراق موقعا مهما في خارطة المصالح الستراتيجية والأقتصادية لشركة الهند الشرقية البريطانية...وكان حكام العراق المحليين يسعون الى تمتين الأواصر الإقتصادية والسياسية مع بريطانيا حتى مع تجاوز رضى او موافقة السلطة العثمانية فسمح والي بغداد بتعيين عميل لشركة الهند الشرقية في بغداد عام 1798 اعقب ذلك فتح فنصلية في بغداد عام 1802 مما عمل على تطوير النشاط التجاري البريطاني في العراق، ثم عين كلوديوس جيمس ريج عام 1808 ممثلا لشركة الهند الشرقية البريطانية في بغداد وكان مهتما بنواحي الحياة كلها في بلاد الرافدين وبخاصة الآثار، فزار نينوى وبابل وعمل على جمع كمية هائلة من المخطوطت واللقى الأثرية التي بيعت للمتحف البريطاني عام 1825 مشكلة النواة الأولى للقسم العراقي في المتحف البريطاني..وقد استمر كلوديوس جيمس ريج في وظيفته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد حتى عام 1821 ليعقبه روبرت تيلر للفترة 1821 وحتى 1843 حيث اعقبه في الوظيفة نفسها هنري راولنسون للفترة 1843 وحتى 1855 ثم أرنولد برويز كمبول للفترة 1855 وحتى 1872، كما وظفت شركة الهند الشرقية عددا كبير من الإطباء في الأختصاصات الطبية المختلفة ومهندسين مدنيين ومعماريين وفنانين وعلماء نبات وأرض وحياة وانثروبولوجيا.. وكان الضباط ممن يعملون في الشركة قد انهو دراستهم في كلية عسكرية متخصصة في لندن تابعة للشركة التي اسست كلية تابعة لها عام 1806 وهي كلية مازالت قائمة حتى الآن بأسم "هيليبري كولج"..كما تحتضن الشركة نخبة متميزة من الأدباء والكتاب والشعراء والمترجمين والمستشرقين منهم من ولد في الهند..ولاغرابة من ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في الهند قرون عدة جعلت العديد من البريطانيين يتخذونها موطنا ثانيا لهم ولأسرهم على الرغم من تفضيلهم لتعليم اولادهم في مدارس في بريطانيا.. مما وضع الأساس لطبقة ارستقراطية من ابناء التجار والعسكريين ممن يقيم في الهند ويمتلك العقارات والمصالح التجارية في بريطانيا...وشجع هذا ألأمتياز العديد من الأنكليز والأوربيين الى الإنخراط في خدمة الشركات التجارية واساطيلها...وكان العديد يقومون بالرحلة الى الشرق على حسابهم الشخصي تيمنا باكتساب خبرات تؤهلهم للحصول على منصب في احدى شركا ت الهند الشرقية، فاختار العديد الرحلة بطريق البر مما جعل مرورهم ببلاد الرافدين ضرورة ..وقد جاء اكتشاف نينوى والنمرود في سياق رحلة هنري لايرد وميتفورد الى سايلون [سيريلانكا] .. وبينما قررميتفورد مواصلة الرحلة الى سيريلانكا، توقف هنري اوستن لايرد في الموصل ليباشر في التنقيب في تلقوينجق والنمرود.. ولكن رحلة لايرد الى بلاد الرافدين لم تكن في سياق العمل في شركة الهند الشرقية، وكذلك الحال في رحلة رالف فيتج وجون نيوبري اللذان زارا العراق في اواخر القرن السادس عشر وكانا من اوائل الرحالة الأنكليز الى بلاد الرافدين في طريقهما الى الهند. وغالبا مايعمد الرحالة الى تدوين مشاهداتهم وتجاربهم في البلاد التي يزورونها او يمرون بها موفرين بذلك معلومات ووثائق لشهود عيان غاية في الأهمية عن جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والحضارية للأمم التي زاروها ومااليها من تفاصيل عن ظروف الرحلة كالأماكن التي زاروها والناس الذين التقوا بهم ...مم يوفر مادة ثرة ونادرة لطلبة التاريخ والجغرافيا والحياة الإجتماعية والإقتصادية والسكانية وصورة الحياة في الماضي ومعلومات لايمكن العثور عليها في اي مكان آخر..ومن الرحالة من لم يدون رحلته ومشاهداته ومنهم من توفي في اثناء الرحلة كالآثاري كارل بيلينو الذي صاحب كلوديوس جيمس ريج في رحلته في بلاد الرافدين وتوفي في الموصل عام 1820 وكتب عنه المستشرق الألماني جوزيف فون هامر برغستال، ومن الرحالة الأوائل جون كارتويل واانطوني شيرلي وجون ايلدريد ممن زار الموصل في القرن السابع عشر..غير ان عددا من الرحالة من الضباط العاملين في شركة الهند الشرقية تمكن من العودة الى بريطانيا لينشر تفاصيل رحلته الى آسيا والعراق ومن بين هؤلاء الضباط جيمس سيلك بكنكهام الذي زار الشرق الأدنى واقام في الهند ثم زار العراق والموصل وكتب عن رحلاته عددا من الكتب تناول الموصل في اثنين منها هما [رحلات في بلاد مابين النهرين] و[رحلات في بلاد آشور وميديا وفارس] وجون مكدونالد شينير الذي قام برحلتين الى الموصل اولاهما بعد انتهاء عمله في السفارة البريطانية في بلاد فارس عام 1810 والثانية خلال عامي 1813-1814 ..وكتب تفاصيل مشاهداته في الموصل في كتابه[ مذكرة جغرافية لبلاد فارس] كما تناول تفاصيل رحلته الثانية بدون التطرق مجددا الى الموصل في كتابه [رواية في رحلات في آسيا الصغرى وأرمينيا وكردستان في 1813-1814] ..
وفي الواقع فإن نشاطات شركة الهند الشرقية البريطانية واهتماماتها كانت الأوسع والأكبر في العالم ..فهي بالإضافة الى نشاطاتها التقليدية في التجارة وتأسيس المستعمرات وحماية الطرق البحرية، فتحت الشرق على الغرب والغرب على الشرق حضاريا فمهدت لحركة الإستشراق والدراسات الآسيوية والإسلامية ولاسيما فيما يتعلق بالشرق الأدنى..فقد ضمت مستشرقين وفنانين كبار كالسير ريتجارد فرانسيس بيرتون الذي ترجم الف ليلة وليلة ب 16 مجلد الى الأنكليزية والمستشرق وليم جونز والمستشرق جيمس برنسيب والمستشرق وليم موير والمؤرخ توماس بابنكتون ماكولي والمنظر السكاني توماس روبرت مالثوس فضلا عن طائفة عريضة من الكتاب والأدباء كريتشارد ستيل ورديارد كيبلينغ ووليم ثاكري ميكبيس وتوماس لوف بيكوك وأدورد جيمس كوربيت وجون ماسترز وجورج اورول وادورد مورغن فورسترو جون ستيوارت ميل وابيه جيمس ستيوارت ميل..هذا علاوة على عدد كبير من الفنانين المصورين والرسامين كجيمس فوربيز ووليم هوجزوروبرت كير بورتر وتوماس دانيال وهوراس فان رويث وروبرت سميث، والمعماريين كهنري اروين ووليم ويلكينز وماثيو دكبي وايات وغيرهم...ولكن الظروف الدولية سرعان ما تغيرت في اواخر القرن التاسع عشر فقد دخلت دول اوربية اخرى ميدان التنافس على الموارد فيما وراء البحار وكان العداء التقليدي بين بريطانيا وفرنسا قد حرك الأخيرة صوب مصر حتى تمخضت الجهود الفرنسية في حفر قناة السويس التي غيرت خارطة المواصلات في العالم واختصرت المسافة الى الهند جوهرة التاج البريطاني بقرابة ثلاثة اشهر مما دعى الحكومة البريطانية على عهد رئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي الى الأقتراض من المصرفي اليهودي ليونيل دي روتشيلد الذي تمتلك اسرته شركة الهند الشرقية بأكملها، المال الذي اشترى به حصة مصر في قناة السويس عام 1875، لتأمين طريق اقصر الى مستعمراتها الآسيوية ولتحقيق توازن قوة مع فرنسا والأطراف الأخرى المشتركة في هذه القناة..ويبدو ان دزرائيلي كان يضع باستدانته من روتشيلد قياد الحكومة البريطانية وسياستها بيد اليهود من اسرة روتشيلد ممن سرق اموال الهند ونقل ثرواتها الى مصارف الأسرة في أوربا ..وقد جاء تحرك بريطانيا صوب السويس بعد تأكدها من صعوبة [وليس استحالة] ايجاد طرق نهرية [دجلة والفرات] او حديدية [سكك حديد] بين خليج الأسكندرونة والخليج العربي بعد حملة فرانسيس رودان جاسني ودراسته اللاحقة لأمكانية مد سكة حديد تختصر المسافة الى الهند عبر رأس الرجاء الصالح..
خاتمة:ـ
وعلى الرغم من تلاشي شركة الهند الشرقية وانتقال وظائفها الى الحكومة البريطانية منذ عام 1874، فإن ادارتها الفعلية المتمثلة باسرة روتشيلد في فرعها البريطاني واصلت ادارة المصالح التجارية لبريطانيا وتوجيه السياسة البريطانية في الشرق الاوسط حتى الوقت الحاضر.. وهي، اي شركة الهند الشرقية البريطانية، عملت على تأسيس الثوابت التي اعتمدتها الحكومة البريطانية في سياستها تجاه الشرق الأوسط ..وكانت اهم تلك الثوابت الحفاظ على الهند ومستعمراتها في شرقي آسيا مما وجه انظار الحكومة البريطانية نحو العراق..وترتب على الإهتمام المتزايد في العراق زيادة كبيرة في نسب التبادل التجاري بطريق ميناء البصرة فقد كانت بريطانيا توفر 65% من احتياجات السوق العراقية من السلع والبضائع كما تولت شركة بريطانية هي شركة هنري بلوسا لنج أحد الضباط في بعثة جاسني لأكتشاف صلاحية دجلة والفرات للملاحة مهمة النقل النهري داخل العراق [ شركة الفرات ودجلة للملاحة] التي اسست عام 1859 وكان للقنصل البريطاني العام في بغداد سفينته البخارية الخاصة به واسمها الكومت [المذنب] التي كان يسيرها في دجلة وعين على حراستها وحدة عسكرية من الهنود..وقد عزز اكتشاف النفط في اواخر القرن التاسع عشر التواجد البريطاني في العراق والخليج ودفع البريطانيون الى سلخ قضاء الكويت التابع لولاية البصرة عن العراق لصالح الشيخ مبارك بعد تكبيله بشروط تمنعه من التنازل عن اي جزء من ارض الكويت لأي قوة أخرى بدون موافقة بريطانيا..
وخلاصة القول فأن شركة الهند الشرقية البريطانية في استعمارها للهند وسعيها للحفاظ على المسالك البرية والبحرية الموصلة اليها، مهدت للأحتلال البريطاني لبلاد الرافدين ووادي النيل ومنطقة الخليج، واسست للفكر الأمبريالي المعاصر وتسببت بعدد كبير من الحروب والمجاعات المدمرة في الهند بوجه خاص وماالى ذلك من ويلات كان كارل ماركس قد جاء على تفاصيلها في مقالته [الحكم البريطاني في الهند] عام 1853 ، بنص يذكرنا بقوة بما احدثه الأحتلال البريطاني ومن بعده الأميركي للعراق "ان الحروب الأهلية والغزوات والثورات واعمال العدوان والمجاعات على ما فيها من تعقيد وعجالة ودمار لتكرارها في هندستان قد تبدو مظاهر تطفو على السطح فحسب لأن الأدهى من ذلك هو قيام انكلترة بتحطيم الهيكل الذي يقوم عليه المجتمع الهندي..وبدون اية بوادر معالجة في الأفق..فالهندي الذي فقد عالمه (القديم) [التقليدي] بدون ان يحصل على اي عالم يحل محله يشعر بكآبة قاتلة تضاف الى بؤسه، ويفصل هندوستان [الهند] التي يحكمها البريطانيون عن كل تقاليدها القديمة وعن تاريخها القديم بأسره".
هنا يضع كارل ماركس اصبعه التشخيصية الماهرة ليس على الآثار المدمرة التي تسبب بها الأستعمار البريطاني [شركة وحكومة] للهند فحسب بل على الآثار المدمرة التي يستجلبها اي استعمار على اي بلد يتميز بتاريخ وتقاليد حضارية ونمط حياة خاص بأهله وهذا ماحدث في العراق بعيد الأحتلالين البريطاني في مطلع القرن العشرين وألأميركاني- البريطاني في أواخره..
ويكرر ليو تولستوي في رسالة الى غاندي لاحقا الموقف الماركسي من الإستعمار البريطاني للهند:ـ
(شركة تجارية تستعبد امة تتألف من مائتي مليون نسمة. قل هذا لأي شخص لاتتحكم بعقله الخرافات، سترى انه لا يستوعب ما تعنيه هذه العبارة..فما معنى ان يقوم 30.000 رجل..ليسوا رياضيين [اقوياء] بل ضعفاء وعاديين باستعباد مائتي مليون من الناس النشطين، الأذكياء، القادرين، ومحبي الحرية؟ اليست الأرقام وحدها توضح بمافيه الكفاية ان الأنكليز ليسوا من أستعبد االهنود بل أن الهنود هم من استعبدوا انفسهم)..
غير أن شركة الهند الشرقية على الرغم من الأضرار الكثيرة التي تسببت بها على الأمم المستغلة والمستعمرة، حققت فوائد أهمها نقل التمدن الآسيوي الى الغرب بطريق ما جلبته الى الأمم الغربية من سلع كالحرير والجلود والعاج والقطن والأرياش والعطور والتوابل والشاي والقهوة وتنشيط حركة التجارة من الغرب الى الشرق، فضلا عن انواع نادرة من الأخشاب والمنسوجات والطنافس والأفرشة والبسط الفخمة زاهية الألوان، وكانت عاملا مهما في النهوض بحركة الأستشراق وفي ادب الرحلة..
وبقدر تعلق الأمر بالرحلات الى العراق والموصل، نميز رحلات جون سيلك بكنكهام، وكلوديوس جيمس ريج المقيم لبريطاني وممثل شركة الهند الشرقية في بغداد وجون جورج تيلر القنصل البريطاني في البصرة والكابتن روبرت ماجنن وادورد فردريك ووليم كينيت لوفتوس، والكولونيل في شركة الهند الشرقية جون مكدونالد شينير والمساح الميجر جيمس رنل وبيلي فريزر،، وجيمس فيلكس جونز، وهنري جيمس روس التاجر المقيم في الموصل في النصف لأول من القرن التاسع عشرالذي تابع اكتشاف نهر دجلة صعودا من بغداد وحتى تكريت فضلا عن فرانسيس رودون جاسني واعضاء من فريق حملته الفراتية الشهيرة كالكساندر بيوشر ووليم كولينكوود وهنري بلوسا لنج ووليم سيلبي وغيرهم ممن عملوا في شركة الهند الشرقية قبل انخراطهم في حملة جاسني..وكان من منجزات شركة الهند الشرقية غير المباشرة توجيه انظار العالم لى اهمية بلاد الرافدين في تاريخ البشرية بطريق بعث نينوى وبابل من الأجداث، فقد اسهم كلوديوس جيمس ريج وجيمس سيلك بكنكهام وروبرت كير بورتر وروبرت ميكنان وبيلي فريزر وجيمس فلكس جونز الضابط في شركة الهند وواضع اول خارطة تفصيلية طوبوغرفية لنينوى والكولونيل راولنسون الذي امر بالتنقيب في شريف خان [شريخان- بالقرب من "الرشيدية" حيث معبد نسروخ الذي يرجح أن سنحاريب اغتيل فيه]، وغيرهم كثير الى اكتشاف نينوى وبابل وغيرهما من المدن البائدة واماطة اللثام عن اللغة المسمارية وتظهير الصروح الفنية العظيمة الدفينة في تراب الرافدين.. كما اسهموا في دراسة العراق طوبوغرافيا وجغرفيا واثنوغرفيا وجيولوجيا واركيولوجيا وتاريخيا من خلال رحلاتهم ودراساتهم التي تقدم صورة متكاملة عن العراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودخولا في القرن العشرين..
وعلى الصعيد المحلي الشعبي فقد تسببت الشركة بإدخال الكثير من جوانب الحضارة الهندية الى العراق بدءا بالعملة الهندية كالعانة والروبية والبيزة الى جملة من المفردات التي تعكس تغييرا في الأطعمة العراقية في اتجاه المطبخ الهندي كالبرياني والتمرهندي والليموندوزي والكجري والعمبة والبرياني فضلا عن المواد العطارية والأطعمة والأنسجة والألبسة التي تستخدم لها مفردات هندية في مدن العراق منذ ادخال الهنود الى العراق عام 1914 وحتى الوقت الحاضر ومابرحنا في لموصل نستخدم كلمة [بيبي متو] التي تعني [سيدتي انت قمر] و باللغة الهندية ب"بيبي ماه تو" حيث درج مدربو الببغاوات في الهند على تعليمها مايحببها من كلمات لدى مقتنيها ترويجا لها كما يخبرنا الأب انستاس الكرملي، تستخدم في العامية الموصلية إذ تطلق على الشخص الذي يحاكي الاخرين بتشبيهه بالببغاء او ال[بيبي متو] في اللغة الهندية ..وغير ذلك كثير في العامية الموصلية ..ولعل اعتياد العراقيين على شرب الشاي بكثرة يعود الى عادة هندية فقد اعتاد عملاء شركة الهند الشرقية تصدير كميات هائلة من الشاي السيلاني الأصيل الى العراق بطريق ميناء البصرة وكانوا يضعون في صناديق الشاي نماذج خشبية صغيرة تمثل فيلة ونمورا من الأبنوس على سبيل الهدية ولترغيب العراقيين بشرائها..
وتجدر الإشارة الى ان ادبيات الرحلة [تفاصيلها] لاتتوفر للرحالة كلهم لعدم نشرها من قبل ورثة الرحالة او من قبل المؤسسات التي اشترت عائدات الرحالة وركنتها في رفوف المتاحف الكبرى كالمتاحف البريطانية والفرنسية مما جعلها في عصمة يصعب، ان لم يكن، الحصول عليها في حكم المستحيل، او لأن مانشر يغطي جوانب من الرحلة غير تلك التي يعنى بها البحاثة او تهم القاريء غير المتخصص كما في رحلة كلوديوس جيمس ريج الى الموصل التي زارها اربع مرات خلال اقامته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد وكتب عنها ما لم نوفق بالعثور عليه.. وما عثرنا عليه يتناول بابل ومحيط الموصل كالمواقع الأثرية في نينوى وتلالها واسوارها عام 1820، وهو نص يتطرق الى مواضيع لاتخلو من اثارة وطرافة كحديثه عن تنقيبات خفية في قلعة اربيل "مدينة الآلهة ألأربعة"] وكذلك حديثه عن جامع النبي يونس ووداي الدملماجة وعين الماء ومغارة الجن القريبة منها واالتي تحدث عنها معارف لي في تل النبي يونس بتفاصيل مماثلة قبل اطلاعي على وصف ريج لها
(ويوجد تحت هذا السور الثاني او فيه عين ماء او بئر مغطى بعقد قديم جدا يتألف من صخور ضخمة..يطلق عليه بئر الدملماجة، ويعتقد الأهالي ان مياه الدملماجة هذه لها القدرة على الإشفاء من الأمراض ، ليس بسبب خاصية دوائية فيها بل بسبب معتقدات تتصل بالبئر..ويعتقد الجميع ان المكان مسكونة بالجن فلا يجرأ أحد على الأقتراب منها بعد حلول الليل، وقد اخبرني حسين أغا [دليل ريج] أنه مر مرة في هذا المكان في الليل، فسمع اصوات طبول وفوضى تصدر من البئر فأطلق العنان لفرسه هربا لأن اي شخص يشاهد، حتى ولو بدون قصد، شعائر هؤلاء الجن سرعان ما يفقد حياته او عقله..وقمت بتذوق الماء فوجدته عذبا غاية في الصفاء والنظافة..وبقيت عشر دقائق الى جانب البئر ثم واصلت سيري صوب الموصل مرورا بالنبي يونس )..
وقبل زيارة ريج الآثارية للموصل زارها عدد كبيرمن الضباط في شركة الهند الشرقية ابرزهم جون مكدونالد شينير الذي زارها مرتين الأولى في عام 1810 في طريق عودته من بلاد فارس في ختام عمله ملحقا عسكريا في السفارة البريطانية فيها وملحقا بالممثلية البريطانية في بوشهر [احدى قواعد شركة الهند االشرقية في الخليج العربي]، في طريق عودته الى انكلترة بطريق القسطنطينية ومنها الى اسبانيا والبرتغال، وزارها مجددا عام 1814 عندما وجهت اليه اوامر بالإلتحاق بوحدته العسكرية بقيادة نايل كامبل التي كانت في السويد وفي طريقها الى الهند عبر روسيا فبلاد فارس غير ان انسحاب الفرنسيين من موسكو اضطرهم الى الأتجاه جنوبا نحو بولونيا حيث سار شينير الى القسطنطينية ومنها زار ارمينيا فالموصل فبغداد ومنها الى البصرة فبومباي في الهند..اما جون سيلك بكنكهام فقد زار الموصل عام 1816 في طريقه الى الهند قادما من مصر ففلسطين فسوريا حيث تنكر بزي تاجر عربي والتحق بقافلة من التجار في حلب كانت في طريقها الى الموصل وقبل وصول القافلة نهر دجلة لحق اثنان من الجندرمة العثمانيين القافلة بحثا عن شخص انكليزي يوصلهما الى كلوديوس جيمس ريج المقيم البريطاني في بغداد لأيصال رسالة وجهها له السفير البريطاني في القسطنطينية..فاختار بكنكهام مصاحبتهما الى بغداد طلبا للأمن والسلامة في الطريق ..مما اختصر فترة مكوثه في الموصل بيومين ..وفيما يأتي نتعرض لمشاهداتهما ووصفهما للموصل في مطلع القرن التاسع عشر:
الموصل في رحلة جون مكدونالد شينير:ـ
(على الرغم من ان الموصل تقع في قلب المنطقة الخاضعة لإدارة باشا بغداد، فإنها شكلت من نفسها وبمساحة لاتزيد على ميلين في جانبي دجلة فقط حكومة مستقلة يديرها باشا يتمتع بصلاحيات واسعة يعينه السلطان العثماني، وتقع الموصل في الجانب الأيمن على الضفة الغربية لدجلة..وهي منخفضة بحيث يصل نهر دجلة الذي يبلغ عرضه في الموصل 100 ياردة ويجري بسرعة هائلة الى اعلى جدران بيوتها [وقت الفيضان]..وهي كبقية المدن في الأمبراطورية التركية في وضع متردي فالسور الذي يحيط بها مهدم في أماكن عديدة والقسم الأعظم من مبانيها آيل الى الخراب..والبيوت فيها مشيدة من الطابوق اوالحجارة.. ولأن الخشب من المواد النادرة والثمينة نجد ان الأسطح وحتى السقوف تعتمد العقود في بنائها..وللموصل سبع بوابات والقلعة الخربة تشغل جزيرة اصطناعية صغيرة في جانب النهر. اما المقاهي والحمامات والخانات والأسواق فهي مبان انيقة والأسواق فيها مجهزة بكل التجهيزاات من كردستان وغيرها..وهنالك قصر قرة سراي او القصر الأسود كان مقرا للباشا ولكنه في حالة خربة الآن ..اما الباشا فيقيم في مجمع من المباني الصغيرة غير الملفتة للنظر تقع في اقذر احياء المدينة..وتتلخص مظاهر الزينة في المدينة بمدرسة وقبر الشيخ عبدالقاسم [ابو القاسم] وبقايا جامع بديع لمنارته التي بناها نور الدين سلطان دمشق تاثيرا أ خاذا عندما ينظر اليها على البعد من مشارف المدينة..ويبلغ تعداد اهل الموصل كما ابلغني الباشا 35 الف نسمة يضمون الترك والكرد واليهود والأرمن والنسطوريين والعرب..ويضرب المثل بمناخ الموصل الصحي.. وهناك العديد من عيون المياه المعدنية على مقربة من المدينة..وفي غربي دجلة توجد اراضي غير مزروعة وبدلا من ذلك تنتشر المقابر الى جوار السور مما يترك انطباعا كئيبا كالحا لدى المشاهد..وهنالك تجارة مع بغداد وآسيا الصغرى اذ ترسل الى بغداد المكسرات والنيلة، والنحاس الذي يردها من ارمينيا على متون الأكلاك لتتلقى بالمقابل منتجات الهند التي تنقلها الى دياربكر واورفا وطوقات [مقاطعة ومدينة في تركيا جنوب البحر الأسود] ومدن أخرى..وفي الجهة المقابلة للموصل وعلى بعد اقل من ميل عن المجرى تقع قرية نونيا وضريح النبي يونس في موقع نينوى التي يرجح انها كانت اكبر مدينة في العالم)..
الموصل في رحلة جون سيلك بكنكهام:ـ
(وصلنا بوابات الموصل مع انبلاج الفجر وكنت قد تخيلت ان اشاهد منظرا صروحيا كما ذكر عدد من الرحالة، إلا انني اصبت بخيبة امل عندما القيت اول نظرة الى المدينة فليس ثمة مايثير الأعجاب على الرغم من وصولنا اياها بعد مرورنا بقرى بائسة وبرار جرداء مما كان سيضاعف تاثيرها..وفي دخولنا المدينة بدا داخلها خلوا من الإثارة..فهي في مجملها أسوء المدن في ابنيتها واقلها اثارة للأهتمام ولاسيما اذا اخذنا بنظر الإعتبار كبر حجمها فهي من اكبر المدن التي رايتها في الشرق..ثم ذهب المرافقون الى قصر الباشا المجاور لمركز سعاة البريد بينما اتجهت الى رئيس التجار المسيحيين في المدينة وكان مسؤولا في احدى دائر الحكومة في الموصل ايضا..وكنت قد جلبت له رسالة من بطريرك ماردين فاستقبلني بحفاوة وجهز غرفة لأقامتي.. وبعد انتهاء مراسيم استقبالي من قبل الأسرة وتناولي للإفطار الذي قدم لي..وجدت خادما في انتظاري لمصاحبتي حيثما اريد في المدينة..فأخذني الى الحمام لنستحم فيه، وكان الحمام افضل ماينعش المرء بعد سفر منهك..
وعند مغادرتنا الحمام، رأيت عددا من المرافقين ارسلهم الباشا الذي سمع من مساعده بوصول مسافر انكليزي الى الموصل فارسل حرسه الشخصي لأصطحابي الى الديوان فتبعتهم الى القصر القريب من الحمام فقادوني الى حضرة الباشا وكان رجلا وسيما في نحو الثلاثين من العمر يرتدي ملابس رسمية زاهية كدأب اعيان الترك وتحف به مظاهر السلطة والفخامة..كان جالسا لوحده على اريكة فارهة في زاوية من زوايا الغرفة بالقرب من نافذة مفتوحة تطل على مشهد جذاب وفي الصالة المفتوحة على غرفة الباشا يقف قرابة 50 من الحرس الخاص من الجورجيين والشركس ومعظمهم "بندقجية" [الكلمة التي استخدمها كانت "مندقية" وهي لامعنى لها بالسياق والأرجح ان المقصود "بندقجية" التي يعني بها حملة البنادق وليس صناعها كما يفهم من معنى الكلمة العثمانية المعربة] غالبيتهم على قدر كبير من الوسامة ويرتدون بزة غاية في الإناقة يقفون في صمت مطلق واستعداد عسكري مهيب لتلبية اوامر سيدهم..وكان استقبالي محفوفا بالحفاوة واللطف والرقة..فهذا الشاب الذي اسمه حامد سليل اسرة تركية [اسرة حسين باشا الجليلي] توارثت الولاية على باشليق الموصل لبضعة أجيال..وتحدث شخصيته واخلاقه كما ورد في روايات الناس وكما عرفته شخصيا عن مشاعر ومسلك رجل غاية في اللطف والوداعة محبا للخير بما لايقاس..وقد ابدى خلال حديثنا عن اوضاع اوربا ذكاءا واطلاعا يندر ان أراه في مثل فئته من الأعيان، وقدم لي معلومات متنوعة وغزيرة حول البلدان الشرقية حيث تتجه اهتماماتي، واختتم لقائنا بعرضه لي حمايته وعونه في اي شيء أنوي القيام به..وعندما حدثته عن نيتي في مواصلة رحلتي الى بغداد، نصحني بالذهاب برا اليها بصحبة الساعيين اللذين صاحباني الى الموصل ان كنت انوي السرعة..او بالسفر اليها بطريق الكلك في دجلة أن كنت ابغي الراحة، وفي الحالتين اكد لي مجددا استعداده تقديم النصح والعون وان كل مايريده هو ان يعرف مرادي لكي يلبيه فورا..وعندما استرخصت الباشا بالمغادرة ومعي الحضور انسحبنا الى الوراء وانظارنا متجهة اليه لأن هذا من آداب المغادرة الدارجة في هذه البلاد بعد زيارة القادة والأعيان..وكان هناك اثنان من قواصي الباشا او -حملة عصاه الفضية- في انتظاري نزولا عند اوامر الباشا لمصاحبتي في جولتي في المدينة..فامتطينا خيولا من اسطبل الباشا وانطلقنا الى زيارة الأماكن الجديرة بالزيارة وكان القواصان دليلاي في المدينة) .. ثم يتطرق بكنكهام في هذه الفاصلة الى رحلة الطبيب الألماني ليونهارت راوولف الذي زار الموصل عام 1574 بقوله:
(على الرغم من ان العادات لاتتغير كثيرا بمرور الوقت في الشرق، فأن السمات الشخصية للأشخاص الذين يتولون السلطة "الولاة" تختلف في اسلوب الأستقبال والتعامل مع الرحالة عند زيارة الأماكن نفسها عبر فترات زمنية مختلفة، وفيما يأتي وصف راوولف لزيارته واستقباله من قبل باشا الموصل قبل قرنين ونصف: "عندما دخلنا غرفة الباشا التي كانت غرفة عادية ولكنها مفروشة بالسجاد الفاخر ومزينة بصورة حسنة مبدين مظاهر الأحترام والتبجيل الواجبة، سألنا الباشا الذي كان جالسا يرتدي ثوبا اصفرا فخما على لسان احد خدمه بالفرنسية التي لايتقنها بصورة جيدة عن المكان الذي جئنا منه والى اي مكان ننوي السفر وماجلبنا معنا من بضائع..فأجبنا بدقة على تلك الأسئلة، لكن الباشا بدا غير مقتنع ..بل طلب الينا ان نخرج وننتظررده..فادركنا مايرمي اليه تماما، فقد كان يريد انتزاع هدية منا..مع ذلك [اظهرنا] جهلنا بمراده واريناه جواز مرورنا مختوما من قبل باشا حلب وقاضيها لنرى ان كان ذلك سيرضيه..فأخذ الجواز ونظر اليه وتطلع بتفحص في الأختام التي كانوا يستخدمونها بعد وضعها في الحبرفيظهر الختم باللون الأسود دون الحروف [التي تترك بيضاء]، فلم يبق له مايقوله لنا وتركنا لنذهب..فبادرنا بتحيته منسحبين من حضرته وظهورنا الى الخلف لأنك ان ادرت ظهرك على اي شخص مهما بلغت مكانته من الوضاعة، فانه سيعد ذلك اهانة كبيرة وسلوكا تدوينيا خشنا يفتقر الى اللياقة ") ..
ثم يعود بكنكهام من استطراده هذا ليخبرنا عن تفاصيل رحلته هو الى الموصل:ـ
(وعند عودتنا في المساء دلني القواصين الى محل اقامتي حيث كان في انتظاري وفد من مختلف الطوائف المسيحية المقيمة في الموصل، جاءوا للترحيب بي .. وكانوا يضمون جماعة من التجارفي غالبيتهم سافر العديد منهم في انحاء مختلفة في الأمبراطورية التركية..وكانوا بوجه عام وكما توقعت اكثر انفتاحا احدهم على الآخر في تسامحهم ومشاعرهم من الكثير من اقرانهم من مسيحيي الشرق لذلك كان الوفد منسجما وبهيجا على الرغم من اشتماله على طوائف مختلفة.. واختتمت مأدبتنا في المساء بتناول كميات كبيرة من المسكرات القوية لأن أي أجتماع مسيحي في هذه البلدان لايعتبر كاملا بدون اختتامه بهذه المشروبات..وقبل منتصف الليل كان العديد في حال من الثمالة بحيث لم يقدر منهم سوى القليل على النهوض من الأرض حيث يجلسون للمغادرة الى بيوتهم ومحال اقامتهم)..
ثم يفرد بكنكهام الفصل الخامس عشر من كتابه [رحلات في بلاد الرافدين] الذي اصدره بمجلدين عام 1827 لوصف الموصل
6 تموز 1816: جاء تحديد موعد سفر الساعيين الى بغداد غدا ليعطيني يوما آخر أكمل فيه جولتي في المدينة، وكنت قد طلبت من قواصي الباشا ان يقدما الي في الصباح الباكر ومعهم خيول مرتاحة فامتطينا الخيل في ضوء النهار وشرعنا بأكمال مهمتنا، وكنت بحكم الحماية الموفرة لي بالحرس من على يميني ويساري أقابل بمظاهر الأحترام والأدب اينما اذهب وكانت كل استفساراتي تلقى ردودا جاهزة..وعدنا من جولتنا في الظهيرة وبعد تناولنا للمنعشات انسحبنا الى مضيفينا لنجد ان اكثريتهم غادروا للقيلولة، فانتهزت غيابهم لتدوين الملاحظت التي جمعتها حول الموصل اعتمادا على معلومات سابقة كنت جمعتها فضلا عن مشاهداتي الشخصية وماذكره الناس لي خلال استطلاعاتي:
وصف الموصل:ـ
تقع هذه المدينة في الجانب الغربي لدجلة وفي سهل واط ومستو يمتد بضعة اميال من حولها.. وخارطتها كما وضعها [كارستن] نيبور تبدو لي صحيحة في خطوطها العريضة على الرغم من ان ملاحظاتي مكنتني من الحكم على الخارطة بخطوطها العريضة فقط وليس بتفاصيلها..وفي دخول المدينة من شمالها الغربي رأيت من مظهر الأرض ان المدينة كانت محاطة بحفرة وان تلك الحفرة ردمت لاحقا..اما السور عينه فيبدو في حال خربة ولن يعوق في حالته هذه جيشا محاصرا مزودا بالمدافع، مع ذلك فأنه يعد حاجزا كافيا لمنع أي عدو قد يظهر امامه من اختراقه الى المدينة..والأنطباع العام عن المدينة انها بائسة ورتيبة فشوارعها ضيقة وغير معبدة واتجاهاتها [اتجاهات الشوارع او الأزقة] عشوائية وغير منتظمة.. وبأستثناء [سوق] واحدة، لايوجد فيها اسواق او جوامع او قصور جيدة كما يتوقع لمدينة بحجمها بما يخفف من تأثير التماثل الرتيب في مبانيها العامة..فالبيوت في معظمها مشيدة من الحجارة الصغيرة غير المهندمة مشدودة الى بعضها بالملاط [الجص] والطين ومن البيوت ماهو مشيد من الطابوق المفخور والمجفف بالشمس..ومن اغرب مايلفت النظر ان هذه البيوت مبنية فوق منحدر ارضي يذكرنا بالمعابد المصرية وزوايا البيوت تتجه نحو الشوارع في اغلبها ولكنها تكون مستديرة كالتي نشاهدها في الفتحات المحسنة في زوايا الشوارع الضيقة في لندن. وبسبب ندرة الخشب وبالتالي اسعاره الباهضة، فالقليل فقط من هذه المادة يستخدمه اهل الموصل في مبانيهم..ولذلك يستخدم معظمهم بدلا من العوارض الخشبية عقودا في تسقيف بيوتهم وغرفها كما يستخدمون السقوف المعقدة [ذات العقود] لإسناد سطوح بيوتهم المستوية ايضا..كما نرى ان معظم الأبواب التي تعد الفتحات الوحيدة المؤدية الى البيوت وكذلك النوافذ مفتوحة على فناء مربع يعلوها قوس مقطوع من الرخام الموصلي الذي يجلب من التلال المجاورة.. ومن الأقواس الرخامية هذه مايشبه القوس القوطي المدبب قليلا ومنها مايشبه القوس النورماندي غير المدبب [حدوة الفرس] ، كما رأيت القوس الشرقي [ وهو قوس يشبه االقبة مدبب هو الآخر، كاقواس ايوانات الجامع النوري حول النافورة التي وصفها ابن جبير أوجامع النبي شيت في الموصل وجامع ابن طولون في مصر] في عدد من أبواب البيوت الموصلية ..وفي بعض الحالات تزين هذه الأطر [الملابن] المرمرية منحوتات زهرية بارزة مقطوعة على نحو تنقصه الخبرة كما شاهدت على إحدى هذه الأطناف وفي وسط العوارض الرخامية العليا لهذه المداخل تصميما زينيا يشبه قرون الكبش والى جانبه في اعلى العمود الآخر مثلثين متداخلين بما يشكل نجمة في الوسط يشبه أحدى الرموز التي يرتديها الفرماسونيون [الماسونيون] في أوربا [يقصد نجمة آشورية قديمة سداسية استخدمها الرومان كما استخدمت في العصر الأموي على عهد هشام بن عبد الملك ويسميها اليهود نجمة داود التي وظفها الماسونيون شعارا ووضعها اليهود على علم دولتهم في ارض فلسطين السليبة، وهي شكل زيني عام استخدمه اهل الموصل بدون معرفة منهم بمرموزاته التاريخية والسياسية..وقد قدمت في جامعة الموصل أطروحة في الزينة المعمارية للواجهات والأبواب القديمة في الموصل لمن يريد المزيد من ألإطلاع على هذا الجانب من العمارة الموصلية القديمة]..
ورأيت عددا من البيوت الفقيرة التي يسكنها نساجو الأقمشة القطنية شبه غائرة في الأرض [سراديب] والقسم السفلي فيها هو الأبرد في اثناء النهار وتستخدم لدواليب وانوال الحياكة بينما ينام النساجون على السطوح ليلا..والعديد من هذه السطوح مسور [بستائر] تحول دون رؤية الغرباء..وفي بعض تلك الستائر كوى [فتحات] تكفي لأستخدام السلاح الناري من خلالها وكانها صممت هناك لأغراض الدفاع ومنها ما يحتوي على نوافذ معمولة من أوان فخارية فارغة..[تستخدم الأواني الفخارية على نطاق واسع في المباني الموصلية القديمة وخاصة في العقود والشبابيك، كما توضع في الجدران ك "قاصة" لتوفير المال للأولاد]..اما الأسوق فعلى الرغم من كونها لاترقى الى اسوق القاهرة، باستثناء سوق واحد [سوق باب السراي] فهي عديدة وجيدة التجهيز اذ تردها السلع والبضائع من كردستان وغيرها بوفرة من كل ضروريات الحياة..غير ان هذه الأماكن العامة المفتوحة على الناس والمسقفة، هي بشكل عام وسخة ولاتتصف بالتناسق والنظام المميز لأسواق المدن الشرقية..وهناك في الموصل سوقا واحدة تباع فيها السلع الثمينة وهو سوق افضل كثيرا في بنائها وتصميمها وهي مليئة بانواع السلع والبضائع من أفضل ماتنتجه اوربا والهند..
والمقاهي في الموصل عديدة وكبيرة جدا فمنها مايشغل مساحة حي كامل اذ تمتد لمئات الياردات حيث ترى الأرائك [القنبات] على جانبي الممر المحمي بسقف من الحصير. ويبلغ عدد الحمامات في الموصل قرابة 30 حماما، وعلى الرغم من انني اصطحبت الى عدد من اكبر الحمامات فإنني لم اجد حماما ترقى الى نظيراتها من حمامت القاهرة او دمشق او حلب سواء بالمظهر او بالراحة..وعلى الرغم من ان نمط الأستحمم يتماثل تماما، فأن الإختلاف يوجد في التفاصيل التي يبدو ان صاحب الحمام وعماله قد ركناها الى الإهمال مقارنة بحمامات المدن الكبرى في مصر وسورية..
وتحصى جوامع الموصل ب 50 جامع في عددها، ثلاثون منها صغيرة الحجم وعادية وعشرون منها كبيرة..ولأبرز هذه الجوامع [الجامع الكبير] منارة تماثل في الحجم اية منارة كنت شاهدتها بمثل حجمها..وهي مبنية من الطابوق مستديرة في شكلها وترتكز على قاعدة مربعة ..وهي منارة ترتفع كالعمود الهائل عن قاعدتها وهي مغطاة بأكملها بغطاء زيني من الطابوق الواطي والبارز في اشكال زخرفية عربية تؤلف جزءا لايتجزأ من البناء [المنارة] نفسه وهذا ما يترك تاثيرا جماليا عظيما..والجامع المحيط بهذه المنارة كان في زمن بنائه فخما وبديعا ولكنه الآن آيل الى الخراب بأكمله..وتؤكد الروايات الدارجة على ان القسم الأسفل من الجامع ضارب في القدم اذ يعود الى ماقبل الإسلام..إلا ان المنارة، وهي افضل منارة في المدينة، فقد بناها نورالدين سلطان دمشق..وبالقرب من هذا الجامع [الجامع النوري] جامع صغير على شكل هرم مثمن ..مشيد من الطابوق..ويقال أنه أكثر قدما من الجامع الآخر [النوري]، وهذا امر ممكن بسبب هيئته..وهنالك منائر من الطابوق ايضا مزينة بقرميد ملون باللون الأخضر بزخارف بألوان مختلفة، ولكن ليس منها مايتميز بسبب الحجم او الجمال..ومن بين القباب القليلة فيه هنالك قباب مضلعة كتلك التي رأيتها في ماردين.. ولكن بدلا من الأخاديد الأفعوانية ترى الأخاديد هنا مستقيمة نازلة بزوايا قائمة من اعلى الى حافات السقف [في الواقع كان هنالك جامع بقبة مخروطية واحدة مقابل المدخل الرئيسي للجامع الكبير وعبر الشارع..في مكان يصفه رحالة آخرون بأنه موقع بيمارستان ..إلا أن بكنكهام يتحدث عن أكثر من قبة مخروطية وليس قبة مخروطية واحدة مما يدعونا الى تفسير عبارته "بالقرب من" على اساس نسبي..وبمقارنة القبب المخروطية الموجودة في جوامع الموصل نميز قبة أبو القاسم على شاطيء دجلة وقبب جامع النبي شيت وقبة جامع النبي يونس وهي الأبعد عن الجامع الكبير وقبب جامع خضر الياس وارجح ان المقصود بوصف بكنكهام هو هذا الجامع بقببه المخروطية الثلاث..
وهنالك في الموصل 14 كنيسة خمس منها للكلدان واربع لطوائف أخرى وثلاث منها للسريان وواحدة لليعقوبيين وواحدة للرومان الكاثوليك..وقد سنحت لي فرصة كي ارى رسما لكنيسة مريم العذراء الكلدانية من الداخل وهو الرسم الذي كان السيد ريج [كلوديوس جيمس ريج] المقيم البريطاني في بغداد قد اخذه خلال زيارته للموصل [استضاف ريج بكنكهام في بغداد عند مروره بها ويرجح انه رأى الرسم المذكور لدى ريج في اثناء زيارته له، وكان ريج قد زار الموصل اربع مرات وأقام بها اربعة اشهر]، وكنيسة الكلدان من اقدم اماكن العبادة المسيحية وفي المصادر انها شيدت على غراركنيسة القديس جيمس الخربة في نصيبين والأقواس على جانبي الممر مبنية على طراز القوس الشرقي المدبب اما الأقواس الأخرى الاصغر حجما فهي اضيق قليلا وتشبه الاقواس السكسونية بينما يتألف الأفريز العريض حول صحن الكنيسة من زخارف عربية وتركية واعمدة معلقة مدببة النهايات والزخارف الدقيقة على الرغم من تناسقها في الخطوط العريضة غير الواضحة في تفاصيلها..وتشاهد القوس المسطح المسنن المميز لجامع ابراهيم الخليل في اورفا هنا يضا كما تتكرر الزينة الزخرفية العربية لكن الكتابات حول الكنيسة كلها هي باللغة السريانية القديمة..لذا فأن هذه الكنيسة التي تعد واحدة من اقدم المباني في هذا الجزء من البلاد تعكس تنوعا هائلا في الأساليب الزينية والمعمارية مما يضفي غموضا وليس ايضاحا على السؤال المتكرر دائما حول منشأ العمارة القوطية: أهو الشرق أم الغرب؟
وبقدر تعلق الأمر بالإختلافات فيمابين هذه الطوائف [المسيحية]، فلم اتوصل الى شيء مقنع إذ يبدو ان الأطفال ينتهجون نهج آبائهم ولايهتم اي شخص بمعتقد جاره لأنه مقتنع بوجود اختلافات بين معتقده ومعتقدات الناس ولا يحاول تغيير معتقدات احد او السعي لجعل الجميع يعتقدون مثله..
ويقدر عدد من اهل الموصل ان تعدادهم يتجاوز مائة الف نسمة، ولكن في تقديري وبمقارنة المعلومات التي لدي ان تعدادهم اقل من نصف هذا الرقم..والقسم الأعظم من السكان محمديين [مسلمين] يتألفون بنسب متقاربة من العرب والترك والكرد، وهناك ايضا قرابة 300 اسرة يهودية لديهم معبد يمارسون فيه طقوسهم اما المسيحيين فهنالك طائفتين من الكلدان تختلفان قليلا عن الكاثوليك فيبلغ تعدادهم تقديريا الف اسرة ومن السريان 500 اسرة ومن اليعاقبة، او اليعقوبيين كما يطلق عليهم هنا، 300 اسرة..
ويتولى باشا بمرتبة ذيلي حصان [اشارة الى المرتبة الثانية في سلم الباشوية في الجيش العثماني الأولى باشا بمرتبة ذيل والثالثة وهي الأعلى باشا بمرتبة ثلاثة ذيول وكانت الأخيرة رتبة الباشا اينجة بيرقدار..وهي مأخوذة من البيارق التي يحملها قادة سرايا الجيش العثماني وتتدلى الذيول من أهلة تتجه نهاياتها الى الأعلى كما في نهايات المنائر ..والذيول معمولة من مادة تشد على نحو يجعلها مماثلة للذيول الحقيقية...ويرجح ان المرتبة افتراضية على الرغم من عدم غياب اصولها الآسيوية]
وله [اي تحت ادارة او سلطة باشا الموصل] اراض تمتد بضعة اميال حول المدينة..ولكنه بحكم تعيينه من قبل السلطان العثماني في القسطنطينية مباشرة، فإنه مستقل في ادارته ولايخضع لباشوات حلب أواورفا أوبغداد..والباشا الحالي للموصل، واسمه حامد، يتمتع بشعبية واسعة ويحترمه الناس على مختلف مذاهبهم وطوائفهم وطبقاتهم..بل وحتى من قبل حرسه الذين يعدونه حاكما كريما طيب الأعراق.. اما القوة العسكرية المكرسة للدفاع عن المدينة ومحيطها فلاتتجاوز الف رجل اكثرهم من الخيالة..وفي اكثر الأوقات يوجد نصف هذا العدد في حراسة القصر، محل قامة الباشا وهو مكان رديء البناء على الرغم من كونه كومة [مجمع] واسعة، فهو مع فناءاته ودوائره الملحقة، باتساع بضع قرى صغيرة..ويتنافر الموكب البهيج الذي يشاهد هنا احيانا من الخيول العربية المطهمة والمكسوة بحلة من المخمل المذهب وعلى ظهرها خيالة ترك بملابسهم الوارفة بالشالات الهندية زاهية الألوان واسلحتهم الثمينة وكل مايحف بالموكب من مظاهر الفخامة والثراء، تنافرا حادا مع فقر المباني عموما ومع واجهات القصر البدائية رديئة المعمار بشكل خاص..والتحصينات الدفاعية للمدينة في جهة البر تتألف من السور بدون مدافع اما باتجاه النهر فتوجد قلعة في حماية المدينة..وهي قلعة صغيرة آيلة في الوقت الحاضر الى الخراب وتقع القلعة هذه فوق جزيرة اصطناعية تكونت بطريق فتح شرعة من مياه دجلة حولها حيث تقع هذه القلعة على ضفة النهر [يبدو من تقارير الرحالة ان قلعة باشطابيا كانت محاطة بخندق يملأ بمياه دجلة كاجراء دفاعي اضافي لحمايتها في حال اقتراب العدو ومحاولته اقتحامها..وهذه الحفرة و القناة مطمورة في الوقت الحاضر في حدود علمي]، وتقع القلعة بالقرب من جسر القوارب الذي يوفر معبرا للنهر..وبناء القلعة على هيئة مثلث وهي مشيدة من الطابوق تتحتضن عددا من المباني الصغيرة لأيواء الجنود المكلفين بتأهيلها..وبالقرب من القلعة يوجد عدد من المدافع البرونزية المنتشرة والمعطلة غير القابلة للأستعمال..ورأيت على أحد تلك المدافع صورة لأثنين من شعارات النبالة الأوربية [ وهي دروع معدنية زينية تتضمن شعارات الأسر الأوربية المالكة تتضمن رموزا وحيوانات مختلفة كالأسود والتنانين والخيول احادية القرن تستخدم في اوربا منذ القرون الوسطى وترمز لأسر النبلاء والأسر المالكة وتعد شعارات دول بذاتها في الوقت الحاضر..وقد توضع على الثياب والرايات والوثائق الرسمية] احدها صليب يغطي الدرع بأكمله، والآخر فيه صورة صليبين متضالعين وامامهما ذراع بيد مفتوحة بوشاح او شريط عريض معلق برسغ اليد يحتوي على صلبان عدة ويعود تاريخه الى 1526 ولكن كيف وصل هذا المدفع الى هنا،هذا ما لم اتمكن من معرفته..[ارجح ان يكون مصدر هذين المدفعين اللذين رآهما بكنكهام على قلعة باشطابيا جيش نادر شاه الذي حصل عليهما من العثمانيين ولم يتمكن في حصار الموصل من سحب مدافعه كلها او ترك عددا منها بعد انسحابه المرتبك من الجانب الأيسر للمدينة]..
وتجارة الموصل التي كانت في السابق كبيرة، تقلصت في الوقت الحاضر وبلغت درجة كبيرة من التضاؤل..ولكن مايزال هناك في الموصل بعض التجار الذين يذهبون الى حلب بمنتجات الشمال وبالقليل من السلع الهندية التي تصلهم من البصرة ليتبادلون بها في سورية بالمنتجات الأوربية..كما يحملون السلع الهندية الى طوقات والمناطق البعيدة الأخرى في آسيا الصغرى ليجلبوا من هناك النحاس ويرسلونه الى بغداد..والتصنيع الوحيد الذي تقوم به الموصل في الوقت الحاضر على نطاق واسع هو الأقمشة القطنية الخشنة التي تصبغ باللون الأزرق وتستخدم ثيابا للطبقات الفقيرة..
وقد لاحظت في اهل الموصل نوعا من الملامح هي من الخصوصية والغرابة تضعهم كعنصر يتميز بالتأصل في المكان لطول الأقامة ولإختلاط احدهم بالآخر..فهيئة الوجه أكثر استدارة من بقية العرب او الأتراك، ولون الشعر على الأغلب أسود، أما عيونهم فصغيرة وحادة وكأنها تخترق ماتقع عليه، اما بشراتهم فتشبه سكان جنوبي أسبانيا [ ولاغرابة في تماثل البشرة مع اهالي جنوبي أسبانيا كونهم متحدرين من القبائل لعربية الفاتحة والعرب الذين عمروا اسبانيا والبرتغال على مدى ثمانية قرون من التحضر]، ويرتدي الصبيان مرودة ذهبية في أحدى آذانهم اما الصبيات فتجد حلية [فيها فص] صغير من الفيروز [او الشذر]، قد غرزت في جانب من انوفهن..ويرتدي الرجال ثيابا تركية باستثناء العمائم او الطرابيش التي يرتديها أهالي سورية ايضا..وذلك بدلا من القاووق التركي [قلنسوة طويلة تشبه الطيلسان يرتديها بدلا من العمامة الترك والفرس] والشالون التركي المصنوع من موهيرالأنكورا الذي يوضع حول االرقبة بدلا من القماش..وترتدي النساء نوعا من الملاءات المطخمة [المحققة في العامية] تشبه الأنفلوجي [ الطرحة او اليشمك وهو رداء أسود في الأغلب يغطي الجسم من الرأس وحتى الكعب الذي ترتديه المصريات والسوريات]، ويغطين اوجههن بحجاب اسود خشن [بوشية] منسوج من شعر المعيز يغطي الوجه بأكمله بما يجعلهن في رأيي ادعى الى النفور..ويستخدم اهل الموصل بمختلف طبقاتهم على نطاق واسع مراوح مربعة منسوجة من الحصير اشبه بأعلام صغيرة مشدودة الى عصي [مهفات] كالتي تستخدم على شواطيء البحر الأحمر في الحبشة والمدن العربية، والمروحة الأبهج التي رأيتها في الموصل مثلثة الهيئة تتألف من الريش وتتوسطها مرايا صغيرة ويمكن ان تعلق بالذراع بواسطة شريط..[وهو نوع تستخدمه النساء يستورد من الهند]..
وتختلف لهجة اهل الموصل العربية اختلافا كبيرا عن لهجة القاهرة بل وحتى عن لهجة حلب، فهنالك خليط من كلمات تركية وفارسية وهندية فيها، بل ان العديد من عادات الناس ومظاهرهم التي شاهدتها اتحفتني بمعلومات فريدة عن هذا البلد وخصائصه المتميزة..
ولايعرف عن تاريخ الموصل سوى القليل..فليس من شك ان تاريخ المدينة ضارب في القدم، وانها كانت تتمتع بدرجة راقية من الرقي [في عمارتها وتجارتها] مقارنة بوضعها الحالي إذ يرى [ادورد ايملي] كيبن [مؤرخ بريطاني شهيرومؤلف كتاب "تاريخ تدهور الأمبراطورية الرومانية وسقوطها"] أن الموصل كانت الضاحية الغربية لنينوس المدينة التي خلفت نينوى..ونحن نعلم ان المعرفة الواسعة والملاحظة الدقيقة لهذا المؤرخ في كل ما يتعلق بالجغرافيا القديمة هي من الإكتمال بحيث تجعل آرائه قطعية لايخامرها شك..وتعرف هذه المدينة على عهد الخلفاء بااسمها الحالي [الموصل] كما يخبرنا [بارثلمي] دي هيربلوت [مستشرق فرنسي في القرن السابع عشر ومتخصص بالسريانية ترجم كتاب "كشف الضنون" لخطيب جلبي او حجي خليفة تحت عنوان "المكتبة الشرقية الشاملة للمعارف الخاصة بشعوب المشرق" ونسب ترجمته اليه]، في كتابه..
وكان الرابي الشهير بنيامين توديلا الذي بدأ رحلته الى االمشرق عام 1163 والذي زار هذا المكان [الموصل] في طريقه الى الهند، قد سماها (الموتسل) ووضعها على مسافة يومين من مدينة الجزيرة التي تقع هي ايضا على الضفة الغربية لدجلة وانها كان يطلق عليها (أسار العظيمة) [آشور العظيمة] وهي بلا شك التسمية السائدة لها بين الناس في هذا المكان. وكان هناك في هذا المكان في ذلك الوقت سبعة آلاف يهودي [هنالك تصحيفا في النص الإنكليزي لوصف بنيامين توديلا للموصل الذي يقول : "ومن الجزيرة هنالك [مسيرة] يومين الى الموصل وهي آشور العظيمة حيث يسكن هنا قرابة 7000 يهودي يرأسهم ر. [رابي] زكاي [زكي] الناسي [وهو] من ذرية داوود و ر. [رابي] يوسف برهان الملك، فلكي الملك زين الدين شقيق نورالدين ملك دمشق، والموصل هي مدينة حدود مع ارض فارس.والموصل مدينة كبيرة وقديمة جدا تقع على نهر هيديكل (دجلة)، وتتصل بنينوى بجسر..وفي مدينة آشور (موصل)، يقع معبد [ضريح] عباديا الذي بناه يونس، وفيها ايضا معبد [ضريح] ناحوم الألقوشي" [نلاحظ ان بنيامين توديلا يسمي الموصل آشور العظيمة ويميزها عن نينوى كما نلاحظ انه عدها مدينة حدود مع ارض فارس وهذا خطأ واضح،ونلاحظ ايضا ان عبارة " وهي بلا شك التسمية السائدة لها بين الناس في هذا المكان" ليست لبنيامين توديلا بل لبكنكهام..وترتب علينا مراجعة النص الأصلي للرحالة اليهودي لمعرفة ذلك] ..)
وهنا نعود الى نص بكنكهام:ـ
(ويحكم هؤلاء اليهود رئيسان احدهما زاكي وهو امير ينتسب بالدم الى داوود ملك اسرائيل، والآخر جوزيف الفلكي الذي كان مثل سلفه دانيال مستشارا للملك وكان اسم ذلك الملك زين الدين شقيق نورالدين الملك الحاكم على دمشق) [نلاحظ ان بكنكهام يجعل من جوزيف (يوسف) مستشارا للملك زين الدين ويشبهه بدانيال الذي سأله نبوخنصرالثاني عن تفسير حلمه. وهي تفاصيل لم ترد في نص بنيامين توديلا]، كانت الموصل آنذاك تحكم مملكة الفرس وتحافظ على عظمتها القديمة كلها..ويتطرق الرابي الى نينوى فيقول انها تقع على الضفة المقابلة للنهر وانها مدينة آبدة تماما..
وكانت الموصل من القوة بمكان بحيث تمكنت من الصمود في وجه حصار فرضه عليها صلاح الدين في عام 578 للهجرة.. وهذا المحارب نفسه من جبال كردستان [جاء صلاح الدين الأيوبي من منطقة أذربيجان وينتسب الى الأكراد الشدادين] وهو ابن اخت القائد الكردي اسد الدين شيركو الذي اضطر الى الهرب من بلاده لقتله رجل من أسرة قوية بسبب تحرشه بأمرأة عزلاء..
كما عانت الموصل عندما غزا التتر بقيادة جنكيزخان [هولاكو] سنة 654 للهجرة الموافقة لعام 1256 ميلادية بغداد..حيث تذكر المصادر ان بين 700.000 و 800.000 شخص قتل في هذا الهجوم وأن مياه دجلة ارتفعت [امتزجت] بأمواج الدماء، كما وصلت حد الخراب عندما غزا تيمورلنك البلاد سنة 796 للهجرة..لهذا فأن من المدهش حقا ان تبقى الموصل بعد موجات الخراب المتتابعة تلك، محافظة على تألقها كما في سالف العهد..
وكان الرحالة الفينيسي الشهير ماركو بولو قد مر بالموصل [1272] وذكر انها كانت تنتج في عصره قماشا ثمينا من الحرير والذهب [الموسولين]، وقال ان في الجبال التي تعتمد على هذه المملكة [الموصل] هناك نوع من الناس يضمون نسطوريين ويعقوبيين ومحمديين كانوا سراق [قطاع طرق] من الطراز الأول، وقد انتشرت تسمية الموسولين المشتقة من الموصل على [منسوجات] القطن الممتاز من رواية هذا الرحالة [ماركوبولو] وهو اسم يطلق على منسوجاتهم من الحرير والذهب لأن هذا النوع من المنسوجت كان ينتج او يباع في الموصل حصريا..
والنقطة التاريخية الأخيرة التي يتوجب ذكرها بقدر تعلق الأمر بتاريخ الموصل تتمثل بتصديها لقصف الغازي الفارسي نادر شاه على مدى اربعين يوم مما اضطره على ترك الحصاروالعودة الى بلاد فارس لأخماد عصيان هناك....والمدينة منذ تلك الغزوة مازالت في حال من التقهقر..
ويختتم بكنكهام روايته عن الموصل بذكر رحلتين سابقتين الى الموصل قام بالأولى الأرستقراطي الفرنسي فرانسوا دي لابولاي لوكوز في اواخر النصف الأول من القرن السابع عشر والثانية للمستشرق الفرنسي ايضا جان اوتراستاذ اللغة العربية في الكلية الفرنسية الذي زار الموصل في العقد الثالث من القرن الثامن عشرونشر كتابه في باريس عام 1657 وامضى عشر سنوات في الشرق الأدنى..فيلخص ماذكره فرانسوا دي لابولاي لوكوز بالفرنسية:
(" تقع الموصل على ضفة دجلة وتشبه مدينة بيزا [بيسا بالأيطالية] [ مدينة ايطالية تقع في شمال – غربي ايطاليا يرى الرحالة انها تشبه الموصل في موقعها على نهر يتصل به نهر آخر وفي شمال- غربي البلاد] ومدينة انكرز [انكرز بالأنكليزية وأنجي بالفرنسية] الفرنسية [مدينة في شمال غربي فرنسا – يرى الرحالة انها تشبه الموصل في موقعها على نهر يتصل به نهر آخر وفي شمال- غربي البلاد]، وفيها نهر جميل من القوارب يمكن العبور منه للذهاب الى بلاد فارس..والقسم الأعظم من سكان الموصل مسيحيين من الطائفة اليعقوبية، وفيها باشا مع قوة عثمانية صغيرة..وتشتهر المدينة بين البلاد الآسيوية بنوع من الصبغ الأحمر تلون به المنسوجات فيبقى ها اللون الى الأبد بدون تغيير وكذلك بالجوز الذي يأتيها من الجبال فتقوم بأرساله الى اوربا واماكن اخرى.. وفي الموصل نوع من النبات هو نبات اللوكوريش [عروق السوس] الذي يصنعون منه شرابا والجزء الذي يصدر منه الى اوربا هو الجذور التي لاتجف وتكون أطول من الذراع")..
كما يلخص ماذكره جان اوتر في رحلته الى الموصل ننقله عن الفرنسية كالآتي:ـ
("تقع الموصل عاصمة الجزيرة على الضفة الغربية لدجلة، وتبعد مسافة قدرها ستة ايام من ميافارقين [مدينة تركية قريبة من دياربكر اسمها الحالي سلوان تعرضت للغزو المغولي وقد اشار اليها المتنبي كواحدة من مدن الثغور تحتوي قبر ام اميرحلب الحمداني سيف الدولة]..إذا اتخذ المسافر طريقه عبر حصن كيفا [حسنكيف]، وثمانية ايام اذا اتخذ المسافر طريقه عبر ماردين، ذكر ابو الفداء [اسماعيل بن علي الأيوبي أبو الفداء صاحب حماة ومؤلف كتاب تقويم البلدان]، ان للموصل سورين اكبر من سوري دمشق ولكنهما خربان في بعض اجزائهما على عهده وان فيها قلعة قوية تطل على النهر..أما خانات الموصل وقصورها ومبانيها فمشيدة من الحجارة الصلبة وهي على قدر من الجمال..وهواء الموصل طيب وبخاصة في الربيع الذي يعد افضل فصول السنة في هذا الجزء من البلاد والصيف هنا شديد الحرارة والشتاء قارص البرد [مما يتسبب] في انتشار الحمى..والموصل مدينة ثرية سكانها شجعان ويتحدثون أربع لغات هي العربية والتركية والفارسية والكردية [المقصود الجماعات التي تتحدث هذه اللغات]..وللموصل تجارة كبيرة وبخاصة بالقطن الأبيض وألأسود [شعر المعيزوقليل من اصواف الأغنام] التي يحولونها الى منسوجات وأقمشة..كما تجد بها بضائع هندية تأتيها من البصرة كما يجلب اليها الكتان من حلب وسلعا اوربية")..
نكتفي بهذا القدر من رحلة بكنكهام.. فبعد بقاء يومين في الموصل زار قبل مغادرته الى بغداد في الفجر آثار نينوى لبضع ساعات، ثم اتخذ طريق اربيل فكركوك ومنها الى كفري فقرة تبة الى دلي عباس- بادية الخالص- فبغداد حيث نزل في ضيافة كلوديوس جيمس ريج ليزور بابل وعقرقوف والمدائن قبل مغادرته الى البصرة ومنها الى الهند..وهو في كل مكان يزوره يقدم وصفا وافيا لمشاهداته فيه..
ولنا ان نتساءل ما تبقى من شركة الهند الشرقية البريطانية في الوقت الحاضر؟
لا يختلف اثنان حول الحقيقة القائلة ان شركة الهند الشرقية البريطانية هي اعظم وأكثر شركة تاثيرا في العالم..وان تاثيرها لا يتمثل بانجازاتها فحب بل بردود الفعل التي اثارتها ...وتتوزع تأثيراتها على الصعد كافة السياسية والإقتصادية والتجارية والمصرفية المالية والإجتماعية والثقافية والحضارية..وإن غابت جوانب كثيرة من هذه التاثيرات على صعيد العالم، فقد غيرت مجرى التاريخ الإقتصادي وكانت رائدة في حركة التبادل التجاري في العالم فمابرحت تاثيراتها الحضارية قائمة على الأرض في بريطانيا نفسها وفي المستعمرات الآسيوية..وكنا تناولنا جوانب من تاثيراتها خارج بريطانيا فيما اسلفنا ومنها أدبيات الرحلة التي جئنا على ذكرها، اما تاثيراتها على بريطانيا فقد اسست الهيكل الإقتصادي لبريطانيا ومنحت لأماكن عديدة اسماءا جديدة واثرت باللغة وبالذوق العام وبالمطبخ الإنكليزي والأوربي، وعززت من الإختلاط ألإثني بين الشعوب الآسيوية والأوربية والى ذلك التلاقح الحضاري في مجالات الحياة الثقافية وفي الفنون..وفي جولة في لندن سنجد ان شركة الهند الشرقية قد تركت بصماتها واضحة في العديد من التسميات والمباني والصروح الحضارية فهنالك في قلب لندن شارع سينامون [اي شارع القرفة او الدارسين] وشارع بينانج [وبينانج اسم جزيرة في اندونيسيا تنتج جوز الهند والكاكاو وجوز الطيب فضلا عن شارع مانيللا وشارع تيبنج [نوع من السفن السريعة متخصصة بتجارة الشاي من الصين الى بريطانيا وأوربا]، ودرب جزر القمر وشارع الشرق وزقاق جوز الطيب وممر الزعتر، ومحلة [طرف] الزعفران، وحي القرنفل [نوع من التوابل]..وكانت شركة الهند الشرقية تحتل بناية كبيرة في شارع ليدنهيل تشغلها حاليا بناية حديثة لشركة لويد للتأمين..وتحتضن المكتبة البريطانية في سانت بانكراس سجلات وكتب الشركة التي تتضمن كتب الرحلة الى الشرق بنسخ مفردة فريدة، كما توجد نوادر من عائداتها في متحف فيكتوريا والبرت [نسبة الى الملكة فكتوريا وزوجها]..ويرتبط بالشركة عدد من النوادي كنادي شركة الهند الشرقية في ساحة القديس جيمس والمقهى الشعبي في شارع فنجيرج، كما ان هنالك متجرا متخصصا يحمل اسمها في منطقة ماي فير يتخصص ببيع منتجات المشرق كالشاي الفاخر والقهوة والمربيات والتوابل بالمفرد..وتزدهي لندن بعدد من التماثيل لمشاهير عملوا في شركة الهند الشرقية كتمثال روبرت كليف في وايت هول وتمثال ولينكتون امام بنك انكلترا..وكانت شركة الهند الشرقية قد شيدت حصونا في الهند ابرزها حصن وليم في البنغال وحصن القديس جورج في مدراس وقلعة بومباي على الساحل الغربي..واكثر من 150 بناية ومنشأة في ماليزيا وفي مدينتي جان جين وهونغ كونغ في الصين، فضلا عن الكنائس والثكنات العسكرية والترسانات والمخازن والقصور والمساكن بل وحتى النصب والأسوارومحطات سكك الحديد..فقد حكم البريطانيون الهند على مدى ثلاثة قرون 1615-1947..ومنهم من انتقل للسكن فيها بصورة نهائية..وقد ترتب على التخطيط المدني والمعماري البريطاني في المستعمرات تغييرا ادى الى تدمير انماط معمارية واحياء سكنية بأكملها وذلك لأختلاف الأولويات لدى الأنكليز عن الهنود وتركيزهم على الجوانب الدفاعية واسكان الجنود...فتغيرعلى سبيل المثال نمط السكن المعروف بالبنكالو [البنكلة في الموصلية] وهو بيت من طابق واحد بسقوف مائلة ونوافذ كبيرة مما يفتح الفضاء الداخلي للبيت على فضاء البيئة المحيطة به ..وهو سكن الطبقة الوسطى في الهند، اعتمد البريطانيون انماط سكن اشبه بالثكنات الدائمية.. وأدخلوا انماطا معمارية كلاسيكية تنتمي لبيئتهم فرضوها على بيئة المستعمرات.. وقد نقل المعماريون الأنكليز الذين جاءوا الى العراق خلال فترة مابين الحربين انماط معمارية كلاسيكية بتأثيرات هندية على مبان صمموها في العراق كقصر الزهور والمتحف العراقي والمقبرة الملكية وغيرها وهي تصاميم تؤكد على الواجهات المعمدة والصروحية..وحسبنا نحن اهل الموصل ان نحظى بجانب من اهتمام رحالة عملوا في شركة الهند الشرقية واسهموا في استطلاعاتهم كتاباتهم الى تاريخ المدينة..
ملاحظة حول المصادر والصور:ـ
تتنوع المصادر بين الكتب القديمة والحديثة والأطروحات والمقالات وابرز الكتب التي راجعناها كتاب جيمس تالبويز ويلر "الهند تحت الحكم البريطاني"، 1886، وكتاب "تاريخ الهند البريطانية" لوليم ويلسون هنتر بمجلدين 1919، ويتضمن المجلد الأول معلومات تاريخية نادرة عن تاريخ التجارة في العالم القديم والشرق الأدنى، ومقال كارل ماركس الشهير "الهند تحت الحكم البريطاني"..كما راجعنا اطروحة عنوانها "الأسطورة واللغة والأمبراطورية: شركة الهند الشرقية البريطانية وبناء الهند البريطانية" ومقالات من الموسوعات والصحف كمقال مجلة الأكونوميست "الشركة التي حكمت امواج البحر"، وطائفة واسعة من المقالات في مجلة لندن المصورة حصلت عليها بطريق المراسلة على سبيل الإهداء، فضلا عن كتب االرحلات لجيمس كلوديوس ريج وجون مكدونالد شينير وجيمس سلك بكنكهام..وهي متوفرة بنسخ الكترونية لمن يريد مقارنة النصوص ألأصلية بالترجمة..أما الصور فمصدري لها كتب الرحلة المذكورة وادبيات شركة الهند الشرقية، وتجدر الإشارة الى ان الصور الفوتوغرافية حديثة نسبيا أخترتها لكي تبين وجود جامع بقبة مخروطية بالقرب من الجامع النوري وشكل الموصل عام 1816 ، اخترتها من ارشيفي عن الموصل، لأن الرحالة في زمن الرحلات المذكورة الى الموصل اعتمدوا على الرسم التخطيطي والتصوير بالألوان [بقدر تعلق الأمر بالهند] لنقل مشاهد بعينها ..وكان بكنكهام يخطط المشهد ثم بعد عودته الى لندن يطلب من فنان ان يعيد الرسم بينما اعتمد على لوحات تخطيطية جاهزة لفنانين سبقوه في عدد من الرسوم التخطيطية..