طيّبة وزكيَّة وتَسْنِد المَعِدَة
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تختلف تقاليد عمل (البَسْطِرْمة) وفق تقاليد المجتمعات وعاداتها، لكن تبقى البَسْطِرْمة الموصلية هي الأطيب والأزكى، لاسيما المصنوعة في البيت، لنظافتها واختيار نوعية اللحوم من العجل الخالص الطري القليل الدسم، ولا تكاد تشكل كمية الشحوم فيه إلا نسبة قليلة جدًّا.
وهناك اختلاف واضح بين (البَسْطِرْمة) الشرقية في كل من:العراق وبلاد الشام ومصر، وبين (البَسْطِرْمة) الغربية في كل من: أوربا والمغرب العربي. كما أن هناك اختلافاً في التسمية أيضاً، فهي في المشرق العربي (البَسْطِرْمة) وتدعى بـ (الصاصيج) أو
(النقانق) في الغرب وأروبا، sausages
وفي أمريكا تدعى بـ (هوت دوك).
وصناعة (البَسْطِرْمة) كما أشرنا تختلف من مكان إلى مكان حتى في البلاد العربية نفسها، فمثلاً في (مصر) تصنع من قطع اللحم البقري دون ثرمه ثم تجفيفه، وهي تختلف تماماً عن (البَسْطِرْمة) العراقية لاسيما الموصلية الصنع. يضاف إلى ذَلِك كله أن طريقة طهي (البَسْطِرْمة) وأكلها لها طقوس خاصة بها، ومناسباتها الخاصة ومواسمها الخاصة أيضاً.
والبَسْطِرْمة معروفة في مطابخ الدول العثمانية السابقة. فاسم بَسْطِرْمة بالتركي(pastırma)
أتى من الشكل الأصلي للغة
"bastırma et"
الذي يعني "اللحم المضغوط" حسب قاموس جمعية اللغة التركية. والبَسْطِرْمة انواع منها: النوعية الحادة جداً وتدعى ""بَسْطِرْمة قيصري" وقيصري مدينة تركية حاليا تعرف قيصرية. وهناك النوعية قليلة الحدادية وقليلة الثوم أو بدون ثوم وتعرف بالنقانق أو السجق. والأهم من كل هذا أنأصل البَسْطِرْمة- كأَكْلَة عراقية وعالمية - عراقية بابلية حيث أن هناك رقيم طيني يتحدث عنها وعن صنعها.
تصنع (البَسْطِرْمة) الموصلية من لحم العجل الطازج الذي يفرم جيداً باليد أو ماكنة فرم اللحم، يضاف إِلَيْها كمية من الملح والبهارات السبعة الخاصة بها: كمون، وكزبرة،
وفلفل أسود، وكبابة، وجوزة الطيب، وقرفة، ومسمار أسود (أو كبش القرنقل)، مع كمية من الثوم الذي يهرس ويعجن مع بقية المكونات، وتحشى العجينة بمصارين العجل أو البقر في حالة توافرها، وتدعى بـ(الشردانة)، أو تحشى بأكياس نايلون شفافة، يكون عرضها بحدود 5 سم وطولها بحدود 30 سم. في المرحلة الأخيرة من صنع البَسْطِرْمة وقَبل غلق "الشردانة" وشد نهايتها توضع على" تختة خشب كبيرة "و" تشوبك " وذَلِك لتأخذ شكلها النهائي وطرد الهواء وإملاء"الشردانة" باللحم الصافي " الشرح " والخالي منالدهونات، وبعد شدّها بإتقان يتم مسك إبرة والبحث عن أي فقاعة صغيرة لثقبها بثقب صغير جداً وطرد الهواء منها ثمّ تسوية محل الفقاعة لمنع دخول الهواء مرّةثانية، ثُم وضع جميع الشرادين الجاهزة للتعليق في صينية كبيرة ثمّ توضع صينية أخرى فوق الشراديين ويوضع ثقل معيّن فوق الصينية لفترة زمنية معينة للتأكد من طرد الهواء، وأخيرا يُراعى المكان الذي تُعلّق فيه البَسْطِرْمة حيثُ يكون جاف وبارد، ثم تعلق على الحبل، وتعرض في الهواء الطلق، وتنشر لمدة بضعة أيام لتجف، وعندئذ تصبح جاهزة للأكل. وبعد ظهور المجمدات يمكن وضعها داخل المجمدة؛ لاستخراجها من التجميد، واستعمالها قَبْل طبخها ببضع
ساعات.
كما أن المناخ العام في الموصل ووجود اماكن خاصة محافظة على درجات حرارة مناسبة كالسراديب وغيرها ساعد على حفظ البَسْطِرْمة وخزنها. إلا أن البَسْطِرْمة ومذاقها الطيب ورغبة الموصليين بها، اغتالتها حديثاً مع الأسف بعض سلوكيات القصابين، مما جعل المتميزين بها هم القلة ويعرفهم أهل الموصل، والباقون موضع شبهة، وكان القصابون يستعجلون بيعها وهي طرية خشية أن ينقص وزنها.
اعتاد الموصليون على صناعة (البَسْطِرْمة) في فصل الشتاء أو أواخر فصل الخريف، وتصنع في البيوت أو عند القصابين، وتباع في محلات خاصة، أذكر منها على سبيل المثال المحلات في: منطقة حضيرة السادة وخزرج والساعة القريبة من محل سكني.كما أذكر من هؤلاء الذين اشتهروا في بيعها ابن حنون في الساعة. ومن الجدير بالذكر أن هناك مجموعة من القصابين كانوا يجهزون (البَسْطرْمة) للبيع بالكيلو إلى الأهالي أو إلى أصحاب المطاعم ومحلات السندويج الذين يقدمونها إضافة إلى السندويج في موسم الشتاء. وتقدم (البَسْطِرْمة) عادة مع الطرشي الموصلي الطازج، ذي النكهة الخاصة، ولونه الأصفر المميز الذي يغلب عليه لون الكركم، أو مع المخللات التي يغلب عليها اللون الأحمر من الشوندر الأحمر ويتميز طعمها بالحموضة الطيّبة، والفجل الموصلي الأسود الكبير الذي لم أجد مثله في العالم. وتقدم مع الخبز الموصلي أو الصمون الذي يحتوي على الألياف (النخالة) التي
تساعد على امتصاص الدهون.
وهناك طقوس خاصة عند الموصليين لتحضير (البَسْطِرْمة)، وطرق معينة عند تقديمها للأكل. فهي تقدم في الصباح الباكر مقلية بالطاوة مع البيض (بَسْطِرْمة وبيض) وتقدم مع الخبز الحار الذي يجهز في الصباح أو الصمون الموصلي الحار. ويقول أهل الموصل (تَسْنِد المعدي)؛ أي: تحميهم من الجوع لفترة طويلة. أما في المساء فتقدم مقلية مع الطماطم التي تضاف إِلَيْها، وتقلى أيضاً في الطاوة نفسها، كخليط من (البَسْطِرْمة) والطماطم، وتصبح
لَذِيذة جداً، لا سيما إن كان الخبز أو الصمون طازجاً وحاراً.
أما إذا صادف وجود (البَسْطِرْمة) في شهر رمضان المبارك فتقدم في السحور، إما مع البيض، أو مع الطماطم، على الرغم من أن تناول (البَسْطِرْمة) في أوقات السحور قد يؤدي إلى العطش الشديد، لكنها أَكْلَة محبوبة ومُفَضًّلة لديهم وتَسْنِد المَعِدَة، وقد اعتاد عليها الموصليون وأصبحت لازمة من لوازم العادات التي جرت في الموصل كلها، ولا يكاد المرء يعثر على بيت يخلو منها في مواسمها لا سيما في رمضان المبارك، وهذا يدل على أن أهل الموصل يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم على اختلاف طبقاتهم، وحالاتهم المادية، ولكن كل بطريقته الخاصة وطقوسه المعتادة التي ألفها، وارتضاها لنفسه.
ومن الأمور التي أتذكرها، وقد حصلت قَبْل نصف قرن أو يزيد أو ينقص قليلاً، حين كنا طلاباً في المرحلة المتوسطة والإعْدادِيّة، ما كنا نقوم به بعد دوام المَدْرَسَة(أي: بعد الظهر)، إذ كنا نتوجه إلى حديقة الشهداء، لغرض الدراسة، وعندما كان الظلام يبدأ بإرسال أثوابه، ويداهمنا شيئاً فشيئاً، كنت مع أصدقاء من محلتي وأقاربي نقتحم ظلماته، منطلقين إلى
(الدواسة)، حتى نصل إلى نهاية الشارع، فنتوجه إلى الركن الأيمن منه مقابل سينما
حمورابي، قاصدين ذَلِك المطعم الشعبي الذي يقدم(البَسْطِرْمة) مع الطماطم. وما أن نصل إِلَيْه، وندخله، ويأتي صاحبه ليتعرف على طلباتنا، حتى تهدأ نفوسنا، ولكن المعد الخاوية لا نفتأ نؤملها بتلك الوجبة التي خرجنا من أجلها، ولا يمكننا أن نقبل إلا أن نعود بطاناً بعد أن قدمنا خماصاً في هذا الوقت من الليل لتناول وجبة العشاء.
وسرعان ما يلبي صاحب المطعم طلباتنا، فنبدأ بالتهام ما طلبناه، حتى نفرغ الصحون من
محتواها، لجودة الطبخ، ومهارة المقدِّم، ومغريات المشهيات من طرشي وما إلى ذَلِك.
وكم كان بودي أن أذكر اسم المطعم وصاحبه أيضاً، لكن الذاكرة لم تسعفني الآن، وآمل
أن أتذكرهما. وعلى أية حال فقد علمت أن المطعم تحول إلى مطعم لتقديم الفلافل (فلافل
بدر) بدلاً من (البَسْطِرْمة)التي أضحت أَكْلَة مترفة بعد الحصار اللعين على العراق في نهاية القرن الماضي.
وينتعش بيع (البَسْطِرْمة) في الموصل ببيع (الطرشي والمخللات) فهما مقترنان معاً، ولا يكادان ينفصلان عن بعضهما بعضاً، وعادة ما نجد أن المحل الذي يبيع (البَسْطِرْمة)يبيع (الطرشي والمخللات) أيضاً في المحل نفسه وفي الوقت ذاته.
ومن الباعة المشهورين في الموصل:المرحوم الحاج شيت صاحب محلات بيع الطرشي في منطقة النبي شيت، وطرشي الشفاء، كما أن كل منطقة في الموصل لها باعتها المعروفون في بيع (البَسْطِرْمة)، وعادة ما يكتسب أحدهم شهرة، ويحصد ترويجاً جيداً نتيجة جودة (البَسْطِرْمة) التي يقدمها. كما أن مطاعم السندويج تشترك أيضا بتقديم (بَسْطِرْمة) إضافة إلى السندويج وماعون الطرشي، وتتبع عادة بـ (استيكانين): (شاي زنكين من يد الجايجية) أو المقاهي المجاورة عادة للمطاعم ومحلات السندويج.
كما تجدر الإشارة إلى أنه من عادات أهل الموصل وتقاليدهم أثناء السفر إلى بغداد أو البصرة أو حتى خارج العراق أن يأخذوا معهم كمية من (البَسْطِرْمة)لتقديمها هدية إلى معارفهم وأقاربهم ، كما فعلت الأخت الفاضلة الدكتورة إلهام الدباغ التي أرسلت كمية من (البَسْطِرْمة) إلى أخيها الأستاذ الدكتور رياض حامد الدباغ في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2010م، وأصابنا كمية من كرم هذه العائلة الأصيلة. كما أتذكر في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما كنا ندرس الدكتوراه في جامعة لندن في بريطانيا، كانت (البَسْطِرْمة) متوافرة عندنا معظم أيام السنة إذ كانت الوالدة (رحمها الله) ترسل لنا كمية منها بين فترة وأخرى، هذا بالإضافة إلى قدوم كثير من الأصدقاء والأهل والأقارب والزوار والوافدين إلى لندن، وأول ما يأتي على بالهم هو جلب كمية من (البَسْطِرْمة) إلينا، وكنا نفرح بها ونستمتع بأكلها. ولا شك أن (البَسْطِرْمة) الموصلية مميزة، ولذَلِك كان أهل
الموصل، ولا يزالون يحملونها معهم، لأنهم يعدونها هدية لها قيمتها، لا سيما عند أهل
الموصل في الداخل أو الخارج، لأنها متقنة كل الإتقان، من جميع النواحي، ومضمونة
الجودة، ومشهورة المنشأ.
وما دمنا نتحدث عن (البَسْطِرْمة) الموصلية، فلا بد من الإشارة إلى أن (البَسْطِرْمة)معروفة على صعيد العالم، ففي تركيا مثلاً تعد من الأكْلات المحببة لديهم، وقد شاهدت خلال زيارتي مرات عديدة إلى تركيا، لا سيما آخرها التي كانت في نهاية القرن الماضي أن لأتراك يصنعون أكياساً لتعبئة (البَسْطِرْمة) لا تستطيع أن تفرقها عن مصارين البقر، وهي
أكياس رقيقة طولها حوالي 30سم وعرضها حوالي 5 سم ومُجَفَّفة ورقيقة جداً، يستخدمها
الأتراك في تعبئة (البَسْطِرْمة) التركية. وفي اسكتلندا شمال بريطانيا التي تشتهر بـ(البَسْطِرْمة) (الصاصيج) أو النقانق المحشوة بلحم الغنم أو العجل، فإنها تعد من أهم مناطق تصديرها إلى جميع أنحاء أوربا، وتقدم (البَسْطِرْمة)مطهية إما باستخدام القلي أو الشوي على الفحم. أما (البَسْطِرْمة) الأمريكية التي تدعى (هوت دوك) فإنها تقدم مسلوقة على شكل سندويج أو مقلية بالطاوة أو مشوية على الفحم، ولكن نكهتها وطريقة تصنيعها تختلف عن (البَسْطِرْمة) الموصلية. كما أن هناك بَسْطِرْمة تصنع من لحم الدجاج، والديك الرومي وتنتشر في أوربا ومنطقة الخليج.
أما (البَسْطِرْمة) الشامية فهي لا تختلف من حيث طبيعة المحتويات والتصنيع عن الموصلية ويكمن الفرق بطبيعة النكهة (البهارات) المميزة التي يستخدمها أهل الموصل.أما (البَسْطِرْمة) المصرية فهي تختلف تماماً عن البَسْطِرْمة العراقية والشامية وتتكون من شريحة لحم بقري كبيرة الحجم مملحة بتركيز شديد ومُجَفَّفة، تباع بعد تقطيعها على شكل
شرائح.
أعود وأقول: إن (البَسْطِرْمة) الموصلية لها خاصية ونكهة وشهرة تميزها من غيرها، ولذَلِك تكاد تكون فريدة في صناعتها. وقد قيل في البَسْطِرْمة:
بَسْطِرْمة هي أَكْلَة أتقنتها .... فهي العزيزة من نبوغ عزيز
جدرت بخير شهادة فنسجتها ... بأنامل التفويف والتطريز
ما تلك من شبه ولا من فضة ... لكنهـا من عســجد إبريـز
*
للرجوع الى الصفحة الاولى