منطقة الساعة
نموذج للتآخي بين شرائح المجتمع الموصلي
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تقع منطقة السَّاعَة في قلب مَدِينَة الموصل القَدِيمة النابض بالحيوية والنشاط والفعاليات الأخرى، على تقاطع أهم شَارِعين في المَدِينَة وأطولهما: شَارِع الفَارُوق وشَارِع نِينَوَى، وتتوزع على ثلاث محلَّات:ـ
الأوس (الجولاق): نسبة إلى قبيلة الأوس التي سكنتها، وكانت تسمّى سابقاً (الجولاغ)، وهو اسم
ـ مغولي يعني (مقطوع اليد).ـ
الخزْرَج: نسبة إلى قبيلة خزْرَج التي سكنتها.ـ
المّياسة: نسبة إلى امرأة صالحة اسمها (مّياسة) كان لها خيمة في ارض المحلَّة.ـ
وتعد كنيسة اللاتين أحد أهم معالمها وتتميز بأنها تضم أقدم ساعة ميكانيكية في الموصل، وضعت وبني لها برج مرتفع عام 1872م، ويمكن مشاهدتها من الاتجاهات كافة، ويسمع صوت دقاتها من مختلف المحلَّات المجاورة. ويذكر المؤرخ ذنون الطائي، بأن الحكومة الفرنسية أقدمت على إرسال ساعة كبيرة دقاقة ذات أربعة وجوه لتعتلي كنيسة اللاتين والتي تسمى (كنيسة الساعة)، ولما نصبت تلك الساعة فوق دير أو كنيسة اللاتين أو الآباء الدومينكان، تجمهر الناس معلنين سخطهم ومطالبين بإزالة الساعة، لكونها تشرف على بيوتهم وبخاصة في فصل الصيف كونهم كانوا ينامون فوق أسطح المنازل. إلا أن الآباء الدومينكان أقنعوهم بأن الغرض من تلك الساعة هو تذكير الناس بأوقات الصلاة وأن هذه الساعة سوف لن يصعد إِلَيْها أحد من مريدي الكنيسة، وبذَلِك هدأ روع الناس.ـ
تنطلق حول دورة (تقاطع) السَّاعَة يومياً مختلف الفعاليات، ففي الصباح الباكر– أي مع أذان الفجر - يتجمع العمال وأسطوات (جمع أسطى أو أسطا، وهم الحرفيون) البناء لتناول صَمُّوَنة (نوع من أنواع الخبز المشهور في العراق) مع كوب حليب ساخن استعداداً للذهاب إلى مواقع العمل. أو يتناولون أحياناً وجبة إفطار صباحي غَنِيَّة (زنكيني) تساعدهم على أداء مهامهم الصعبة، مثل: تناول صحن باجة مكون من لحم الرأس والكيبايات والمَقِيِدِمْ واللسانات والمخ والبمْبَارات وغير ذَلِك من ملحقات الباجة... إلخ، من شَارِع الفَارُوق أو من مناطق الموصل الأخرى المتخصصة بالأكْلات الموصلية الشَعْبيَّة، ثم يلحقه باستكاني (بيالتين) شاي أو أكثر من مقهى السَّاعَة (كانت تسمى مقهى العمال) في الركن الجنوبي الغربي من دورة السَّاعَة التابعة إلى (محلَّة المياسة).ـ
عندما ينصرف العمال والمهنيون والحرفيون إلى أعمالهم ويعم دورة السَّاعَة هدوء نسبي مؤقت، أي ما بين الساعة السادسة والنصف والسابعة والنصف صباحاً ، يحضر بعض الرِّجَال والأولاد بل حتى بعض النِّسَاء لشراء اللَّبَن والقِشْطَة (القِشْفي) والقيمر، وبعضهم يفضل الطحينية التي تشتهر بها الموصل، وهي تُصنع من السمسم الخالص، فرائحتها الزَّكِيّة تشدك إلى شرائها محبباً من محل ابن حنون الكائن في الركن الجنوبي الشرقي من دورة السَّاعَة (محلَّة الأوس). خلال هذا الوقت يستعد تلاميذ المدارس والموظفون لتناول الفطور (التغيوقة)، وما بين الساعة: 9-11 قَبْل الظهر يحضر الرِّجَال لشراء متطلبات البيت من اللحم والخضار والفاكهة والرز والسُّكَّرِ إذ إن أغلبية العائلات تعتمد على التسوق اليومي، لعدم توفر الثلاجات والمجمدات الكهربائية في ذَلِك الزمان.ـ
بعد الظهر وما بين الساعة 4-5 عصراً يعود العمال والحرفيون من العمل ويتجمعون في مقهى السَّاعة (مقهى العمال) لتوزيع الأجور والتعاقد مع المتعهدين المسؤولين عن تأمين وإيصال (الجص، والحجر، والحلان، والإسمنت، والحصى، والرمل...الخ) من مستلزمات العمل لليوم التالي. ثم يذهبون إلى بيوتهم للاغتسال والراحة ومن ثم لبس الملابس الملائمة والعودة إلى مقهى السَّاعَة للعب الدومينو والورق والطولي. وفي الوقت نفسه تتجمع النِّسَاء ملفَّعَات، أي يَرْتَدِين العَبَايَة والبُوشية (غطاء الرأس)، وبعض الأطفال يحملون معهم سلات الخبز الحار المخبوز في البيوت على التنور، والتي تشتهر بها منطقة (دكة بركة) ومنطقة خزْرَج، ويجلسون عادة على الرصيف حول دورة السَّاعَة مقابل مقهى السَّاعَة لضمان البيع السريع.ـ
يسكن في منطقة السَّاعَة خليط من المسيحيين والمسلمين وقلة من اليزيدية (الأزيدية) تمثل التلاحم الأخوي بين مكونات المجتمع الموصلي وأطيافه وجذوره العريقة في الحَضَاَرة الإنسانية، إذ عاشت هذه الأطياف المتعددة أجمل أيام حياتها وتجمعت على المحبة والتسامح والعفو المبني أساسه على الاحترام المتبادل.ـ
وتعد الجيرة محترمة بالنسبة إلى سكان هذه المنطقة وبقية مناطق الموصل. ومن الأسر المسيحية التي كانت تسكن منطقة السَّاعَة، بيوت: خليل إبراهيم عَبّو الجّلو (أبناؤه كل من الدكتور ماهر وفارس)، توما عَبّاصَة، عبد الأحد خليل إبراهيم المطبعي، إيليا ونوري وقرياقوش أبلحد، شَمّاس بهنام، نوئيل فتوحي، هادي سرحان، حازم مقادسي، يعقوب دُقّي، خضر هِندي، حنا الأسْود، عيسى حوشو، جميل الدَّلال، جميل توزي، البَنَّاء جميل شمعون، سالم أبو خالد، الأب ميخائيل عزيزة، خضوري عزيزة، مجيد وجرجيس وغانم النقّاش، كامل كساب، كامل عطّو، جرجيس فتح الله، نوئيل صَبّاغة، ناصر حلوة، أيوب عبد النور، رؤوف الصائغ، يعقوب دقي، إسحق عيسكو، منصور عقراوي، نوح جبري، بشير قس توما، صادق سلمان، جوكة ويونس الالقوشي، خضر عباوي، بيت سرسم (مجيد وحميد وناظم وسليم)، شَمّاس جدو، خوري يعقوب، بيت عزوز، بيت الطويل، بيت الجي، شَمّاس ميخائيل، شَمّاس توما، بيت نعامة، بيت سلو الذهب، بيت عنايي، بيت قزازي (إدريس وفاروق)، بيتالصراف، بيت تنو، بيت فرجو، بيت ددو جدوع، يوسف حنا شموني، سعيد عزيز طير الحزين وأبناؤه (سالم وكمال ونافع وغانم وحازم وفوزي وصبحي)، عيسى حوشو، حنا عابلي، ميخائيل جطو، خليل بيثون، كمال آل جي، منير أندريا، أسطيفان قاقو، أسطيفان الطباخ وأبناؤه الكهنة الأربعة: الدكتور متي والدكتور يوسف والدكتور جورج وأستاذ الرياضيات نوئيل (زميلي في الدراسة في جامعة الموصل)، بطي البَنَّاء وأولاده (هاني وهيكل وهلال وقيس وحكمت)، حنا مراد، بيت قس بشارة، بيت رحيمو، داؤد الصباغ، إبراهيم داني، شاكر المسود، وديع دايخ، بشير صوفيا، بيت عطو، بيت الساعجي، بشير بيبو، جرجيس جريدي، خليل عديلة، لويس البوتاني، بيت عقراوي، نافع أبو نزار، يوسف أبو وليد، يعقوب أبو عبد الغفور، يوسف الساعور وأولاده: فوزي وكمال وحكمت ومينة (الذين كانوا يمتهنون صناعة السكاير المْزَبَّنْ ولديهم معامل لصنع السكاير وتوزيعها على عموم العراق، لتعبئتها بالتتن وبيعها على شكل شدات تحتوي كل شده على 20 سيكارة)، بهنام (بني) فراش مَدْرَسَة الغسانية، بيت كوريه المشهور في بيع القهوة ويعرف باسم دكان كوريه الواقعة بالسَّاعَة، الخوري يعقوب يوسف، بيت سمرجي، ميخائيل حودي، أنطانيوس، نذير كغو، هادي شعو، داؤد أسوفي، متي جبري القرد، زيتو السناطي، وعد الله قزازي، حكمت وديع، شوقي خضر، خضر قسطو، متي بابا اللوس، حميد الدبح، بيت اسوفي (الذين اشتهروا ببيع الطحينية)، الأسطى نعمان عباده (أبو سامي) البَنَّاء المشهور، وبيت بطوطة (صاحب محل الأصباغ في السَّاعَة)، بيت توما تمو بلبول (بائعو الزجاج)، بيت مَنُّونَه، أبو راكان البقال (المتخصص ببيع البَسْطِرْمة)، نوري البقال (أبو صباح) المتخصص ببيع البَسْطِرْمة أيضاً.ـ
ومن الأسر المسلمة واليزيدية القاطنين بالقرب من منطقة السَّاعَة بيت: آل حديد، آل كشمولة، آل خزرجي، العجيلي، الظاهر، آل حنون، الفخري، القطان، الجراح، القدو، عزيز الحمال، حميد القهوجي، عمر عبودي، خضر مشحت، فواز الشرابي، سليمان بكر، النجماوي، الدرزي، سلو اليزيدي، أي من العوائل الموصلية الأصيلة وكما نسميها باللهجة المصلاوية من (النقغة).وأكبر دليل على الألفة والمحبة بين هذه الأطياف المتعددة أن بعض الأسماء يصعب تمييزها على أساس الدين، فعلى سبيل المثال يشترك المسلمون والمسيحيون باطلاق اسماء مشتركة على أبنائهم مثل : يوسف، إبراهيم، خليل، عمر، بشير، ماهر، فارس، ماجد، سمير، صباح ... الخ.ـ
ومن أهم معالم منطقة السَّاعَة التي لم يعد لها أثر مقهى السَّاعَة (مقهى العمال) الذي يقع في الركن الجنوبي الغربي (محلَّة المياسة) أي على تقاطع الشَارِع المؤدي إلى منطقة خزْرَج مع الشَارِع المؤدية نهايته إلى باب الجَدِيد، أما صاحب المقهى فهو جدي (لوالدتي) المرحوم أحمد داؤد كشمولة، وكان يديرها ابنه المرحوم محمد وجيه (أبو ياسر - خالي) ويساعده عاملان، ومن المعروف أن المرحوم خالي كان صاحب يد مباركة وكف (كبيغ) يحمل فيه عشرة استيكانات من الشاي والحامض في آن واحد، وفي كثير من الأحيان – وبخاصة - في الصباح الباكر يقدم الشاي والحليب للعمال دون مقابل، وما زلت أذكر أنني وأنا صبي كنت اسأله عن ذَلِك فيقول لي: إنهم فُقَرَاء، وقد يحصلون على عمل في هذا اليوم وقد لا يحصلون، وفي حالة حصولهم على عمل سيعودون في المساء لتسديد ثمن ذَلِك، فأوجه له سؤالاً ثانياَ: ولكن كيف تعرفهم ولم تسجل أسماءهم؟ فيجيب: إنهم ثقة وأمناء ولا يأكلون إلا من عرق جبينهم، ومما رزقهم الله حلالاً زلالاً.ـ
تفتح المقهى أبوابها مع أذان الفجر وتستقبل العمال والحرفيين، بما يعمرها من مشروبات منوعة: شاي وحامض وحليب وكذَلِك الصمون الحار، لتناوله مع الحليب، هكذا جرت هذه العادة بين العمال قَبْل انطلاقهم للعمل، بعد أخذ طعام الإفطار الصباحي (الموني) ينطلقون إلى مواقع العمل، فاذا ما غادروا حضر إلى المقهى كبار السن والرِّجَال ممن ليس لديهم عمل، ليشربوا الشاي والحامض، ويلعبوا الورق والدومينو والطولة.ـ
ومن ذِكْرَيَاتي في تلك الفترة أنني كنت أتردد على المقهى خلال العطل، وأستمتع بلعب الدومينو مع روادها وفي كثير من الأحيان أفوز (أغلب) على من هم أكبر مني سناً وأربح اللعبة. وكنت أستمتع عند سماع كلمات ما زالت ترن في أذني مثل (دوشيش، حبي بياض، قفلًت، أزنيف... إلخ) من المصطلحات الخاصة بالدومينو.ـ
بعد ثورة الشواف التي حصلت سنة 1959 مباشرة وبسبب الأذى الذي لحق عائلة آلكشمولة، ترك المرحوم جدي أحمد داؤد كشمولة المقهى وهجرها واعتزل الحياة وجلس في البيت ولم يخرج قط، حتى التحق بالرفيق الأعلى عام 1981م. كان معظم أصدقائه وزبائنه من سكان تلك المنطقة الذين ارتبط معهم بعلاقات حميمة مؤسسة على المحبة والاحترام المتبادل.ـ
لقد لعب هذا المقهى التَارِيخي دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية باعتبارها نقطة تجمع كبار الشخصيات وأرباب العائلات الذين يتباحثون في أمورهم الاجتماعية والعائلية ومواضيع الزواج والطلاق وغير ذَلِك من الأمور الخاصة، كما لعب المقهى كذَلِك دوراً اقتصادياً باعتباره مركز تجمع العمال والمهنيين والحرفيين، فهي بمنزلة بورصة الموصل في ذَلِك الوقت، كما لعب دوراً سياسياً، حيث كان مركز تجمع الحركات القومية والتقدمية، ومنه انطلقت بعض المظاهرات ضد الإنكليز والاستعمار. ومن الذِكْرَيَات الراسخة في ذهني أنني شاهدت بعيني يوم 14 تموز 1958 صعود أحد المتظاهرين على قبة دورة السَّاعَة وهتافه بسقوط النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري.ـ
لقد تحولت المقهى بعد ذَلِك إلى محل (باتا) لبيع الأحذية بإدارة المرحوم دحام الصواف (والد المرحوم الدكتور هشام الصواف، أستاذ اللغة الإنكليزية)، وانتقل الرواد والزبائن إلى مقهى فاضل المقابل له والذي موقعه يمثل الركن الشمالي الشرقي الذي يربط الشَارِع المؤدي إلى السرجخانة مع شَارِع الفَارُوق وحضيرة السادة. ومقهى السَّاعَة الذي أصبح (باتا) فيما بعد والذي تحدثنا عنه، هو الآن نقطة لتجمع الشرطة لوجود سيطرة أمنية في تقاطع السَّاعَة. أما مقهى فاضل فقد أغلقت أيضاً وأصبحت محلا لبيع الأصباغ! أي خسرت المنطقة أهم المقاهي في تَارِيخها.ـ
على الركن الشمالي الغربي الذي يوصل شَارِع الفَارُوق مع الشَارِع المؤدي إلى منطقة خزْرَج يوجد محل عبد الباسط أبو السندويج الذي يتميز طعامه بالنظافة والنكهة الطيّبة لاختياره نوعيات جيدة من اللحوم واللسان والمخ ويقدمها مع ماعون طرشي صغير وآخر للزيتون الأسْوَّد الناعم، سعر السندويج في وقتها كان هو (20) فلساً، وقد عَلِمْتُ مؤخراً أن محل السندويج لصاحبه عبد الباسط قد انتقل إلى الركن المقابل ويديره ابنه لؤي، ما بين جامع الصفار و"مقهى فاضل" الذي اختفت معالمه وأصبحت محل بيع الأصباغ. ويجاور محل عبد الباسط أبو السندويج (القديم) دكان الحاج فتحي السرحان لبيع التبغ والسكاير (المْزَبَّنْ)، وإلى يمين الدكان باتجاه منطقة خزْرَج يوجد دكان شيت البصو لبيع التبغ والسكاير، ومحل عمر العشو لبيع المواد الإنشائية (الجص، والحجر،والحصى، والرمل ...الخ) من المواد الخام. يمتلك الحاج عمر العشو سجل حجز المواد الإنشائية ويعمل بدقة ونظام صارم أكسبه ثقة النّاس حيث يبدأ تجهيز مواقع العمل بعد الغروب ومع الفجر يكون قد أمن توصيل حاجات العمل. وعلى الرغم من الوسائل البدائية في نقل التجهيزات، إلا أنه كان يوصل المواد الإنشائية في وقتها المحدد ولا يخالف ذَلِك إلا لسبب وجيه، في تلك الفترة كان يعتمد في النقل على الطنبر وهو عبارة عن عربة تستند إلى عجلتين يجرها حصان باتجاه موقع العمل لاسيما إذا كان موقع العمل في العوجات والمحلَّات الضيقة الممرات والمواد خفيفة الوزن مثل الجص والحجر، فيما بعد تم استخدام سيارات القلاب في نقل المواد الثقيلة مثل الحصى والرمل والإسمنت وغير ذَلِك.ومن الجدير بالذكر أن تنقل النّاس كان يعتمد على العربات التي تجرها الأحصنة، خاصة قَبْل ظهور باصات مصلحة نقل الركاب التي دخلت الخدمة فيما بعد. تتألف العربة من مقصورة (غرفة صغيرة) يصعد الراكب إِلَيْها عن طريق درج ويجلس في صدر العربة التي تتسع لأربعة أشخاص متقابلين. يجر العربة حصان أو حصانان ويجلس العربنجي في الأعلى في مُقَدِّمَة العربة بعد الحصان مباشرة ليتولى قيادة العربة وإلى جهتي العربنجي من اليمين والشمال فانوسان يعملان على النفط (لمبات) للتعريف بالعربة ليلاً، كان الأطفال يستمتعون في الجلوس بجوار العربنجي.ـ
ومن أشهر العربنجية في ذَلِك الوقت (ببح) العربنجي ووالده (رحمهما الله)، ومن أشهر صناع العربات المرحوم يونس العربنجي وصانع السرج هو يعقوب السراج حيث مركز تصليح وصناعة (العرباين) كان في باب لكش قرب بيت أخينا مشتاق الدليمي الذي كان مولعا بمراقبة أسلوبه في العمل وجاء في حديث له عنه وصفه بأمهر صانع عربة، حيث يهندسها جيداً، ويتقن عملها إلى حد بعيد. كما كان الصبيان يقفون بالقرب من دورة السَّاعَة التي يقف عليها النوبجي (شرطي المرور) لتنظيم السير، حيث العربة القادمة من باب الجَدِيد باتجاه المستشفى مروراً بشَارِع الفَارُوق تتباطأ تدريجياً في هذا المكان بسبب الدورة، وهنا ينتهز الأولاد هذه الفرصة ليمسكوا بالعربة من الخلف ويجلسوا على مسند الحديد خلف العربة وعادة يضع صاحب العربة أسلاكاً شائكة لمنع الصبيان من مسكها، وفي كثير من الأحيان يحس العربنجي بوجودهم فيضربهم بالسوط (القمجى) التي تتكون من عصا خيزران مربوط في نهايتها (واير) من جلد رفيع لاذع ومؤذ ومع الضربة يترك الصبيان العربة على أمل إعادة الكرة ثانيةً.ـ
يقع الى جوار محل عمر العشو إلى جهة اليمين ، محل واسع يتألف من دكانين لبيع المواد الغذائية والتموينية (بقالة) لصاحبها بشير (أبو محسن) والشهير بـ(بيبو البقال) وهو مسيحي، ثم يأتي الدرج الذي يوصل منطقة السَّاعَة بعوجات النصارى امتداداُ إلى كنيسة مار توما للسريان الكاثوليك (عائدة إلى محلَّة خزْرَج) التي عاش فيها منذ عام 1962 أربعة كهنة أطلقوا على أنفسهم جماعة يسوع المَلِك وهم: الأب جرجس القس موسى والأب المرحوم نعمان أوريدة والأب جاك إسحق والأب بيوس عفّاص الذي لا يزال يسكن في الكنيسة، وكنيسة مار توما للسريان الأرثودوكس الملاصقة إلى كنيسة مار توما للسريان الكاثوليك، وهي من الكنائس القَدِيمة جداً يرتبط تَارِيخها مع بداية وصول المسيحية الى الموصل وكانت مقراً لأبرشية الموصل للسريان الأرثوذكس إلى عام 1988 حيث نقلت المطرانية إلى كاتدرائية مار افرام بعد بنائها في الجانب الأيسر من المَدِينَة والمطرانية سكن فيها كل من المثلث الرحمات المطران مار غريغوريوس بولس بهنام ونيافة المطران مار سيوريوس زكا عيواص، ونيافة المطران مار غريغوريوس صليبا شمعون. وملاصقلهما المقبرة الأساسية للمسيحيين التي انتقلت فيما بعد إلى وادي عكاب، ومَدْرَسَة مار توما الابْتِدَائِيَّة التي تغير اسمها إلى مَدْرَسَة الغسانية الابْتِدَائِيَّة. وهي مَدْرَسَة للبنين والبنات التي عرفت فيما بعد باسم مَدْرَسَة الغسانية للبنين ومَدْرَسَة الغسانية للبنات وكان يدرس فيها الدين المسيحي كمادة معتمدة وقد تخرج من هذه المَدْرَسَة الكثير من الأطباء والمهندسين وأصحاب الشهادات العليا في المجالات كافة، نذكر منهم الجراح الشهير الدكتور عماد هاشم.ـ
نعود إلى جهة اليمين باتجاه باب الجَدِيد (التابعة إلى محلَّة المياسة): لنبدأ من مقهى السَّاعَة (الركن الجنوبي الغربي) وبجوار المقهى صَالُون حلاقة محمد يونس أحمد الظاهر (أبو ماجد)، أخوه عبد الجواد أحمد الظاهر (والد الدكتور أحمد عبد الجواد الأستاذ في كلية الزراعة والغابات في جامعة الموصل)، وأخوه الآخر العلامة المتخصص في الرياضيات الأستاذ الدكتور محمد واصل الظاهر (المقيم في ولاية كالفورنيا في أمريكا)، ثم دكان الكبابجي التي تعود للعالم الجليل الشيخ عبد الله الاربيلي بعد انتقاله من دكانه السابق في باب الطوب الذي تركه بسبب هدم تلك المنطقة؛ حيث انتقل إلى محله الجديد في منطقة الساعة. ثم يأتي فرن للصمون وشوي البقلاوة والكليجة (معجنات موصلية تصنع قبيل الأعياد وتسمى معمول في بلدان عربية أخرى) والقوازي وغير ذَلِك، ثم كراج (سيف) كبير، ثم تأتي عَوْجَة كان يسكن فيها خليل عبو الجلو والد الدكتور ماهر وأخيه فارس، ثم تستمر فتؤدي إلى كنيسة شمعون الصفا (محلَّة المياسة) وهي أقدم كنائس الكلدان في الموصل، وقد بنيت على اسم بطرس زعيم الرسل الذي عرف بالصفا. ولا يمكن تعيين زمن تشييدها بدقة، إلا أن في انخفاض مستوى أرضها عن سائر المحلَّة المحيطة بها، دليلاً واضحاً على قدمها. فإن هذه الكنيسة كالدِّيماس (جمع: دَيامِيس، دَمامِيس: بِناءٌ أَرْضِيٌّ تَحْتَ العِمارَةِ لا يَدْخُلُهُ الضَّوْءُ، أي كُلُّ مَكانٍ عَميقٍ تَحْتَ الأَرْضِ) ينزل إِلَيْها بعدة درجات ويستدل من طراز بعض بقاياها القائمة أنها بنيت في نحو القرن الثالث عشر للميلاد. وقد رممت أكثر من مرة وكان آخر ترميم لها في سنة 1936، كما جاء في كتاب الموصل في العهد الجليلي، تأليف الأب سهيل قاشا، وعلى مسافة منها تأتي كنيسة مَسْكَنْتَة التي تقع في محلَّة المياسة؛ وهي كاتدرائية سميت بهذا الاسم نسبة إلى الشهيدة مَسْكَنْتَة ويقابلها دار المطرانية (البطريكية) سابقاً للكلدان. وكان يسكن هناك بيت عزيز علي والد كل من الدكتور علي عزيز علي أستاذ الرياضيات ونائب رئيس جامعة الموصل في زمن الدكتور محمود الجليلي (رئيس جامعة الموصل الأسبق)، وأخيه المهندس الدكتور صبحي عزيز علي زميلنا في الدراسة.ـ
لنعد إلى مقهى السَّاعَة باتجاه منطقة خزْرَج، أي إلى يسار المقهى فهناك دكان صغيرة لبيع الفاكهة يدعى صاحبها حموشي وبجواره دكانان واسعتان لبيع الموادالغذائية كالسُّكَّر والرز والشاي واللَّبَن والقشفة وغيرها، ثم تأتي عَوْجَة (مقابل الدرج عبر الشَارِع) تقودنا إلى دكان محمد الكبابجي الذي يقدم ماعون كباب مكون من أربعة أسياخ (شياش) مع الخبز والبصل والكرافس مع (طاسة) من شربت الزبيب بسعر40 فلساً مع استعداد لتوصيله إلى مقهى السَّاعَة عند الطلب. ثم تلتقي بعَوْجَة أخرى جانبية تؤدي إلى كنيسة شمعون الصفا وكنيسة مَسْكَنْتَة، فاذا ما عبرنا إلى الجانب الآخر (الركن الشمالي الغربي)، وعلى بعد 100متر من دورة السَّاعَة إلى جهة اليمين باتجاه منطقة خزْرَج، نجد دكان ملك الجرزات سلطان أبو الجرزات الذي اكتسب شهرة كبيرة لجودة ولذة جرزاته التي يقدمها، ويتكون محله الصغير من باب واحد وجدرانه مغلفة بالمرايا لتعطي جمالاً وسعة للمحل، يقف سلطان في وسط الدكان محاطاً من جميع جهاته بالجرزات ومن الجهة الأمامية يرتب الزنابيل المصنوعة من القصب وفيها السِسِّي وحب الأحمر والأسْوَد والبطم والاقضامة وفي الجهة الخلفية يضع الفستق والبندق واللوز وغير ذَلِك من الجرزات الخشنة. ومن الجدير بالذكر أن مدينة الموصل تتميز بإنتاج (السِسِّي) الذي لا يوجد في أي بلد في العالم سوى في العراق ، مما يدل على أنه عراقي الأصل والمنبت.ـ
لنعد إلى الركن الجنوبي الشرقي باتجاه السرجخانة (محلَّة الأوس، حيث دكان القصاب المرحوم مزهر طه القطان، أخي الشهيد زكريا طه القطان الذي أعدم مع زملائه الشهداء في ثورة الشواف عام 1959. وفى العَوْجَة نفسها (الفرع) كان هناك المرحوم إسماعيل الكبابجي وبالقرب منه بيت الفنان المشهور الأستاذ ضرار القدو. وهناك بيت محمود القطان، وبيت حسين الجراح (مختار السرجخانة)، عند مفترق الطرق المؤدية إلى منطقة السرجخانة ومنطقة الرابعية. ثم يأتي محل خضراوات ثم دكان ابن حنون الواسعة التي يبيع فيها (القِشْفي) ولبن الخَاثِر والقيمر والأجبان وغير ذَلِك من المواد الغذائية ثم يتبعها عَوْجَة تؤدي إلى كنيسة اللاتين التي تعد من أهم معالم منطقة السَّاعَة.ـ
وتعود كنيسة اللاتين إلى الآباء الدومنيكان، وهي كنيسة قَدِيمة أنشئت عام 1872م وفيها برج السَّاعَة المشهورة في مَدِينَةٌ الموصل، والقداس فيها حسب الطقس اللاتيني وباللغة العربية. ومسؤولها الحالي الأب نجيب الدومينيكي ويسكن معه الأب يوسف عتيشا الدومينيكي.ـ
كانت هذه الكنيسة في القرن التاسع عشر قاصدية صغيرة، وأكمل أعمدتها القاصد الرسولي في العراق والآباء الدومينيكان في بغداد وبعدها تحولت القاصدية إلى بغداد وصارت الكنيسة مركزاً لسكنى الآباء الدومينيكان.ـ
وبجوار كنيسة اللاتين يوجد دير الآباء الدومنيكان الذي أسسه الآباء الدومنيكان عند قدومهم إلى الموصل عام 1750م. وأسسوا إلى جواره معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي الذي فتح أبوابه للطلبة عام 1878 ممن يدرسون علوم الفقه والدين ليصبحوا قساوسة في المستقبل وغيرهم.ـ
يقول الإعلامي ماجد عزيزة (مقيم حاليا في كندا) وهو من مواليد تلك المنطقة وقضى مدة طفولته ومرتع صباه هناك: كان هناك أيضاً البير الحَلَّاق وكانوا يسمونه (اربيل) وعنده حلقت شعر رَأْسِي لأول مرة وكان ذَلِك عام 1953 وكنت في الثالثة من عمري، وبكيت كثيراً لكنه وعدني بأن يعيد لي (شعغي الكلبدون) ولم يوفِ بوعده رحمه الله !! في رأس عوجتنا وعلى شَارِع نِينَوَى كان أولاد حنون واذكر اسميهما (طلب وسعدون) وقد زرت الدكان بعد عام 2004م، يقول ماجد عزيزة: وشاهدت سعدون وقد فات به العمر وحين شاهدني بعد غياب 20 عاماً (كان ذَلِك بداية الثمانيات)، قال: أنت ماجد بيت القس ميخائيل ما ؟ قلت نعم: قال والله كبغت كنت تلعب هوني وكنت (زلز) ؛ أي وكيح ! رحمه الله. ويضيف عزيزة قائلا: من شدة التآلف والمحبة بين مسيحيي ومسلمي المنطقة أسميت ولدي الأكبر (عمر) تيمنا بشَارِع الفَارُوق (عمر...) رحم الله أيام زمان.ـ
على الركن الشمالي الشرقي الذي يوصل شَارِع السرجخانة بشَارِع الفَارُوق أي مقابل ابن حنون يوجد ستوديو آراكس لصاحبه: المصور الأرمني إينوف، الإنسان الوديع الهادئ الطبع الذي يعد واحداً من المصورين المعروفين في عصره. وبجواره محل الفنان إبراهيم الجوادي الذي يعد من أشهر صناع العود في الموصل، وهو من أبناء محلَّة شهر سوق تخصص منذ خمسينات القرن الماضي بصناعة العود، وكان محله المعروف في منطقة السَّاعَة مقابل دكاكين بيت حنون، قَبْل أن ينتقل إلى باب البيض. ولازال يمارس صناعة آلة العود الشرقي بمهارة فريدة، وقد كان محله مكاناً للقاء العديد من الفنانين والأدباء أبرزهم الفنان الكبير المرحوم نجيب يونس والدكتور أحمد الحسو والفنان ضرار القدو والمرحوم الفنان عبد الحميد الحيالي وغيرهم كثيرون، ثم منزل (لا أعرف اسم صاحبه) ثم مقهى فاضل (على الركن) التي بعد غلق مقهى السَّاعَة نالت شهرة أكبر. ثم جامع الصفار الذي كان زميلنا العزيز الدكتور عبد الرزاق الصفار (رحمه الله) يلقي خطبة الجمعة فيه وبجوار المسجد يوجد مركز للشرطة، ثم دكان تتونجي اسمه (عبد الطه) وهو من أهل خزْرَج.ـ
.لنعبر إلى الجانب الآخر على بعد 100 متر باتجاه شَارِع الفَارُوق إلى جهة اليسار، حيث يوجد مقهى صغير يتجمع فيه العمال والمهنيون أيضا لتنظيم عملهم، ووضع الترتيبات الخاصة بأعمالهم، وجوار المقهى يوجد دكان محمد التمر للمواد الغذائية والاستهلاكية ودكان طه القصاب الذي كنا نشتري منه اللحم، وتليها مباشرة العَوْجَة التي تنتهي بالكنيستين ومَدْرَسَة الغسانية، أي إن الكنيستين تقعان على ملتقى العوجتين الأُولَى ترتبط بشَارِع الفَارُوق والأخرى بشَارِع نِينَوَى قرب دورة السَّاعَة باتجاه خزْرَج وتبدأ بالدرج.ـ
لقد التقينا – نحن المسلمين - مع إخواننا المسيحيين على المحبة وتفرقنا بود واحترام وقد مضت خمسة عقود ولا زالت ذكراهم حاضرة في أذهاننا وعقولنا. ومن ذِكْرَيَاتي عن المنطقة في تلك المدة زمالتي في المَدْرَسَة لكل من الأب يوسف اسطيفان ومعن سرسم. أما في الجامعة فمن زملائي في قسم الرياضيات في كلية العلوم بجامعة الموصل خلال الفترة: 1967-1971م كل من: نوئيل الطباخ وجنان بطرس وسمير يوحنان منصور. وما زلت أتذكر أَكْلَة الكبب الكبيرة التي كانت تقدمها لنا أم سمير يوحنان المحشوة باللحم والسمن واللوز والكشمش ولم يزل طعمها في فمي… أيام رائعة وذِكْرَيَات أجمل. خرجت أكاديمية منطقة السَّاعَة الكثير من الكفاءات العلمية والأدبية والفنية (أطباء، مهندسين، أساتذة، شعراء، فنانين، ضباط، إعلاميين، مهنيين،...الخ) قدموا للموصل والعراق بل وللعالم أفضل الخدمات وأروع الإنجازات. وستبقى الموصل الْحَدْبَـاء تذكرهم وتفخر بهم جيلا بعد جيل.ـ
ملاحظة: سبق أن نشرت هذه المقالة في ملتقى ابناء الموصل بتاريخ:21/10/2010، وقد أرتأينا إعادة نشرها بعد اضافة الكثير من الأحداث والتصويبات، كما تم نشرها في كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي....مشاهد واحداث"، تاليف سمير حديد، الدار العربية للموسوعات، بيروت 2013م.ـ
الأوس (الجولاق): نسبة إلى قبيلة الأوس التي سكنتها، وكانت تسمّى سابقاً (الجولاغ)، وهو اسم
ـ مغولي يعني (مقطوع اليد).ـ
الخزْرَج: نسبة إلى قبيلة خزْرَج التي سكنتها.ـ
المّياسة: نسبة إلى امرأة صالحة اسمها (مّياسة) كان لها خيمة في ارض المحلَّة.ـ
وتعد كنيسة اللاتين أحد أهم معالمها وتتميز بأنها تضم أقدم ساعة ميكانيكية في الموصل، وضعت وبني لها برج مرتفع عام 1872م، ويمكن مشاهدتها من الاتجاهات كافة، ويسمع صوت دقاتها من مختلف المحلَّات المجاورة. ويذكر المؤرخ ذنون الطائي، بأن الحكومة الفرنسية أقدمت على إرسال ساعة كبيرة دقاقة ذات أربعة وجوه لتعتلي كنيسة اللاتين والتي تسمى (كنيسة الساعة)، ولما نصبت تلك الساعة فوق دير أو كنيسة اللاتين أو الآباء الدومينكان، تجمهر الناس معلنين سخطهم ومطالبين بإزالة الساعة، لكونها تشرف على بيوتهم وبخاصة في فصل الصيف كونهم كانوا ينامون فوق أسطح المنازل. إلا أن الآباء الدومينكان أقنعوهم بأن الغرض من تلك الساعة هو تذكير الناس بأوقات الصلاة وأن هذه الساعة سوف لن يصعد إِلَيْها أحد من مريدي الكنيسة، وبذَلِك هدأ روع الناس.ـ
تنطلق حول دورة (تقاطع) السَّاعَة يومياً مختلف الفعاليات، ففي الصباح الباكر– أي مع أذان الفجر - يتجمع العمال وأسطوات (جمع أسطى أو أسطا، وهم الحرفيون) البناء لتناول صَمُّوَنة (نوع من أنواع الخبز المشهور في العراق) مع كوب حليب ساخن استعداداً للذهاب إلى مواقع العمل. أو يتناولون أحياناً وجبة إفطار صباحي غَنِيَّة (زنكيني) تساعدهم على أداء مهامهم الصعبة، مثل: تناول صحن باجة مكون من لحم الرأس والكيبايات والمَقِيِدِمْ واللسانات والمخ والبمْبَارات وغير ذَلِك من ملحقات الباجة... إلخ، من شَارِع الفَارُوق أو من مناطق الموصل الأخرى المتخصصة بالأكْلات الموصلية الشَعْبيَّة، ثم يلحقه باستكاني (بيالتين) شاي أو أكثر من مقهى السَّاعَة (كانت تسمى مقهى العمال) في الركن الجنوبي الغربي من دورة السَّاعَة التابعة إلى (محلَّة المياسة).ـ
عندما ينصرف العمال والمهنيون والحرفيون إلى أعمالهم ويعم دورة السَّاعَة هدوء نسبي مؤقت، أي ما بين الساعة السادسة والنصف والسابعة والنصف صباحاً ، يحضر بعض الرِّجَال والأولاد بل حتى بعض النِّسَاء لشراء اللَّبَن والقِشْطَة (القِشْفي) والقيمر، وبعضهم يفضل الطحينية التي تشتهر بها الموصل، وهي تُصنع من السمسم الخالص، فرائحتها الزَّكِيّة تشدك إلى شرائها محبباً من محل ابن حنون الكائن في الركن الجنوبي الشرقي من دورة السَّاعَة (محلَّة الأوس). خلال هذا الوقت يستعد تلاميذ المدارس والموظفون لتناول الفطور (التغيوقة)، وما بين الساعة: 9-11 قَبْل الظهر يحضر الرِّجَال لشراء متطلبات البيت من اللحم والخضار والفاكهة والرز والسُّكَّرِ إذ إن أغلبية العائلات تعتمد على التسوق اليومي، لعدم توفر الثلاجات والمجمدات الكهربائية في ذَلِك الزمان.ـ
بعد الظهر وما بين الساعة 4-5 عصراً يعود العمال والحرفيون من العمل ويتجمعون في مقهى السَّاعة (مقهى العمال) لتوزيع الأجور والتعاقد مع المتعهدين المسؤولين عن تأمين وإيصال (الجص، والحجر، والحلان، والإسمنت، والحصى، والرمل...الخ) من مستلزمات العمل لليوم التالي. ثم يذهبون إلى بيوتهم للاغتسال والراحة ومن ثم لبس الملابس الملائمة والعودة إلى مقهى السَّاعَة للعب الدومينو والورق والطولي. وفي الوقت نفسه تتجمع النِّسَاء ملفَّعَات، أي يَرْتَدِين العَبَايَة والبُوشية (غطاء الرأس)، وبعض الأطفال يحملون معهم سلات الخبز الحار المخبوز في البيوت على التنور، والتي تشتهر بها منطقة (دكة بركة) ومنطقة خزْرَج، ويجلسون عادة على الرصيف حول دورة السَّاعَة مقابل مقهى السَّاعَة لضمان البيع السريع.ـ
يسكن في منطقة السَّاعَة خليط من المسيحيين والمسلمين وقلة من اليزيدية (الأزيدية) تمثل التلاحم الأخوي بين مكونات المجتمع الموصلي وأطيافه وجذوره العريقة في الحَضَاَرة الإنسانية، إذ عاشت هذه الأطياف المتعددة أجمل أيام حياتها وتجمعت على المحبة والتسامح والعفو المبني أساسه على الاحترام المتبادل.ـ
وتعد الجيرة محترمة بالنسبة إلى سكان هذه المنطقة وبقية مناطق الموصل. ومن الأسر المسيحية التي كانت تسكن منطقة السَّاعَة، بيوت: خليل إبراهيم عَبّو الجّلو (أبناؤه كل من الدكتور ماهر وفارس)، توما عَبّاصَة، عبد الأحد خليل إبراهيم المطبعي، إيليا ونوري وقرياقوش أبلحد، شَمّاس بهنام، نوئيل فتوحي، هادي سرحان، حازم مقادسي، يعقوب دُقّي، خضر هِندي، حنا الأسْود، عيسى حوشو، جميل الدَّلال، جميل توزي، البَنَّاء جميل شمعون، سالم أبو خالد، الأب ميخائيل عزيزة، خضوري عزيزة، مجيد وجرجيس وغانم النقّاش، كامل كساب، كامل عطّو، جرجيس فتح الله، نوئيل صَبّاغة، ناصر حلوة، أيوب عبد النور، رؤوف الصائغ، يعقوب دقي، إسحق عيسكو، منصور عقراوي، نوح جبري، بشير قس توما، صادق سلمان، جوكة ويونس الالقوشي، خضر عباوي، بيت سرسم (مجيد وحميد وناظم وسليم)، شَمّاس جدو، خوري يعقوب، بيت عزوز، بيت الطويل، بيت الجي، شَمّاس ميخائيل، شَمّاس توما، بيت نعامة، بيت سلو الذهب، بيت عنايي، بيت قزازي (إدريس وفاروق)، بيتالصراف، بيت تنو، بيت فرجو، بيت ددو جدوع، يوسف حنا شموني، سعيد عزيز طير الحزين وأبناؤه (سالم وكمال ونافع وغانم وحازم وفوزي وصبحي)، عيسى حوشو، حنا عابلي، ميخائيل جطو، خليل بيثون، كمال آل جي، منير أندريا، أسطيفان قاقو، أسطيفان الطباخ وأبناؤه الكهنة الأربعة: الدكتور متي والدكتور يوسف والدكتور جورج وأستاذ الرياضيات نوئيل (زميلي في الدراسة في جامعة الموصل)، بطي البَنَّاء وأولاده (هاني وهيكل وهلال وقيس وحكمت)، حنا مراد، بيت قس بشارة، بيت رحيمو، داؤد الصباغ، إبراهيم داني، شاكر المسود، وديع دايخ، بشير صوفيا، بيت عطو، بيت الساعجي، بشير بيبو، جرجيس جريدي، خليل عديلة، لويس البوتاني، بيت عقراوي، نافع أبو نزار، يوسف أبو وليد، يعقوب أبو عبد الغفور، يوسف الساعور وأولاده: فوزي وكمال وحكمت ومينة (الذين كانوا يمتهنون صناعة السكاير المْزَبَّنْ ولديهم معامل لصنع السكاير وتوزيعها على عموم العراق، لتعبئتها بالتتن وبيعها على شكل شدات تحتوي كل شده على 20 سيكارة)، بهنام (بني) فراش مَدْرَسَة الغسانية، بيت كوريه المشهور في بيع القهوة ويعرف باسم دكان كوريه الواقعة بالسَّاعَة، الخوري يعقوب يوسف، بيت سمرجي، ميخائيل حودي، أنطانيوس، نذير كغو، هادي شعو، داؤد أسوفي، متي جبري القرد، زيتو السناطي، وعد الله قزازي، حكمت وديع، شوقي خضر، خضر قسطو، متي بابا اللوس، حميد الدبح، بيت اسوفي (الذين اشتهروا ببيع الطحينية)، الأسطى نعمان عباده (أبو سامي) البَنَّاء المشهور، وبيت بطوطة (صاحب محل الأصباغ في السَّاعَة)، بيت توما تمو بلبول (بائعو الزجاج)، بيت مَنُّونَه، أبو راكان البقال (المتخصص ببيع البَسْطِرْمة)، نوري البقال (أبو صباح) المتخصص ببيع البَسْطِرْمة أيضاً.ـ
ومن الأسر المسلمة واليزيدية القاطنين بالقرب من منطقة السَّاعَة بيت: آل حديد، آل كشمولة، آل خزرجي، العجيلي، الظاهر، آل حنون، الفخري، القطان، الجراح، القدو، عزيز الحمال، حميد القهوجي، عمر عبودي، خضر مشحت، فواز الشرابي، سليمان بكر، النجماوي، الدرزي، سلو اليزيدي، أي من العوائل الموصلية الأصيلة وكما نسميها باللهجة المصلاوية من (النقغة).وأكبر دليل على الألفة والمحبة بين هذه الأطياف المتعددة أن بعض الأسماء يصعب تمييزها على أساس الدين، فعلى سبيل المثال يشترك المسلمون والمسيحيون باطلاق اسماء مشتركة على أبنائهم مثل : يوسف، إبراهيم، خليل، عمر، بشير، ماهر، فارس، ماجد، سمير، صباح ... الخ.ـ
ومن أهم معالم منطقة السَّاعَة التي لم يعد لها أثر مقهى السَّاعَة (مقهى العمال) الذي يقع في الركن الجنوبي الغربي (محلَّة المياسة) أي على تقاطع الشَارِع المؤدي إلى منطقة خزْرَج مع الشَارِع المؤدية نهايته إلى باب الجَدِيد، أما صاحب المقهى فهو جدي (لوالدتي) المرحوم أحمد داؤد كشمولة، وكان يديرها ابنه المرحوم محمد وجيه (أبو ياسر - خالي) ويساعده عاملان، ومن المعروف أن المرحوم خالي كان صاحب يد مباركة وكف (كبيغ) يحمل فيه عشرة استيكانات من الشاي والحامض في آن واحد، وفي كثير من الأحيان – وبخاصة - في الصباح الباكر يقدم الشاي والحليب للعمال دون مقابل، وما زلت أذكر أنني وأنا صبي كنت اسأله عن ذَلِك فيقول لي: إنهم فُقَرَاء، وقد يحصلون على عمل في هذا اليوم وقد لا يحصلون، وفي حالة حصولهم على عمل سيعودون في المساء لتسديد ثمن ذَلِك، فأوجه له سؤالاً ثانياَ: ولكن كيف تعرفهم ولم تسجل أسماءهم؟ فيجيب: إنهم ثقة وأمناء ولا يأكلون إلا من عرق جبينهم، ومما رزقهم الله حلالاً زلالاً.ـ
تفتح المقهى أبوابها مع أذان الفجر وتستقبل العمال والحرفيين، بما يعمرها من مشروبات منوعة: شاي وحامض وحليب وكذَلِك الصمون الحار، لتناوله مع الحليب، هكذا جرت هذه العادة بين العمال قَبْل انطلاقهم للعمل، بعد أخذ طعام الإفطار الصباحي (الموني) ينطلقون إلى مواقع العمل، فاذا ما غادروا حضر إلى المقهى كبار السن والرِّجَال ممن ليس لديهم عمل، ليشربوا الشاي والحامض، ويلعبوا الورق والدومينو والطولة.ـ
ومن ذِكْرَيَاتي في تلك الفترة أنني كنت أتردد على المقهى خلال العطل، وأستمتع بلعب الدومينو مع روادها وفي كثير من الأحيان أفوز (أغلب) على من هم أكبر مني سناً وأربح اللعبة. وكنت أستمتع عند سماع كلمات ما زالت ترن في أذني مثل (دوشيش، حبي بياض، قفلًت، أزنيف... إلخ) من المصطلحات الخاصة بالدومينو.ـ
بعد ثورة الشواف التي حصلت سنة 1959 مباشرة وبسبب الأذى الذي لحق عائلة آلكشمولة، ترك المرحوم جدي أحمد داؤد كشمولة المقهى وهجرها واعتزل الحياة وجلس في البيت ولم يخرج قط، حتى التحق بالرفيق الأعلى عام 1981م. كان معظم أصدقائه وزبائنه من سكان تلك المنطقة الذين ارتبط معهم بعلاقات حميمة مؤسسة على المحبة والاحترام المتبادل.ـ
لقد لعب هذا المقهى التَارِيخي دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية باعتبارها نقطة تجمع كبار الشخصيات وأرباب العائلات الذين يتباحثون في أمورهم الاجتماعية والعائلية ومواضيع الزواج والطلاق وغير ذَلِك من الأمور الخاصة، كما لعب المقهى كذَلِك دوراً اقتصادياً باعتباره مركز تجمع العمال والمهنيين والحرفيين، فهي بمنزلة بورصة الموصل في ذَلِك الوقت، كما لعب دوراً سياسياً، حيث كان مركز تجمع الحركات القومية والتقدمية، ومنه انطلقت بعض المظاهرات ضد الإنكليز والاستعمار. ومن الذِكْرَيَات الراسخة في ذهني أنني شاهدت بعيني يوم 14 تموز 1958 صعود أحد المتظاهرين على قبة دورة السَّاعَة وهتافه بسقوط النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري.ـ
لقد تحولت المقهى بعد ذَلِك إلى محل (باتا) لبيع الأحذية بإدارة المرحوم دحام الصواف (والد المرحوم الدكتور هشام الصواف، أستاذ اللغة الإنكليزية)، وانتقل الرواد والزبائن إلى مقهى فاضل المقابل له والذي موقعه يمثل الركن الشمالي الشرقي الذي يربط الشَارِع المؤدي إلى السرجخانة مع شَارِع الفَارُوق وحضيرة السادة. ومقهى السَّاعَة الذي أصبح (باتا) فيما بعد والذي تحدثنا عنه، هو الآن نقطة لتجمع الشرطة لوجود سيطرة أمنية في تقاطع السَّاعَة. أما مقهى فاضل فقد أغلقت أيضاً وأصبحت محلا لبيع الأصباغ! أي خسرت المنطقة أهم المقاهي في تَارِيخها.ـ
على الركن الشمالي الغربي الذي يوصل شَارِع الفَارُوق مع الشَارِع المؤدي إلى منطقة خزْرَج يوجد محل عبد الباسط أبو السندويج الذي يتميز طعامه بالنظافة والنكهة الطيّبة لاختياره نوعيات جيدة من اللحوم واللسان والمخ ويقدمها مع ماعون طرشي صغير وآخر للزيتون الأسْوَّد الناعم، سعر السندويج في وقتها كان هو (20) فلساً، وقد عَلِمْتُ مؤخراً أن محل السندويج لصاحبه عبد الباسط قد انتقل إلى الركن المقابل ويديره ابنه لؤي، ما بين جامع الصفار و"مقهى فاضل" الذي اختفت معالمه وأصبحت محل بيع الأصباغ. ويجاور محل عبد الباسط أبو السندويج (القديم) دكان الحاج فتحي السرحان لبيع التبغ والسكاير (المْزَبَّنْ)، وإلى يمين الدكان باتجاه منطقة خزْرَج يوجد دكان شيت البصو لبيع التبغ والسكاير، ومحل عمر العشو لبيع المواد الإنشائية (الجص، والحجر،والحصى، والرمل ...الخ) من المواد الخام. يمتلك الحاج عمر العشو سجل حجز المواد الإنشائية ويعمل بدقة ونظام صارم أكسبه ثقة النّاس حيث يبدأ تجهيز مواقع العمل بعد الغروب ومع الفجر يكون قد أمن توصيل حاجات العمل. وعلى الرغم من الوسائل البدائية في نقل التجهيزات، إلا أنه كان يوصل المواد الإنشائية في وقتها المحدد ولا يخالف ذَلِك إلا لسبب وجيه، في تلك الفترة كان يعتمد في النقل على الطنبر وهو عبارة عن عربة تستند إلى عجلتين يجرها حصان باتجاه موقع العمل لاسيما إذا كان موقع العمل في العوجات والمحلَّات الضيقة الممرات والمواد خفيفة الوزن مثل الجص والحجر، فيما بعد تم استخدام سيارات القلاب في نقل المواد الثقيلة مثل الحصى والرمل والإسمنت وغير ذَلِك.ومن الجدير بالذكر أن تنقل النّاس كان يعتمد على العربات التي تجرها الأحصنة، خاصة قَبْل ظهور باصات مصلحة نقل الركاب التي دخلت الخدمة فيما بعد. تتألف العربة من مقصورة (غرفة صغيرة) يصعد الراكب إِلَيْها عن طريق درج ويجلس في صدر العربة التي تتسع لأربعة أشخاص متقابلين. يجر العربة حصان أو حصانان ويجلس العربنجي في الأعلى في مُقَدِّمَة العربة بعد الحصان مباشرة ليتولى قيادة العربة وإلى جهتي العربنجي من اليمين والشمال فانوسان يعملان على النفط (لمبات) للتعريف بالعربة ليلاً، كان الأطفال يستمتعون في الجلوس بجوار العربنجي.ـ
ومن أشهر العربنجية في ذَلِك الوقت (ببح) العربنجي ووالده (رحمهما الله)، ومن أشهر صناع العربات المرحوم يونس العربنجي وصانع السرج هو يعقوب السراج حيث مركز تصليح وصناعة (العرباين) كان في باب لكش قرب بيت أخينا مشتاق الدليمي الذي كان مولعا بمراقبة أسلوبه في العمل وجاء في حديث له عنه وصفه بأمهر صانع عربة، حيث يهندسها جيداً، ويتقن عملها إلى حد بعيد. كما كان الصبيان يقفون بالقرب من دورة السَّاعَة التي يقف عليها النوبجي (شرطي المرور) لتنظيم السير، حيث العربة القادمة من باب الجَدِيد باتجاه المستشفى مروراً بشَارِع الفَارُوق تتباطأ تدريجياً في هذا المكان بسبب الدورة، وهنا ينتهز الأولاد هذه الفرصة ليمسكوا بالعربة من الخلف ويجلسوا على مسند الحديد خلف العربة وعادة يضع صاحب العربة أسلاكاً شائكة لمنع الصبيان من مسكها، وفي كثير من الأحيان يحس العربنجي بوجودهم فيضربهم بالسوط (القمجى) التي تتكون من عصا خيزران مربوط في نهايتها (واير) من جلد رفيع لاذع ومؤذ ومع الضربة يترك الصبيان العربة على أمل إعادة الكرة ثانيةً.ـ
يقع الى جوار محل عمر العشو إلى جهة اليمين ، محل واسع يتألف من دكانين لبيع المواد الغذائية والتموينية (بقالة) لصاحبها بشير (أبو محسن) والشهير بـ(بيبو البقال) وهو مسيحي، ثم يأتي الدرج الذي يوصل منطقة السَّاعَة بعوجات النصارى امتداداُ إلى كنيسة مار توما للسريان الكاثوليك (عائدة إلى محلَّة خزْرَج) التي عاش فيها منذ عام 1962 أربعة كهنة أطلقوا على أنفسهم جماعة يسوع المَلِك وهم: الأب جرجس القس موسى والأب المرحوم نعمان أوريدة والأب جاك إسحق والأب بيوس عفّاص الذي لا يزال يسكن في الكنيسة، وكنيسة مار توما للسريان الأرثودوكس الملاصقة إلى كنيسة مار توما للسريان الكاثوليك، وهي من الكنائس القَدِيمة جداً يرتبط تَارِيخها مع بداية وصول المسيحية الى الموصل وكانت مقراً لأبرشية الموصل للسريان الأرثوذكس إلى عام 1988 حيث نقلت المطرانية إلى كاتدرائية مار افرام بعد بنائها في الجانب الأيسر من المَدِينَة والمطرانية سكن فيها كل من المثلث الرحمات المطران مار غريغوريوس بولس بهنام ونيافة المطران مار سيوريوس زكا عيواص، ونيافة المطران مار غريغوريوس صليبا شمعون. وملاصقلهما المقبرة الأساسية للمسيحيين التي انتقلت فيما بعد إلى وادي عكاب، ومَدْرَسَة مار توما الابْتِدَائِيَّة التي تغير اسمها إلى مَدْرَسَة الغسانية الابْتِدَائِيَّة. وهي مَدْرَسَة للبنين والبنات التي عرفت فيما بعد باسم مَدْرَسَة الغسانية للبنين ومَدْرَسَة الغسانية للبنات وكان يدرس فيها الدين المسيحي كمادة معتمدة وقد تخرج من هذه المَدْرَسَة الكثير من الأطباء والمهندسين وأصحاب الشهادات العليا في المجالات كافة، نذكر منهم الجراح الشهير الدكتور عماد هاشم.ـ
نعود إلى جهة اليمين باتجاه باب الجَدِيد (التابعة إلى محلَّة المياسة): لنبدأ من مقهى السَّاعَة (الركن الجنوبي الغربي) وبجوار المقهى صَالُون حلاقة محمد يونس أحمد الظاهر (أبو ماجد)، أخوه عبد الجواد أحمد الظاهر (والد الدكتور أحمد عبد الجواد الأستاذ في كلية الزراعة والغابات في جامعة الموصل)، وأخوه الآخر العلامة المتخصص في الرياضيات الأستاذ الدكتور محمد واصل الظاهر (المقيم في ولاية كالفورنيا في أمريكا)، ثم دكان الكبابجي التي تعود للعالم الجليل الشيخ عبد الله الاربيلي بعد انتقاله من دكانه السابق في باب الطوب الذي تركه بسبب هدم تلك المنطقة؛ حيث انتقل إلى محله الجديد في منطقة الساعة. ثم يأتي فرن للصمون وشوي البقلاوة والكليجة (معجنات موصلية تصنع قبيل الأعياد وتسمى معمول في بلدان عربية أخرى) والقوازي وغير ذَلِك، ثم كراج (سيف) كبير، ثم تأتي عَوْجَة كان يسكن فيها خليل عبو الجلو والد الدكتور ماهر وأخيه فارس، ثم تستمر فتؤدي إلى كنيسة شمعون الصفا (محلَّة المياسة) وهي أقدم كنائس الكلدان في الموصل، وقد بنيت على اسم بطرس زعيم الرسل الذي عرف بالصفا. ولا يمكن تعيين زمن تشييدها بدقة، إلا أن في انخفاض مستوى أرضها عن سائر المحلَّة المحيطة بها، دليلاً واضحاً على قدمها. فإن هذه الكنيسة كالدِّيماس (جمع: دَيامِيس، دَمامِيس: بِناءٌ أَرْضِيٌّ تَحْتَ العِمارَةِ لا يَدْخُلُهُ الضَّوْءُ، أي كُلُّ مَكانٍ عَميقٍ تَحْتَ الأَرْضِ) ينزل إِلَيْها بعدة درجات ويستدل من طراز بعض بقاياها القائمة أنها بنيت في نحو القرن الثالث عشر للميلاد. وقد رممت أكثر من مرة وكان آخر ترميم لها في سنة 1936، كما جاء في كتاب الموصل في العهد الجليلي، تأليف الأب سهيل قاشا، وعلى مسافة منها تأتي كنيسة مَسْكَنْتَة التي تقع في محلَّة المياسة؛ وهي كاتدرائية سميت بهذا الاسم نسبة إلى الشهيدة مَسْكَنْتَة ويقابلها دار المطرانية (البطريكية) سابقاً للكلدان. وكان يسكن هناك بيت عزيز علي والد كل من الدكتور علي عزيز علي أستاذ الرياضيات ونائب رئيس جامعة الموصل في زمن الدكتور محمود الجليلي (رئيس جامعة الموصل الأسبق)، وأخيه المهندس الدكتور صبحي عزيز علي زميلنا في الدراسة.ـ
لنعد إلى مقهى السَّاعَة باتجاه منطقة خزْرَج، أي إلى يسار المقهى فهناك دكان صغيرة لبيع الفاكهة يدعى صاحبها حموشي وبجواره دكانان واسعتان لبيع الموادالغذائية كالسُّكَّر والرز والشاي واللَّبَن والقشفة وغيرها، ثم تأتي عَوْجَة (مقابل الدرج عبر الشَارِع) تقودنا إلى دكان محمد الكبابجي الذي يقدم ماعون كباب مكون من أربعة أسياخ (شياش) مع الخبز والبصل والكرافس مع (طاسة) من شربت الزبيب بسعر40 فلساً مع استعداد لتوصيله إلى مقهى السَّاعَة عند الطلب. ثم تلتقي بعَوْجَة أخرى جانبية تؤدي إلى كنيسة شمعون الصفا وكنيسة مَسْكَنْتَة، فاذا ما عبرنا إلى الجانب الآخر (الركن الشمالي الغربي)، وعلى بعد 100متر من دورة السَّاعَة إلى جهة اليمين باتجاه منطقة خزْرَج، نجد دكان ملك الجرزات سلطان أبو الجرزات الذي اكتسب شهرة كبيرة لجودة ولذة جرزاته التي يقدمها، ويتكون محله الصغير من باب واحد وجدرانه مغلفة بالمرايا لتعطي جمالاً وسعة للمحل، يقف سلطان في وسط الدكان محاطاً من جميع جهاته بالجرزات ومن الجهة الأمامية يرتب الزنابيل المصنوعة من القصب وفيها السِسِّي وحب الأحمر والأسْوَد والبطم والاقضامة وفي الجهة الخلفية يضع الفستق والبندق واللوز وغير ذَلِك من الجرزات الخشنة. ومن الجدير بالذكر أن مدينة الموصل تتميز بإنتاج (السِسِّي) الذي لا يوجد في أي بلد في العالم سوى في العراق ، مما يدل على أنه عراقي الأصل والمنبت.ـ
لنعد إلى الركن الجنوبي الشرقي باتجاه السرجخانة (محلَّة الأوس، حيث دكان القصاب المرحوم مزهر طه القطان، أخي الشهيد زكريا طه القطان الذي أعدم مع زملائه الشهداء في ثورة الشواف عام 1959. وفى العَوْجَة نفسها (الفرع) كان هناك المرحوم إسماعيل الكبابجي وبالقرب منه بيت الفنان المشهور الأستاذ ضرار القدو. وهناك بيت محمود القطان، وبيت حسين الجراح (مختار السرجخانة)، عند مفترق الطرق المؤدية إلى منطقة السرجخانة ومنطقة الرابعية. ثم يأتي محل خضراوات ثم دكان ابن حنون الواسعة التي يبيع فيها (القِشْفي) ولبن الخَاثِر والقيمر والأجبان وغير ذَلِك من المواد الغذائية ثم يتبعها عَوْجَة تؤدي إلى كنيسة اللاتين التي تعد من أهم معالم منطقة السَّاعَة.ـ
وتعود كنيسة اللاتين إلى الآباء الدومنيكان، وهي كنيسة قَدِيمة أنشئت عام 1872م وفيها برج السَّاعَة المشهورة في مَدِينَةٌ الموصل، والقداس فيها حسب الطقس اللاتيني وباللغة العربية. ومسؤولها الحالي الأب نجيب الدومينيكي ويسكن معه الأب يوسف عتيشا الدومينيكي.ـ
كانت هذه الكنيسة في القرن التاسع عشر قاصدية صغيرة، وأكمل أعمدتها القاصد الرسولي في العراق والآباء الدومينيكان في بغداد وبعدها تحولت القاصدية إلى بغداد وصارت الكنيسة مركزاً لسكنى الآباء الدومينيكان.ـ
وبجوار كنيسة اللاتين يوجد دير الآباء الدومنيكان الذي أسسه الآباء الدومنيكان عند قدومهم إلى الموصل عام 1750م. وأسسوا إلى جواره معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي الذي فتح أبوابه للطلبة عام 1878 ممن يدرسون علوم الفقه والدين ليصبحوا قساوسة في المستقبل وغيرهم.ـ
يقول الإعلامي ماجد عزيزة (مقيم حاليا في كندا) وهو من مواليد تلك المنطقة وقضى مدة طفولته ومرتع صباه هناك: كان هناك أيضاً البير الحَلَّاق وكانوا يسمونه (اربيل) وعنده حلقت شعر رَأْسِي لأول مرة وكان ذَلِك عام 1953 وكنت في الثالثة من عمري، وبكيت كثيراً لكنه وعدني بأن يعيد لي (شعغي الكلبدون) ولم يوفِ بوعده رحمه الله !! في رأس عوجتنا وعلى شَارِع نِينَوَى كان أولاد حنون واذكر اسميهما (طلب وسعدون) وقد زرت الدكان بعد عام 2004م، يقول ماجد عزيزة: وشاهدت سعدون وقد فات به العمر وحين شاهدني بعد غياب 20 عاماً (كان ذَلِك بداية الثمانيات)، قال: أنت ماجد بيت القس ميخائيل ما ؟ قلت نعم: قال والله كبغت كنت تلعب هوني وكنت (زلز) ؛ أي وكيح ! رحمه الله. ويضيف عزيزة قائلا: من شدة التآلف والمحبة بين مسيحيي ومسلمي المنطقة أسميت ولدي الأكبر (عمر) تيمنا بشَارِع الفَارُوق (عمر...) رحم الله أيام زمان.ـ
على الركن الشمالي الشرقي الذي يوصل شَارِع السرجخانة بشَارِع الفَارُوق أي مقابل ابن حنون يوجد ستوديو آراكس لصاحبه: المصور الأرمني إينوف، الإنسان الوديع الهادئ الطبع الذي يعد واحداً من المصورين المعروفين في عصره. وبجواره محل الفنان إبراهيم الجوادي الذي يعد من أشهر صناع العود في الموصل، وهو من أبناء محلَّة شهر سوق تخصص منذ خمسينات القرن الماضي بصناعة العود، وكان محله المعروف في منطقة السَّاعَة مقابل دكاكين بيت حنون، قَبْل أن ينتقل إلى باب البيض. ولازال يمارس صناعة آلة العود الشرقي بمهارة فريدة، وقد كان محله مكاناً للقاء العديد من الفنانين والأدباء أبرزهم الفنان الكبير المرحوم نجيب يونس والدكتور أحمد الحسو والفنان ضرار القدو والمرحوم الفنان عبد الحميد الحيالي وغيرهم كثيرون، ثم منزل (لا أعرف اسم صاحبه) ثم مقهى فاضل (على الركن) التي بعد غلق مقهى السَّاعَة نالت شهرة أكبر. ثم جامع الصفار الذي كان زميلنا العزيز الدكتور عبد الرزاق الصفار (رحمه الله) يلقي خطبة الجمعة فيه وبجوار المسجد يوجد مركز للشرطة، ثم دكان تتونجي اسمه (عبد الطه) وهو من أهل خزْرَج.ـ
.لنعبر إلى الجانب الآخر على بعد 100 متر باتجاه شَارِع الفَارُوق إلى جهة اليسار، حيث يوجد مقهى صغير يتجمع فيه العمال والمهنيون أيضا لتنظيم عملهم، ووضع الترتيبات الخاصة بأعمالهم، وجوار المقهى يوجد دكان محمد التمر للمواد الغذائية والاستهلاكية ودكان طه القصاب الذي كنا نشتري منه اللحم، وتليها مباشرة العَوْجَة التي تنتهي بالكنيستين ومَدْرَسَة الغسانية، أي إن الكنيستين تقعان على ملتقى العوجتين الأُولَى ترتبط بشَارِع الفَارُوق والأخرى بشَارِع نِينَوَى قرب دورة السَّاعَة باتجاه خزْرَج وتبدأ بالدرج.ـ
لقد التقينا – نحن المسلمين - مع إخواننا المسيحيين على المحبة وتفرقنا بود واحترام وقد مضت خمسة عقود ولا زالت ذكراهم حاضرة في أذهاننا وعقولنا. ومن ذِكْرَيَاتي عن المنطقة في تلك المدة زمالتي في المَدْرَسَة لكل من الأب يوسف اسطيفان ومعن سرسم. أما في الجامعة فمن زملائي في قسم الرياضيات في كلية العلوم بجامعة الموصل خلال الفترة: 1967-1971م كل من: نوئيل الطباخ وجنان بطرس وسمير يوحنان منصور. وما زلت أتذكر أَكْلَة الكبب الكبيرة التي كانت تقدمها لنا أم سمير يوحنان المحشوة باللحم والسمن واللوز والكشمش ولم يزل طعمها في فمي… أيام رائعة وذِكْرَيَات أجمل. خرجت أكاديمية منطقة السَّاعَة الكثير من الكفاءات العلمية والأدبية والفنية (أطباء، مهندسين، أساتذة، شعراء، فنانين، ضباط، إعلاميين، مهنيين،...الخ) قدموا للموصل والعراق بل وللعالم أفضل الخدمات وأروع الإنجازات. وستبقى الموصل الْحَدْبَـاء تذكرهم وتفخر بهم جيلا بعد جيل.ـ
ملاحظة: سبق أن نشرت هذه المقالة في ملتقى ابناء الموصل بتاريخ:21/10/2010، وقد أرتأينا إعادة نشرها بعد اضافة الكثير من الأحداث والتصويبات، كما تم نشرها في كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي....مشاهد واحداث"، تاليف سمير حديد، الدار العربية للموسوعات، بيروت 2013م.ـ
شاهد المزيد من الصور لأيام السلام في الموصل ،ـ
ندعو الله ان يعيدها الينا
و يخرجنا من عصر الحقد و الكراهية العمياء
شاهد : ملحق مصور