حَلاَوَة الخضر... تَقْليد مَوْصِلي
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تعد العادات إحدى دعائم هوية الأمة، وهي التي تبني جسراً من الحميمية والحب بين الأجيال، وتحافظ على امتداد الحياة الاجتماعية بكل مقوماتها. فالأبناء يتوارثونها بقدر ما تعطيهم من دفء الماضي؛ لسرعة تغير الحاضر، وتطوره... فهي تمثل الوفاء للآباء والأجداد، من خلال التمسك بقيمها، وتعبر عن الأخلاق السامية
ولا شك أن "حَلاَوَة الخضر" تمثل تظاهرة واحتفالية اجتماعية في الموصل تنعش الأسواق والأماكن الخاصة بها، في مواسم خاصة بها، في وقت محدد من كل سنة. فهي تصنع في الجمعة الأُولى من موسم الربيع من كل عام. وأتذكر أنني عندما كنت صبياً، بعمر عشر سنوات، منتصف القرن الماضي (1950-1960)، كنت أرافق والدتي (رحمها الله) التي تتولى تجهيز المواد الأساسية (المونة)، وهي عبارة عن: السمسم والجوز والهيل، ونأخذ معنا الصينية، ونذهب إلى معمل لصناعة "حَلاَوَة الخضر" في "باب البيض" ويعد الأقرب إلى منطقتنا محلة "حمام المنقوشة"، وعند وصولنا إلى المعمل كنا نشاهد الكثير من العائلات في تجمعات تنتظر دورها، وكأنها في عرس، الكل يحمل مكونات "حَلاَوَة الخضر" والأواني مختلفة الأحجام. وكان المصنع عبارة عن أحد البيوت في تلك المنطقة، وصاحب المصنع (الحلاوجي) صانع ماهر يعرفه أهل الموصل كلهم، فقد توارث سرّ هذه الصناعة وطقوسها عن الآباء والأجداد. وظل وفياً لهم ولصناعتهم، يؤدي واجبه على أكمل وجه، بكل نشاط ورحابة صدر، ويقوم بصناعتها بكل جودة وإتقان، وكأنه يصنعها لنفسه ولأهله، فهو بذلك يحقق أهدافه وغاياته، لا سيما ما يجمعه من مال في هذا الموسم لقاء أتعابه، ويحيي موسماً ينتظره من سنة إلى سنة... وهذا (الحلاوجي) كان يعتبر نفسه إنساناً صاحب عدل يؤمن بالمساواة، مسؤولاً عن النظام، وإرضاء الناس كل الناس، لا يفضل أحداً على غيره، ولذلك كان عليه أن يتبع نظاماً يرضي الجميع، يقوم على إعطاء الأولوية في الدور لمن يأتي أولاً، أي على الجميع اتبّاع الدور والالتزام به، وهم فرحون بهذا الأسلوب الذي يتبناه (الحلاوجي). وعلى هذا الأساس فإنهم ينتظرون دورهم بسعادة وأمان، لأن الدور سيصلهم مؤكداً. وقد يجد من يراقب تلك الوجوه هناءة وبشاشة؛ لأن الناس يتبادلون الأحاديث ويتناقلون الأخبار، ويبثون همومهم إلى بعضهم البعض أثناء الانتظار، ويشاهدون وجوهاً جديدة، تذوب فيها الفوارق الاجتماعية، والأهم من هذا وذاك ما ينتج من تعارف وتآلف بين الناس، يقوي أواصر الصداقة والمحبة بينهم، خاصة إذا ما عرف أن الانتظار لا يكون أقل من ساعتين... يضاف إلى ذَلِك كله أن الرائحة الطيّبة التي تنتشر من صناعة "حَلاَوَة الخضر" بعد وضعها في الأفران الخاصة بها وإخراجها لا سيما تلك الرائحة المنبعثة من السمسم الممزوج بالسُّكَّر والهيل المرصع بالجوز وبعض المكسرات... وحين يأتي الدور على أيٍّ من المنتظرين، فإنه يظهر فرحته لأن الفرج آت، فيقوم بتقديم وعائه وما لديه من مكونات "حَلاَوَة الخضر" لـ(الحلاوجي)، الذي يقوم بدوره بصناعتها على حجم الصينية التي قدمها صاحبها له.ـ
وقد يعتقد المرء أن "حَلاَوَة الخضر" بعد أن يتسلمها صاحبها من(الحلاوجي)، يمكن أن يبدأ بقطعها وأكلها... والأمر ليس كذَلِك. فهناك طقوس خاصة بتقطيعها ووقت أكلها... وهناك عادتان كل منهما متبع عند أهل الموصل:ـ
الأُولَى: تتمثل في أنه لا بد أن تترك ليلة كاملة في البيت دون تقطيع، ودون أن ينقص منها شيء. فقد كانت أمهاتنا وجداتنا يقلن لنا: يجب أن تبقى (الصينية) على حالها، في البيت، طيلة الليل، حتى يأتي الخضر(عليه السلام) ويضربها بعصاه، لتحل البركة فيها، ومن ثم تصبح مباركة جاهزة للتقطيع والأكل. وهذه الفئة من الناس أقل تشبثاً بحذافير المعتقدات.ـ
والأخرى: تتمثل في أن بعض العائلات كان يقصد مقام الخضر (عليه السلام) في (الجامع الأحمر) المعروف بـ(جامع مجاهد الدين) أو (جامع سَيِّدنا الخضر) (عليه السلام) على (نهر دجلة) مقابل الإعْدادِيّة الشرقية حالياً ومجاور للنادي العسكري؛ لكي تحصل البركة ويعود بها إلى البيت. وهذه الفئة من الناس أكثر تمسكاً بالتقاليد والمعتقدات؛ وهذا يمثل جانباً من موروثها الفكري والديني والنفسي.ـ
وكان على أفرد كل عائلة تصنع "حَلاَوَة الخضر" أن تنتظر قضاء الليل، وهي تتلمظ، وتنظر إلى تلك (الصينية) شزراً، تتمنى أن تحين الفرصة لتنقض عليها، لأنها بالفعل أكله مغرية من ناحيتين: رائحتها، وطعمها المعهود... وما أن يبدأ الليل بخلع أثوابه، ويتنفس الصباح، ويرسل تباشير الانفراج حتى نبدأ بتقطيع القرص الكبير، وأكل ما وسع الفرد أن يلتهم ما لذ وطاب منه، مستمتعاً به، ما أصعب الانتظار...! وما أجمل الانفراج..ـ
والجدير بالذكر أن صاحب المصنع كان على درجة من الذكاء والعطف والحنان والإنسانية لأنه كان على دراية بتلك الطقوس التي تحرم الصغار من تناول أية قطعة من الحلوى إلا بعد انقضاء الليل، والأطفال ليس لديهم الصبر على الانتظار، وهمهم الوحيد هو أكل الحلوى بأي طريقة وأي ثمن، دون اكتراثهم بتلك التقاليد لعدم إدراكهم لها، فكان (الحلاوجي) يقوم بعمل قرص صغير جداً، يقدمه هدية للأولاد... وهذا القرص هو الذي تُقضى به حاجة الطفل الذي ليس لديه الصبر الكافي على الانتظار، فيلتهمه، قانعاً به إلى الصباح، فيشارك أهله بتناول تلك الحلوى التي طالما انتظرها، وحدثته نفسه بها. وهذا يمثل بلا شك معرفة (الحلاوجي) بتلك العادات التي يحترمها ويقدرها ويؤديها على أكمل وجه، وجهل الطفل بتلك العادات والطقوس التي يؤمن بها الأهل، وكانت سبباً في حرمانه من تحقيق بغيته في التهام تلك الحلوى.ـ
ـ"حَلاَوَة الخضر"... نذور وبركة: لـ"حَلاَوَة الخضر" كما أسلفنا طقوس متوارثة عن الأجداد الذين داوموا على عمل تلك الحَلاَوَة منطلقين من البساطة والخرافة أحياناً بأن (الخضر عليه السلام) لابد من مروره على صينية الحَلاَوَة، وبالتالي فإنه سيمر بهذا البيت الذي سيزيده بركة، وهي مناسبة كذَلِك للإيفاء بالنذور التي تنذرها العوائل لأبنائها الذين قد اجتازوا محنة، أو نجحوا في الامتحان، أو أصابهم من المرض أو ما شابه وقد شفاهم الله منه فلا بد من عمل الحَلاَوَة تنفيذاً للنذر.ـ
كما أن "حَلاَوَة الخضر إلياس" تسمى أيضًا "حَلاَوَة الباعوثة ". فقد اعتاد المسيحيون تقديمها وأكلها بعد صوم أيام (باعوثة نِينَوَى)، وهو الصوم الذي يسبق الصوم الأربعيني، وربما يعبر ذَلِك عن توبة القلب بالصوم والصلاة، لنيل غفران الخطايا. فبعد صوم هذه الأيام الثلاثة يأكلون حَلاَوَة الزمن "حَلاَوَة الباعوثة" تعبيرًا عن الفرح والبهجة بعد نيلهم غفران خطاياهم، كما نال أهل نِينَوَى الصفح عن خطاياهم بعد صوم نادى به يونان النبي (يونس) أهل نِينَوَى.ـ
وبعد، فهذه (حَلاَوَة الخضر) تمثل عادة من عادات أهل الموصل فعادات الأمم مرآة لحضارتها، وانعكاس لتفكيرها، ونمط من سلوكها، وصورة عن ممارساتها، وهي في الوقت ذاته تعبر عن النفوس الطيّبة الساذجة التي تتأثر بالجوانب الإيجابية والمعتقدات مهما كانت على درجة من الصحة أو جانبت الصواب.ـ
وإذا قال قائل: إن هذه من الأساطير التي لا يمكن أن يقبلها العقل حيث إن الخضر عليه السلام لا يمكن أن يقوم بذَلِك، قلنا: إن هذا المعتقد وإن كان غير قائم على أساس علمي سليم، أو غير ممكن الحصول، فإنه يظل تَقْليداً من تقاليد أهل الموصل التي سادت ولا زال بعض الناس يتمسكون بها، وهي جزء من تَارِيخهم وحياتهم البسيطة الهادئة غير المعقدة التي لا تعرف طريقاً إلى الزيف أو الكذب أو النفاق... وتبقى هذه العادة، على الرغم من صحة المعتقد أو خطئه، تدل على إيجابية تقوم على إحياء مواسم معينة، في أوقات محددة، وجمع الأهل عند أكلها، وإكرام الأبناء والضيف الذي يعد من النخوة والشهامة، وهي من العادات الصحية والأصيلة عند العرب.ـ
ملاحظة: المقالة مستلة من كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي...مشاهد وذكريات"، تاليف سمير حديد.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تعد العادات إحدى دعائم هوية الأمة، وهي التي تبني جسراً من الحميمية والحب بين الأجيال، وتحافظ على امتداد الحياة الاجتماعية بكل مقوماتها. فالأبناء يتوارثونها بقدر ما تعطيهم من دفء الماضي؛ لسرعة تغير الحاضر، وتطوره... فهي تمثل الوفاء للآباء والأجداد، من خلال التمسك بقيمها، وتعبر عن الأخلاق السامية
ولا شك أن "حَلاَوَة الخضر" تمثل تظاهرة واحتفالية اجتماعية في الموصل تنعش الأسواق والأماكن الخاصة بها، في مواسم خاصة بها، في وقت محدد من كل سنة. فهي تصنع في الجمعة الأُولى من موسم الربيع من كل عام. وأتذكر أنني عندما كنت صبياً، بعمر عشر سنوات، منتصف القرن الماضي (1950-1960)، كنت أرافق والدتي (رحمها الله) التي تتولى تجهيز المواد الأساسية (المونة)، وهي عبارة عن: السمسم والجوز والهيل، ونأخذ معنا الصينية، ونذهب إلى معمل لصناعة "حَلاَوَة الخضر" في "باب البيض" ويعد الأقرب إلى منطقتنا محلة "حمام المنقوشة"، وعند وصولنا إلى المعمل كنا نشاهد الكثير من العائلات في تجمعات تنتظر دورها، وكأنها في عرس، الكل يحمل مكونات "حَلاَوَة الخضر" والأواني مختلفة الأحجام. وكان المصنع عبارة عن أحد البيوت في تلك المنطقة، وصاحب المصنع (الحلاوجي) صانع ماهر يعرفه أهل الموصل كلهم، فقد توارث سرّ هذه الصناعة وطقوسها عن الآباء والأجداد. وظل وفياً لهم ولصناعتهم، يؤدي واجبه على أكمل وجه، بكل نشاط ورحابة صدر، ويقوم بصناعتها بكل جودة وإتقان، وكأنه يصنعها لنفسه ولأهله، فهو بذلك يحقق أهدافه وغاياته، لا سيما ما يجمعه من مال في هذا الموسم لقاء أتعابه، ويحيي موسماً ينتظره من سنة إلى سنة... وهذا (الحلاوجي) كان يعتبر نفسه إنساناً صاحب عدل يؤمن بالمساواة، مسؤولاً عن النظام، وإرضاء الناس كل الناس، لا يفضل أحداً على غيره، ولذلك كان عليه أن يتبع نظاماً يرضي الجميع، يقوم على إعطاء الأولوية في الدور لمن يأتي أولاً، أي على الجميع اتبّاع الدور والالتزام به، وهم فرحون بهذا الأسلوب الذي يتبناه (الحلاوجي). وعلى هذا الأساس فإنهم ينتظرون دورهم بسعادة وأمان، لأن الدور سيصلهم مؤكداً. وقد يجد من يراقب تلك الوجوه هناءة وبشاشة؛ لأن الناس يتبادلون الأحاديث ويتناقلون الأخبار، ويبثون همومهم إلى بعضهم البعض أثناء الانتظار، ويشاهدون وجوهاً جديدة، تذوب فيها الفوارق الاجتماعية، والأهم من هذا وذاك ما ينتج من تعارف وتآلف بين الناس، يقوي أواصر الصداقة والمحبة بينهم، خاصة إذا ما عرف أن الانتظار لا يكون أقل من ساعتين... يضاف إلى ذَلِك كله أن الرائحة الطيّبة التي تنتشر من صناعة "حَلاَوَة الخضر" بعد وضعها في الأفران الخاصة بها وإخراجها لا سيما تلك الرائحة المنبعثة من السمسم الممزوج بالسُّكَّر والهيل المرصع بالجوز وبعض المكسرات... وحين يأتي الدور على أيٍّ من المنتظرين، فإنه يظهر فرحته لأن الفرج آت، فيقوم بتقديم وعائه وما لديه من مكونات "حَلاَوَة الخضر" لـ(الحلاوجي)، الذي يقوم بدوره بصناعتها على حجم الصينية التي قدمها صاحبها له.ـ
وقد يعتقد المرء أن "حَلاَوَة الخضر" بعد أن يتسلمها صاحبها من(الحلاوجي)، يمكن أن يبدأ بقطعها وأكلها... والأمر ليس كذَلِك. فهناك طقوس خاصة بتقطيعها ووقت أكلها... وهناك عادتان كل منهما متبع عند أهل الموصل:ـ
الأُولَى: تتمثل في أنه لا بد أن تترك ليلة كاملة في البيت دون تقطيع، ودون أن ينقص منها شيء. فقد كانت أمهاتنا وجداتنا يقلن لنا: يجب أن تبقى (الصينية) على حالها، في البيت، طيلة الليل، حتى يأتي الخضر(عليه السلام) ويضربها بعصاه، لتحل البركة فيها، ومن ثم تصبح مباركة جاهزة للتقطيع والأكل. وهذه الفئة من الناس أقل تشبثاً بحذافير المعتقدات.ـ
والأخرى: تتمثل في أن بعض العائلات كان يقصد مقام الخضر (عليه السلام) في (الجامع الأحمر) المعروف بـ(جامع مجاهد الدين) أو (جامع سَيِّدنا الخضر) (عليه السلام) على (نهر دجلة) مقابل الإعْدادِيّة الشرقية حالياً ومجاور للنادي العسكري؛ لكي تحصل البركة ويعود بها إلى البيت. وهذه الفئة من الناس أكثر تمسكاً بالتقاليد والمعتقدات؛ وهذا يمثل جانباً من موروثها الفكري والديني والنفسي.ـ
وكان على أفرد كل عائلة تصنع "حَلاَوَة الخضر" أن تنتظر قضاء الليل، وهي تتلمظ، وتنظر إلى تلك (الصينية) شزراً، تتمنى أن تحين الفرصة لتنقض عليها، لأنها بالفعل أكله مغرية من ناحيتين: رائحتها، وطعمها المعهود... وما أن يبدأ الليل بخلع أثوابه، ويتنفس الصباح، ويرسل تباشير الانفراج حتى نبدأ بتقطيع القرص الكبير، وأكل ما وسع الفرد أن يلتهم ما لذ وطاب منه، مستمتعاً به، ما أصعب الانتظار...! وما أجمل الانفراج..ـ
والجدير بالذكر أن صاحب المصنع كان على درجة من الذكاء والعطف والحنان والإنسانية لأنه كان على دراية بتلك الطقوس التي تحرم الصغار من تناول أية قطعة من الحلوى إلا بعد انقضاء الليل، والأطفال ليس لديهم الصبر على الانتظار، وهمهم الوحيد هو أكل الحلوى بأي طريقة وأي ثمن، دون اكتراثهم بتلك التقاليد لعدم إدراكهم لها، فكان (الحلاوجي) يقوم بعمل قرص صغير جداً، يقدمه هدية للأولاد... وهذا القرص هو الذي تُقضى به حاجة الطفل الذي ليس لديه الصبر الكافي على الانتظار، فيلتهمه، قانعاً به إلى الصباح، فيشارك أهله بتناول تلك الحلوى التي طالما انتظرها، وحدثته نفسه بها. وهذا يمثل بلا شك معرفة (الحلاوجي) بتلك العادات التي يحترمها ويقدرها ويؤديها على أكمل وجه، وجهل الطفل بتلك العادات والطقوس التي يؤمن بها الأهل، وكانت سبباً في حرمانه من تحقيق بغيته في التهام تلك الحلوى.ـ
ـ"حَلاَوَة الخضر"... نذور وبركة: لـ"حَلاَوَة الخضر" كما أسلفنا طقوس متوارثة عن الأجداد الذين داوموا على عمل تلك الحَلاَوَة منطلقين من البساطة والخرافة أحياناً بأن (الخضر عليه السلام) لابد من مروره على صينية الحَلاَوَة، وبالتالي فإنه سيمر بهذا البيت الذي سيزيده بركة، وهي مناسبة كذَلِك للإيفاء بالنذور التي تنذرها العوائل لأبنائها الذين قد اجتازوا محنة، أو نجحوا في الامتحان، أو أصابهم من المرض أو ما شابه وقد شفاهم الله منه فلا بد من عمل الحَلاَوَة تنفيذاً للنذر.ـ
كما أن "حَلاَوَة الخضر إلياس" تسمى أيضًا "حَلاَوَة الباعوثة ". فقد اعتاد المسيحيون تقديمها وأكلها بعد صوم أيام (باعوثة نِينَوَى)، وهو الصوم الذي يسبق الصوم الأربعيني، وربما يعبر ذَلِك عن توبة القلب بالصوم والصلاة، لنيل غفران الخطايا. فبعد صوم هذه الأيام الثلاثة يأكلون حَلاَوَة الزمن "حَلاَوَة الباعوثة" تعبيرًا عن الفرح والبهجة بعد نيلهم غفران خطاياهم، كما نال أهل نِينَوَى الصفح عن خطاياهم بعد صوم نادى به يونان النبي (يونس) أهل نِينَوَى.ـ
وبعد، فهذه (حَلاَوَة الخضر) تمثل عادة من عادات أهل الموصل فعادات الأمم مرآة لحضارتها، وانعكاس لتفكيرها، ونمط من سلوكها، وصورة عن ممارساتها، وهي في الوقت ذاته تعبر عن النفوس الطيّبة الساذجة التي تتأثر بالجوانب الإيجابية والمعتقدات مهما كانت على درجة من الصحة أو جانبت الصواب.ـ
وإذا قال قائل: إن هذه من الأساطير التي لا يمكن أن يقبلها العقل حيث إن الخضر عليه السلام لا يمكن أن يقوم بذَلِك، قلنا: إن هذا المعتقد وإن كان غير قائم على أساس علمي سليم، أو غير ممكن الحصول، فإنه يظل تَقْليداً من تقاليد أهل الموصل التي سادت ولا زال بعض الناس يتمسكون بها، وهي جزء من تَارِيخهم وحياتهم البسيطة الهادئة غير المعقدة التي لا تعرف طريقاً إلى الزيف أو الكذب أو النفاق... وتبقى هذه العادة، على الرغم من صحة المعتقد أو خطئه، تدل على إيجابية تقوم على إحياء مواسم معينة، في أوقات محددة، وجمع الأهل عند أكلها، وإكرام الأبناء والضيف الذي يعد من النخوة والشهامة، وهي من العادات الصحية والأصيلة عند العرب.ـ
ملاحظة: المقالة مستلة من كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي...مشاهد وذكريات"، تاليف سمير حديد.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة