الكمأة (الكمي)ـ
أَكْلَة شعبيَّة مفضلة
سمير بشير حديد
الكمأة أو(الكمي) في اللهجة الموصلية، وفي لهجة سكان حمام المنقوشة (الجما)، أو (الفقع) في اللهجة الخليجية، هي نبات فطري موسمي ربيعي، ينتظره الفُقَرَاء وسكان البادية والجزيرة وكثير من بلدان العالم، لا سيما العربية منها بفارغ الصبر؛ لكي يستخرجوه من باطن الأرض، ويعرضوه للبيع بأسعار مغرية، ليعيشوا من ثمنه، أما الأغنياء فإنهم ينتظرون موسماً تلو الآخر بفارغ الصبر، لشرائه مهما غلا ثمنه، وكأنهم فازوا بصيد ثمين، ليعودوا به إلى بيوتهم، مستبشرين فرحين، مؤملين أنفسهم بأَكْلَة شَهيَّة بعد طهوه بطريقة خاصة، لطعمه الطيب، وفوائده الصحية الجمة.
و(الجما) أنواع كثيرة، وأشكال متعددة، وألوان مختلفة، ويعرف بحسب لون القشرة، فمنه الأسود والأبيض والأحمر. فهي غذاء صحي متكامل.
تحتوي الكما على البروتين بنسبة 9% ومواد نشويه بنسبة 13% ودهن بنسبة 1% وتحتوي على معادن مشابهة لتلك التي يحتويها جسم الإنسان مثل الفوسفور والصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم. كما تحتوي على فيتامين "ب1 و ب2" وهي غَنِيَّة بفيتامين أ. كما تحتوي على كمية من النيتروجين بجانب الكربون والأكسجين والهيدروجين، وهذا ما يجعل تركيبها شبيهاً بتركيب اللحم، تحتوي أحماض أمينية الضرورية لبناء خلايا الجسم.
بعد الحصول على (الجما)، توضع في إناء عميق، وتنقع في الماء؛ لكي تتخلص أم البيت من الرمال العالقة بها، ثم تتولى حكها أو تقشيرها؛ لتتأكد من تنظيفها من التربة العالقة بها، ثم تقطع، أو تطهى دون تقطيع حسب حجمها. ومن عادات أهل الموصل طبخها مع البرغل وعدها وجبة غذاء رئيسة، تجتمع العائلة على المائدة لأكلها والتمتع بمذاقها. وفي شهر رمضان تطبخ مع المرقة والطماطم والبصل وتقدم مع البرغل أو الرز وتعد وجبة رئيسة في الفطور خلال شهر رمضان، وتتبع بكأس (طاسة) شنينة من لبن الخَاثِر في الربيع خاصة.
ولا بد من الإشارة إلى قضيتين: الأُولَى تتعلق برائحتها الطيّبة التي تملأ المكان الذي تطبخ فيه، فلا يستطيع الإنسان المقاومة، ويظل يتلمظ إلى أن تجتمع العائلة، وإذا حل رمضان الكريم فلا بد من انتظار موعد الإفطار. والأخرى: الطعم اللذيذ الذي يحدّث النفس بالتهام أكبر كمية ممكنة منها. وما أن يجلس أفراد العائلة حول المائدة حتى يبدؤوا بتناول (الجما) ليسكتوا عصافير معدهم، فتمتلئ البطون، وتهدأ العيون، وتقر بها الجفون. ولا يمكن لأي إنسان أن يصف (الجما) وصفاً مفصلاً، بيد أنه لا بد من أن يقوم بالتعرف بنفسه على هذا الطعم اللذيذ من خلال الحصول على وجبة مطبوخة على الطريقة الموصلية، حتى يمكنه الحكم على صحة ما ذكرناه. وقد تأكل (الكمأة) نية دون طبخ، لكنها عسرة الهضم، أما إذا طبخت فإنها تصبح سائغة الطعم، لَذِيذة المذاق، سهلة الهضم.
لقد اعتاد الأغنياء والميسورون من أهل الموصل، بعد ظهور المجمدات والثلاجات، على شراء كميات كبيرة من (الجما) أثناء ورودها إلى السوق في موسمها وعرضها للبيع، من أجل تخزينها مجمدة في المجمدات، وإخراجها وطبخها في الفصول التي تختفي فيها، ذَلِك أن موسمها ربيعي فقط، أما في الفصول الأخرى فإنها لا تظهر في الأسواق.
إن أفضل وقت للبحث عن (الجما) هو عند الفجر أو الأصيل حين تكشف أشعة الشمس الخفيفة، أي تغير بسيط يعتري سطح الرمال. وعند العثور عليه يجب حفظه في مكان مظلم، وبارد والأفضل وضعه في سلة، وعدم وضعه في كيس بلاستيكي، لتجنب فساده وتغير مذاقه.
ويبدو أن العرب كانت تعرف كيف تحتفظ به برهة من الزمن. يقال: إن الخليفة هشام بن عبد الملك كتب إلى عامل قد بعث إِلَيْه بكمأة: قد وصلت الكمأة وهي أربعون وقد تغير بعضها. فإذا بعثت شيئاً فأجد حشوها في الظرف بالرمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً.
وقد ورد في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ». وفي رواية: «دواءٌ للعين». يقال: إن الكَمْأة من المَنِّ، أي: من جنسه، تشبيها بالمنِّ الذي أُنزل على بني إسرائيل، لأنها لا تُغرس ولا تُسقى، ولا تُعتَمل، كما يُعتمل سائر نبات الأرض، وقد يكون معناها مِن مَنِّ الله وتَطَوُّلِه وفضله ورفقه بعباده، إذ هي من جُملة نِعمه. ويقال: "مِنَ المَنّ" أي مما منَّ الله به على خلقه بلا زرع ولا تكلف سقي.
هذه جولة سريعة مع (الكمأة) أو(الجما) أو(الفقع) أرجو أن أكون قد أعطيت نبذة سريعة عنها، وعن طرق طبخها، وطقوس أكلها، وفوائدها وأهميتها.
ملاحظة: المقالة مستلة من كتاب : "الموصل في منتصف القرن الماضي" ، من تأليف كاتب المقال
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
أَكْلَة شعبيَّة مفضلة
سمير بشير حديد
الكمأة أو(الكمي) في اللهجة الموصلية، وفي لهجة سكان حمام المنقوشة (الجما)، أو (الفقع) في اللهجة الخليجية، هي نبات فطري موسمي ربيعي، ينتظره الفُقَرَاء وسكان البادية والجزيرة وكثير من بلدان العالم، لا سيما العربية منها بفارغ الصبر؛ لكي يستخرجوه من باطن الأرض، ويعرضوه للبيع بأسعار مغرية، ليعيشوا من ثمنه، أما الأغنياء فإنهم ينتظرون موسماً تلو الآخر بفارغ الصبر، لشرائه مهما غلا ثمنه، وكأنهم فازوا بصيد ثمين، ليعودوا به إلى بيوتهم، مستبشرين فرحين، مؤملين أنفسهم بأَكْلَة شَهيَّة بعد طهوه بطريقة خاصة، لطعمه الطيب، وفوائده الصحية الجمة.
و(الجما) أنواع كثيرة، وأشكال متعددة، وألوان مختلفة، ويعرف بحسب لون القشرة، فمنه الأسود والأبيض والأحمر. فهي غذاء صحي متكامل.
تحتوي الكما على البروتين بنسبة 9% ومواد نشويه بنسبة 13% ودهن بنسبة 1% وتحتوي على معادن مشابهة لتلك التي يحتويها جسم الإنسان مثل الفوسفور والصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم. كما تحتوي على فيتامين "ب1 و ب2" وهي غَنِيَّة بفيتامين أ. كما تحتوي على كمية من النيتروجين بجانب الكربون والأكسجين والهيدروجين، وهذا ما يجعل تركيبها شبيهاً بتركيب اللحم، تحتوي أحماض أمينية الضرورية لبناء خلايا الجسم.
بعد الحصول على (الجما)، توضع في إناء عميق، وتنقع في الماء؛ لكي تتخلص أم البيت من الرمال العالقة بها، ثم تتولى حكها أو تقشيرها؛ لتتأكد من تنظيفها من التربة العالقة بها، ثم تقطع، أو تطهى دون تقطيع حسب حجمها. ومن عادات أهل الموصل طبخها مع البرغل وعدها وجبة غذاء رئيسة، تجتمع العائلة على المائدة لأكلها والتمتع بمذاقها. وفي شهر رمضان تطبخ مع المرقة والطماطم والبصل وتقدم مع البرغل أو الرز وتعد وجبة رئيسة في الفطور خلال شهر رمضان، وتتبع بكأس (طاسة) شنينة من لبن الخَاثِر في الربيع خاصة.
ولا بد من الإشارة إلى قضيتين: الأُولَى تتعلق برائحتها الطيّبة التي تملأ المكان الذي تطبخ فيه، فلا يستطيع الإنسان المقاومة، ويظل يتلمظ إلى أن تجتمع العائلة، وإذا حل رمضان الكريم فلا بد من انتظار موعد الإفطار. والأخرى: الطعم اللذيذ الذي يحدّث النفس بالتهام أكبر كمية ممكنة منها. وما أن يجلس أفراد العائلة حول المائدة حتى يبدؤوا بتناول (الجما) ليسكتوا عصافير معدهم، فتمتلئ البطون، وتهدأ العيون، وتقر بها الجفون. ولا يمكن لأي إنسان أن يصف (الجما) وصفاً مفصلاً، بيد أنه لا بد من أن يقوم بالتعرف بنفسه على هذا الطعم اللذيذ من خلال الحصول على وجبة مطبوخة على الطريقة الموصلية، حتى يمكنه الحكم على صحة ما ذكرناه. وقد تأكل (الكمأة) نية دون طبخ، لكنها عسرة الهضم، أما إذا طبخت فإنها تصبح سائغة الطعم، لَذِيذة المذاق، سهلة الهضم.
لقد اعتاد الأغنياء والميسورون من أهل الموصل، بعد ظهور المجمدات والثلاجات، على شراء كميات كبيرة من (الجما) أثناء ورودها إلى السوق في موسمها وعرضها للبيع، من أجل تخزينها مجمدة في المجمدات، وإخراجها وطبخها في الفصول التي تختفي فيها، ذَلِك أن موسمها ربيعي فقط، أما في الفصول الأخرى فإنها لا تظهر في الأسواق.
إن أفضل وقت للبحث عن (الجما) هو عند الفجر أو الأصيل حين تكشف أشعة الشمس الخفيفة، أي تغير بسيط يعتري سطح الرمال. وعند العثور عليه يجب حفظه في مكان مظلم، وبارد والأفضل وضعه في سلة، وعدم وضعه في كيس بلاستيكي، لتجنب فساده وتغير مذاقه.
ويبدو أن العرب كانت تعرف كيف تحتفظ به برهة من الزمن. يقال: إن الخليفة هشام بن عبد الملك كتب إلى عامل قد بعث إِلَيْه بكمأة: قد وصلت الكمأة وهي أربعون وقد تغير بعضها. فإذا بعثت شيئاً فأجد حشوها في الظرف بالرمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً.
وقد ورد في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ». وفي رواية: «دواءٌ للعين». يقال: إن الكَمْأة من المَنِّ، أي: من جنسه، تشبيها بالمنِّ الذي أُنزل على بني إسرائيل، لأنها لا تُغرس ولا تُسقى، ولا تُعتَمل، كما يُعتمل سائر نبات الأرض، وقد يكون معناها مِن مَنِّ الله وتَطَوُّلِه وفضله ورفقه بعباده، إذ هي من جُملة نِعمه. ويقال: "مِنَ المَنّ" أي مما منَّ الله به على خلقه بلا زرع ولا تكلف سقي.
هذه جولة سريعة مع (الكمأة) أو(الجما) أو(الفقع) أرجو أن أكون قد أعطيت نبذة سريعة عنها، وعن طرق طبخها، وطقوس أكلها، وفوائدها وأهميتها.
ملاحظة: المقالة مستلة من كتاب : "الموصل في منتصف القرن الماضي" ، من تأليف كاتب المقال
للعودة إلى الصفحة الرئيسة