أيـام... مع نهـر دجـلـة
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تشكل السباحة متعة ورياضة محببة لدى الكثير من العراقيين الذين يلجأون إلى نهر دجلة أو نهر الفرات، وملاذا من حرارة الطقس الموسمية. وتعد السباحة في نهر دجلة عند الموصليين من أهم الهوايات الرياضية التي يمارسها النّاس في فصل الصيف وبأعمار مختلفة، ويستمتعون بها.ـ
في هذه المقالة سنتناول رياضة السباحة في منتصف القرن الماضي أي خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، فقد كان الأولاد والشباب، وحتى الكبار، يقصدون جهة النهر لقضاء وقت ممتع والهروب من حر الصيف، والتركيز على ثلاث محطات رئيسة لتجمع النّاس لغرض السباحة والمتعة، هي: منطقة المستشفى قرب عين كبريت، وقرب الجسر العتيق (الجسر الحديدي)، وقرب الجسر الجَدِيد (جسر الجمهورية). لنبدأ بالمنطقة القريبة من (عين كبريت)، على الساحل الأيمن من نهر دجلة، أي تحت الجهف (الكهف)، قرب المستشفى الملكي (سابقاً) والجمهوري أو الزهراوي التعليمي (حالياً). كانت ثمة مقاهٍ صيفية مهيأة مؤقتا لموسم الصيف يرتادها المصطافون والراغبون في السباحة في النهر. كان المعنيون يستأجرون الأراضي من البلدية، لينشئوا عليها غرفا من الحصران القصبية (بواري) مثبتة بوساطة (المرادي) مفردها (مردي) مصنوع من جذوع أشجار القوغ أو اليوكالبتس غير السميكة تدعى (الجرْدَاغ)، وكان بعض من الهواة الذين يحبون قضاء الليالي الصيفية والتسامر في الليل اغلب الأوقات على ساحل نهر دجلة يتفننون بتصميمه فيجعلون حوله سوراً من الحصران ذاتها ليصبح للغرف فناء، وقد يقيمون مرافق أخرى.ـ
وعادة ما تبنى مساطب (أرصفة) من الحجر والإسمنت داخل (الجرْدَاغ)، وفي الوسط توضع كنبات للجلوس مصنوعة من الخشب، ومغلفة بالقماش المبطن بالصوف، أو قطع القماش الصغيرة. وكانت هذه المساطب تستخدم لجلوس القادمين الراغبين في السباحة بالنهر حيث توضع الملابس والحاجيات الشخصية على هذه الكنبة وتودع الحاجيات الثمينة كأمانة لدى المسؤول عن الجرْدَاغ.ـ
ومن التقاليد المتبعة في الجرْدَاغ قيام صاحبه بتقديم الشاي والحامض (نومي بصرة المجفف بعد نقعه وغليانه) للزبائن، أما ما كان يقدم إِلَيْهم من الماء، فكان ينقل من النهر ويوضع في "حِب الماء" المصنوع من الأواني الفخارية الكبيرة على غرار الخزان المعدني، إلا أن الأوّل يختلف عنه لاكتساب الماء الذي يحفظ فيه شيئاً من البرودة لتخلل الماء بين مساماته فيلامس الهواء فيترطب، وتوضع عادة مادة الشب أو الفحم في ماء الحِب ليشكل طبقة ثقيلة تعمل على تنقيته من الرواسب الطينية العالقة فيه والتي تتركز في القاع لكي يكون صافياً زلالاً يستخدم للشرب.ـ
الأستاذ الدكتور سمير بشير حديد
تشكل السباحة متعة ورياضة محببة لدى الكثير من العراقيين الذين يلجأون إلى نهر دجلة أو نهر الفرات، وملاذا من حرارة الطقس الموسمية. وتعد السباحة في نهر دجلة عند الموصليين من أهم الهوايات الرياضية التي يمارسها النّاس في فصل الصيف وبأعمار مختلفة، ويستمتعون بها.ـ
في هذه المقالة سنتناول رياضة السباحة في منتصف القرن الماضي أي خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، فقد كان الأولاد والشباب، وحتى الكبار، يقصدون جهة النهر لقضاء وقت ممتع والهروب من حر الصيف، والتركيز على ثلاث محطات رئيسة لتجمع النّاس لغرض السباحة والمتعة، هي: منطقة المستشفى قرب عين كبريت، وقرب الجسر العتيق (الجسر الحديدي)، وقرب الجسر الجَدِيد (جسر الجمهورية). لنبدأ بالمنطقة القريبة من (عين كبريت)، على الساحل الأيمن من نهر دجلة، أي تحت الجهف (الكهف)، قرب المستشفى الملكي (سابقاً) والجمهوري أو الزهراوي التعليمي (حالياً). كانت ثمة مقاهٍ صيفية مهيأة مؤقتا لموسم الصيف يرتادها المصطافون والراغبون في السباحة في النهر. كان المعنيون يستأجرون الأراضي من البلدية، لينشئوا عليها غرفا من الحصران القصبية (بواري) مثبتة بوساطة (المرادي) مفردها (مردي) مصنوع من جذوع أشجار القوغ أو اليوكالبتس غير السميكة تدعى (الجرْدَاغ)، وكان بعض من الهواة الذين يحبون قضاء الليالي الصيفية والتسامر في الليل اغلب الأوقات على ساحل نهر دجلة يتفننون بتصميمه فيجعلون حوله سوراً من الحصران ذاتها ليصبح للغرف فناء، وقد يقيمون مرافق أخرى.ـ
وعادة ما تبنى مساطب (أرصفة) من الحجر والإسمنت داخل (الجرْدَاغ)، وفي الوسط توضع كنبات للجلوس مصنوعة من الخشب، ومغلفة بالقماش المبطن بالصوف، أو قطع القماش الصغيرة. وكانت هذه المساطب تستخدم لجلوس القادمين الراغبين في السباحة بالنهر حيث توضع الملابس والحاجيات الشخصية على هذه الكنبة وتودع الحاجيات الثمينة كأمانة لدى المسؤول عن الجرْدَاغ.ـ
ومن التقاليد المتبعة في الجرْدَاغ قيام صاحبه بتقديم الشاي والحامض (نومي بصرة المجفف بعد نقعه وغليانه) للزبائن، أما ما كان يقدم إِلَيْهم من الماء، فكان ينقل من النهر ويوضع في "حِب الماء" المصنوع من الأواني الفخارية الكبيرة على غرار الخزان المعدني، إلا أن الأوّل يختلف عنه لاكتساب الماء الذي يحفظ فيه شيئاً من البرودة لتخلل الماء بين مساماته فيلامس الهواء فيترطب، وتوضع عادة مادة الشب أو الفحم في ماء الحِب ليشكل طبقة ثقيلة تعمل على تنقيته من الرواسب الطينية العالقة فيه والتي تتركز في القاع لكي يكون صافياً زلالاً يستخدم للشرب.ـ
ولمنع دخول الأتربة على (حِب الماء) يوضع فوقه غطاء مصنوع من خوص سعف النخيل أو القش... أما (الحِب) نفسه فيوضع فوق حامل من حديد يدعى "مْحَجَّلْ" أو حامل من الخشب يشبه القفص، وتحته إناء من الفخار(الناقوط) للاحتفاظ بقطرات المياه التي تسقط فيه والتي اعتاد الموصليون الإفادة منه في إعداد الشاي.
كان النزول إلى الجِرْدَاغ المجاور إلى (عين كبريت) عبر (99) تسع وتسعين درج تبدأ، من المستشفى الملكي (سابقاً) والجمهوري (الزهراوي التعليمي) حالياً حتى ضفاف النهر. وأما صاحب الجرْدَاغ في المرحلة التي عاصرتها فهو أحمد الجايجي (أبو عبد) وأبناؤه: عبد الوهاب وعبد الباري (موظفون)، أما الجايجية (جمع: جايجي) الذين يعملون معه فهم خالد ودواس، أحدهم يعمل بالعين والآخر بالجرْدَاغ (الجيخانة)... يتم تنظيف العين ورفع الطين والرواسب من قِبَل أبو عبد ورجاله في نهاية شهر آذار من كل عام، ويتم نصب الجرْدَاغ بالعين. وقد أهملت العين بعد وفاته، أي في منتصف السبعينات. كما كان أبو عبد يملك دكانا في ركن المقهى الواقعة على دورة المستشفى جوار بيت المرحوم مجيد توحلة وكان مشهورا ببيع القيمر (كيمر) بيت شلاوي على أن تتم التوصية بالطلب قَبْل يوم منه.ـ
ولابد لي هنا أن أشير إلى بعض ذِكرَياتنا أنا واصدقائي فقد كنا نقصد الجرْدَاغ عندما تكون معنا بعض الفلوس التي تغطي مصاريف الجِرْدَاغ، وهي بحدود عشرة فلوس للشخص الواحد. وفي حالة كوننا مفلسين فإننا نتجاوز الجرْدَاغ ونقصد حافة النهر لوضع حاجياتنا على الأرض، ويتطوع أصغرنا سناً بالجلوس قرب الملابس لحراستها والسباحة بالقرب منها، وفي كثير من الأحيان نتركها دون حارس لإحساسنا بالأمان، كما أنها عبارة عن دشداشة ونعال لا يطمع بهما احد... بعد خلع الدشداشة ننزل إلى النهر للسباحة والمتعة. فالسباحة في نهر دجلة لدى الموصليين تعد من أهم الهوايات الرياضية التي يمارسها الناس في فصل الصيف وبأعمار مختلفة، ويستمتعون بها.ـ
كان النهر في ذَلِك الوقت، أي بين سنتي: (1950 – 1970) عميقا عريضا شديد الانحدار سريع الجريان يمتد من رصيف الجرْدَاغ إلى الجهة المقابلة من النهر وهي الغابات، كما كان النهر يصل إلى حافة قلعة (باشطابيا) بل كان يغطي جزءاً من قاعدتها، بدليل أنه في بدء الموسم عندما يكون النهر عامرا يقفز بعض الشباب من أعلى قلعة باشطابيا إلى النهر مباشرة.ـ
أما في الجانب الآخر، أي الساحل الأيسر من النهر مقابل منطقة عين كبريت أي في جهة منطقة الغابات، فيتكون النهر في تلك المنطقة (جهة شمال الموصل) من فرعين يلتقيان عند المنطقة المقابلة لعين كبريت، يحصران بينهما جزيرة مملوءة بالأدغال يصعب اجتيازها. ولم يكن احد يستطيع في ذَلِك الزمن عبور نهر دجلة إلا من كان يجيد السباحة وإلا يكون مصيره الغرق، ومما يؤسف له أن هناك عائلات نكبت بغرق فلذات أكبادها في النهر، نتيجة عدم مقدرتهم تحمل صعاب السباحة في النهر عند تلك المنطقة.ـ
وما زلت أذكر أننا كنا مجموعة من فتيان وشبان محلَّة حَمَّام المَنْقُوشَة ومنهم أخي أمير الذي يكبرني بعام واحد، ومحمد صباح كشمولة أحد رياضيي المدينة في سباق الميدان، وصاحب اللياقة البدنية العالية، والذي يعد أفضل سباح بيننا، وزهير محمد كشمولة، وطه الحاج حسين، ومحسن شيت الكَلّوت، وغانم سعد الله مَيّالة، ونزار فضل محمد آل طِلِي... وآخرون من الأصدقاء الذين لا أتذكر أسماءهم، وقد كنا نعبر نهر دجلة من جهة عين كبريت إلى الجهة الأخرى، أي الغابات، التي كانت مهجورة غير مألوفة وموحشة. نصل الجهة المقابلة للنهر متعبين منهكين من شدة الجوع كنا نبحث عن شيء نأكله فندخل الغابة ونحصد السِعِدْ (وهو نبات عشبي معمر، له ريزوم طويل ورفيع حرشفي تظهر فيه عقد على هيئة انتفاخات معطياً درنات ممتلئة بالمواد الكيمائية) والبَجَنْجَل (الخَرُّوب) أو العاكول وهو نبات عشبي معمر دائم الخضرة شوكي يصل إلى ارتفاع 60 سم، (تحوي نبتة البجنجل على جلوكوز ومواد كربوهيدراتية ومواد عفصية وسكر وغير ذَلِك)، وعِرْقُ السوس، ونلهي معدتنا الجائعة بها.ـ
يتميز الساحل الأيسر من نهر دجلة في الجهة الشمالية من الغابات (أي مقابل فندق نِينَوَى في الوقت الحاضر والذي لم يكن موجوداً آنذاك) بوجود الروج الكبير (وهو عبارة عن مجرى مائي يمر فوق مجموعة صخور وسط النهر فتشكل تياراً مائياً شديد الجَرَيان) ثم الروج الصغير الذي يقابل عين كبريت. وقد كانت احلى لحظاتنا – نحن الشباب - هي عندما كنا (نْسَيِّسْ)، أي نمر سباحة من خلال الروج الكبير ثم نستمر بالسباحة مروراً بالروج الصغير ثم نعود سباحة إلى حيث كنا في الجرْدَاغ المجاور لعين كبريت، وغالبيتنا قد نالت قسطا من الرضوض والخدوش عند المرور من الروج الكبير والصغير، ثم نتناول الشاي أو الحامض ونلبس ثيابنا ونغادر متعبين منهكين متوجهين إلى مَحلاتنا.ـ
حقا انها أجمل أيام عمرنا فقد كنا نلعب ونلهو، والمَدِينَة يعمها الأمن والأمان وتسودها روح المحبة بين أولاد كل محلة، فهم أخوة متحابون متسامحون.ـ
كان النزول إلى الجِرْدَاغ المجاور إلى (عين كبريت) عبر (99) تسع وتسعين درج تبدأ، من المستشفى الملكي (سابقاً) والجمهوري (الزهراوي التعليمي) حالياً حتى ضفاف النهر. وأما صاحب الجرْدَاغ في المرحلة التي عاصرتها فهو أحمد الجايجي (أبو عبد) وأبناؤه: عبد الوهاب وعبد الباري (موظفون)، أما الجايجية (جمع: جايجي) الذين يعملون معه فهم خالد ودواس، أحدهم يعمل بالعين والآخر بالجرْدَاغ (الجيخانة)... يتم تنظيف العين ورفع الطين والرواسب من قِبَل أبو عبد ورجاله في نهاية شهر آذار من كل عام، ويتم نصب الجرْدَاغ بالعين. وقد أهملت العين بعد وفاته، أي في منتصف السبعينات. كما كان أبو عبد يملك دكانا في ركن المقهى الواقعة على دورة المستشفى جوار بيت المرحوم مجيد توحلة وكان مشهورا ببيع القيمر (كيمر) بيت شلاوي على أن تتم التوصية بالطلب قَبْل يوم منه.ـ
ولابد لي هنا أن أشير إلى بعض ذِكرَياتنا أنا واصدقائي فقد كنا نقصد الجرْدَاغ عندما تكون معنا بعض الفلوس التي تغطي مصاريف الجِرْدَاغ، وهي بحدود عشرة فلوس للشخص الواحد. وفي حالة كوننا مفلسين فإننا نتجاوز الجرْدَاغ ونقصد حافة النهر لوضع حاجياتنا على الأرض، ويتطوع أصغرنا سناً بالجلوس قرب الملابس لحراستها والسباحة بالقرب منها، وفي كثير من الأحيان نتركها دون حارس لإحساسنا بالأمان، كما أنها عبارة عن دشداشة ونعال لا يطمع بهما احد... بعد خلع الدشداشة ننزل إلى النهر للسباحة والمتعة. فالسباحة في نهر دجلة لدى الموصليين تعد من أهم الهوايات الرياضية التي يمارسها الناس في فصل الصيف وبأعمار مختلفة، ويستمتعون بها.ـ
كان النهر في ذَلِك الوقت، أي بين سنتي: (1950 – 1970) عميقا عريضا شديد الانحدار سريع الجريان يمتد من رصيف الجرْدَاغ إلى الجهة المقابلة من النهر وهي الغابات، كما كان النهر يصل إلى حافة قلعة (باشطابيا) بل كان يغطي جزءاً من قاعدتها، بدليل أنه في بدء الموسم عندما يكون النهر عامرا يقفز بعض الشباب من أعلى قلعة باشطابيا إلى النهر مباشرة.ـ
أما في الجانب الآخر، أي الساحل الأيسر من النهر مقابل منطقة عين كبريت أي في جهة منطقة الغابات، فيتكون النهر في تلك المنطقة (جهة شمال الموصل) من فرعين يلتقيان عند المنطقة المقابلة لعين كبريت، يحصران بينهما جزيرة مملوءة بالأدغال يصعب اجتيازها. ولم يكن احد يستطيع في ذَلِك الزمن عبور نهر دجلة إلا من كان يجيد السباحة وإلا يكون مصيره الغرق، ومما يؤسف له أن هناك عائلات نكبت بغرق فلذات أكبادها في النهر، نتيجة عدم مقدرتهم تحمل صعاب السباحة في النهر عند تلك المنطقة.ـ
وما زلت أذكر أننا كنا مجموعة من فتيان وشبان محلَّة حَمَّام المَنْقُوشَة ومنهم أخي أمير الذي يكبرني بعام واحد، ومحمد صباح كشمولة أحد رياضيي المدينة في سباق الميدان، وصاحب اللياقة البدنية العالية، والذي يعد أفضل سباح بيننا، وزهير محمد كشمولة، وطه الحاج حسين، ومحسن شيت الكَلّوت، وغانم سعد الله مَيّالة، ونزار فضل محمد آل طِلِي... وآخرون من الأصدقاء الذين لا أتذكر أسماءهم، وقد كنا نعبر نهر دجلة من جهة عين كبريت إلى الجهة الأخرى، أي الغابات، التي كانت مهجورة غير مألوفة وموحشة. نصل الجهة المقابلة للنهر متعبين منهكين من شدة الجوع كنا نبحث عن شيء نأكله فندخل الغابة ونحصد السِعِدْ (وهو نبات عشبي معمر، له ريزوم طويل ورفيع حرشفي تظهر فيه عقد على هيئة انتفاخات معطياً درنات ممتلئة بالمواد الكيمائية) والبَجَنْجَل (الخَرُّوب) أو العاكول وهو نبات عشبي معمر دائم الخضرة شوكي يصل إلى ارتفاع 60 سم، (تحوي نبتة البجنجل على جلوكوز ومواد كربوهيدراتية ومواد عفصية وسكر وغير ذَلِك)، وعِرْقُ السوس، ونلهي معدتنا الجائعة بها.ـ
يتميز الساحل الأيسر من نهر دجلة في الجهة الشمالية من الغابات (أي مقابل فندق نِينَوَى في الوقت الحاضر والذي لم يكن موجوداً آنذاك) بوجود الروج الكبير (وهو عبارة عن مجرى مائي يمر فوق مجموعة صخور وسط النهر فتشكل تياراً مائياً شديد الجَرَيان) ثم الروج الصغير الذي يقابل عين كبريت. وقد كانت احلى لحظاتنا – نحن الشباب - هي عندما كنا (نْسَيِّسْ)، أي نمر سباحة من خلال الروج الكبير ثم نستمر بالسباحة مروراً بالروج الصغير ثم نعود سباحة إلى حيث كنا في الجرْدَاغ المجاور لعين كبريت، وغالبيتنا قد نالت قسطا من الرضوض والخدوش عند المرور من الروج الكبير والصغير، ثم نتناول الشاي أو الحامض ونلبس ثيابنا ونغادر متعبين منهكين متوجهين إلى مَحلاتنا.ـ
حقا انها أجمل أيام عمرنا فقد كنا نلعب ونلهو، والمَدِينَة يعمها الأمن والأمان وتسودها روح المحبة بين أولاد كل محلة، فهم أخوة متحابون متسامحون.ـ
لم تكن الجرادغ منحصرة فيما تحدثنا عنه، فقد كانت تنصب في مناطق أخرى على ضفاف نهر دجلة، من أهمها المنطقة القريبة من الجسر العتيق وعلى ضفتي النهر. وكان السكان القريبون من الميدان وشَارِع نِينَوَى والمناطق القريبة من الجسر العتيق والجسر الجَدِيد (الحرية)، يترددون على تلك الجرادغ، وهذان الجسران هما الوحيدان في الموصل آنذاك.ـ
من أشهر الشخصيات التي كانت تؤجر أرضاً من البلدية ثم تقوم بنصب جرْدَاغ فيها وتقوم بتجهيزه قرب الجسر العتيق هو قاسم السباح (أبو يحيى) من عائلة البدراني. ومن ذَلِك جرْدَاغه قرب الجسر العتيق الذي كان يقوم فيه بتعليم الأولاد السباحة مقابل أجور شهرية يتفق عليها مع عائلة من يرغب بتعليم أولاده السباحة.ـ
في البدء يتعلم الأولاد السباحة من خلال شد الكرب (والكرب هو الجزء الأدنى من سعفة النخيل أي قاعدتها وهي غليظة وعريضة تمتاز بأنها خفيفة وتطوف على سطح الماء) يشد على ظهر المتعلم أو بطنه ليساعده على الطوفان وبعد فترة تدريب لبضعة أيام يتم التخلي عن هذه القطعة وتبدأ مرحلة جديدة من التدريب بدونها. ويلاحظ أن بعض الأولاد كانوا يستخدمون الأنابيب المطاطية (الجوب) في السباحة لحين تمكنهم منها.ـ
ولعل أشهر جرْدَاغ هو، جرْدَاغ جمعية الأخوة الإسلامية الذي يقع على الساحل الأيسر من النهر، وقد افتتحه الشيخ الراحل الأستاذ محمد محمود الصواف في 4 تموز 1953م، ونحمل عنه ذِكْرَيَات جميلة لا تنسى، فقد كان له دوره التربوي في حياة كثير من الشباب. ومن أبرز الشخصيات التربوية التي اذكت النشاط الثَقَافِي فيه إلى جانب الفعاليات الرياضية الأستاذان الجليلان غانم حمودات وعبد الحافظ سليمان والدكتور عبد الرزاق الحاج قاسم والسَّيِّد صبري الليلة والأستاذ عبد الباري الطالب والدكتور أحمد عبد الله الحسو وغيرهم.ـ
ولابد لنا هنا أن نذكر جرداغ باب الجسر بإدارة الأستاذ خالد فصولة الذي كان يجول في جنباته بعضلاته القوية يوجه هذا وينهر ذاك، حرصاً منه على أن يتعلم الأولاد السباحة بأقصر وقت وحفاظاً على العهد الذي قطعه مع ذويهم بأن يعلمهم السباحة خلال تلك العطلة الصيفية.ـ
وبالنسبة لنا– نحن أبناء محلة حمام المنقوشة- فقد تعلمنا السباحة بالممارسة والنزول اليومي إلى النهر قرب الجسر العتيق، قادمين من محلات حمام المنقوشة والمشاهدة وشارع الفاروق لنسلك طريق السرجخانة ثم نعبر الجسر العتيق حتى نصل إلى منطقة مخصصة للسباحة تحت الجسر. ولقد كنا محظوظين أن يكون مكان سباحتنا قريبا من الكب (وهو علوة كبيرة لبيع الشمزي والبطيخ وغيرهما) حيث كنا كلما احسسنا بالجوع هرولنا إِلَيْه لنشتري شمزي أو بطيخ حسبما توفره ميزانيتنا المتواضعة ثم نتحلق حولها ونتشارك في أكلها جميعا.ـ
كان بعض الأولاد ينتظرون وصول (الخيار) من (الشاروك) إلى منصة تنزيل أكياس أو شباك الخيار والترعوز، أو كما يطلق عليه في احدى لهجات المَدِينَة (التعغوز) والتي تصل محملة على ما يعرف بالسكلة (وهي تصنع من الخشب لنقل الخضراوات والمنتجات الأخرى مستخدما النهر والجداول المائية) ويجلس فوقها صاحبها مستخدما المجذاف لتوجيه الحمولة الطافية على سطح الماء إلى منطقة التنزيل، فإذا ما وصلت إلى منصة الوقوف يقوم بعض الأولاد بالغوص تحت الماء ويحدثون ثقبا في الكيس من الأسفل يمكنهم من اخذ بعض الخيار يسدون به جوعهم بعد عناء السباحة.ـ
بعد قضاء يوم كامل في السباحة نعود إلى البيت مصابين بضربة شمس متعبين جوعى، حتى إذا وصلنا بيوتنا ادَّعينا بأننا لم نصل إلى الشط دون أن يصدقنا احد... سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضربة الشمس والجوع، وهنا كنا ننعم (بأكل قتلة) من الأم أو الوالد أو من كبير العائلة وربما رافقها (شد فلقة) كما حصل مع أخي العزيز الأستاذ أزهر العبيدي عندما كان في عمر الثامنة وذهب إلى النهر للسباحة مع مجموعة أولاد محلة باب لكش وعاد إلى البيت فاذا بوالده (رحمة الله عليه) يستقبله بالضرب المبرح (وقتلوه قتلي تسوى !! وتستيهل ؟؟ وكتفو وشدو بالمحجل مال الصغداب).ـ
ليس في الأمر غرابة فقد اعتدنا على مثل ذَلِك من دون شك وأكلنا قتلات مثلها وأكثر، بيد أننا تعلمنا السباحة وهو أمر يستحق كل هذه التضحية. لقد تعلمنا السباحة بالعين القوية والضرب والقتل وشد الفلقة وفقدان أصدقاء أعزاء، وأصبحنا سباحين ماهرين نستطيع عبور نهر دجلة وهو في أوج عظمته مرتين في اليوم متحدين الانحدار والجريان الشديد بل كنا نعبر بشكل عمودي.ـ
ومن ذِكْرَياتي في تلك الفترة أي عندما كنت في عمر 10 سنوات، هذه الواقعة: خرجت مع ابن خالتي خالد محمود الفحام في الصباح الباكر ليوم 14 تموز 1958م وتوجهنا من محلة حمام المنقوشة نحو الإعْدادِيّة الشرقية ثم عبرنا الجسر الجديد، وكان كل شيء طبيعياً كبقية الأيام ولم نشعر بوجود أي شيء غير طبيعي، ونزلنا إلى النهر من الجانب الأيسر وبدأنا بالسباحة إلى وقت العصر تقريبا، ولم نشعر بالجوع والتعب من شدة المتعة بالسباحة، وأثناء عودتنا ونحن نتمشى على منتصف الجسر، وإذا بسيارات النجدة والشرطة تلاحقنا، فامتلأ قلب كل منا خوفا ورعبا ونحن لا نعلم ما هي المشكلة حيث لاحظنا عدم وجود أشخاص على الجسر سوانا، وبعد أن تأكدت الشرطة بأننا غير مشاركين في ثورة أو انقلاب أو لا نية لنا بعمل ثورة مضادة، فقد رافقونا إلى نهاية الجسر، وبعد تجاوز منطقة النادي العسكري تركونا. وعدنا سالمين وعند وصولنا إلى البيت علمنا بقيام ثورة 14 تموز 1958م وصدور قرار منع تجول في الموصل، التي لم نشارك فيها إلا من خلال السباحة في النهر. كان الأهل في قلق علينا لعدم معرفتهم مكاننا، خاصة وأن الموصل في حالة منع تجول فاستقبلنا استقبالا من النوع الذي لا أريد وصفه، حتى لا تشعرون بالحزن والعطف علينا.ـ
في أعقاب هذا الحدث، كنا نخرج ونذهب إلى النهر لأغراض السباحة، ولكن تحت مراقبة شديدة من العائلة، واذكر أنني وأخي أمير ذهبنا يوما إلى النهر للسباحة بالقرب من الجسر العتيق وكنا في عمر العاشرة أو الحادية عشرة، وبعد فترة قصيرة قررنا العودة إلى البيت وعند بداية الجسر شاهدنا والدتي (رحمها الله) تراقبنا من بعيد، تريد أن تتأكد من أننا نجيد العوم وحين دخلنا معها في نقاش عن سبب وجودها في هذا المكان اكتشفنا أنها في كثير من الأيام كانت تتبعنا وتراقب أماكن ذهابنا وتطمئن على ذَلِك ثم تعود إلى البيت. لقد كنا فعلا نخضع إلى رقابة شديدة ونحاسب على الأخطاء حسابا صارما، لكنها كانت أياماً جميلة هادئة وكان الناس أبانها يعيشون على المحبة والجيرة الحقة والأمن والأمان.ـ
***
ملاحظة: المقالة منشورة في كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي....مشاهد وذكريات"، الدار العربية للموسوعات ، بيروت 2013م.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيســة
من أشهر الشخصيات التي كانت تؤجر أرضاً من البلدية ثم تقوم بنصب جرْدَاغ فيها وتقوم بتجهيزه قرب الجسر العتيق هو قاسم السباح (أبو يحيى) من عائلة البدراني. ومن ذَلِك جرْدَاغه قرب الجسر العتيق الذي كان يقوم فيه بتعليم الأولاد السباحة مقابل أجور شهرية يتفق عليها مع عائلة من يرغب بتعليم أولاده السباحة.ـ
في البدء يتعلم الأولاد السباحة من خلال شد الكرب (والكرب هو الجزء الأدنى من سعفة النخيل أي قاعدتها وهي غليظة وعريضة تمتاز بأنها خفيفة وتطوف على سطح الماء) يشد على ظهر المتعلم أو بطنه ليساعده على الطوفان وبعد فترة تدريب لبضعة أيام يتم التخلي عن هذه القطعة وتبدأ مرحلة جديدة من التدريب بدونها. ويلاحظ أن بعض الأولاد كانوا يستخدمون الأنابيب المطاطية (الجوب) في السباحة لحين تمكنهم منها.ـ
ولعل أشهر جرْدَاغ هو، جرْدَاغ جمعية الأخوة الإسلامية الذي يقع على الساحل الأيسر من النهر، وقد افتتحه الشيخ الراحل الأستاذ محمد محمود الصواف في 4 تموز 1953م، ونحمل عنه ذِكْرَيَات جميلة لا تنسى، فقد كان له دوره التربوي في حياة كثير من الشباب. ومن أبرز الشخصيات التربوية التي اذكت النشاط الثَقَافِي فيه إلى جانب الفعاليات الرياضية الأستاذان الجليلان غانم حمودات وعبد الحافظ سليمان والدكتور عبد الرزاق الحاج قاسم والسَّيِّد صبري الليلة والأستاذ عبد الباري الطالب والدكتور أحمد عبد الله الحسو وغيرهم.ـ
ولابد لنا هنا أن نذكر جرداغ باب الجسر بإدارة الأستاذ خالد فصولة الذي كان يجول في جنباته بعضلاته القوية يوجه هذا وينهر ذاك، حرصاً منه على أن يتعلم الأولاد السباحة بأقصر وقت وحفاظاً على العهد الذي قطعه مع ذويهم بأن يعلمهم السباحة خلال تلك العطلة الصيفية.ـ
وبالنسبة لنا– نحن أبناء محلة حمام المنقوشة- فقد تعلمنا السباحة بالممارسة والنزول اليومي إلى النهر قرب الجسر العتيق، قادمين من محلات حمام المنقوشة والمشاهدة وشارع الفاروق لنسلك طريق السرجخانة ثم نعبر الجسر العتيق حتى نصل إلى منطقة مخصصة للسباحة تحت الجسر. ولقد كنا محظوظين أن يكون مكان سباحتنا قريبا من الكب (وهو علوة كبيرة لبيع الشمزي والبطيخ وغيرهما) حيث كنا كلما احسسنا بالجوع هرولنا إِلَيْه لنشتري شمزي أو بطيخ حسبما توفره ميزانيتنا المتواضعة ثم نتحلق حولها ونتشارك في أكلها جميعا.ـ
كان بعض الأولاد ينتظرون وصول (الخيار) من (الشاروك) إلى منصة تنزيل أكياس أو شباك الخيار والترعوز، أو كما يطلق عليه في احدى لهجات المَدِينَة (التعغوز) والتي تصل محملة على ما يعرف بالسكلة (وهي تصنع من الخشب لنقل الخضراوات والمنتجات الأخرى مستخدما النهر والجداول المائية) ويجلس فوقها صاحبها مستخدما المجذاف لتوجيه الحمولة الطافية على سطح الماء إلى منطقة التنزيل، فإذا ما وصلت إلى منصة الوقوف يقوم بعض الأولاد بالغوص تحت الماء ويحدثون ثقبا في الكيس من الأسفل يمكنهم من اخذ بعض الخيار يسدون به جوعهم بعد عناء السباحة.ـ
بعد قضاء يوم كامل في السباحة نعود إلى البيت مصابين بضربة شمس متعبين جوعى، حتى إذا وصلنا بيوتنا ادَّعينا بأننا لم نصل إلى الشط دون أن يصدقنا احد... سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضربة الشمس والجوع، وهنا كنا ننعم (بأكل قتلة) من الأم أو الوالد أو من كبير العائلة وربما رافقها (شد فلقة) كما حصل مع أخي العزيز الأستاذ أزهر العبيدي عندما كان في عمر الثامنة وذهب إلى النهر للسباحة مع مجموعة أولاد محلة باب لكش وعاد إلى البيت فاذا بوالده (رحمة الله عليه) يستقبله بالضرب المبرح (وقتلوه قتلي تسوى !! وتستيهل ؟؟ وكتفو وشدو بالمحجل مال الصغداب).ـ
ليس في الأمر غرابة فقد اعتدنا على مثل ذَلِك من دون شك وأكلنا قتلات مثلها وأكثر، بيد أننا تعلمنا السباحة وهو أمر يستحق كل هذه التضحية. لقد تعلمنا السباحة بالعين القوية والضرب والقتل وشد الفلقة وفقدان أصدقاء أعزاء، وأصبحنا سباحين ماهرين نستطيع عبور نهر دجلة وهو في أوج عظمته مرتين في اليوم متحدين الانحدار والجريان الشديد بل كنا نعبر بشكل عمودي.ـ
ومن ذِكْرَياتي في تلك الفترة أي عندما كنت في عمر 10 سنوات، هذه الواقعة: خرجت مع ابن خالتي خالد محمود الفحام في الصباح الباكر ليوم 14 تموز 1958م وتوجهنا من محلة حمام المنقوشة نحو الإعْدادِيّة الشرقية ثم عبرنا الجسر الجديد، وكان كل شيء طبيعياً كبقية الأيام ولم نشعر بوجود أي شيء غير طبيعي، ونزلنا إلى النهر من الجانب الأيسر وبدأنا بالسباحة إلى وقت العصر تقريبا، ولم نشعر بالجوع والتعب من شدة المتعة بالسباحة، وأثناء عودتنا ونحن نتمشى على منتصف الجسر، وإذا بسيارات النجدة والشرطة تلاحقنا، فامتلأ قلب كل منا خوفا ورعبا ونحن لا نعلم ما هي المشكلة حيث لاحظنا عدم وجود أشخاص على الجسر سوانا، وبعد أن تأكدت الشرطة بأننا غير مشاركين في ثورة أو انقلاب أو لا نية لنا بعمل ثورة مضادة، فقد رافقونا إلى نهاية الجسر، وبعد تجاوز منطقة النادي العسكري تركونا. وعدنا سالمين وعند وصولنا إلى البيت علمنا بقيام ثورة 14 تموز 1958م وصدور قرار منع تجول في الموصل، التي لم نشارك فيها إلا من خلال السباحة في النهر. كان الأهل في قلق علينا لعدم معرفتهم مكاننا، خاصة وأن الموصل في حالة منع تجول فاستقبلنا استقبالا من النوع الذي لا أريد وصفه، حتى لا تشعرون بالحزن والعطف علينا.ـ
في أعقاب هذا الحدث، كنا نخرج ونذهب إلى النهر لأغراض السباحة، ولكن تحت مراقبة شديدة من العائلة، واذكر أنني وأخي أمير ذهبنا يوما إلى النهر للسباحة بالقرب من الجسر العتيق وكنا في عمر العاشرة أو الحادية عشرة، وبعد فترة قصيرة قررنا العودة إلى البيت وعند بداية الجسر شاهدنا والدتي (رحمها الله) تراقبنا من بعيد، تريد أن تتأكد من أننا نجيد العوم وحين دخلنا معها في نقاش عن سبب وجودها في هذا المكان اكتشفنا أنها في كثير من الأيام كانت تتبعنا وتراقب أماكن ذهابنا وتطمئن على ذَلِك ثم تعود إلى البيت. لقد كنا فعلا نخضع إلى رقابة شديدة ونحاسب على الأخطاء حسابا صارما، لكنها كانت أياماً جميلة هادئة وكان الناس أبانها يعيشون على المحبة والجيرة الحقة والأمن والأمان.ـ
***
ملاحظة: المقالة منشورة في كتاب "الموصل في منتصف القرن الماضي....مشاهد وذكريات"، الدار العربية للموسوعات ، بيروت 2013م.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيســة