ومدى صلاحيتهما للملاحة النهرية
مع وصف للموصل ومحيطها الجغرافي
لوليم فرانسيس أينزورث
صلاح سليم علي
مقدمة:ـ
كان انحسار النفوذ العربي في الأندلس والبحر المتوسط سببا في نشوء أمبراطوريتين اوربيتين قويتين أعتمدتا على فكرة الغزو المضاد [الريكونكويستا] وتمديدها لتشمل الإستكشافات الجغرافية عبر المحيط الأطلسي وفي المحيط الهادي على اساس الأعتقاد ان غزو اراض غير مسيحية وفرض الكثلكة واللغة الإسبانية على سكانها يعد امرا مشروعا من منظور الغزاة سواء اتم الإستيلاء على تلك الأراضي ام لم يتم..فكان تراجع العرب من الأندلس بداية العصور المظلمة العربية التي تزامنت مع عصور النهضة الأوربية.. وكان الأسبان والبرتغاليين يؤسسون لمملكتين مستقلتين حتى قبل طرد اليهود والمسلمين من الجزيرة ألأيبيرية [الأندلس] 1492، بطريق التوسع الإستعماري في افريقيا وتدفق الثروات الطائلة من القارتين ألأميريكيتين حديثتي الأكتشاف ..وكان اكتشاف العالم الجديد 1492 دافعا قويا للدول الأوربية للتنافس ولم يكن العالم القديم بمنأى عن هذا التنافس الإستعماري الأوربي على الرغم من وجود امبراطوريات قديمة في آسيا وأفريقيا.. وعلى الرغم من دخول بريطانيا ميدان التنافس الإوربي على المستعمرات في مطلع القرن السابع عشر وبالتحديد مع تولي اليزابيث الأولى عرش المملكة، فأنها بلغت اقصى مجالات توسعها الأمبريالي في القرن التاسع عشر وكان الهاجس وراء توسع بريطانيا الإستعماري في القرن التاسع عشر حماية الطرق التجارية لمستعمراتها الآسيوية وبخاصة الهند..إلا ان تحول اهتمامها لينصب على الشرق الأوسط جاء بعيد فتح قناة السويس التي قلصت الكلفة واختصرت الوقت للوصول الى الهند ومستعمراتها في شرقي آٍسيا، فعمدت الى خداع السلطان العثماني بأطلاق يدها في قبرص بذريعة حمايته من روسيا في الوقت الذي كانت تريد الهيمنة على قبرص لحماية قناة السويس..وفي عام 1875 اضطر الخديوي اسماعيل على بيع حصة مصر من اسهم قناة السويس لتسديد جانب من ديونه لأوربا لقاء قرابة اربعة ملائيين جنيه سترليني لبريطانيا مما فتح الباب على مصراعيه للتدخل البريطاني في الشؤون المصرية والسودانية (كون السودان كانت ملحقة بمصر)، وقد تمخض هذا التدخل عن احتلال مصر عسكريا بعد مواجهة الجيش المصري في تحالف ضم فرنسا وبريطانيا ومرتزقة هنود عام 1882..وبذريعة مواجهة التيار القومي الإسلامي بقيادة زعيم اول ثورة عربية ضد الهيمنة الأجنبية في العصر الحديث [عراقي الأصل] أحمد عرابي باشا..ـ
ولعل اخفاق بريطانيا في حملة جاسني لأستكشاف مدى صلاحية نهري دجلة والفرات للملاحة كان واحدا من الأسباب التي دفعت بريطانيا الى وضع اوراقها كلها تقريبا في السلة المصرية..غير ان قناة السويس لاتعني نهاية المصالح البريطانية الستراتيجية والإقتصادية في بلاد الرافدين..وهي مصالح سرعان ماعادت الى التوقد من جديد إثر أكتشاف النفط في العراق ودخول المانيا كقوة تنافسية جديدة ميدان صراع المصالح في الشرقين الأدنى والأوسط وتمويلها لخط سكة حديد برلين بغداد بهدف الوصول الى الخليج وتعزيز قوة تركيا المتحالفة معها ضد بريطانيا وروسيا.. لذلك تلقت حملة استكشاف دجلة والفرات دعما خاصا وقويا من الملك وليم الرابع والبرلمان الأنكليزي وشركة الهند الشرقية، فضلا عن تشجيع شخصيات ادبية معروفة كالروائي والشاعر [توماس لوف بيكوك] صديق الشاعر [شيللي] وكان يعمل في شركة الهند الشرقية..ويتبنى فكرة جاسني حول امكانية تحويل الفرات الى ممر مائي الى الهند..ـ
وفي سياق البحث عن ممرات مائية تعوض الأنكليز عن المرور عبر رأس الرجاء الصالح [رأس الأعاصير] لتصل الى الهند ، وضعت بريطانيا نصب اعينها استخدام نهري دجلة والفرات قبل البدء بحفر قناة السويس بثلاثة عقود.. [ولابد من الإشارة هنا الى ان فكرة ربط البحر الحمر بالمتوسط كان قائد الحملة الفراتية جاسني هو من اقترحها على فرديناند دي ليسيبس الذي اوكلت له مهمة تنفيذ مشروع قناة السويس]..وكان هدف الحملة استخدام نهري دجلة والفرات للملاحة النهرية وصولا الى الهند..فضلا عن وضع خرائط للمنطقة ودراستها من النواحي الجغرافية والإقتصادية والجيولوجية والتعرف على مواردها وامكاناتها بالتفصيل فكان فريق العمل المؤلف من ضباط ومتخصصين في العلوم المختلفة يعملون بانسجام لجمع المعلومات وتوثيقها فتم وضع خارطة لشمالي سورية ودراسة نهر الفرات من النواحي كافة لتحديد عمقه على امتداد مجراه وحتى الخليج العربي كما تمت دراسة شمالي بلاد الرافدين و دراسة نهر دجلة صعودا من القرنة الى مسافة 400 ميل شمالا ومن بغداد الى سامراء ثم مجددا من اعالي دجلة وحتى بغداد بقيادة هنري بلوسا لنج الذي وضع خارطة تفصيلية لنهر دجلة، وتمت دراسة الأراضي الممتدة بين نهري دجلة والفرات، وقام اعضاء من فريق الحملة بدراسة جيولوجية شاملة لحوض الفرات بدءا من جبال طوروس بينما قام فريق آخر بجمع العينات البيولوجية ودراسة انواع الحياة النباتية والحيوانية والموارد المعدنية المتوفرة في الأرض وانواع الصخور في الأراضي المحيطة بنهري دجلة والفرات كما قاس عدد من اعضاء الحملة ارتفاعات الجبال ودرسوا خليج الأسكندرونة والأسكندرونة نفسها ونهر العاصي والأراضي المحيطة بهما ..وكان جاسني يدون الملاحظات عن المواقع الأثرية والتاريخية في الطريق كبئر يعقوب والبوابات القليقية التي عسكر عندها الأسكندر المقدوني ومر بها زينوفون ووصفها، وعدد من القلاع القديمة والبوابات كبوابة الحديد او بوابة تيمور، ثم مرت الحملة بجيحون ودرست مستويات الغرين فيه وعادت الى قرة طاش لتمر بالبوابات البيلينية قبل عودتها الى انطاكية وقام اللفتنانت كليفلاند والسادة أيدن وكارلوود وفيتزجيمس بأستكشاف نهر العاصي ودراسته ..وكانوا بالإضافة الى الضابطين هكتور وبيل يقومون بأصلاح وتوسيع الطريق بين مصب العاصي وانطاكية بينما قام الميجر ايستكورت والدكتور ستاونتون بزيارة الوالي في دمشق.. وكلف اللفتنانت لينج والميجر ايستكورت، فضلا عن ذلك، بتصليح الطريق بين انطاكية وجسر الحديد.. وقبل عودتهما مرا ببعلبك وقاما بدراسة غابات السدر اللبناني ..ـ
وبذلك تم فتح واستقصاء بلاد جديدة امام الملاحة والتجارة، ولم تكن المهمة سهلة لأن القاربين البخاريين (دجلة) و (الفرات) والمصنوعين من الحديد ومعهما المعدات توجب نقلهما مفككين من البحر عبر طرق نهرية وبرية وعرة وتوجب استخدام ثيران قوية وبغال وجمال وعربات وطوافات (أكلاك) عند الحاجة ولاسيما وان سخانات الماء المولدة للبخار ثقيلة وكذلك جرس الغوص المستخدم لسبر المناطق العميقة وقعور الأنهار...وكان حملها ونقلها وجرها بعربات صنعت لهذا الغرض وبلغ عددها 27 عربة، فضلا عن استخدام 841 جملا و 160 بغلا وعددا كبيرا من الثيران يتطلب جهودا جبارة ..وترتب على جاسني ورجاله قطع طريق في مرتفع متعرج يحول دون بلوغ سهل حلب بأستخدام رافعات وهيمات احيانا لرفع العربات بضعة انجات فحسب أو الحبال والسلاسل من الجانب المنحدرللمرتفع..وكانت القوافل توقف هنا وهناك من قبل سلطات الباشا بهدف التأخير لأن الحملة توافقت مع الحرب المصرية بقيادة محمد علي باشا وابنه من جهة والسلطان العثماني من جهة ثانية ..فاصبحت سورية [كما هو الحال في معظم العصور أرض معركة]، وكانت السلطات المصرية في سورية تشك بنوايا الحملة وبخاصة ازاء رفع العلم العثماني الى جانب علم بريطانيا على السفينتين [ولا أدري ان كان الأنكليز قد أخفوا العلم التركي في سورية]..ولكون الحملة تتألف من 85 ضابطا ومتخصصا بريطانيا..بما يترك انطباعا ان المهمة عسكرية او شبه عسكرية، وهي في جوهرها مهمة تهدف بريطانيا من ورائها الى تحقيق أهداف جيو سياسية وستراتيجية بطرق تكنولوجية..بينما تصورالعديد ان هدف البريطانيين [الفرنج] هو نقل جنود من مصر لأحتلال بغداد وانهم في خدمة الوالي المصري في الوقت الذي كانت عيون الوالي المصري، الذي لايرحب بفكرة ممر مائي عبر الفرات يقلل من اهمية الطريق البري عبر مصر، يبذلون قصارى جهودهم لعرقلة الحملة على نحو غير مباشر كتحريض العمال على ترك العمل او تأجير الحيوانات المستخدمة للحمل ونقلها الى اماكن اخرى ..وتنضيب موارد تحتاجها الحملة من الأسواق..وغير ذلك..ـ
بدء الحملة:ـ
بدأت حملة جاسني ببناء قاربين بخاريين في مدينة نيوكاسل البريطانية وتمت تسمية القاربين [الفرات ودجلة] حتى قبل نقل اجزائهما الى مستودع عند مصب العاصي اسماه البحارة [اميليا ديبوت] ومن ثم الى قرية [قزل برج] على العاصي ومنها الى نهر [قرة صو] بواسطة اكلاك ..وترتب على الفريق حمل القاربين على عربات مسافة أكثر من 110 اميال قبل الوصول الى نقطة انطلاقهما عبر الفرات من مدينة البيرا[ بيره جيك] في 16 آذار عام 1836 في مكان كان تدفق المياه في مجرى الفرات غزيرا وبتوديع حافل من قبل اهالي البيرا وممثلين من الحكومة العثمانية ومن حلب ودمشق مع اطلاق 21 إطلاقة مدفع من القاربين الفرات ودجلة بالمناسبة ردت عليهم الحامية العثمانية باطلاقة مدفع على سبيل التحية ...فاتخذ القاربان سبيلهما في الفرات حتى عبرا الحدود التركية الى جرابلس [قرقميش] التاريخية .. ثم بقلعة نجم الشهيرة القريبة من منبج وصولا الى بالس ليمروا بقلعة جعبر ومنها الى الرقة التي نزلوا فيها حيث قام اللفتنانت مورفي باجراء قياسات فلكية محاكاة لقياسات قام بها من قصر هارون الرشيد في المكان نفسه الفلكي العربي البتاني قبل قرون ..وقام الدكتور هلفر وزوجته بجمع عينات نباتية وحشرية كما درجا على ذلك في كل المحطات التي تمر بها الحملة، ثم مرت الحملة بدير الزور ومنها الى قلعتي حلبية [ قلعة الملكة زنوبية على الضفة الغربية للفرات] وزلبية [مدينة آشورناصربال الثاني "نيبارت آشور" على الضفة الشرقية للفرات] المتقابلتين ، ثم بقلعة الصالحية قبل الوصول الى البوكمال بعشرين كيلومتر ..وكان اعضاء الحملة يغادرون القارب في كل هذه المدن والقلاع والخرائب التي يمرون بها لأجراء دراسات وأخذ ملاحظات عليها وتدوينها كجزء من متطلبات الحملة..وبدافع حب الإستطلاع لأن كل مايصادفهم يعد جديدا ومثيرا بالنسبة لهم ولتنوع اهتماماتهم واختصاصاتهم الشخصية والعلمية..وبعد تجاوز الحملة للقائم واقترابها من عانة وراوه في الأنبار، تبلدت السماء بالغيوم من جهة واختلطت الأمطار الغزيرة بزوبعة ترابية من جهة الصحراء صاحبتها عاصفة رعدية ادت الى ارتفاع امواج الفرات وغرق [دجلة] بمافيها وعليها من معدات وبحارة في مكان مقابل [لقرية عزرا] [التي يحتمل ان يكون الاشوريون قد ارسلوا اليها اسرى يهود في طريق عودتهم من غزو لمملكتي جودا أواسرائيل مما يفسر سبب تسميتها بقرية عزرا] ..وكان من بين الغرقى 20 بحارا ومن ضمنهم اللفتنانت كوكبورن وريجارد بلوسا لنج شقيق هنري بلوسا لنج قائد السفينة دجلة والثاني في طاقم القيادة بعد جاسني في حملة الفرات ..وقد عومت الأمواج العالية جثامين 14 بحارا ورمتهم في حقل للذرة حيث عثر عليهم وقد شوهت النسور ملامحهم ثم دفنوا في المكان نفسه.. [ولم اتمكن من تحديد موقع غرق دجلة بين القائم وعانة لعدم ورود اي ذكر لتلك القرية "عزرا" او مايقارب تصحيفا لها وعنها غير مصادر الحملة الفراتية، وهي بالتاكيد غير "خربة الدنيا" التي تشير الى موقع اثري قريب من المنطقة نفسها ولعلها قريبة من "العبيدي" إذ يذكر مصدر أن غرق السفينة دجلة حدث في نقطة في الفرات تبعد 85 ميلا الى الغرب من عانة وراوة..وتذكرالمصادر ان عاصفة مماثلة كانت قد ضربت الجيش الروماني بقيادة جوليان في المنطقة نفسها]...وكان جاسني الأكثر حزنا لأنه أخفى على البحارة امرا من الحكومة البريطانية تلقاه قبل يوم من غرق دجلة يقضي بأيقاف الحملة غير ان رغبته القوية بمواصلة الرحلة دعته الى ابقاء الأمر سرا ..وقد سلمت سفينة الفرات لتواصل رحلتها الى هيت فالفلوجة فالحلة فالديوانية ومنها سوق الشيوخ [بما يؤكد ان التسمية جاءت قبل ولاية مدحت باشا على العراق]..وصولا الى القرنة ومنها الى البصرة في 18 حزيران 1836 .. قاطعة بذلك اكثر من 1400 ميلا من بيراجيك في رحلة شاقة ومأساوية وجميلة في الوقت نفسه استغرقت ثلاثة أشهر.. وكانت السفينتين تحملان على متنيهما 85 بحارا وعالما فكانت الفرات تحتضن 13 بحار عربيا وطباخ زنجي اميركي، ومترجم عراقي موصلي هو كريستيان رسام الذي اصبح فيما بعد قنصلا لبريطانيا في الموصل، وقد التحق بالسفينة مسافران غايتهما الوصول الى بوشهر للحاق بأميرين أفغانيين مزعومين كانا قد باعاهما مجوهرات لقاء اموال ظهر ان المجوهرات مزورة..وهما الدكتور هلفر وزوجته الكونتيسة نوستيز التي كتبت عن الرحلة على لسان زوجها في المجلد الثاني من كتابها [رحلة في بلاد الرافدين وبرنيش واراض أخرى] وكذلك في كتابها [الممر الفراتي الى الهند]..وهي المرأة الوحيدة في الحملة الفراتية وكانت تصاحب زوجها في جولاته لجمع عينات من النباتات والحشرات طيلة الرحلة واهتمت بوصف الناس المقيمين على ضفتي الفرات وبخاصة النساء..ونزلت وزوجها في ضيافة القنصل البريطاني في البصرة ومنها الى بوشهر فكلكتا ثم واصل الدكتور هلفر رحلته الى بورما البريطانية حيث قتل بسهم مسموم وجهه اليه احد المتوحشين في جزيرة كان يجمع فيها الحشرات والبذور ونماذج نباتية..وكان هلفر قد اقترح على الحكومة الهندية تربية دود القز لأنتاج الحرير لملائمة مناخ الهند لنمو اشجار التوث وتطوير دود القز..اما السفينة دجلة فكان على متنها 12 ملاحا عربيا وعشرين ضابطا وعالما بريطانيا وبضمنهم هنري بلوسا لنج قائد السفينة، وشقيقه ريجارد الذي غرق مع دجلة، واللفتنانت كوكبورن الذي غرق ايضا مع دجلة وجون بيل المعروف برجل تيودوروس الإنكليزي الذي تمكن من النجاة سباحة بعد غرق السفينة دجلة ليرحل من البصرة الى اثيوبيا ويلتقي بامبراطور اثيوبيا ثيودوروس الذي قربه وعينه رئيسا لوزرائه وكان جون بيل هذا قد انقذ الأمبراطور ثيودوروس من محاولة استهدفت حياته ولكنه دفع حياته هو ثمنا لذلك..ـ
وقد اختار جاسني الرجال الذين صاحبوه في حملته الفراتية من ذوي الخبرة في الملاحة وفي الشرق الأدنى فقد عمل الكابتن هنري بلوسا لنج في الأسطول الهندي ثم في فريق لمسح الشاطيء العربي من الخليج العربي وكان مترجما باللغات العربية والفارسية والهندوستانية ومفاوضا مع القبائل العربية وعمل مساعدا للجنرال جاسني في حملته الفراتية ومسؤولا للبريد عبر دمشق وبغداد وعين مساعدا للمشرف على الأسطول الهندي وقبطانا للسفينة هاستينغ في الأسطول البريطاني بعد عودته الى بريطانيا من الحملة الفراتية..اما شقيقه ريجارد بلوسا لنج فكان لفتنانت في قوة المشاة البنغالية وقد غرق في اثناء خدمته على متن السفينة دجلة..وكان عمل بصحبة اخيه في اعداد رسو الحملة في أنطاكية ثم اختار هنري لنج الموقع الذي اطلق عليه [مرسى وليم] في بيراجيك على الفرات لأستلام السفن المرسلة قطعا من انكلترة لأعادة تجميعها هناك..وكان يقوم بوظيفة التفاوض مع شيوخ القبائل العربية على ضفتي الفرات وهي مهمة تتطلب مرونة عالية ولباقة وحكمة..وبعد عودة جاسني الى انكلترة عام 1837، تولى لنج زمام قيادة الحملة وبطاقة متميزة ارتقى دجلة حتى سامراء ثم نجح في الوصول الى منابع دجلة وقام بقياسات فلكية ورياضية وطوبوغرافية من نينوى حتى بابل منجزا خارطة دجلة ومحيطها الجغرافي مائيا وطوبوغرافيا عام 1839، كما كتب لنج مقالا عنوانه [ملاحظة حول جانب من نهر دجلة بين بغداد وسامراء]..وينبهنا جاسني الى ضرورة التمييز بين هنري بلوسا لنج رفيقه في الرحلة والكابتن وليم فرانسيس لنج الذي درس نهر الأردن والبحر الميت وينتسب للأسطول الأميركي وليس البريطاني ..وكان السير هنري راولنسون قد اثنى على هنري بلوسا لنج بقوله (ان ملاحظاته دقيقة ورائدة ويتميز بمواهبه عالما ولسانيا ويتمتع بلطف المعشر والمرونة والقدرة على التفاهم وكسب احترام اصعب المتفاوضين وثقة المشارقة المتشددين) .. وقد انتقل ليعيش في باريس حيث وافته المنية عام 1873..ومن الضباط الذين اعتمد عليهم جاسني في حملته الفراتية ادورد كارلوود الذي بذل جهدا كبيرا في نفل السفينتين عبر المسارالشاق[ 140 ميلا] والخالي من الطرق الممهدة من منطقة انطاكية الى بيراجيك وبجهده في انقاذ الفرات بعد غرق مرافقتها دجلة في الطريق الى عانة. ومن الضباط الذين اعتمدهم جاسني جيمس فيتزجيمس الذي تطوع بعد انتهاء الحملة في حمل بريد شركة الهند الشرقية الى لندن..وبعد الوصول الى لندن التقى بكارلوود وريجارد كليفلاند زميليه في الحملة وحصلا على ترقية من الأدميرالية البريطانية بعد جهود جاسني لأن الأدميرالية لم تعتبر عملهم في الحملة الفراتية جهدا بحريا...ومن الضباط الكابتن هنري ايدن الذي خدم في البحر المتوسط والتحق بالحملة الفراتية ليصبح عام 1864 ادميرالا في البحرية البريطانية..ـ
وضم طاقم الحملة الفراتية علماء متميزين: فبالإضافة للدكتور الألماني هلفرعالم الحشرات والنبات واللفتنانت مورفي عالم الفلك، هنالك الجراح والرسام اندرو اتلمر ستاونتون غير ان العديد من رسومه ومخططاته ضاع في مياه الفرات عندما ضرب الإعصار دجلة وأغرقها..وتمكن هو وشقيقه من السباحة والصعود الى الفرات التي نجت من الحادثة المميتة لتواصل طريقها الى البصرة، والمترجم كريستيان انطونيو رسام الذي يخبرنا جاسني عنه ان جده كان قد هاجر الى الموصل من ساحل المالابار وان ابيه من كبار رجال الدين في الكنيسة النسطورية، وانه الأبن الأكبرله وعندما كان يافعا صاحب قافلة تجارية الى جزيرة العرب ثم عمل في كلية مالطا لاحقا في ترجمة المخطوطات العربية، والتحق بعدئذ بالحملة الى الفرات للعمل بصفة ترجمان للحملة ..وبعد عودته الى بريطانيا كلفته الجمعية الجغرافية الملكية وجمعية النهوض بالمعرفة المسيحية برحلة الى شمالي العراق بصحبة اينزوورث، الجراح والجيولوجي وعالم الأحياء والرحالة الشهير الذي درس الجراحة وعلوم الأرض في أدنبرة وباريس..ودرس مرض الكوليرا وقدم دراسة رائدة في هذا المجال، قبل ان يصار الى اختياره جراحا وجيولوجيا للحملة الفراتية لما يتميز به من قوة الملاحظة وتعدد الإختصاصات والإهتمامات..وتجدر الملاحظة الى ان رحلة اينزوورث بصحبة كريستيان رسام الى شمالي العراق والموصل تلك هي الثانية إذ كانت الأولى بعيد انفراط عقد الحملة الفراتية في البصرة وانتقال اعضائها في اتجاهات مختلفة كما اسلفنا.. وكانت تلك الرحلتين الى العراق فضلا عن خدمته في الحملة الفراتية سببا في تعيين كريستيان رسام قنصلا بريطانيا في الموصل ونائبا للقنصل البريطاني للفترة من 31 كانون الأول 1839 ولغاية عام 1865.ـ
زيارة أينزوورث للموصل 1837:ـ
تعد زيارة وليم فرانسيس اينزوورث بصحبة كريستيان رسام الأولى للموصل 1836- 1837جزءا مكملا لحملة جاسني الفراتية وقد تناولها ضمن كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية 1888]، وهي غير زيارته الثانية بين عامي 1839و 1840التي غطاها في كتابين اولهما [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين وارمينيا (ب. ت)]، والذي يتضمن دراسة جيومورفولوجية للموصل ضمنها ملاحظات سابقة.. كما الف كتابا ثالثا عن رحلته عنونه: [بحوث في بلاد آشور وبابل وكالديا كجزء من جهود الحملة الفراتية 1838]، وتناول ادبيات الرحلة الفراتية في كتاب رابع عنونه:[رحلات في أثر العشرة آلاف يوناني، 1844]، وفي كل زيارة يضيف معلومات جديدة على المعلومات التي غطتها زيارته السابقة او كتابه السابق..وفيما يأتي وصفه للموصل كما ورد في كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية والذي يحمل تاريخ اصدارعام 1888 كما ورد في نسخة الكترونية..وتجدر الإشارة الى ان هذه الكتب متوفرة بنسخ الكترونية لمن يرغب في الإستزادة من المعلومات حول الحملة الفراتية وما صاحبها وانبثق عنها من ادبيات رحلة وتقارير وخرائط..ويبدو ان تأخر نشر كتابه عن حملة الفرات كان بدافع انتظار ظهور كتاب جاسني عن الرحلة وللسبب نفسه جاء انتظار السيدة هلفر قبل نشر كتابها الذي تضمن في الجزء الثاني منه وصفا عن الرحلة، وفيما يأتي حديث أينزوورث عن الموصل:ـ
ـ(كان السيد رسام من أهالي الموصل، وكان غائبا عنها لسنوات عديدة فاستقبلنا في بيت عمه [وربما يقصد خاله لأن الكلمة الأنكليزية قد تعني عم او خال] وكان يشغل وظيفة مهمة لدى الباشا، في افضل احياء المدينة..ولم اكن بسبب ظروف الزيارة، ارغب بالضغط على صديقي الطيب [كريستيان رسام] لنغادر [الموصل] باسرع وقت [ ليتيح المجال لكريستيان في رؤية اسرته ورؤية اسرته له]، فاسترحنا على الرغم من اني لم اجد من احدثه مما تسبب بإزعاجي قليلا ..وكان السيد رسام [هرمز رسام] شقيق السيد [كريستيان رسام] الذي ساعد فيما بعد السير اوستن هنري لايرد في تنقيباته في نينوى وتميز هو ايضا بأستكشافاته، شابا صغيرا واعدا بالغ الوسامة، ولم اكن أفكر في ذلك الحين ان قدري سيقتضيني امضاء اشهرا في انتظار ذوبان الثلوج في الجبال في مكان ضيق كهذا...حيث يترتب الحصول على حاجات الحياة اليومية كاللحم والطيور [الدجاج] والبيض والحليب، والخضراوات كالبيذنجان والباميا والرز والذرة والقمح والطحين والشوفان وكل ذلك من زراعة الريف الموصلي، ولكن شيئا من النبيذ أوالبيرة أوحتى العرق لم يكن متوفرا.. والشراب الوحيد المتوفر هو الحليب بتحولاته واشكاله المتنوعة [لبن شنينة، الخ] والقهوة والنرجيلة.ـ
وبعد زيارة روتينية للباشا، اخذني رسام الى كنائس الموصل الكلدانية والسريانية الكلدانية والرومانية الكاثوليكية واليعقوبية ..ولأنهم طوائف مضطهدة فإن كنائسهم تقع تحت مستوى الأرض ويدخل اليها بدرج وبعد تجاوز ازقة متعرجة ضيقة، وذلك للحيلولة دون دخول الخيالة الأتراك اليها لأنهم [الأتراك] غالبا مايستخدمون المقابر الموجودة فيها كاسطبلات لخيولهم.. ولاحظت ان الكنائس كلها تعترف بسيادة البابا ماعدا اليعقوبيين ونجد فيها صورا وزخارف اما الكنائس اليعقوبية ففيها قليل من ذلك..والكنائس عينها صغيرة جدا وكل منها تتفاخر، بسبب عدم وصول الطباعة، بنسختها من الكتاب المقدس..ورأيت مخطوطة للكتاب المقدس تعود الى 609 للميلاد ومازالت في حالة جيدة ويسيرة القراءة..وكنت اتشكك بتاريخها ولكني لم أشأ تشويه حسن استقبالهم لي بشكوك منبوذة ولأن ذكريات المسيحية المبكرة تحفها عواطف شجية..وكنت قد تأثرت كثيرا بمشهد امرأة حفرت على قبر ابنها حزامه وهو رمز لعبادة اهوارامزدا [المجوسية] وخنجره الصغير ومحبسه وكتابه...وكان المحبس ومابرح تعويذة او رقية من السحر..ونحن نفترض بأننا قد تجاوزنا تلك المعتقدات بصفتها خرافات قديمة ، ولكنها مازالت تربط الناس احدهم بالآخر من خلال لمسات صغيرة مألوفة وهي من الصغر بحيث تغيب كثيرا عن ملاحظتنا مع ذلك فلها وزنها الهائل بما لها من دلالة وقوة..وليس لمثل هذه الأشياء صلة او ان صلتها طفيفة بعبادة الله بل وتعتبر مشؤومة ان هي وضعت فوق تلك العبادة فتعد لذلك السبب مجرد خرافات..ونحن نؤكد اننا لانتأثر بتلك الخرافات القديمة، ولكن مع ذلك لا نقدر ان نتقدم للخطوبة بدون خاتم زواج...فانا احب الخرافات لأنها تربط الناس بأواصر غير مباشرة ولكنها قوية في الوقت نفسه..والمسيحي الذي يموت خارج اسوار الموصل، لايسمح لأهله بأن يدفنوه داخل المدينة..ولعل السبب يعود في جانب منه بالأرجح الى احتياطات صحية، ولكن جانبا من السبب [نصفه] يعود الى الإزدراء بالنصارى..فعندما توفي المرافق الطبي لكلوديوس ريج في مخيمه دفن خارج اسوار المدينة
ـ[ المقصود الشاب كارل بيلينو مساعد كلوديوس جيمس ريج ورائد العلوم الاشورية معه وليس مرافقا طبيا لعدم وجود مرافق طبي لكلوديوس جيمس ريج]، ولكن المحمديين [المسلمين] لايدفنون، كقاعدة، موتاهم في المدينة ولكن هناك استثناءات لأن في كل جامع مقبرة ملحقة حتى في القسطنطينية..ولكنهم يفضلون تخصيص ارض خاصة في ضواحي المدينة وجعلها مدفنا لموتاهم..ويفضل الأتراك ان تكون مدافنهم على الجانب الآسيوي بدافع توقع طبيعي جدا لديهم..[ربما لشعورهم ان الجانب الآخر يقع في أراض اوربية مسيحية وبذلك يكون ابعد عن القبلة]..ولايدفن المسلمون ميتا في مكان خصص لميت آخر..مما يجعل المقبرة أوسع كثيرا أحيانا من المدينة نفسها..ـ
وفي يوم 21 آذار قمت بإختبار مقالع الرخام الشهيرة في الموصل بل وحتى في بغداد فرأيت انها من الجبس ولكنها ليست بالدرجة نفسها من النقاء والشفافية كرخام مدينة زنوبية.. وأفضلها الرخام الأبيض بلون الثلج وهناك ايضا الرخام الأبيض الضارب الى الزرقة والرخام الأبيض الضارب الى اللون الرمادي، ولكن رخام الموصل محضن بأرضية صلدة وليس مصدعا ومشققا كالجبس الخشن الذي يحرق ليصنع منه مسحوق الجص [بلاستر باريس]، وتجد فوقه طبقة أحفورية قشرية من الحجر الجيري تحتوي على قواقع من الصدف القمعي..وهناك، على اية حال، وبغض النظر عن المهاد الجيولوجي الثلاثي [الذي يقابل عصر الطوفان] المميزلأرض الموصل، هناك تماثل في تركيب الأملاح الطبيعية والأحفورية للموصل مع التكوينات التريتونية لأحواض باريس وبوردو..ـ
وكان هناك في الموصل في ذلك الوقت [بالنسبة الى وقت الكتابة] ديرا ومصلى يعود للآباء الدومنيكان [ويقصد بها كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك "البيعة العتيقة" في محلة حوش الخان وهي غير كنيسة الساعة لللاتين التي شيدت لاحقا 1866]، وقد لحق الخراب في ذلك الدير [البيعة] ولم يعد مأهولا ولكنه موضع احترام وبقي كل مافيه على حاله..ولربما بسبب ماتحقق من شهرة لنينوى بسبب الأكتشافات الآثارية، عاد الرومان الكاثوليك لتأكيد وجودهم في الموصل..ولكني لا أدري، لأن المكان [البيعة] يبدو وكأنه قد هجر البارحة، فالورود الإصطناعية مابرحت في مكانها على المصاطب والشموع والشمعدانات مازالت في مكانها..وتوجد مكتبة تحتوي قرابة مائة مجلد أكثرها كتب دينية بالأيطالية .. وبعضها كتب طبية. وهناك صيدلية صغيرة ملحقة بالمكتبة..ولكن الأدوية لم يمسها أحد..واكثر الملامح المثيرة للأهتمام مقصورات القسسة، إذ تبدو في منتهى البساطة والفقر، وأكثرها تاثيثا مقصورة رئيس الكهنة التي تحتوي على أريكة [كنبة] خشبية ومنضدة وبساط مساحته حوالي ياردتين مربعتين مع وسادة يستقر فوقها الكتاب المقدس..وفوق هذا المكان المنفرد المخصص للراحة لوحة منقوشة للقديس دومينيك تحيط بجبينه هالة من نور..ـ
وفي الرابع من آذار زرت آثار نينوى ووضعت خريطة للمكان والأماكن المحفورة فيه والتلال المختلفة التي قدمت للمنقبين في الآونة الأخيرة أثرى حصاد من اللقى والتحف الأثرية..ـ
وفي الخامس [من آذار] قمت بزيارة عددا من عيون الماء الكبريتية شمالي الموصل، بالقرب من الضفة اليمنى لنهر دجلة [عين كبريت]..وهناك في جانب من حافة صخرية يوجد مالايقل عن أحدى عشر طبقة صخرية مختلفة اكثرها قوة الطبقة الجبسية..ويبلغ عدد العيون تسع في قاعدة حافة الصخرة حيث يكثر الحجر الطيني القيري مع تكوينات هايدوكسيدية وبيروكسيدية تتحلل لتصبح كبريتا بسبب وجود الهايدرو سلفريت الذي يتفاعل مع الهواء..والزاوية الشمالية الشرقية من الموصل، بالقرب من هذه العيون والواقعة ضمن الأسوار خالية من السكان على الرغم من كونها مرتفعة على المدينة. وفي هذا الفضاء المفتوح هناك، مع ذلك، عدد من المواقع الخربة المهمة وابرزها برج أو حصن مربع يشكل جزءا من السور المواجه للنهر[باشطابيا] ولكنه في وضع خرب للغاية. وهناك ايضا كنيستان الأولى للكلدان والثانية للسريان وكلتيهما في وضع جيد ففي كنيسة القديسة مريم [الطاهرة في الشفاء] جدار حسن الصنع من مرمر الموصل، وتقع خرائب دير على البعد هو دير مار كبرئيل [ولعله الخربة التي يسميها اهل الموصل "تل الشويطين" لبعدها وعدم ارتياد منطقتها ليلا وهي غير دير مار ميخائيل الذي اشار اليه المؤرخ أزهر العبيدي ويقع في حاوي الكنيسة ومنه تسمية الحاوي المجاور لدجلة، ويبدو ان أينزوورث لم يكن واثقا من التسميات إذ يخبرنا في كتاب آخر في زيارته الثانية للموصل أن باشطابيا وهي هيكل غريب غير مأهول في الطرف الشمالي الشرقي من السور شيدت فوق خرائب كنيسة مسيحية هي مارجبريل]، (غير أن الطابع المسيحي لموصل القرن التاسع عشر يتأكد من كثرة الكنائس والأديرة التي حول العديد منها الى جوامع)..وهناك ، والحديث لأينزوورث، منارة تسمى الطويلة [منارة الحدباء] وفيه ميل واضح في استقامتها..ـ
ويحتضن سور نينوى تلا كبيرا يحتوي كل شيء وتل النبي يونس الذي يحتوي ضريح النبي يونس والذي لم يكتشف وهو يؤلف [مع تلقوينجق] القسم الملكي والمسور للمدينة..ولا تتفق هذه الأبعاد بالأبعاد التي قدمها ديودوروس سيكولوس قطرا يعادل تسعة اميال و760 ياردة، والمدينة خارج السور لعلها كانت تمتد بمحاذاة النهر باتجاه يارمجة [ وهذا صحيح فقد كان نهر دجلة يجري الى جانب السور الغربي لنينوى]،وفي السهل الممتد باتجاه خرسباد [مدينة سرجون الثاني]،وفي اعالي النهر تكتلات من الحجر الجيري لم يبنى فوقها شيء..ولكن يمكننا رؤية آثار القنوات القديمة المنشقة من نهر الخوصر..والإشارة في الكتاب المقدس الى رحلة يونس التي استغرقت ثلاثة ايام حول المدينة هي من غير شك الى مايمكن ان يستغرقه التجوال في المدينة باقسامها المختلفة وليس الدوران حول سورها فحسب..ـ
وفي السابع من آذار، قمت بجولة في مكان بعيد في جنوب-غربي المدينة حيث يوجد عدد من العمائر وبضمنها قوس يسمى ايوان علي القدوم بالقرب من مرقد محمد الغزلاني [دير الغزلان] حيث يوجد عين ماء قريبة [ربما كانت تلك العين في اسفل تل الذهب في منطقة الطيانة]، وبعد الغزلاني يوجد نبع ماء وجسر يسمى بالسهل وفي منخفض من التلال المؤلفة من الحجارة الجيرية [المرمر] ديرا مكرسا لمار إيليا.وفي المنطقة نفسها خربة قصر السيرامين وكان مقر اقامة صيفي يقصده باشوات الموصل..وتقع الى الأسفل على ضفة النهر قرية الشمسيات أو [القرية في الدغل] كما تقع على الضفة اليمنى لدجلة وعلى مسافة تسعة اميال من الموصل قرية البوجنوي [لعل المقصود البوجواري] وهم عرب يقيمون في خيام في الصيف، وعلى مسافة منهم قرية قرة كوي [القرية الخربة] التي تقع الى جوارها مناجم كبريت مهجورة قد اغلقت بسبب تراكم الحجارة عليها، ولكني اجد صعوبة في فهم السبب وراء ترك مثل هذه المناجم المفيدة..ـ
وكان في نيتي القيام بسفرة الى الحضر، وقمت بمساعدة رسام بالترتيبات مع عدد من العرب لمرافقتي ولكن الشمر كانوا في عصيان ضد رشيد باشا وقد ساقوا قطعان الغنم من اسوار المدينة مما جعل العرب الذين اتفقنا معهم لمرافقتي يرفضون الرحلة المزمعة مما اضطرني على تغيير خططي وعبور جسر القوارب في اليوم نفسه الثامن من آذار فسرت بمحاذاة الضفة صوب النمرود..وبعد ميلين اسفل الجسر مررنا بقرية يارمجة المشيدة على اوابد خرائب قديمة تمتد حتى النهر وتدخل فيه في مكان كان يشكل يوما وبدون ادنى شك ضاحية من ضواحي نينوى ان لم يكن جزءا لايتجزأ من مركزها)..ـ
يبدو من قراءة ادبيات الرحلة في الموصل ان معظم الجوامع ومنها الجامع الكبير وجامع النبي يونس، كانت كنائس او اديرة قبل ان تشاد عليها جوامع، مما يشير الى ان القبائل العربية ومنها قبيلة تغلب كانت نقلت مظاهر مسيحيتها الى الموصل في بداية الفتوحات الإسلامية، وان وجودها قد تعزز لاحقا بطريق هجرة النسطوريين الى الموصل من آسيا وبخاصة الهند وأيران فضلا عن آسيا الصغرى.. ولعل كثيرا من المنشقين على الجيوش الصليبية وردوا الموصل في القرن الثاني عشر للنجاة بأرواحهم ولكون الموصل كانت آنذاك مهادا آمنا للطوائف والأديان المختلفة..كما نواجه في مطالعتنا للأدبيات نفسها اسماء لاوجود لها في الوقت الحاضر كمنطقة الحراقية الممتدة بين الدندان والشهباز والجوسق والدواسة، او أيوان علي القدوم او الجدوم الذي ورد في معرض حديث كرانت ولاوري عن الموصل وكنت خلته انه في منطقة بستان الفستق أمام المستشفى العسكري او الثكنة العثمانية سابقا، واليوم يضعه أيزوورث في منطقة الغزلاني بالقرب من مرقد محمد الغزلاني ويسمي المنطقة المجاورة "دير الغزلان" [فمن هو او ماهو علي القدوم اوالجدوم؟ هل هو احد المجذوبين ام الصوفية ام شيخ عشيرة ام هو مكان لمسجد او لتكية بدليل كلمة ايوان او هو اسم حي سكني بأسم شخص شهير لقبائل وفدت الموصل من الريف المجاور، سبق احياء النبي شيت والبقارة والعكيدات أم هوشيء آخر أو ان الكلمة تصحيف لكلمة أخرى؟ المصادر هنا صامتة تماما ولاسيما العربية منها!]...وفي قراءتنا لرحلة اينزوورث الثانية الى الموصل التي وصلها في ربيع عام 1840، نلاحظ انه اضاف الى المعلومات التي اوردها في رحلته الأولى [1836-1837]، تفاصيل جديدة كحديثه عن قرة سراي وعن تفاصيل الإدارة والإقتصاد والزراعة والتجارة في الموصل وجوانب من تاريخها وأوابدها.. وعن تنفيذه لرغبته بزيارة الحضر التي لم يتمكن من زيارتها خلال رحلته الأولى، وهنا ننتقل الى كتابه الثاني [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين، وكالديا وأرمينيا] الذي يصف فيه رحلته الثانية الى الموصل لتغطية رحلته الى الحضر قبل العودة مواصلة رحلته الأولى الى الموصل:ـ
(وصل الموصل عرضا اثنان من الرحالة الإنكليزهما السيد لايرد والسيد [ادورد] متفورد [وكانا يقصدان سيريلانكا لايرد ليعمل محاميا ومتفورد ليجد حظوظه في التجارة] مما يسر علينا تشكيل مجموعة قوية لزيارة آثار قلعة الشرقاط، اور الفرس، [وتلك تسمية لا أدري كيف وردت في نص وذهن اينزوورث، واي صلة للفرس بالشرقاط العربية او بآشور]، على نهر دجلة وحضر الكلديين او أترا الرومانية في صحراء بلاد مابين النهرين..وهذه المواقع كان قد زارها الدكتور[جون] روس [المقيم البريطاني في بغداد وكان قد التقى بواليس بج في اثناء اقامته في الموصل وكتب مقالا عنونه [رحلة من بغداد الى اوبيس"الحويش او القيارة" ]، والكابتن لنج [قائد الحملة الفراتية خلفا لجاسني..وكان لنج بصحبة الدكتور ايدن قد واصل رحلة السفينة فرات بعد غرق السفينة دجلة من عانة الى الموصل مرورا بالحضر أما د. روس فقد قدم الحضر من بغداد فهاجمه بعد وصوله مباشرة الشمروكانوا سيقتلونه ورفقته لولا ان احدهم تعرف عليه وقال انه حكيم "طبيب" بغداد ] وهكذا فقد أضطر روس الى قطع رحلته فجأة بسبب مضايقات العرب، اما الكابتن لنج فقد مر بالموقعين فحسب ومالدينا من تفاصيل عن مرورهما يكفي للإثارة فحسب..ولكم يعد امرا محببا ان يقوم عالم آثار مخضرم يصاحبه رسام بزيارة هذه الآثار [الحضر وقلعة الشرقاط] فيقدمان للعالم تصويرا صحيحا للمنحوتات والصور المختلفة ذلات الهمية التاريخية الكبرى، لذا كان لرغبتنا الحثيثة للأستقصاء ومعرفة المزيد دافعا قويا يعطي رحلتنا الى تلك الأوابد معنى خاصا يدعو الى الأرتياح والرضى..وكانت جماعتنا تتألف من السيدين المذكورين [لايرد وميتفورد] والسيد [كريستيان رسام] وانا وجاء برفقتنا صديقنا القديم العربي التونسي الذي كان قد صاحبنا في رحلتنا من أورفا الى الحدود التركية بالقرب من ماردين ليغادرنا هناك في طريقه الى راس العين، التي حدثت بقربها حادثة بعد وقت قصير مع الشمر الذين تمكنوا من الحاق الهزيمة بفرقة مصرية من الخيالة ..وقد تخلى صديقنا الحاج علي عن فرسه لينجو بحياته ولجأ الى الموصل حيث دخل في خدمتنا كسائس للخيل، كما صاحبنا قواص ارسله محمد باشا [بيرقدار] معنا وكان باشا الموصل قد اهداني حصانا قويا نشطا لقاء مساعدتي الطبية له..وقد خدمني هذا الحصان خدمة كبيرة في رحلتي هذه وفي رحلتي الكلدانية.. شرعنا بالسفر يوم السبت الموافق 18 نيسان [1840] عبر سهل مزروع جنوبي الموصل..وفي هذا الوقت من السنة كانت سنابل الشعير الربيعي قد نضجت وابرزت اشجار التين واللوز والتوث اورادها ولكن اشجار الفستق كانت في مرحلة التبرعم..وعلى الضفة الرملية للنهر تتفلق نباتات الرقي عن ازهارها ..وكانت طيور القطا والحمام قد عادت من مهاجرها..ولأن مياه النهر كانت مرتفعة، اضطررنا على الدوران حول المرتفع الصخري الى الغرب من القصر كما في خارطة لنج والذي يعرف في الموصل بقصر السيراموم..[ويقابل في الجهة الثانية من النهروالى الأسفل قليلا قرية يارمجة التي يسكنها الشبك والتركمان] وهو قصر ريفي قديم كان باشوات الموصل يقيمون فيه وربما يستخدمونه لسفراتهم في مواسم الربيع..والمرتفع الصخري الممتد في هذا المكان بمحاذاة دجلة يشكل النهاية الجنوبية الشرقية لسلسلة تلال واطئة تستمر في اتجاه شمالي غربي وتعرف بالجبيلة [الجبلة] ويتراوح عرضها بين ستة وتسعة أميال. ويوجد على حافة هذه التلال المجاورة لضفة دجلة مخزون من الكبريت في حواضن من الحجر الجيري..وتكسو حوافي الصخور والوديان في هذه [الجبلة]نباتات زاهية في وفرة الأعشاب وتنتشر في المفازات الخضراء أزهار الحوذان [شقائق النعمان] وأعشاب أخرى مركبة صفراء ذهبية تنشر بتعارض ألوانها في هذا الوقت من السنة الحيوية في ضفاف دجلة والفرات حيثما تكون اطرافهما صخرية..وبعد عبورنا الجبلة ومغادرتنا لقرية البو جواري أي والد العبيد من النساء[ وهذه ترجمة حرفية مغلوطة لكلمة البوجواري التي تعني في اصلها التجاور وتعود الى هجرة هذه القبيلة من اليمن واستقرارها الى جوار ضريح النبي "ص" في المدينة المنورة] الى يسارنا، انحدرنا في سهل غريني آخركتلك السهول على ضفاف دجلة والفرات وتسمى ، سواء أكانت مزروعة ام تغطيها الأدغال، بالحاوي. والحاوي الذي نحن فيه مزروع ويحتوي قرى العريج اي مصغر الأعرج [وهذه ترجمة حرفية ومغلوطة ايضا لأن العريج تسمية لأحدى القبائل القاطنة في القرية وأكثرها العكيدات]، وكبر العبد أي قبر العبد [والترجمة حرفية ايضا ولكن التسمية صحيحة وربما تعود الى عبد دفن في المنطقة او الى آثار عثر عليها فيها]..ويوطن القريتان عرب يرعون الآن قطعانهم في [الجبلة]..ـ
وفي نهاية هذا السهل [الحاوي] ترتفع الأرض حيث يقع حمام العليل وقرية حمام العليل التي أسكن فيها باشا الموصل عددا من الكلدان ليقوموا بزراعة الأرض [ والأرجح انهم من النازحين من شمالي العراق هربا من مذابح ميركور الرواندوزي عام 1838]..ـ
وتغطي عين الحمام بناية تكفي لأناس انصاف همج على الرغم من ان المكان يرتاده اشخاص من طبقات راقية من الموصل وبغداد..ويبدو ان العين قد تغير مكان خروجها من بناية خربة تتدفق تحتها على مسافة 150 ياردة من موضعها الحالي [ الأرجح ان هناك أكثر من عين واحدة] والمياه وفيرة جدا تحتوي على حامض هايدروكبريتي وتعطي الكثير من القير..وطعمها باهت اما درجة حرارتها فتبلغ 84.6 فهرنهايت [ مايعادل 29 درجة مئوية]، وتصدر عين الماء الساخن من حجر جيري خشن الحبيبات.. والى جانب حمام علي [حمام العليل] تل يبلغ ارتفاعه حوالي 60 قدم يسمى تل السابق اي تل المنتصر في إشارة الى معركة حدثت بقريه [ وهذا نقل سماعي مغلوط فيما يبدو، لأن التل اسمه تل السبت كما ذهب المؤلف..وهو تل تحيطه خرافات منها ان الصعود اليه ييسر للعذارى فرص الزواج والأرجح انه تل أثري آشوري يقع في الجهة اليمنى لدجلة في مواجهة النمرود التي تشاهد بوضوح من حمام العليل]..ومن ذلك التل تمتد سلسلة من التلال الواطئة لمسافة 300 ياردة صوب الجنوب الغربي حيث ترتبط بخط آخر يتألف من صفين من التلال الواطئة تتوسطهما خفضة من الأرض تستمر باتجاه شمالي غربي حتى الحاوي، ويبدوأن هذه الخطوط الشبيهة بالدفاعات الطبيعية مانت تحتضن يوما قرية او موقعا مهما أخذت مكانه مجموعة من الأكواخ المتواضعة ولعلها كانت مدينة تيسلفتا التي ذكرها أمانيوس وجاء الميجر رنل على ذكرها بأسم تيساسفلتا اي مكان الأسفلت..ولكن تتبع مصادر أخرى يقودنا الى ان هذا الأسم يشير الى مكان شمالي الموصل وليس جنوبها [ربما عين زالة]..ـ
وفي 19 نيسان غادرنا حمام العليل وعبرنا حاويا واسعا تتوسطه قرية صفاطس التي يسكنها عرب من قبيلة الجحيش اي صغير الحمار، ومن هنا تسمية القرية في خارطة لنج "جيوش" [مرة أخرى نلاحظ ترجمة حرفية لقبيلة الجحيش العربية وتصحيف للكلمة في خارطة لنج لدجلة]، ثم دلفنا الى يمين القرية الخربة جهينة او جهنم وهو اسم أثار توقعاتنا، ولكن كل ماوجدناه بضعة بيوت قديمة أفضل من غيرها تقع الى جانب خاصرة الحاوي من جهة الغرب. [ لا ادري من اين جاء اينزوورث بكلمة جهنم سوى التماثل الصوتي بين جهينة القرية والكلمة المستخدة باللغة الإنكليزية ل"جهنم" حيث تكتب وتلفظ بدون حرف الميم، وجهينة اسم لقرية غربي حمام العليل تقع الى الغرب منها اطلال مدينة عباسية كان كاتب هذا المقال اول من أكتشفها بصحبة الدكتور الشهيد صباح عبد الوهاب الجبوري من قبيل الصدفة وحب الإستطلاع في اثناء مرورنا بالمكان]،وواصلنا طريقنا لثلاث ساعات فوق الحقول البرية الخضراء على هضبة من الحجر الجيري "الرخام" تتخلله مفازات من الحجارة الرسوبية الرملية حتى وصلنا وادي القصب، وهو مكان جدول راكد نمى على جانبيه القصب. وكان رسام وحجي علي قد تخلفا عنا فتركت الجماعة واتجهت الى الجدول قد اجد فيه شيئا ما لأني اعرف ان مثل هذه الأماكن المهجورة تكون الجداول مخابيء ملائمة للحيوانات وتوفر فرص صيد جيدة. ولم امض بعيدا في سيري عندما اثار وجودي انثى خنزير اتجهت نحوي بدلا من الهرب مما جعل الحصان يقف على قائمتيه الخلفيتين بخوف فناديت بتصفيرة الصيد لأجلب انتباه متفورد ولايرد على بعد قرابة نصف ميل مني واطلقت رصاصة من مسدسي في وجه مهاجمتي كثة الشعر مما جعلها تغير اتجاهها..وسرعان ماوصل أصدقائي فنزلت عن الحصان الذي تناول اصدقائي مقوده، وجريت في الدغل، ولم يكن لدي ادنى شك ومن غضب الخنزيرة بوجود خنانيص،ومع وصولي حافة الماء، كان آخر الخنانيص قد دخل المجرى الذي لم يكن عميقا على اية حال فطاردته وامسكت به من خاصرته بينما كان يريد الصعود على الضفة الأخرى للجدول، وجلبته جائزة قذرة ولكنها ثمينة..فبدأت ومعي السيد ميتفورد [لأن لايرد أراد توفير طاقة حصانه الذي لم يكن جيدا للرحلة] بمطاردة بقية الخنازير..ومع خبب خيولنا بمحاذاة الجدول اثرنا عددا من الخنازيرالتي جاءت في اثر الخنزيرة وخنانيصها، ونجحنا بطردها من منخفض الجدول الى الحقل المفتوح وتمكن كل منا من الإمساك بخنزير..فأصبح لدينا ثلاثة..ولما {اينا أن أثنين فقط يكفيان لطعامنا تركنا الثالث يهرب باتجاه الجدول.. وعندما رجعنا راينا حجي علي وقد عاد وبيده ارنبا بريا كان قد صاده، وبذلك نكون قد تجهزنا على نحو جيد لإمضاء الليل في الصحراء..فغادرنا هذا الوادي واتجهنا صوب دجلة الى الجنوب ببضعة اميال من قبر السلطان عبد الله [وتوجد قرية بالإسم نفسه] حيث ابعد نقطة وصلتها الفرات عام 1839، وبعد عبورنا جدولا وافرا ملأت مياهه الهواء برائحة حامض الهيدروكبريت، وصلنا مكانا مستويا تحيطه صخور جيرية يتدفق فيه عدد لايحصى من عيون الزفت او القير تنضح به الأرض من خلال عيون دائرية صغيرة تتراوح اقطارها بين ستة وسبعة انجات معظمها مدفون او تحيط به طبقة من القير المتجمد وتغطي هذه العيون مساحة من الأرض طولها 500 ياردة وعرضها 100 ياردة.وإلى الغرب منها تلال واطئة يطلق عليها القيارة..ووجدنا على مسافة غير بعيدة من هذه الحفر عيون أخرى تنضح بكميات مماثلة من القير..وهذه هي الحالة الوحيدة التي رايت فيها قيرا نقيا ينبع من الرض في غربي آسيا بافضافة الى عيون قير هيت ودالاقي في بلاد فارس وكذلك في حمام علي..وتقع عيون القير على دجلة بالقرب من النهاية الجنوبية لتكوينات الصخر الجيري [المرمر] تتلوها الصخور الرسوبية [الرملية]..ـ
كان المساء يقترب بسرعة..وكانت قطعان الخنازير البرية تسرح في الحاوي بينما مر ذئب على سفح التل وآخر قابلناه في الطريق..وعندما اقتربنا من اجمة وفي نيتنا المبيت الى جوارها، أجفلنا عددا من طيور الدراج الجميلة التي تنتشر في العراق والمناطق العربية الأخرى فطارت في اتجاهات مختلفة..بينما نأت قطعان الخنازير بنفسها ثم استدارت لتتظر الى الغرباء في مناطقهم..وعندما اقتربنا من النهر، وجدنا الضفاف عالية عن مستوى مجرى الماء بحيث لم نتمكن من سقي خيولنا، ولم نقدر ان نبتكر طريقة نقدر بها على سقي الخيول مما اضطرنا على مواصلة سيرنا حتى ارغمنا الظلام على التوقف في مكان لايدعو الى افرتياح عند سفح تل يشرف على ضفة النهر..وقام الحجي علي، على الرغم من كونه مسلما، بمساعدتنا في سلخ الخنازير ..ولكنه والقواص تناولا الأرنب البري لعشائهما..وتمكنا بصعوبة من جمع الأشواك اليابسة واعواد الشجيرات مما يكفي لأشعال نار تكفي لسلق أحد الخنازير..ولكن بعد بعض الجهد تمكنا من جمع الحطب واشعال النار..وبينما كانت خيولنا تأكل الحشيش اليانع من حولنا، تناوبنا الحراسة ثم استسلمنا لنوم عميق ليس كمثله ابدا في وسط سكون تام وفي مكان ناء عن اي شيء يمكن ان يقلق هجوعنا الهانيء)..ـ
وفي صباح اليوم التالي واصل الفريق الرحلة حتى وصلوا قلعة الشرقاط حيث يخبرنا اينزوورث:ـ
ـ(ثم جلسنا منهكين من بحثنا في الموقع عند حافة مرتفع أثري [يقصد الزقورة على الأرجح] حيث ربطنا خيولنا وبدانا بطهي خنزيرنا المتبقي واكتفى رفيقانا المسلمان بتناول الخبز..وكنا لسوء الحظ قد نسينا جلب القهوة..وبينما جلسنا حول النار ندخن غليونا [طويلا] زحفت حية مباشرة نحونا بينما كانت مئات الخنافس تدور حول حوافي الرماد..وبعد حلول الظلام اختلط نعيق الضفادع بنعيب البوم بعواء الثعالب [الواوية] بينما يطن البعوض الضاميء في آذاننا..فقمنا بأطفاء النار لكي نتمكن من تمييز خيولنا على نحو افضل خلال الليل ثم اهملنا الضجيج القريب والبعيد من حولنا وخلدنا الى النوم في معاطفنا حتى بواكير الفجر)..ـ
ثم يحدثنا عن رجوع القواص بمفرده بذريعة فقد حصانه لحدوة بما لايمكنه من مواصلة السير معهم..وكيف ان قدر القواص كان القتل في منطقة جنوبي الشرقاط ..ثم عن بحثه عن طريق يوصلهم الى الحضر فوصولهم الى جدول الثرثار واستحمامهم فيه وكانوا يفطرون على الخبز والكرات ويتعشون على الحجل الذي يصيدونه في طريقهم حتى وصلوا الحضر واستقبالهم من قبل البدو المخيمين في جوار الآثار ثم عودتهم ..وفي طريق العودة يصف القبائل والقرى العربية وصولا الى العذبة فخضر الياس حتى:ـ
ـ(وصلنا بوابات المدينة بعد ان قطعنا مسافة تقدر ب 60 ميلا انكليزيا، قبل منتصف الليل ولكننا لم نقدر من اقناع القبوجي او الكابوجي [حارس البوابة] من فتح البوابة مما اضطرنا على امضاء الليل بملابسنا المبللة تحت عقد مهجور حتى طلوع الفجر)..ـ
وهنا نعود الى رحلة اينزوورث الأولى الى الموصل ومشاهداته فيها كما اوردها في كتابه الأول في سياق كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية 1888] والذي يصف فيه تفاصيل رحلته الى الموصل عامي 1836-1837 اي قبل رحلته آنفة الذكر الى الموصل والشرقاط والحضر بثلاث سنوات..وكنا قد تركناه وقد عبر جسر القوارب ليبدأ رحلة الى النمرود حيث تجول في المنطقة وقراها وتاريخها ليعود بعد يومين الى الموصل:ـ
ـ(عدت يوم 10 آذار الى الموصل فوجدت ان جسر القوارب قد ازيل بسبب ارتفاع الماء في دجلة لذا ترتب علي العبور بواسطة زورق..وفي اليوم التالي ارتقيت منارة الجامع الكبير للمدينة ويتألف الدرج الحلزوني للمنارة من 190 درجة..والمشهد من أعلى المنارة مثي وشمولي..ويلحق بالجامع محراب قديم مقطوع من الرخام الموصلي، تزينه زخارف غاية في الدقة والروعة بحيث بدا لي انه افضل زخرفة شرقية رأيتها في اسفاري كلها..ـ
وفي 12 آذار امطرت بغزارة واستمرت الأمطار تصاحبها الرعود والبروق لأربعة أيام ..وانتهز العرب الفرصة لمداهمة قطعان الغنم والحمير خارج سور الموصل بل واخذوا اقمشة كانت مقصورة خارج السور ..وتمكنا بعد صحو مؤقت بمغادرة الموصل في رحلة العودة لبلادنا..وتوجب علينا إبلاغ الباشا بنيتنا في المغادرة..ولم يكن جسر القوارب قد اعيد الى مكانه ولم يكن مسموحا لأي شخص بعبور النهر بواسطة القوارب أو الأكلاك بدون تذكري [تذكرة] من الباشا ام من ينوب عنه..فعبرنا من البوابة الشمالية لنينوى وتقع على مسافة ميل ونصف من هذه البوابة كنيسة مار كوركيس الكلدانية..فوصلنا قرية تلكيف الكبيرة التي تتألف من 300 او 400 بيت يأهلها مسيحيون كلدان ذكر السيد رسام انهم مازالوا يستخدمون اللهجة الكلدية..وتبعد تلكيف تسعة اميال عن الموصل..وكان هناك قريتان عربيتان في الجوار هما بواني [يبدو ان هذه القرية انصهرت بالموصل لاحقا] على مسافة خمسة اميال عن نينوى وبعويرة على ضفة دجلة [يبدو من هذا النص ان قرية بعويرة (وهي غير بعويزة] قد غادرت موقعها القديم على تلة مار كوركيس قبل عام 1837]. وقد ادهشني لباس رأس هؤلاء الكلدان المهيب والنادر في الوقت نفسه [يسمى شاش أو شوستا بالفليحي ويكون على شكل دائري يشبه الدف ويتألف من عدة طبقات ملفوفة أحدها فوق ألأخرى وهي من السماكة بحيث تظهر فيها الحافة العليا وعادة تكون طبقات الشاش سبعة لمعان دينية وحضارية ترتبط بهذا الرقم والجزء العلوي من الشاش يمكن ان يكون عنابي او اسود اللون وتتوسطه حزمة من الخيوط المحبوكة سوداء اللون تتدلى الى الجانب او الخلف طولها قرابة 7 سنتمترات وكان البطريرك مار ايليا ابو اليونان قد طلب من الأب عبد الأحد معمار باشي تصميم كشيدة مريحة وأخف وزنا لبراعته في هذا النوع من الفنون..فصمم كشيدة جديدة مازال قساوسة الكلدان يستخدمونها..ويبدو ان أينزوورث يتحدث عن الشاش القديم الذي يستخدم فوق عرقجين ويشابه الى حد ما غطاء الرأس الآشوري]،ولديهم كنيسة وهم يحبون راعي كنيستهم إذ يقبلون يده [كفه] عند دخولهم و خروجهم كما لاحظت انهم اغنياء فقد رأيت اكثر من 300 راس غنم ترعى بالقرب من القرية..كما لاحظت في هذا الموسم من السنة كثرة السلسفي [ ألأذخر، البادي ، المحريب، ويعرف ايضا بلحية التيس الخ.وهي نبتة برية زاهرة تسلق اوراقها وسيقانها طعاما، وتستخدم دواءا عشبيا لتفتيت الحصى] الذي ينبت تلقائيا في التراب وعلى جوانب الطريق بسيقانه البيضاء الشبيهة بالكرفس، وكنت قد تناولت منها في الموصل..وهنا رايت ان القرويين يألفون هذه النبتة اللذيذة التي ابتهجت بتناولها في كل مكان)..ـ
ويواصل اينزوورث رحلته شمالا بصحبة كريستيان رسام الى القرى اليزيدية ومنها الى القوش حيث يعقب على تسمية [هرمز] رسام فيربطها بروبان [هرمز] مؤكدا ان لاعلاقة لها باية اصول فارسية، ثم يتجه الى زاخو فيصف ارضها ونهرها والجسر العباسي الشهير فيها وعبوره الى قلعة في جزيرة ابن عمر التي تحيط بها دجلة شمالا وشرقا وجنوبا ويقطنها السريان والكلدان والآشوريين واقليات اخرى كالكرد والترك والعرب .. هنا يخبرنا اينزوورث انه وجد بين الصخور والوشائع كومة من الآثاث والأدوات المنزلية والمطبخية بحالة جيدة وبدون وجود احد:ـ
ـ(فأذهلت لهذا المشهد، ولكني سرعان ماعرفت السبب، كانت نيتنا مواصلة الخبب عبر ممرات دجلة خلال جبل طوروس لنصل الى ارمينيان ثم الى البحر في طربزون حيث نحصل على سفينة بخارية توصلنا الى القسطنطينية، ولكننا لم نقطع مسافة كبيرة في هذا الإتجاه خلف جزيرة خان [خان الجزيرة] حتى وصلنا قرية كبيرة اسمها منصورية، فرأينا السكان في حالة ذعر لأنباء وصلتهم بتحرك الأكراد من الشمال..فعرفت الآن انهم بسبب الخوف قاموا بنقل كل حاجيات بيوتهم في اماكن آمنة تبعد قرابة ميل عن القرية نفسها [ يبدو أن اينزوورث قد وصل قبل قيام بدرخان وميركور واسماعيل بيك بتحرك ضد النصارى في المنطقة والمذذبحة الكبرى التي راح ضحيتها أكثر من 10.000 مسيحي ومنهم المارشمعون وأمه عام 1838، وهو موضوع واسع لامجال لذكر تفاصيله هنا ويترتب معالجته بدراسة مستقلة..بيد ان من المفيد الإشارة الى ان معظم الرحالة ان لم اقل كلهم ومنذ ماركوبولو كانوا يصفون الكرد بقطاع طرق..وكذلك يصفون الشمر ولكن هذا الوصف لايخلو من تعميمات جزافية لأن سكان البادية ليسوا كلهم من الشمر وليس الشمر كلهم قطاع طرق وهذا ينطبق على الأكراد..كما يمكن لأي جماعة ارتداء ملابس جماعة أخرى تتوفر في اسواق حلب او الموصل..غير ان اجماعا من اطراف محايدة (تبشيريين ورحالة)، يذهب الى التأكيد أن الأكراد كانوا وراء مذبحة 1838 التي راح ضحيتها النصارى من سكان المنطقة الأصليين..]، مع ذلك، لم نعدل عن مواصلة سيرنا ..ولكننا سرعان ماقابلنا جماعة مسلحة من الأكراد على ظهور الخيل يرتدون ملابس انيقة وكانوا في منتهى اللياقة ولانعرف لأي جماعة ينتسبون ولكنهم أكدوا على ضرورة الرجوع لكي لا يسرقنا الأكراد ويسلبون مانملك..فلم يبق لنا خيار غير الرجوع على اعقابنا الى الجزيرة والأتجاه من هناك الى ديار بكر..سنوات قبل ان اتمكن من تعويض خيبة الأمل في استكشاف معابر دجلة والمرور بأمان من بتليس الى ارضروم)..ـ
ويستمر اينزوورث في رحلته ليمر بحصن كيفا [حسن كيف]ويتجه صوب نصيبين ومنها الى خرائب دارا التي وصفها بالتفصيل فماردين ومنها الى دير الزعفران [لأصفرار حجارته] قبل ان يتجه الى دياربكر حيث اثارت معلوماته بالمناجم والمعادن اهتمام حافظ باشا حاكم ديار بكر آنذاك، فطلب منه ان يريه الحديد المخلوط بالرمل في مجرى نهر بالقرب من دياربكر، ثم طلب اليه ان يفصل الحديد عن الرمل وكان اينزوورث يحمل حجر مغناطيس على شكل حدوة في سرج حصانه فطلبها ولدهشة الباشا ومن معه انسحب الحديد صوب الحدوة مخلفا الرمل ..فنال اعجاب الباشا الذي دعاه ورسام الى العشاء معه ونزع جنح ديك رومي مشوي بيده ليقدمه له..وكرر الدعوة في اليوم الثاني وطلب منه البقاء للأشراف على مناجم النحاس في ارغانا فاعتذر قائلا انه موفد من قبل الحكومة البريطانية .غير ان اينزوورث فيما يظهر من النص الآتي ندم لعدم بقائه في تركيا:ـ
ـ( وتناولت العشاء مع الباشا في اليوم التالي ايضا وكانت دعوة خاصة نحن الثلاثة الباشا والسيد رسام وانا..فطلب مني بقوة البقاء معه وتولي مسؤولية مناجم النحاس الكبرى والشهيرة في ارغانا، فقلت له اني مازلت في خدمة حكومتي..ولا اقدر لهذا السبب من قبول طلبه، الذي لوكنت قبلته لكان لفائدتي بمالايقاس لأني عندما عدت الى انكلترة رايت ان الحكومة لم تلحظ وجودي ولم تقر بجهودي بأي شكل من الأشكال)..ـ
غير ان ما انجزه اينزوورث من دراسة وقدمه من معلومات عن بلاد الرافدين وانهارها وارضها ونباتاتها واهلها وعن الموصل يضعه في مصاف اولئك العلماء والرحالة الأفذاذ الذين لايمكن اهمال حضورهم المشرق في صفحات تاريخ بلاد الرافدين والموصل واحوالهما في القرن التاسع عشر بأي حال من الأحوال...ـ
ملاحظة حول المصادروالصور:ـ
المصادر عن الحملة الفراتية عديدة ومتنوعة وقد اعتمدت في دراستي للحملة على كتابات وتقارير المشاركين بالحملة كقائدها فرانسيس رودون جاسني والرحالة وليم فرانسيس اينزوورث والدكتور هلفر وزوجته ممن تناول الرحلة بالتفصيل في عدد من الكتب والمقالات والتقارير المنشورة في [مجلة الجمعية الجغرافية الملكية] في لندن، كما تناول الحملة هنري بلوسا لنج في تقريره المنشور في المجلة المذكورة،كما الف كتابا عن رحلته الى ارمينيا تتطرق فيه الى الحملة الفراتية..وتناول اينزوورث رحلته الى الموصل بعدد من الدراسات المستقلة المنشورة في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية كمقالته [ملاحظات عن الرحلة من الفسطنطينية الى الموصل] المجلد السابع 1837، في 40 صفحة، ومقالات اخرى تضاف الى كتبه العديدة حول رحلاته الى العراق ومشاركته بالحملة الفراتية..وهناك عدد من المقالات والدراسات الحديثة عن الحملة متوفرة في شبكة الأنترنت فضلا عن كتاب حديث لجون كيست، الذي كتب عن اليزيدية ايضا، عنوانه [ الحملة الفراتية] عام 1992، ويعتمد في روايته على المصادر الرئيسة التي اعتمدتها ايضا.كما تناول دانيال هيدريك في كتابه [أدوات الأمبراطورية: التكنولوجيا والأمبريالية الأوربية في القرن التاسع عشر] حملة جاسني الفراتية والتنافس الأوربي على الموارد..ومقال بقلم جون باري عنوانه "البريطانيون والشرق الوسط" تناول فيه المهاد السياسي لحملة جاسني، وتناول توماس لوف بيكوك الحملة ادبيا في مقاله [في ذكرى حملة جاسني الفراتية]، كما تناولت مجلة ارامكو الحملة في واحد من مقالاتها .اما الصور فقد جمعتها من كتابي جاسني واينزوورث واضفت اليها مما له صلة بالرحلة من ارشيفي استزادة في التوضيح...ـ
------------------------
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شاهد : الملحق المصور
للعودة إلى الصفحة الرئيسة