صلاح سليم علي
التاريخ اشبه ببيت كبير متعدد النوافذ منها ماينفتح على تجارب اسيانة تفوح منها رائحة الدماء والحرائق والكوارث ومنها ماينفتح عن رياض زاهرة تتضوع باريج الشعر والإبداع والنبوة..وفي الحالتين يترتب علينا نحن أن نفتح هذه النافذة أو تلك للتعرف على التجارب الإنسانية دموية كانت أم ابداعية، كئيبة أم بهيجة، مميتة ام واهبة للحياة في مكان ما أو زمان ما..وبيت التاريخ هو اللغة ونوافذه هي رفوف المكتبات الغابرة ..واحيانا نفتح نافذة فتتفتح بدورها عن نوافذ اخرى وتفرض علينا ان نميز بين ماتقدمه لنا من عوالم وحوادث وشخصيات وبخاصة تلك التي تشكل محاور مهمة تتأسس عليها حركة الحوادث وحياة الأمم وتتحدد من خلالها كيفية نظرتنا الى العالم..ولا أدل على تاثير الشخصية في حركة التاريخ من النبوءات العظيمة فقد غير ميلاد المسيح مسار الزمن فجعل مساره على نحو خطي يتجه بأضطراد الى الأمام وهو تصور للزمن يقف على طرفي تقابل ضدي مع التصور الإسلامي للزمن أي الزمن الدوراني الذي يتجه الحاضر فيه الى المستقبل المؤسس أصلا في الماضي..كما قدم الأسلام نظرة الى العالم ربطت بين الرؤية والقلب وقرنت ارادة الأنسان وحريته ومعهما الزمان والمكان بارادة الله..ويماثل القادة بتأثيراتهم الزمنية، تأثيرات الأنبياء الأبدية..فقد عمل ملوك الحضارات الكلاسيكية على تاسيس الدولة وربطها بمفهوم الشرعية ووضعوا القوانين والتشريعات ..وغيرت إرادة الحرب المدفوعة بحب البقاء من خارطة العالم مع الغزاة بدءا بالحروب الكلاسيكية، فالأسكندر، فهانيبال، فقيصر، فالفتوحات الأسلامية الكبرى فالتوغل الآسيوي في بلاد الرافدين ووادي النيل، فالأمبراطورية العثمانية وصولا الى نابليون بونابرت ومن بعده الحروب العظمى في العصر الحديث..ومع كل قرن تتسارع عجلة التاريخ اضطرادا فكل قرن جديد يتضمن حوادثا وتحولات أكبر بما لايقاس عن القرن الذي يسبقه وهكذا دواليك..وغالبا مايكون النصف الأول من اي قرن فترة مخاض بينما يكون النصف الثاني في أوافله فترة ولادة او ولادات منها الميت ومنها مايبشر بحياة جديدة..
ومن المحاور المهمة في حركة التاريخ العلاقة بين الشرق والغرب منذ العهود القديمة وحتى العصر الراهن..وهي علاقة تتداخل في متونها مراحل الصراع والتهادن والتنافس والتعاون والهيمنة والهيمنة المضادة .. وتتعارض في سياقاتها وتتناحر ثقافة الشرق بثقافة الغرب ويواجه البطل القمري البطل الشمسي على الرغم من تبني الثقافة الغربية لأساطير الشرق وفنونه ومعارفه وتطويرها وصولا الى المدنية الغربية..وكانت ابرز المواجهات بين الشرق والغرب على عهد الأسكندر الذي تمخضت عن حروبه الثقافة الهلنستية والتقت فيها الفلسفة اليونانية بالحكمة المشرقية، ثم محاولة الفينيقيين اختراق اوربا واسقاط روما على عهد حامي الخيربركة وابنه هانيبال..فالأمبريالية الرومانية واختراق الرومان احواض الأنهار الكبرى واحتلالهم سوريا ومصر..فالأسلام الذي بسط نفوذه على صقلية واسبانيا والبرتغال وجنوبي ايطاليا على مدى 800 سنة من التمدن؛ فالأختراق الصليبي المعاكس الذي صاحبه اكتساح المغول على الرغم من كونهم مشارقة للمراكز الحضارية الكبرى في وادي الرافدين فالأمبراطورية العثمانية التي تشبه عملاق رودوس في جمعه بين ساحلين بضمها لدول البلطيق وحوض الدانوب من جهة بحوضي الرافدين والنيل والساحل الجنوبي للمتوسط والأسود مع ساحل البحرين الأحمر والعرب تحت ارادة سلاطينها وحكامها وقوة جيوشها..
ومع تراجع الأمبراطورية العثمانية وتكرر هزائمها العسكرية في مواجهاتها مع الغرب، لجأت الدولة العثمانية الى محاكاة الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر وتحديدا على عهدي السلطان محمود الثاني وابنه عبد المجيد الأول..وهو تطور سرعان ما اتخذ اتجاها معاكسا في العهود اللاحقة التي شهدت نهاية الأمبراطورية العثمانية ونشوء تركيا الحديثة..والمهم في هذا الأستعراض التاريخي شديد الأختصار ان فجر التمدن الغربي صاحب غروب الحضارة المشرقية وبخاصة المناطق والأمم التي كانت تحت الهيمنة العثمانية ..وان شيئا من مفاهيم الهيمنة والأستيراث لم يتغير..فقد عدت الأمم الغربية الأراضي العربية والإسلامية من العراق وحتى الجزائر أراض تابعة لها ورثتها غنائم حرب..ومنحت الأتراك دولة ربطت سياستها وارادتها بها على الرغم من البناء الإجتماعي والحضاري المشرقي لها قلبا وقالبا..
كما لم يتغير اي شيء في سياسات التحالف الغربي تجاه دول وشعوب الشرق باستثناء دول الأستتباع كتركيا والأردن والسعودية ودويلات الخليج والمغرب وأخيرا العراق..
والملاحظ ان الدول التي تشرف على نهايتها غالبا ماتظهر فيها أرادات توحيدية تناضل لفرض نوع من المركزية تستعيد بواسطته شيئا من هيمنة الدولة وقوتها.. إلا ان حجم التحديات والأخطاء المتراكمة التي ارتكبها اسلافها وتنامي القوى النقيضة غالبا ماتكون اكبر في حجمها وجسامتها فتتغلب على إرادة التوحيد وتؤدي بالدولة الى الزوال.. ومن أهم المحاولات الجبارة للتصدي لحالات انهيار الدولة والمجتمع في وجه التحديات محاولة آشوراوباليت الثاني التصدي للعدوان الميدي بعيد سقوط نينوى ومحاولة مروان الثاني التصدي للقوى المناهضة لأمويي المشرق.. ومحاولات عبد الرحمن الثالث تأسيس القوة الأموية في الأندلس .. وعلى مديات أصغر جهود الحمدانيين والعقيليين تدويم الدولة العربية في الهلال الخصيب.. وأخيرا محاولات جمال عبد الناصر في مصر والقوميين العرب في الهلال الخصيب.. والملاحظ أن الغرب ومنذ الحروب الصليبية يرتكز في سياساته المناهضة للمشارقة المسلمين عربا ام أسيويين أم افارقة على استغلال التنافس بين مراكز القوة والصراع الأقليمي في العالم الإسلامي لتعميق الأنقسامات بما يخدم مصالحه الستراتيجية والإقتصادية.. فقد استغل ثورة ابن حفصون في مواجهة عبد الرحمن الثالث في الأندلس واستغل التنافس بين الدولتين الفاطمية في مصر والأموية في الأندلس للتوغل في حروبه الصليبية ..كما استغل وجود الحشاشين في سورية وفارس للنيل من خصوم سياسيين في اوربا بل والنيل من صلاح الدين الأيوبي نفسه ودفع العرب الى ضرب العثمانيين لقاء وعود فارغة بتشكيل دولة عربية كبرى.. وفي العصر الحديث شرعت الدول الغربية بالقيام بمشاريع عملاقة خدمة لمصالحها كمشروع قناة السويس الذي الحق دمارا كبيرا بالأقتصاد في العراق وسورية اللتان تعتمدان على التجارة البرية ثم مشروع ال[كاب] المعاصر اي (مشروع الأناضول الكبير) الرامي الى احكام السيطرة على منابع الأنهار الكبرى في تركيا وخنق العراق وسورية مائيا ثم دفعهما الى التحول الى دويلات استتباع للغرب وربما لقوة اقليمية تابعة هي الأخرى للغرب كتركيا أو ايران. القصد بدول الأستتباع هو اخضاع الإرادة السياسية لهذه الدول لدول غربية في الوقت الذي تمنح فيه استقلالا صوريا ييسر للزمر الحاكمة الأستمرار في الحكم.
ولعل احدى أهم حلقات الصراع بين مراكز القوة في المشرق العربي الإسلامي التنافس والإقتتال بين والي مصر محمد علي باشا والسلطان محمود الثاني.. وهي حلقة تكتسب أهميتها من عوامل عديدة أهمها تدخل القوى الغربية في هذا التنافس وتوجيهه نحو غايات تخدم سياساتها وتحقق مصالحها..وهو حال يتكرر عبر تاريخ المواجهات بين الشرق والغرب على الرغم من التناحر والتنافس فيما بين الدول الغربية نفسها وهو تناحر يتلاشى عندما يواجه الغرب قوى اسلامية او مشرقية مستقلة كما تؤكد التجربة التاريخية في تحالف الغرب في الحروب الصليبية وفي اسقاط الأمبراطورية العثمانية وفي التحالف الأخير ضد العراق ثم فيما يسميه الغرب الربيع العربي الذي يستهدف الدولة العربية ذات السيادة من داخل اراضيها بينما يبقي دول الأستتباع والرجعية المعروفة متدثرة في شتاء الدم العربي.. وهناك دراسات لاحصر لها تناولت تلك المرحلة اهمها دراسة ديفيد أركهارت التي ركزت على المقارنة بين شخصية السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا في سياق دراسة المواقف الأوربية تجاههما واحتمالات ترجيح كفة احدهما على الآخر تبعا للمصالح الغربية والتنافس بين روسيا من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة ثانية..وهي دراسة مهمة لمعاصرتها للصراع بين هذه القوى في الشرق السلامي والغرب المسيحي.. وتتجلى في هذه المرحلة من الصراع بين قوة اقليمية ناشئة قوام جيشها من العرب وامبراطورية واسعة الأطراف حقيقة تاريخية متكررة تتمثل بميل الزعامات الأقليمية في اطراف الدول الكبرى الى الخروج على ارادة السلطة المركزية والأنفصال فالأستقلال عن الدولة الأم كما في الأمبراطورية الآشورية على عهد ادد نيراري الثالث عندما ابدى شمشي ايلو ميلا للأستقلال تكرر مع حاكم بابل شقيق آشوربانيبال شموكين الذي شق عصا الطاعة واستقل ببابل.. وتكرر ذلك على عهد المنصور عندما شق ابو مسلم الخراساني عصا الطاعة على الخلافة العباسية في بغداد.. غير أن خروج محمد علي باشا على السلطان العثماني واستقلاله بمصر يعد واحدا من أخطر الأنشقاقات في التاريخ وذلك لتشاطر عوامل اقليمية وعالمية متنوعة في التمهيد له وتوظيفه في سياق السياسات الغربية طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من النصف الأول من القرن التاسع عشر.. وقد مهدت لأنشقاق محمد علي باشا واستقلاله بمصر ثم توسيع رقعة دولته لتضم سوريا وكريت واجزاءا من الأناضول هزيمة العثمانيين في الحرب الروسية العثمانية 1828- 1829 التي تمخضت عن ضياع قرابة نصف أراضي الأمبراطورية..مما وضع السلطان العثماني في كماشة احد اطرافها قوة اسلامية والآخر القوى الغربية مجتمعة.. ولم يكن الغرب في حقيقة توجهاته يعمل لصالح اي من الطرفين المسلمين المتحاربين ..ولكن التنافس بين بريطانيا وفرنسا من جهة وبين الأخيرتين وروسيا من جهة أخرى خلق وضعا سياسيا ودوليا عطل التعاون بين القوى الأوربية للأجهاز على الأمبراطورية العثمانية والحيلولة دون تحقيق محمد علي باشا لأنتصارات حاسمة بعد استيلائه على سوريا عام 1833، تؤدي الى تربعه على عرش دولة اسلامية عاصمتها القاهرة او اسطنبول.. فكلاهما السلطان والباشا شر لابد منه للحد من الأطماع الروسية.. وكان لمشاركة تركيا في حرب القرم الى جانب بريطانيا وفرنسا وهزيمة روسيا حقنة حياة جديدة في جسد الرجل المريض الذي أجهز عليه الغرب في آخر المطاف وتولى التحكم بميراثه الذي تضمن الأراضي العربية من المحيط الى الخليج..
والمهم في هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء الربط بين الأوضاع الدولية العامة والحوادث التي عاشتها الموصل في تلك الفترة والمتمثلة بحكم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الذي عاصر جانبا من حكم السلطان محمود الثاني وجانبا من حكم ابنه السلطان عبد المجيد الأول..وهي فترة غاية في الأهمية حيث تم خلالها اكتشاف الحواضر الآشورية نينوى وكالخو (النمرود) ومدينة سرجون وتنوعت في الموصل البعثات التبشيرية في وقت تنامت فيه الضغوط على الولاة المحليين لتطبيق الأصلاحات والأعداد للأخطار التي تهدد الأمبراطورية بأسرها..مما جعل الموصل بؤرة نشاط منقطع النظير انعكس في ادبيات الرحالة والمنقبين والأطباء الأجانب المصاحبين للبعثات التبشيرية في ذلك العهد..وبينما كانت القرارات الكبرى تتخذ في لندن وباريس وموسكو للضغط على القوى الأقليمية وفي واجهتها تركيا العثمانية ومصر، وتوجيه سياساتها ..كانت الضحية على الدوام الفقراء من بين الناس ممن لاناقة لهم ولاجمل بالحروب التي لم يتردد الطغاة في دفعهم وقودا في إذكاء نيرانها..
وتكتسب الصورة، على الرغم من البؤس الذي ترسمه، ألوانا زاهية واسيانة في الوقت نفسه بأقلام الرحالة الأجانب الذين لا بد من دراسة تقاريرهم بعمق أكبر نعتمد فيه الدلالة الحضارية والمنهج المقارن لفرز الصدق عن الأنحياز؛ ولاسيما لأن الأنطباعات السائدة في الغرب عن الأسلام عامة والعثمانيين خاصة لاتخلو من أبعاد سلبية تمليها معتقداتهم من جهة، وممارسات جماعات اثنية (لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بالأسلام وتعاليمه السمحاء)؛ للأضطهاد الديني والتصفيات الجسدية للأيزيدية والنصارى التي تكررت في أثناء الهيمنة العثمانية على بلاد الرافدين ثم عادت في الآونة الأخيرة ولكن بدوافع مختلفة ولإهداف مختلفة ..والأرجح ان الأطراف الأثنية التي رمت الأكتساب سابقا في الأموال والأمتيازات هي التي تقف وراء الجرائم قديمها وحديثها بهدف مايسميه قادتها (مكتسبات) اسقطتها في سلالهم القوى الغربية نفسها (وبصورة مباشرة هذه المرة) بعد قرابة قرنين من الزمن..وهذا لايعني ان العثمانيين كانوا حملانا وديعة سواء من خلال ممارسات ولاتهم وباشواتهم او من خلال حملات التجنيد القسري او جباية الضرائب أومن خلال ضريبة الدم (دفشرمة) أو غيرها من الممارسات التترية التي صبغت العرب والمسلمين بألوان ألتواورالية قرمزية اتخذت الوانها من الحروب والدماء النازفة من جراء المواجهات بين العثمانيين والقوى الغربية، ولم تنصف العرب على الرغم من اشراكهم وقودا في الحروب الأوربية والأقليمية التي خاضها العثمانيون على مدى 400 سنة؛ مما يدعونا الى وضعهم في قفص الأتهام التاريخي نفسه الذي يقف فيه الغرب العدواني الذي لم يسمح بأستقلال العرب ابدا لا في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى، ولا في المرحلة التي تلت حركات التحرر العربي والنهوض القومي في مصر عبد الناصر او في سورية والعراق القوميين بل عمل على احتلال المنطقة فكريا وسياسيا من جديد..بما يؤكد ان شيئا من أهداف الغرب وسياساته لم يتغير منذ معركة بواتية والحروب الصليبية وحتى الوقت الحاضر..وكما ذكرت في استهلالي؛ فنحن في تصفحنا للتاريخ نفتح نوافذ أسيانة وأخرى بهيجة..وأخرى مثيرة بما تحتظنه من الوان وتفاصيل غريبة بما لايقاس ..ومن تلك النوافذ نافذة الموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا..
الموصل في ثلاثة عقود:
تناول مؤرخون موصليون وعراقيون وعرب اوضاع الموصل ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر وفترة حكم الولاة العثمانيين الذين اعقبوا فترة الحكم الجليلي بأسهاب..ومن هؤلاء الكتاب على سبيل المثال وليس الحصر عباس العزاوي وصديق الدملوجي وسليمان صائغ وأنستانس ماري الكرملي ورفائيل بطي وعبد المنعم الغلامي وسعيد الديوه جي..فتحدثوا عما تعرضت له الموصل من حوادث ابرزها الأوبئة والمجاعات وعن ادارة الولاة العثمانيين في الفترة الموافقة لحكم السلطانين العثمانيين محمود الثاني ومجيد الأول..وفي مراجعة هذه المدونات نلاحظ تماثلا في الوقائع التي جاءوا على ذكرها من جهة وعدم ربط هذه الحوادث على الصعيد المحلي في الموصل بالأوضاع السياسية الدولية والأقليمية التي كانت تعصف بالأمبراطورية العثمانية في ذلك العصر بتفاصيلها..كما لم يتطرق المؤرخون الى تفاصيل كثيرة جاء الرحالة والمنقبون والمبشرون من الآباء الدومنيكان وغيرهم على ذكرها..إلا أن المؤرخين العراقيين ممن أرخو للمرحلة يتفقون مع المؤرخين الأجانب في الخطوط العامة المميزة للنصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى انتهاء فترة ولاية طاهر باشا على الموصل..فالموصل بحكم كونها تابعة للأمبراطورية فلابد ان تكون في واجهة الصراع ضد اعداء الأمبراطورية ولاسيما بعد نجاح ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا في ضم سورية الى مصر والتقدم في الأناضول القريبة جدا من الموصل..مما جعل الموصل تحت اليد العثمانية مباشرة ليس لتزويد الأمبراطورية بالدماء والأموال الضرورية للدفاع عنها مما يفسر فرض التجنيد الألزامي وزيادة الضرائب المفروضة على الناس على مختلف فئاتهم ومذاهبهم وتكرار حملات التنكيل بأعداء الأمبراطورية الحقيقيين منهم والأفتراضيين..ولم يكن الضغط العثماني محصورا على الموصل فقط، بل شمل الولايات العثمانية كافة ..فكلما لحقت بالباب العالي هزيمة جديدة، ازداد الولاة ضراوة وشدة وتعسفا في حملاتهم الضريبية والسوقية.. ومما زاد الطين بلة ان الهزائم العسكرية صاحبتها كوارث واوبئة ومجاعات تضاف الى مثلث الفقر والجهل والمرض شبه الدائمي المميز للطبقات الفقيرة وهي الأكثرية في المجتمعات العثمانية..وكانت الموصل مسرحا للويلات من كل نوع ولون فقد شهدت الموصل مجاعات مهلكة عديدة تنوعت اسبابها بين اشتعال النار بالمحاصيل بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الصيف أو بالتعمد بأحراقها .. فضلا عن غزو الجراد وموجات البرد في الأعوام 1794 و1795 وتكرر غزو الجراد الأصفرالمهاجر للموصل اضطرادا في 1824 و 1825 ..وكانت اسراب الجراد تفد من هضاب آسيا وصحراء ايران تحملها الرياح بمالايحصى من الملايين لكل دونم من الأرض المزروعة فتأكل الجرادة الواحدة مايعادل ضعفي وزنها كل يوم بما يتلف محاصيل الحبوب من القمح والشعير والقطن فتسلب الأرض نباتها وخضرتها وتأتي على علف الحيوان وغذاء البشر تاركة الأرض (حصيدا كأن لم تغن بالأمس)..والنتيجة الحتمية لخراب الحرث خراب النسل إذ يصبح رغيف الخبز قرصا للشمس ينأى حتى في كوابيس الفقراء عن ايدي اطفالهم.. مما جعل الأوبئة لازمة من متلازمات المجاعة فكان الجدري يأتي يدا بيد مع الطاعون إذ يخبرنا المؤرخ سعيد الديوه جي في هذا الصدد:
(وفي عام 1799م ظهر الجدري في مدينة الموصل وظهرت أول اصابات بالمرض في محلة خزرج ، ثم أخذ يسري نحو المحلات الاخرى ، واستمر هذا المرض الخطير يفتك بأرواح الناس حتى منتصف شهر صفر سنة (1215هـ/1800م) وبلغ عدد المصابين الذين لقوا حتفهم في اليوم مائة وثمانين نسمة ثم انتقل الى كركوك والسليمانية..وفي عام (1215هـ/1800م) سرى الطاعون في اكثر احياء الموصل ، وبلغ عدد الذين لاقوا حتفهم في اليوم "مائة وثمانون او اقل خمسة" . وغلت الاسعار وكان اغلب الضحايا الذين يموتون من النساء والاطفال وهرب العدد الكثير من اهالي المدينة الى القرى المجاورة . ويذكر العمري في غرائب الاثر ان والي الموصل محمد باشا الجليلي قد ذهب الى سنجار لمحاصرة المتمردين من اليزيدية وخلال عودته الى الموصل علم بوجود المرض فخشي على جيشه فأبقاه خارج المدينة . وقد علق العمري قائلا :"انه رأى رجلا من العساكر بعيدا عن الناس خوفا من المرض ولم ينفعه ذلك)..
وتكررت موجة الطاعون المصحوبة بوباء الكوليرا (الهيضة) سنة 1821 ..ثم عادت الى الظهور مجددا وسط مجاعة استمرت اكثر من سنتين 1825 و 1828 لتتبعها مباشرة موجة قاسية من الطاعون في 1829، ثم اعقبت الطاعون موجة جديدة من الكوليرا التي يطلق عليها العراقيون تسميات مختلفة كالهيضة وابو زوعة والريح الصفراء..وقد استمرت هذه المرة سنتين فتكت خلالها بأهل الموصل في وقت لاتوجد في المدينة كلها مستشفى واحدة هذا بالأضافة الى انتشار حبة بغداد كما ورد في تقرير احد الرحالة في الموصل آنذاك..وكان الناس يموتون بالمئات كل يوم ولم يفلت من الموت اعضاء من البعثات التبشيرية ومن الآثاريين ..ومن لم يمت منهم في الموصل حمل معه المرض ليموت بحلب أو اماكن أخرى مثل جورج سميث والدكتور جرانت اما من مات منهم في الموصل مبكرا فالآثاري بيلينو والتبشيريين كولبي ميشيل الذي دفن في تل بيلا المقابل لقرية بحزاني في ظهيرة صيف ساخنة بعد نقله مشدودا على ظهر حصان لأكثر من سبعين ميل..ثم اشتد المرض بزوجته أليزا ميشيل فحملت على تختروان حتى الموصل حيث توفيت ودفنت في مقبرة الكنيسة السريانية الأرثدوكسية في الموصل وكان ذلك عام 1841 وبعد سنة توفي التبشيري ابيل هنزديل ايضا..وكان ذلك في اثناء ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا..ويعود الفضل للدكتور أساهيل جرانت الذي دأب على التنقل من اوروميا الى دير الزعفران الى ارض روم فالموصل لمعالجة المرضى حتى توفي هو الآخر في الموصل في السنة نفسها التي توفي فيها اينجة بيرقدار محمد باشا سنة 1844..ويعتقد أهل الموصل ان الوباء يعود كل 31 سنة في موجة جديدة؛ اما غزو الجراد وهو الطاعون الثامن في التوراة والأبتلاء الثالث في القرآن الكريم، فيعزونه الى غضب الله على الناس لظلمهم انفسهم او لسكوتهم على الظالم.. وذلك لذكر الجراد في القرآن في آيتين ثانيتهما تربط بين الجراد والنقمة الإلهية: (فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)، الأمرالذي يجعل الناس يشعرون بالأضافة الى ابتلاء الأوبئة، بالذنب..وكان علماء الناس يرون في طغيان الحكام واهمالهم فتنة لاتصيب الظالمين وحدهم بل تأخذ البريء بذنب الظالم..حتى وصلت الأوضاع في المدينة حالا بائسة قبل ارسال اينجة بيرقدار محمد باشا الى الموصل؛ إذ يخبرنا طبيب البعثة التبشيرية الأميركية د. جرانت الذي عاش متنقلا وراء المرضى بين ارومية وارض روم والموصل مستعرضا التاريخ القريب للمدينة:
(بالأضافة الى الأضطهاد، جاءت موجة الطاعون عام 1829 لتفتك بالمدينة ..وكان الناس يموتون بالمئات في كل يوم فيحملون وترمى جثثهم في حفرة هائلة في السور الشمالي حيث تبدو للعيان أكوام العظام والجماجم لمن ينظر من الفتحة الضيقة في السور..وكان الناس يرون ان الوالي (الجليلي) هو السبب فيما يلحقهم من ظلم فقرروا تحرير المدينة من العائلة الحاكمة ومن الباشا فقتلوا العديد من الولاة الجليليين ممن حاول استرداد النظام، بين عامي 1822 و 1834 "وقد توالى على الموصل خلال هذه المدة خمسة ولاة جليليين اثنان منهم تولياها مرتين"؛ أما المدينة فقد اصبحت خلال هذه الحواداث..مشهدا للفوضى المطلقة..فقد انقسم الناس الى جماعات تعادي إحداها الأخرى وادت المشاجرات والأغتيالات الى ضياع الأمن مما جعل الناس تبني جدرانا في الطرقات للفصل بين الأحياء المتخاصمة..اما التجارة فقد دمرت بالكامل تقريبا ..وبدت المدينة في اوقات بدون حاكم..وكان الرعية يتوصلون الى سلامتهم بالتجمع في ثلاثة او اربعة اشخاص وراء احد المتنفذين، يقوم بالمقابل بحمايتهم..وكانت الثياب تمزق من على اجسام العابرين في الشوارع..اما الأغتيالات فكانت متكررة..وكان مرتكبيها يفلتون من العقاب..ولايقدر السكان مغادرة المدينة لأكثر من نصف ساعة خوفا من العيارين الوافدين من الصحراء الذين يقدمون الى المدينة وينهبون كل من يرونه خارج اسوارها..وكان بيك راوندوز قد اقتحم الموصل ووصل حتى النبي يونس حيث استلب من الناس ممتلكاتهم كلها قبل ان يرحل الى حيث اتى) ..
فالموصل كانت في وضع لاتحسد عليه مدينة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر..وهو وضع لايمكن باي حال من ألأحوال فصله عن الأوضاع المتردية للأمبراطورية العثمانية التي كانت على الرغم من إرادة ادارتها في اسطنبول الإصلاحية في حالة انهيار سريع استحقت في طور تفاقمه لقب رجل أوربا المريض..وهو مع توظيف هذا المجاز اي [رجل مريض] فهو مريض لاتخلو يديه من مخالب وفمه من انياب..غير ان ضحيته في الحالات كلها وعند كل ازمة اقتصادية تعصف بالعاصمة او هزيمة تهتز لها البلاد وتزعزع ثقة السلطان شبه المطلقة بموارده وقوته هو الرعية التي تشمل بوجه خاص العرب الذين وقع عليهم الجهد العسكري من الطرفين المتحاربين مصر واسطنبول فضلا عن وضعهم في خط المواجهة مع الدول الأوربية الثائرة للمطالبة بأستقلالها..وكان استقلالا ناجزا او يكاد باكمله على عهد السلطان محمود الثاني الذي لم يجد بدا من المضي بالإصلاحات وكانت نتيجة الأصلاحات واضحة ومأساوية على الكثير من الولايات الإسلامية وبخاصة العراقية ومنها الموصل:
اينجة بيرقدار محمد باشا:
في هذه الظروف جاء تعيين اينجة بيرقدار محمد باشا (او بيرقداري - كما يسميه الموصليون) في محاولة من اسطنبول فرض ضرب من المركزية بطريق استرجاع الولايات العثمانية من الأسر شبه المستقلة، وربطها بالحكومة العثمانية مباشرة وتطبيقا للأصلاحات التي تمثل أهمها ببناء جيش يحل محل الأنكشارية التي كان السلطان محمود قد حلّها، كتطبيق التجنيد الألزامي الذي شمل على عهد مجيد الأول النصارى، ثم تنفيذ نظام ضريبي صارم لتغطية المجهود الحربي ومشتريات الأسلحة في مواجهة الخطر المصري والأبقاء على البقية المتبقية من الأمبراطورية..اي ان الأمبراطورية تحركت وفق ماتفرضه عليها الضرورة التاريخية اي [المركزية] أزاء التفكك والأنفصال وبكل وسائل القوة.
استلم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الموصل مدينة خرائب..وتتضح من متابعة فترة ولايته طبيعة المهمة التي انيطت به : فرض الأمن، جباية الضرائب لتمويل الجيش وحركة الأعمار في المدينة، فرض هيبة السلطان ومركزية الدولة، القضاء على حركات التمرد والعصيان في راوندوز والعمادية وتلعفر ومناطق اليزيدية والشمر، فرض عملية التجنيد الإلزامي، فرض الأمن في المدن والقصبات في شمالي بلاد مابين النهرين وانهاء كافة اشكال السلطات المحلية في المناطق التي تتواجد فيها الجماعات الأثنية والدينية..والعمل للحد من المجاعات والأوبئة والعصابات التي خربت الحرث والنسل ودمرت التجارة والأسواق في الموصل..كما تم خلال فترة حكمه الممتدة قرابة 9 سنوات من 1835 وحتى عام 1844 اكتشاف الأوابد الآشورية القديمة: فقد اكتشف بوتا بمساعدة معلومات نقلها اليه احد سكان باريما القريبة من مدينة سرجون هذه المدينة عاصمة سرجون الثاني واكتشف لايرد نينوى ونقب في كالخو (النمرود) و قلعة الشرقاط (آشور) وشريخان ..وكان أكتشاف هذه المدن الدفينة في مشارف الموصل وفي جانبها الأيسر ثورة هائلة في علوم الآثار والحضارات القديمة والأديان وتأسيسا لعلم المسماريات والدراسات الآشورية..ومن الطبيعي ان تنطلق الحملات الأستكشافية من الموصل ويحصل المنقبون على ترخيصاتهم (تذكرة) من الباشا بعد ان يحصل سفراء دولهم على أمر(فرمان) من السلطان العثماني يحملونه معهم الى الموصل..وكان الأنكليز والفرنسيين يشتكون من صعوبات تعسرعليهم المضي في تنقيباتهم بأمان.. ولعل السبب وقوف فرنسا وبريطانيا الى جانب محمد علي باشا وابنه ابراهيم في حروبهما ضد السلطان.. كما شهدت الموصل نشاطا هائلا للبعثات التبشيرية الأميركية والجزويتية الفرنسية والأيطالية وغيرها وكان بين اعضاء البعثات التبشيرية أطباء متنقلين كانت الموصل بأمس الحاجة لخدماتهم.. وعلى الرغم من تأسيس اينجة بيرقدار محمد باشا لمستشفى القشلة، فان نقص الأطباء وتخصيص المستشفى لمعالجة جنده ومن يرى في علاجه فائدة للموصل، قلص كثيرا من خدماتها العامة..ويبدو ان جل اهتمام الباشا، كما يروي الرحالة، انصب على قمع الأعداء المحتملين والفعليين للأمبراطورية العثمانية وفرض التجنيد الألزامي وجباية الضرائب..بينما تناول المؤرخون العراقيون والأتراك الجهود العمرانية والإصلاحية الى جانب الحرب والقسوة المفرطة في السعي لفرض الأمن وأحترام السلطة. ويقينا فثمة أختلاف كبير بين رواية الرحالة الأجانب ورواية المؤرخين العرب حول اينجة بيرقدار محمد باشا. وأرجح أن منشأ هذا الأختلاف يعود الى المنظور الذي تم بموجبه تصور الباشا وتصويره من قبل الرحالة الأجانب وطريقة تعامله معهم مما جعلهم يركزون على سلبياته دون ايجابياته بينما تناول المؤرخون العرب سلبياته وايجابياته فكانوا أكثر موضوعية من الأجانب..ورأيي أن الحكام الذين سبقوا الباشا محمد اينجة بيرقدار (كما يسميه المؤرخون المعاصرون) لم تعوزهم الإرادة الطيبة والبنائة، غير انهم لم يلجأوا الى القوة المفرطة في فرض هيبة السلطة وضرب خصومها من عصاة الصحراء والجبل مما جعلهم ضحية لهؤلاء الخصوم وللأوضاع المزرية التي صيرتها واشتركت فيها عصابات السراق والغزاة والجراد من كل نوع في الفترة التي سبقت مجيء اينجة بيرقدار محمد باشا وخلقت بيئتها الحال الذي وصلت اليها الأمبراطورية العثمانية بسبب الأطماع الغربية في اراضيها.. وفيما يأتي نتناول تقارير الرحالة ممن عاش في الموصل او زارها ومكث فيها حينا في اثناء حكم اينجة بيرقدار محمد باشا..ولكننا نبدأ بتمهيد للمنظور العربي لهذا الوالي معتمدين فيه على مؤرخين عرب كالأستاذ عباس عزاوي وسليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي اعتمد بدوره على تقويم الموصل او سالنامة الموصل لعام 1308- 1891 الذي دونه توفيق فكرت..وهو مصدر ثبته سليمان صائغ ايضا في مسرد مراجعه..ويقينا ان مكتبات الموصل وبخاصة مكتبة الأوقاف والمتحف والمركزية في المدينة والجامعة تحتضن مصادر غنية بالمعلومات عن تلك الفترة المهمة من تاريخ الموصل..وهي خارج متناولي للأسف مما يجعل الدراسة منقوصة بعض الشيء تواقة الى المصادر العربية الأخرى غير تلك التي اسلفنا ذكرها..مع ذلك ففي المصادر الأجنبية الألكترونية وغيرها مادة تفتقر اليها مكتباتنا ببساطة لأن معظمها لم يترجم الى العربية على الرغم من اهميتها الكبيرة لتدوين تاريخ الموصل في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمبراطورية وتاريخ الموصل وللتعرف على تفاصيل يفضل، من تتمثل حصته من التاريخ بالنهب والقتل والأغتصاب، حجبها وابقاءها دفينة في رفوف المكتبات..
تتوزع منجزات اينجة بيرقدار محمد باشا (1835 - 1843) في الموصل وشمالي العراق الى منجزات عسكرية وادارية وعمرانية واقتصادية..ففي فترة حكمه لم تحدث اوبئة او مجاعات كالتي حدثت قبل توليه ادارة المدينة او بعدها بأكثر من عقدين..وكان استلم الموصل والمنطقة في حالة فوضى تحف بها المخاطر ويتحكم باقدارها اللصوص والعيارين والقتلة ليسلمها مدينة مستقرة آمنة مزدهرة بعمارتها واسواقها..وبدهي ان تكون البداية بفرض الأمن في الداخل فالأنتقال للقضاء على حركات العصيان في القصبات والجبال ثم في مناطق تلعفر وسنجار وربيعة وفرض احترام القوانين على الجماعات الخارجة على القانون فيها تمهيدا لفرض نظام التجنيد الإلزامي وجباية الضرائب الضرورية لتمويل الجهد العسكري من جانب وحركة الأعمار من جانب آخر.. ولم يكن اهالي الموصل بسبب تكتلاتهم حول عدد من المتنفذين وخشيتهم من التيه في ارجاء الأمبراطورية او موتهم في الحروب الكثيرة التي تخوضها يستجيبون في البداية لدعوته الى العسكرية، وقتلوا رسوله الذي انفذه اليهم..فاعد 20 مدفعا قصف بها المدينة واغار على اسواقها ثم اعقب ذلك بحملة اعتقالات عشوائية مما وبذلك تمكن من فرض التجنيد الآلزامي الضروري لتشكيل الجيش الجديد..والتحرك به وبما لديه من قوات نظامية وخيالة لأخماد حركات العصيان في العمادية وراوندوز والشيخان وتلعفر وسنجار..والملاحظ في مقارنة النصوص العربية والتركية بكتابات الرحالة ان المؤرخين العرب والأتراك لم يذكروا تفاصيل النفير العام وتأثيره على الأهالي بينما توسع الرحالة في ذلك كما سنرى لاحقا..
وتمثلت حركات العصيان بخمس بؤر رئيسة هي العمادية وراوندوز وتلعفر ومناطق تواجد قبائل الشمر الحرونة وجماعات من ايزيدية سنجارالتي لم تكتف بالأمتناع عن التجنيد ودفع الضرائب بل تجاوزت ذلك الى الأغارة على القوافل ونهب المسافرين وتعريض الأمن للخطر، مما جعل امر اخضاعها ضرورة تماما كالجبال حيث قام عدد من الأغوات بتعيين انفسهم بانفسهم باشوات..وهي حال شاذة لأن الباشا الذي يعادل لقب (لورد) لايمنحه الا السلطان العثماني وربما عمد باشا بغداد في وقت مبكر الى منحه لمحمد ميركور (الأعور) او محمد الراوندوزي (المتخصص بقلع عيون خصومه من اليزيدية والنصارى والعرب)، فحاكاه اسماعيل البهديناني الذي اعلن عصيانه في العمادية على السلطة مستفيدا من لقب باشا الذي كان والي بغداد قد منحه اياه في السابق.
ونحن ان استخدمنا اسلوب الأحصاء التاريخي بالتقابل والمقارنة كما وضعه الدكتور احمد عبدالله الحسو سنجد ان الجغرافيا (منطقة الجبال) كانت دائما تشكل نتوءا في التاريخ وان حركات العصيان في الجبال تتكرر عبر التاريخ منذ العصر الآشوري نتيجة ضعف السلطة المركزية وتراجعها أو لتعرضها لعدوان خارجي، في واحد من ثلاثة مراكز فارس أوالعراق أوتركيا..يؤيد ذلك قيام بدرخان في بوطان على نحو متزامن مع عصيان الراوندوزي والعمادي..وتكرار ذلك في الفترة السابقة على الغزو الصفوي للعراق فقد اشار الدكتور عباس العزاوي على علاقة تنظيمية بين محمد بن فلاح المشعشع في اهوار الحويزة وحيدر جد اسماعيل شاه صفوي..بمعنى ان قوى الأطراف والأقليات الأثنية غالبا ماتميل الى العصيان والتمرد على السلطة المركزية عندما تتراجع هذه السلطة عن قوتها ومنعتها أو عندما تتعرض اراضيها لغزو واسع كالغزوالمغولي والصليبي والعدوان المغولي الثاني على عهد تيمورلنك ثم العدوان الأخير على العراق..وليس عبد الله أوجلان سوى الوريث التاريخي لبدرخان..والقرين بالقرين يذكر..ونحن في مراجعتنا للدراسات التي تناولت هذه المرحلة من وجهات نظر مختلفة تعكس القناعات الآيديولوجية أو العنصرية لكتابها، نجد أن هناك محاولة لعد القتلة ابطالا أو عزو جريمة ما بحق اناس عزل لشخص ما بينما تذهب الوثائق التاريخية الى تأكيد رواية مغايرة تماما كأن يعزى قتل علي بك أمير الأيزيدية الى اينجة بيرقدار محمد باشا بينما يؤكد الرحالة ان قاتل شيخ الأيزيدية هو محمد ميركور الذي كان لأسباب دينية وغير ذلك يناصب الأيزيدية والنصارى عداءا لدا راح ضحيته الآلاف بدون رحمة..وهنا لابد من توجيه اللوم على العثمانيين لأنهم ولأسباب دينية رجحوا كفة الأكراد على النصارى في قصبات ومدن الجبال لتنافسهم الأبدي مع الفرس الشيعة وللحيلولة دون امتداد النفوذ الفارسي وسط الأكراد من جهة ولعدم ارتياحهم للنصارى وبخاصة الأرمن منهم..
والمهم في هذا الأستطراد أن اينجة بيرقدار محمد باشا تمكن بمفرده احيانا وبمساعدة والي بغداد علي رضا باشا ووالي سيفاس مصطفى رشيد باشا مرة اخرى من بسط نفوذ الدولة العثمانية على قلاع المتمردين في الجبال على الرغم من تحصيناتها الدفاعية ووعورة الطرقات التي تقود اليها..وكانت اولى عملياته العسكرية في العمادية الآشورية التي شق فيها اسماعيل باشا عصا الطاعة فاتجه اليها بجيشه وفرض عليها حصارا ادى الى فرار اسماعيل باشا، فدخلها واصلح احوالها وعين عليها ضابطا من خاصته وعاد الى الموصل..وكان ذلك عام 1835 ..وبعد عام على هرب اسماعيل باشا الى [نيره وا] في الجبال، تحركت قوة كبيرة بقيادة الدبلوماسي العثماني الشهير مصطفى رشيد باشا وبأمر من السلطان محمود الثاني نفسه لقمع عصيان محمد ميركورالراوندوزي الذي قويت شوكته ووسع اراضيه حتى ماردين واطراف الموصل، وقتل الكثير من النصارى والأيزيدية بلا رحمة..بل قام بالأتصال بمحمد علي باشا وتقديم المساعدة لأبراهيم باشا في حربه مع العثمانيين في سورية..وقد اصطحب مصطفى رشيد باشا معه اينجة بيرقدار محمد باشا والي الموصل وعلي رضا باشا والي بغداد والتقت قواتهم في دشت حرير قبل تحركها الى راوندوز التي تحصن فيها ميركور وبعد مناوشات ومداخلات تضمنت اصدار امر بالأمان لميركور وفتاوي اطلقها مقربون منه كفتوى الملا محمد الخطي القاضية بتحريم قتال جيش الخليفة، استسلم ميركور واقتيد الى اسطنبول حيث حصل على العفو من السلطان ..إلا انه قتل في طريق عودته في سيفاس..مما وضع نهاية لعصيانه ووجه جهد اينجة بيرقدار محمد باشا الى اسماعيل باشا في العمادية كما أسلفنا.. وكان اسماعيل باشا قد تمكن من الرجوع الى العمادية والتحصن فيها مستفيدا من تحصيناتها الدفاعية ومتخذا اياها قاعدة للأغارة على قرى النصارى والأيزيدية عام 1842 فسير اينجة بيرقدار محمد باشا جيشا الى العمادية وجابهت قواته عسكر اسماعيل باشا بالقرب من [عين توثا]، فيما ذكر الصائغ، حيث انهزمت قوات اسماعيل باشا باتجاه القرية المذكورة وأحرقوها بينما عادت قوات اينجة بيرقدارالى الموصل..اما اسماعيل باشا فلملم شتات قواته وقادها الى القوش فقتل غالبية اهلها وانتقل الى روبان هرمز حيث اخرج الرهبان من صياصيهم وشرع بضربهم وتعذيبهم ولما سمع بقدوم قوات الموصل، هرب الى العمادية مصطحبا الرهبان المكبلين بالأغلال رهينة معه..إلا أنه لم يدم له المقام في العمادية اذ سرعان ماداهمته قوات اينجة بيرقدار محمد باشا معززة بقوات عثمانية وحاصرته وتمكنت من الإمساك به واقتياده مكبلا بالأغلال الى الموصل ومنها أخفر الى بغداد حيث انقطعت اخباره مرة والى الأبد..وبذلك يكون اينجة بيرقدار محمد باشا قد طهر الجبل من العصاة ..وكان خلال حملاته على الجبل قد مر بمدن عاصية اخرى كتلعفر وسنجار اللتان امتنعت السلطة المحلية فيهما عن تطبيق أوامر الأنخراط بالجندية ودفع الخراج عن الأرض المزروعة والمواشي فأجتاح المدينتين وعاقب اكابر سكانها واثريائهم ..ثم اتجه الى قبائل شمر فكسر شوكتهم وأسر أحد شيوخهم..واقتاده الى الموصل..وبذلك أمن الجبل والبادية ..بعد ان طهر المدن ومدينة الموصل بوجه خاص من اللصوص والعيارين والخارجين على القانون..وهنا يعود له الفضل بتأسيس جهازين مهمين اولهما امتداد للحسبة وظيفته ضبط النظام العام والحد من ظاهرة شرب المسكرات وارتكاب المحرمات، وثانيهما جهاز مخابرات او تعقيبات الهدف منه تتبع الهاربين من خدمة العلم ورصد المتآمرين للنيل منه او الأخلال بالأمن العام..وكانت العقوبة ضد مستحقيها من الخارجين على القانون صارمة لاتعرف الرحمة..مما أدى الى استتباب الأمن وانتعاش الأسواق والشروع بعمارة المدينة..
ولابد قبل الأنتقال الى المنجزات المدنية والعمرانية لأينجة بيرقدار محمد باشا من الإشارة الى التناقض القائم بين رواية السالنامة التي اعتمدها عدد من المؤرخين حديثي العهد من الأكراد كمحمد امين زكي الذي اعتمد مصدرا سليمان صائغ وصديق الدملوجي الذي نقل بدوره عن السالنامة، ورواية عدد من الرحالة كهنري اوستن لايرد وبخاصة فيما يخص التعامل مع الطائفة الأيزيدية وقتل زعاماتها..إذ ورد في المصادر الكردية والتركية ان اينجة بيرقدار محمد باشا قام بقتل امير الشيخان علي بيك وانه قام بعد عودته من العمادية بذبح زعماء الأيزيدية في قرية كرمحمد عرب..بينما ورد في نص واضح صريح للايرد صديق الشيخ ناصر الأسياني ومعاصر باشوات الموصل خلال زيارتين قام بهما للموصل وللمناطق الأيزيدية الآتي:
(كان بيك رواندوز القوي "ميركور" الذي وحد القبائل الكردية في الجبال المحيطة تحت زعامته وتحدى الفرس والترك معا لسنوات قد قرر سحق الطائفة الأيزيدية، وكانت قوات علي بيك [شيخ الأيزيدية] قليلة جدا في عددها مقارنة بقوات ظالمهم [ميركور].. فانهزم من بقى على قيد الحياة وسقط علي بيك اسيرا بيد زعيم راوندوز الذي قتله فورا..وبالنتيجة هرب سكان الشيخان سيرا الى الموصل؛ وكان ذلك في موسم الربيع عندما ارتفعت مياه دجلة وغطت الضفاف.. وقام اهل الموصل بازالة الجزء المصنوع من الزوارق من الجسر..مع ذلك تمكن عدد من الأيزيدية من عبور النهر بينما بقي من لم يقدر منهم على السباحة من النساء والأطفال والشيوخ على الجانب الأيسر ثم تحركوا للأختباء في تلقوينجق..إلا أن الراوندوزي داهم الأيزيدية المعتصمين بالتل وقام بذبحهم بدون رحمة وهم يصرخون ويستغيثون في الوقت الذي ينظر اليهم اهل الموصل من فوق سطوح منازلهم عاجزين عن تقديم العون لهم وهم يستغيثون من غيرما جدوى......وبينما كان مصير الرجال والنساء اليزيدية الذبح من غير رحمة..كان قدر الأطفال من الجنسين البيع في المدن الرئيسة..وكان هذا واحداا من مصادر دخل بدرخان " زعيم الأكراد في الأناضول" في الوقت الذي جرت العادة على قيام باشوات الموصل وبغداد بأطلاق العنان لقواتهم غير النظامية للأغارة على القرى اليزيدية لتعويض تدني مرتباتهم..مما دفع الأيزيدية على تنظيم انفسهم بعصابات من قطاع الطرق بهدف النتقام من ظالميهم..فكانوا يقتلون اي مسلم يقع بين ايديهم ويغيرون على القوافل ويقتلون التجار بدونما رحمة غير أنهم لم يهاجموا المسيحيين لشعورهم انهم ضحية مثلهم لظلم الترك والمسلمين)..
يتضمن نص لايرد مضامين كثيرة منها مايتجلى صريحا بين السطور ومنها مايستدل عليه من القراءة بين السطور..واهم تلك المضامين ان العرب لم يعمدوا الى محاربة الأيزيدية أو قتلهم .وأنهم كانوا كالنصارى الكلدان والنسطوريين والأرمن ضحايا للأكراد والترك..وأن رواية السالنامة بخصوص قتل علي بيك شيخ ايزيدية الشيخان الذي عزته الى اينجة بيرقدار محمد باشا غير صحيحة مما يفترض ان رواية مذبحة كر محمد عرب التي عزتها الى اينجة بيرقدار محمد باشا هي الأخرى غير صحيحة..ومما يزيد النصوص والروايات ارتباكا تكرار اسم محمد في ولاية الموصل بعد وقبل اينجة بيرقدار محمد باشا ولدى الأكراد ايضا؛ ذلك ان اسم ميركورالسوراني هو الآخر محمد..مما يرجح قيام محمد ميركور بمذبحة كرمحمد عرب وليس اينجة بيرقدار محمد باشا..وان كاتب السالنامة نقلها عن روايات وليس عن شاهد عيان وبعد مضي وقت طويل على الحوادث التي تناولتها..يؤيد ذلك لجوء الأيزيدية الى الموصل بدلا من الجبال بعيد قتل علي بيك امير الشيخان من قبل محمد ميركور الراوندوزي..ولو كان حاكم الموصل ليقتلهم ما كانوا ليؤمنوا جانبه ويعبر من تمكن من عبور النهر منهم سباحة في عنفوان دجلة الى الموصل..مع ذلك فالحقيقة التاريخية ان الأيزيدية كانوا على الدوام هدفا لكل رام ولاسيما بعد ان نظموا انفسهم في عصابات هدفها الأنتقام من ظالميهم ولأن قاعدة الهجوم افضل وسيلة للدفاع يمكن ان يطبقها اي طرف من طرفي النزاع..ونلاحظ في نص لايرد اشارته الى المسلمين بدون تحديد اي جماعة مسلمة الكرد ام العرب..ونحن نعلم ان العلاقة السائدة بين المسيحيين والعرب في الموصل كانت طيبة بدليل النص الآتي لرحالة آخر هو ساوثكيت الذي أقام في الموصل وكتب عن سكانها وأوضاعها وتاريخها:
(في تجوالي راكبا أو راجلا في المدينة كنت أحيانا اصاحب احد الرهبان الكلدان او السريان، وكنت دائما الاحظ بذهول الطريقة المؤدبة والأخوية التي يحيي بها المسلمون المسيحيين في كل مكان نلتقيهم فيه؛ والأواصر الطيبة بين الجماعتين تتضح قبل ساعات من خروجي الى المدينة..وبدت لي غريبة بحيث شرعت بالستفسار عن سببها..واعتقد انها نشأت من جراء أسباب عديدة مشتركة أبرزها ان المسيحيين ومنذ ازمنة سابقة قدموا اعظم الخدمات في الدفاع عن المدينة في الحرب، ولكون الموصل كانت ولمدة طويلة بإدارة ولاة متحدرين من اصول مسيحية ولأنهم كانوا يبجلون ذكرى هؤلاء الأسلاف بزيارة قبورهم بصحبة المسلمين وترميمها على خلاف الأتراك الذين درجوا على عمل الشيء نفسه مع اقرانهم في الدين، هذا فضلا عن حقيقة كون معظم الحرف المفيدة كانت بيد المسيحيين مما جعلهم موضع احترام واصحاب نفوذ..وأخيرا من حقيقة كون جزء من المسلمين ربما كانوا من اصول مسيحية كما تكرر في تصريحهم بذلك..كما شاهدت على الصعيد الشعبي ان هناك درجة غير اعتيادية من الإلفة "الميانة" والأحترام من جانب المسلمين تجاه المسيحيين وكان المسيحيون بدورهم يبادلون المسلمين مايليق من صفات الرجولة وسمات الكرم.. ولم الاحظ في اي مكان آخر غير الموصل وماردين مثل هذا السلوك....ففي الموصل وماردين فيما بعد رايت ان معظم أولئك الذين تعاملت معهم كانوا رجالا نشطين أذكياء العقل..وبين رجال الدين بوجه خاص رأيت درجة غير اعتيادية من الشهامة وحسن الخلق..و بالمقارنة، فأنني لم الق في سفري في تركيا وبلاد فارس اناسا جديرين بالأهتمام..ولم اشعر باية بهجة في الأيام التي امضيتها فيهما) ..
يوضح هذا النص حجم التزوير لدى كتاب التاريخ المحلي ولاسيما ممن يميل الى النظر الى التاريخ من منظور إثني فيحاول صبغ التاريخ بأكملة بالوانه المحلية ضاربا عرض الحائط الوثائق الدامغة التي تؤكد ضلوع اسلافه بالجريمة التي يريد الصاقها بالعرب من سكان الموصل مسيحيين كانوا او مسلمين..فيميل على سبيل المثل الى ألحاق صفة ثائر بقاتل مثل محمد ميركور الراوندوزي او اسماعيل باشا او بدرخان وكلهم متوغل في دماء المسيحيين والأيزيدية في سهل نينوى..ولولا وجود هذه الكتب في مكتبات العالم كلها لطالتها ايديهم واموالهم فعمدوا الى تحويرها او سلخها او اتلافها او تزويرها..وقالوا أن الأيزيدية والمسيحيين قتلهم العرب من سكان الموصل بينما تشير كل الدلائل والشهادات على أن القتلة هم الأتراك والأكراد حصريا..
ويخبرنا لايرد في اماكن اخرى عن الشيخ ناصر الأيسياني الزعيم الديني للطائفة الأيزيدية وأسره من قبل محمد كريدلي (أو كرتلي) باشا، والي الموصل بعد محمد شريف باشا (1844) الذي اعقب اينجة بيرقدار محمد باشا على ولاية الموصل..فنلاحظ ان وصف لايرد لهذا الباشا غالبا مايؤخذ على ان المقصود هو اينجة بيرقدار محمد باشا..وكان لايرد قد نعت كريدلي (كرتلي) بأقبح النعوت وباستحقاق واضح..غير ان كتابا لايفرقون بين التواريخ ويخلطون بين الأسماء والمسميات غالبا ما يأخذون اينجة بجرائر غيره..
وهنا نعود الى اينجة بيرقدار محمد باشا الذي كنا تركناه بعد رجوعه من العمادية ودحره لأسماعيل باشا واقتياده الأخير الى الموصل ومنها الى بغداد..فنتابع اعماله العمرانية والإصلاحية في الموصل..
اصلاحات اينجة بيرقدار محمد باشا:
تزامنت ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا مع برنامج السلطان محمود الثاني الإصلاحي واسع النطاق الذي شمل الجيش والإدارة المدنية والأقتصاد والمجتمع (الرعية)، وجاء نتيجة ضرورة املتها رياح التغيير التي عصفت بالأمبراطورية العثمانية نتيجة تنامي القوى الأوربية وانسلاخ العديد من الولايات عن إرادة السلطان العثماني وثورة الولايات المتبقية..وكانت الإدارة العثمانية آخراشكال المنظومات التقليدية الأوتوقراطية المستورثة لنظام التفويض الإلهي في الحكم في حين كان المجتمع العثماني الآسيوي بوجه خاص امتدادا للقرون الوسطى ..يتضح ذلك من استمرار النمط الآسيوي في الحكم ..فنحن لانتحدث هنا عن مواطنين بل رعايا، ولا عن حاكم بل والي، ولا عن رئيس دولة بل سلطان..مع ذلك شعر السلطان العثماني بضرورة القوة لمواجهة الزحف المتجه الى اسطنبول من الشمال والجنوب والشرق والغرب..وبدهي ان يكون الحل المقترح المركزية والإصلاح..ولعل السلطان كان يعي مبكرا مخاطر الديموقراطية الغربية التي غالبا مايصاحبها تفكك الدولة وخراب المجتمع..ولأن المطلب هو الإصلاح فلابد من فرض إرادة واحدة وليس جملة من الإرادات المتناحرة المتعارضة..ولهذا فبعد استتباب الأمن على نحو عاجل وحاسم ومبكر، لجأ إنجه الى اعمار المدينة فجمع تجارها ووجهاءها وأغنياءها من الأسر الموصلية المعروفة ومن شيوخ الأصناف وألزمهم بضرورة دفع مبالغ من المال لتعزيز ميزانية الولاية.. ولكن موارده في واقع الأمر كانت متعددة ومتنوعة: فقد باشر منذ تسلمه الموصل بتطبيق جملة من الإصلاحات الإدارية والمالية بطريق تنظيم الضرائب وتمهيد سبل جبايتها..ففرض بالأضافة الى المكس والخراج والجزية (التي ابدلت بالخراج) والمسقفات والأسواق، ضريبة على كل بيت مقدارها 25 قرشا وقرشا على على كل رأس غنم، وعندما تنضب اموال احدى مصدر من المصادر، يعمد الى استقطاع الضرائب بالأموال العينية كالغلال والمواشي او ببيع اي شيء لايرى فيه فائدة من عائدات الولاية كالكبريت مثلا..يخبرنا لورنس لاوري عن جرانت في هذا الصدد:
(في طريق عودته من الحملة على سنجار ساق قطعان الأغنام التابعة للأيزيدية وعندما تنفق الأغنام من جراء الحرارة في الطريق او يتناولها جنوده طعاما، يأمر بقطع آذانها ويأتي بالآذان الى المدينة ليقبض اثمان الغنم النافقة والمأكولة من الناس وكأنها بيعت اليهم حية ومعافاة..والطريقة الأخرى التي كان يغذي فيها خزينته تتمثل بمنع اية تجارة باستثناء تلك التي باع احتكارها بمبالغ باهضة للتجار..وقد بلغت كمية الأموال التي جمعها عام 1841 بهذه الطرق 138.935 دولار اي مايعادل 3.195.500 بياستر،وكالآتي: الرسوم المفروضة على الأحمال التي تدخل من اي من ابواب المدينة 300.000 بياستر، احتكارالصابون 350.000، بناء الأكلاك 50.000، التبغ 24.500، القهوة 27.000، رسوم الحبوب 100.000، وعلى اللحوم 120.000؛ويتقاضى على ختم السلع 275.000، وعلى المصابغ 224.000، وتبلغ ضريبة الشركات 1.500.000 بياستر؛ ويتقاضى 60.000 من المسلمين في بداية كل سنة، اضف الى ذلك الخراج وهو أتاوة أو جزية تستقطعها الحكومات المسلمة من المسيحيين واليهود حددها السلطان ب 110.000 بياستر.. ويصادر 200.000 من مصادر مختلفة. فلاغرابة ان نجد ان استيراد السلع والبضائع الأوربية الذي بلغ عام 1835 966 بالة، وصل بالمقارنة 94 بالة عام 1841 وبضمنها اغطية الرأس أو [الفيس] المستورد من فرنسا وجنوة..اي بنقص من 1016 الى 124)..
ويستأنف الكاتب نفسه في مكان آخر:
(ولمعالجة الكبريت قام الباشا بتحوير جامع كبير على ضفة النهر الى طاحونة وربطها بمنجم للكبريت يقع بالقرب من هذا الجامع [الطاحونة]..وبدأت الطاحونة بانتاج كميات كبيرة من الكبريت تجاوزت حاجته منه لصنع البارود، حتى تكدس الكبريت في الأسواق فقام بتصديره الى بغداد ..ولما طفحت اسواق بغداد بالكبريت، عمد الى توزيعه بحصص الى الطوائف المختلفة في الموصل، وسواء أكانوا بحاجة اليه ام لم يكونوا توجب على كل شخص شراء حصته من الكبريت، شاء أم أبى، وبضعف سعر السوق)..
وتتماثل النصوص الواردة في أدبيات الرحلة ذات الصلة بتأكيدها على هذه الأرقام واساليب اينجة بأستحصالها وجبايتها ..غير ان مما لاريب فيه أن جانبا من هذه الثروة كان يصل الباب العالي والجانب الأكبر كان يتوزع على الأبواب الواطية وجانبا آخر كان يصب في خدمة المدينة وعمرانها والجيش وميرته والفقراء والمعوزين ..كما سنرى..
وتجدر الملاحظة ان هناك تماثلا بين نصي جرانت وساوثكيت في وصفهما للموصل وإدارتها واحوالها في أثناء ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا..
وتمثلت الخطوة التالية بالتصنيع العسكري وتعزيز تحصينات المدينة الدفاعية فشيد ثكنة عسكرية كبيرة ومصهرا لصناعة المدافع والذخيرة واعداد البارود..وكان معمل المدافع يزود بالنحاس الذي كان التجار الأرمن ينقلونه عبر الموصل الى بغداد ومنها الى البصرة..فيصهر لعمل المدافع التي تحمل على الجمال أو في عربات تصنع محليا وتجر العربات خيول مدربة معدة لهذا الغرض..بل كانت السروج وعدة الخيول كالكباحات هي الأخرى تصنع في الموصل..إذ يخبرنا لورنس لاوري في كتابه [د.جرانت ونساطرة الجبل] في هذا الصدد:
(وكانت خيام العسكر ومعها التجهيزات العسكرية بتمامها بل وحتى الأرزاق اليابسة [الصمون الصلب] الضرورية للحملات البعيدة جاهزة في اية لحظة لميرة الجيش. كما اعد فرقة متخصصة بالموسيقى العسكرية مدربة على عزف المارشالات العسكرية زودها بالآلات الموسيقية الأوربية الحديثة تقوم كل مساء بعزف موسيقى عسكرية امام القصر)..
ونستنج بدورنا ان تحسين الخدمات العسكرية كالنقل والميرة والعربات والخيل لابد ان يرتكز على تطوير مهن بذاتها كأفران الجيش والنجارة الضرورية لعمل العربات والدباغة الضرورية لآعداد الجلود المستخدمة في سروج الخيل وعمل المكابح من جهة والقيام باعمال عمرانية كالثكنات والمستشفيات ..ولأن الموصل لم تكن من المدن الكبيرة أكتفى اينجة بيرقدار محمد باشا ببناء ثكنة كبيرة ومستشفى كانت الأولى في الموصل هي مستشفى القشلة (المشتى)..ويخبرنا رحالة آخر هو أينزورث في هذا الصدد:
(عين الباشا الحالي محمد اينجة بيرقدار لهذه المهمة الصعبة..ويتصف بالقسوة المفرطة، لأنه وبعد اعدامات عديدة ومصادرات كبيرة للممتلكات ونزع السلاح من اهالي المدينة؛ نجح في مهمته. فقد ادخل الباشا النظام الذي تمكن بطريقه من اعداد وتجهيز 3000 عسكري بالإضافة الى قوة صغيرة غير نظامية من الخيالة وكتيبة صغيرة من المدفعية وفي الموصل شيد ثكنة عسكرية أنيقة في عمارتها..ومصهرا لصنع المدافع..وبينما كان منشغلا بتحسين التحصينات الدفاعية والأمكانيات الهجومية للموصل كونها محاطة من جهاتها كلها بقبائل خارجة على القانون كأكراد راوندوز والعمادية من الشرق وأكراد البهدينان والعشائر العربية من الشمال، وايزيدية سنجار في الغرب والبدو من الشمر الى الجنوب، قام بفصد موارد المدينة والمقاطعة حتى النفاد..بحيث غادر العديد من سكان الموصل بحثا عن مصادر للعمل وضرورات العيش في مكان آخر لاتكون الضرائب المفروضة عليهم فيه لاتحتمل على هذا النحو ..ولكن الباشا اتخذ احتياطاته فمنع عبور بوابات الموصل بدون جواز [تذكرة])..
وبينما يصدق هذا النص في توصيف جانب من احوال المدينة وممارسات اينجة بيرقدار محمد باشا..أرى ان صفة العنف التي لحقته في داخل الموصل جاءت بسبب المعارضة التي واجهها في بداية ولايته ومحاولات الأغتيال التي تعرض لها..ولاسيما وأنه لم يميز بين الناس على اساس الطبقة او الدين ولم يأخذ في نظر الأعتبار الأمتيازات التقليدية او الموروثة في فرض الضرائب او في الدعوة الى الجندية مما اثار الناس ضده وجعل مسألة بقائه في السلطة امرا مستحيلا بدون العنف..ويعود الفضل لأينجة بيرقدار محمد باشا في بناء علوة الموصل وبناء أو تعمير مسجد النبي دانيال في حضيرة السادة في قلب الحي المعروف بحي اليهود في الموصل واعادته اعمار سراي الموصل..وفي رواية لأحد الرحالة انه فضل السكن بعيدا عن المناطق الآهلة في الموصل فبنى قصرا له جنوبي المدينة، تؤكد ذلك رواية أخرى صورت الجانب الشمالي من داخل السور على انه مكانا اشبه بجبانة تقذف فيها جثامين الموتى بالطاعون والهيضة خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر..وكان اينجة بيرقدار محمد باشا محيطا بنواحي الموصل واسرارها ولاسيما أزاء اكتشاف الغرب للأوابد القديمة بحيث نجده في روايات عديدة يسأل المنقبين الأجانب ان هم وجدوا ذهبا! او نراه يسعى في بث عيونه بصفة عمال تنقيب بهدف مراقبة الاثاريين الأجانب ورصد اللقى الأثرية لديهم ..ولربما قام بتكليف جنده بالتنقيب في تل الذهب جنوبي الموصل في منطقة الغزلاني لظنه انه يحتوي على ذهب..وفي رواية انه امر بهدم المنطقة الكائنة في باب السراي.. ولعل المباني المطلة على شارع غازي والمماثلة لمباني بارطين القريبة من ساحل البحر الأسود حيث مسقط رأسه قد شيدت من قبله في ذلك الجزء من سراي الموصل..
ويقينا فأن الأصلاحات العمرانية لأينجة كثيرة خلال السنوات التي أمضاها في ولايته والممتدة من عام 1835 وحتى عام 1844 وهي مدة طويلة مقارنة بالولاة الذين جاءوا بعده ففي الفترة الممتدة من اواخر عام 1844 وربيع عام 1845 حكم واليان لم تدم ولاية كل منهما بضعة اشهر..ويخبرنا باجر الذي التقى الباشا قبيل وفاته بشهرين او ثلاثة وتحدث معه، الآتي:
(لقد واصل محمد باشا إدارة الموصل اكثر من سبع سنوات الآن وكان حاكما مؤثرا في إدخاله للعديد من الأصلاحات البنائة على الإدارة)
ويشير وليم فرانسيس أينزورث الى ان سكان الموصل كانوا دائما موضوع مبالغة إلا ان عددهم في تزايد مما يؤكد التأثير الأيجابي لإدارة أينجة بيرقدار محمد باشا على الرغم من الحروب وما اصاب الموصل في العقود الخالية من ويلات ، يخبرنا اينزورث في هذا الصدد:
(لقد بولغ كثيرا في تعداد سكان الموصل، لكنهم في تزايد في الوقت الحاضر، ولضمان ذلك لايسمح الباشا بمغادرة الذكور المدينة على نحو دائمي كما لم يسمح لأنثى بمغادرة ابواب المدينة بدون ترخيص)..
وفي هذا مؤشر على حرص اينجة بيرقدار محمد باشا على إكثار عدد سكان الموصل مما ينم عن بعد نظر وتخطيط طويل الأجل لأعادة بناء المدينة وتعويض ماخسرته في الحروب والأوبئة والمجاعات التي سبقت مجيئه الى إدارتها على الرغم من كونها لم تكن مدينته مما يدعونا الى اعادة صياغة فهمنا لطبيعة النظر العثماني الى العالم الإسلامي وشعورالعثمانيين بأن دولتهم استمرار لدولة الخلافة الإسلامية وان هذا النظر والشعور يرتبطان بالدولة العثمانية تحديدا وليس بتركيا الكمالية بأي حال من الأحوال..وهذا يشير بدوره على تأثير العامل الغربي الحاسم (صليبي الطوية) في سحب تركيا من محيطها الجغرافي وفضائها التاريخي الإسلامي وإلحاقها بالغرب وعولمتها [شيطنتها] بدون تقبلها ضمن الأسرة الغربية التي لم تفصل بين الأتراك والعثمانين والعرب وغيرهم من المشارقة ما دام الأسلام دينا لدولهم وعقيدة لشعوبهم..
وهذا النظر العثماني يقدم في رأيي مفاتيح لفهم دوافع الأجراءات الإصلاحية لأينجة بيرقدار محمد باشا في الموصل..فعلى الصعيد الأجتماعي واستمرارا للحسبة اسس شرطة اخلاق مهمتها ضمان الأمن الأجتماعي من الأنحرافات وربطها بنظام تعقيبات (مخابرات) ملحقة بالشرطة مهمتها تعقب اللصوص والعيارين والمهربين..
وكان اسس ايضا مايشبه نظام المعونة الإجتماعية وظيفته مساعدة الفقراء والمحتاجين ودفع رواتب العلماء والخطباء..بينما منع عطاء السادة ممن لم يجد فيهم مايميزهم عن شرائح المجتمع الأخرى في خطوة يمكن ان نسميها منطقية..ويخبرنا باجر في هذا الصدد:
(خلال اقامتنا في الموصل قرر محمد باشا شمول السادة الذين يزعمون انهم من نسب النبي ببعض الضرائب المفروضة على الرعية بدون استثناء ولم يكونوا مشمولين بها سابقا.. وكان هؤلاء السادة يميزون انفسهم بأرتداء عمائم خضر. فاختار السادة ممثلين عنهم لمقابلته لكي يشرحوا له فداحة الأذى والظلم اللذان لحقا أسرة النبي من جراء هذا القانون..فسألهم عن تبرير هذا الحق الذي يستثنيهم عن بقية الناس وكيف له ان يعرف انهم سادة حقا؟ فأشار السادة الى عماماتهم الخضراء باعتبارها نيشان نسبهم وامتيازاتهم المقدسة..فاجاب اينجة: أهذا كل شيء! ان اسراب البط بالقرب من كركوك رؤوسها خضراء مع ذلك فأنها تعرف بعادتها القذرة بالتخبط بالوحل..واشك ان كنتم افضل حالا منها، فانصرفوا وادفعوا الضرائب).
ومن منجزات اينجة بيرقدار محمد باشا فتح مناطق الأكراد والأيزيدية والشمر للرحالة والآثاريين والبعثات التبشيرية فقد تمكن من بسط الأمن والنظام في الجبال والبوادي فكان حتى عندما يخفق أحد الولاة في اعالي بلاد مابين النهرين في اخماد عصيان، كان ينجح هو بأخماده بواسطة مدافعه وأرادته القتالية كما حدث في ماردين عام 1839 وفي سيرت عام 1841..مما دعى الباب العالي الى ضم منطقة بهدينان الى ادارة الموصل بعد ان كانت تابعة لإدارة بغداد ثم اعقب ذلك بضم منطقة سيرت الى ادارة الموصل مما جعل مناطق التيارية والنسطوريين والسريان الرثودوكس والسريان الكاثوليك كلها تحت ادارة الموصل في خطوة اعادت الحال التي كانت عليه هذه المناطق في العهود الآشورية القديمة عندما كانت هذه المناطق خاضعة لكالخو فمدينة سرجون فنينوى تباعا..يخبرنا باجر:
(في غضون سنوات قليلة اصبح لمحمد باشا جيشا حسن التنظيم تمكن بواسطته من انهاء اغارات العرب والأكراد والأيزيدية وقطع دابر اعمال النهب التي كانوا يقومون بها وجعل هذه المنطقة واحدة من أكثر المناطق امنا في الأمبراطورية..وكانت الروح والحزم اللذان تمكن الباشا بواسطتهما من تحقيق هذه الإصلاحات ستكون موضع ثناء لو كانت مصحوبة ببربرية أقل وبفرض للضرائب أهون)..
في نص باجر إشارة مهمة لمؤرخي تلك المرحلة ممن يحبذون التأكيد على العنف وحده هي ان القبائل العربية ومعها الأكراد والأيزيدية لم يكونوا حملان وديعة بل كانوا يقطعون الطرق وينتهبون القرى والقوافل..وان كانت البادية والجبل أوكارا ينطلق منها قطاع الطرق فكيف سيكون حال الموصل..يقدم لورنس لاوري في كتابه "جرانت ونساطرة الجبل" الوصف الآتي:
(عرف الباشا بحزمه وطاقته فبينما كان قدر كل باشا يرسله الباب الى الموصل على مدى حين من الزمن، الأغتيال من قبل الموصليين، فقد تم اختياره بصفته الرجل الوحيد المؤهل للمنصب، فرأى مدينة تعشعش فيها الفتنة فالتجارة كانت متوقفة وكل بيت حصن بذاته يهاجم اتباع كل شخص متمكن يقيم فيه أتباع وجهاء متنفذين في حي آخر..وبدلا من اتخاذه سكنا له القصر في وسط المدينة أسوة بسابقيه، اقام في سكن قديم في السهل الواقع جنوبي المدينة..وحصن نفسه متحديا كل محاولات الأغتيال التي استهدفت حياته في الوقت الذي سقط فيه المتنفذين في المدينة واحدا إثر الآخر بأيدي عملائه)..
وكانت الفوضى قد بلغ السيل منها الزبى في الموصل عندما هاجم ميركور الراوندوزي قرية النبي يونس ونهب سكانها قبيل مجيء الباشا الى الموصل..وتلك حادثة رواها ساوثكيت في كتابه "رواية رحلة في ارمينيا وكردستان وبلاد فارس وبلاد مابين النهرين":
(وكان راوندوز بيك قد غامر ومعه بضعة مئات يقودهم بالإغارة على قرية النبي يونس الواقعة مقابل المدينة وتمكن بطريق التهديد من انتزاع كمية كبيرة من الأموال من اهلها..وفي وسط هذه الأضطرابات، تدخل السلطان وأرسل الباشا الحالي وهو رجل معروف بالقسوة والشدة في التعامل..وحالما وصل الموصل تكررت محاولات اغتياله..وتعددت المؤامرات للنيل من حياته، ولكنه تمكن بسرعة حركته وطاقته على تفاديها واحدة تلو الأخرى..وتمكن من السيطرة على زعماء الأحزاب واحدا بعد الآخر وتصفيتهم سرا..ومع القضاء عليهم تلاشى الخطر على حياته..فشرع بقطع الرؤوس براحته لحين تبددت تماما مظاهر العصيان واستؤصلت من جذورها)
فبدهي والحال هذه ان يلجأ اينجة بيرقدار محمد باشا الى العنف ولاسيما أزاء منطقة تخترمها النزاعات وتتناسل فيها اوكار العصيان والتمرد، كما ان روح العصر كانت امتدادا طبيعيا للقرون الوسطى الآسيوية وهي أزمنة تشكل الحرب عصب حياتها وعمودها الفقري..اضف الى ماعرف عن انظمة الحكم الآسيوية الوثنية بوجه خاص من توغل في المكر والغدر والدسائس وما الى ذلك من ميول متجذرة في الأئتمار والأغتيال والتجاوز على حقوق الآخرين واستباحتها واستحلالها..فالعنف دين آسيا الوثنية وقوام قوة الدولة فيها..غير ان الإسلام لعب دورا هائلا في تغيير الميل الى العنف على الرغم من تأثير الدوافع العنصرية وقوتها لدى الأتراك والفرس وغيرهم من امم آسيا..
فلا غرابة إذن أن نرى معظم الرحالة يتناول هذه الناحية في شخصية اينجة على الرغم من ان العنف عنده جاء في سياق مجابهة عنف آخر ومن اجل بناء مؤسسات الدولة وتعزيز الأمن والأستقرار في الموصل في سقفها التاريخي في الجبل وامتداداتها الطبيعية في بادية الجزيرة وجنوبي الأناضول..
وقبل عرضنا لأنطباعات الرحالة والمبشرين عن أينجة بيرقدار محمد باشا لابد من إزالة اللبس عن حالتين غالبا مايسند فيهما وصف لايرد و كرستيان رسام لمحمد كرتلي على انه لآينجة بيرقدار محمد باشا كما اشرنا..والسبب تماثل اسماء العديد من الباشوات من جهة فضلا عن عدم الرجوع الى النصوص الغربية ومقارنتها وربما تقصد عدد من المؤرخين الجدد الخلط بين الشخصيتين بهدف تقبيح صورة اينجة بيرقدار محمد باشا الذي دحر حركات العصيان وبرهن ان من يسميهم البعض امراء ليسوا، في الواقع، سوى قتلة وقطاع طرق كميركور الراوندوزي واسماعيل باشا وغيرهم. ففي نص للايرد يصف به محمد كرتلي نجد اقبح الصفات: (كان اول اجراء لي عند وصولي الموصل تقديم اوراقي لمحمد باشا حاكم الولاية. وكان مظهره يماثل مزاجه وسلوكه وبذلك كان مظهره انعكاس لما ينطوي عليه فعلا فالطبيعة جعلت النفاق [التظاهر] في منأى لايطاله ابدا..رأيته بعين واحدة وبأذن واحدة وكان قصيرا وسمينا ينتشر على وجهه أثر الجدري..وكان فظا في حركاته اجهشا في صوته..وكان الناس في وقت وصولي في استياء من ضرائبه وقسوته..هكذا كان الباشا الذي قدمني اليه نائب القنصل السيد رسام)
نلاحظ ان لايرد في نصه ذكر اسمين الأول محمد باشا (كريتلي) والثاني رسام ويقصد به الأخ الأكبر لهرمز رسام، وزوج شقيقة باجر متيلدا، كريستيان رسام المتوفي عام 1872.. وكان ذلك في أواخر عام 1844 اي بعد وفاة اينجة بيرقدار محمد باشا بأشهر..وكان لايرد قد قابل قبل هذا التاريخ اينجة بيرقدار محمد باشا في قصره في الموصل وبصحبة كريستيان رسام ايضا عام 1940 وقدم في روايته الوصف الآتي:
( كان باشا الموصل في وقت زيارتي، كما ذكرت، من المدرسة القديمة ولم تكن الأصلاحات التي امتدت الى أماكن اخرى من الأمبراطورية قد وصلت هذا الجزء النائي من الأمبراطورية؛ ولكنه، على اية حال، كان آخر شخص من جنسه [نوعه]، وكان النظام الجديد قد استقدم في باشليقه [ولايته] على الرغم من تقرفه منه واعتراضه عليه...ويعرف هذا الباشا بأسم محمد أينجة بيرقدار اي محمد النحيل حامل البيرق؛ نسبة الى مرتبته بصنف الخيالة والذي تمت ترقيته بسبب قابلياته وشجاعته ليكون واليا على الموصل..وكان رجلا يتمتع بطاقة هائلة ونشاط نادر، ولكنه كان جاهلا وفاسدا..فقد تمكن من الحفاظ على شيء من النظام في مقاطعة الموصل..فحد من حركة البدو وكان مصدر ذعر للسراق وقطاع الطريق..لكنه اضطهد الناس والمفهوم الوحيد الذي لديه في حكمهم هو ان ينتزع اكبر كمية من الأموال منهم..وبالنتيجة ساد البؤس والعوز في كل مكان..وكان معظم الأموال التي يجبيها يرسل الى القسطنطينية [أسطنبول] للحصول على تاييد المتنفذين في الباب العالي والموظفين الكبار في القصر..للحفاظ على مركزه وقوته..وعندما زرته بصحبة السيد أينزورث والسيد رسام، رأيته محاطا ب حشد من الكتاب والعسكر من قوات الخيالة غير النظامية وهم يرتدون ثيابا زاهية متنوعة والى جانبهم حملة النرجيلة والخدم من كل نوع ممن يعدون ملحقا ضروريا لأبهة ومكانة الباشا الذي يحمل بيرقا من ثلاثة ذيول خيل)
وفي نص آخر لوليم فرانسيس أينزورث الذي صاحب كريستيان رسام ولايرد في مقابلتهما لأينجة بيرقدار محمد باشا ان رسام كان توسط في كفالة البير سينو الذي حجزه محمد كرتلي بديلا عن الشيخ ناصر الأيسياني بهدف ابتزاز الأيزيدية ودفعهم الى دفع فدية كبيرة:
(عندما كان محمد اوغلو كريتلي باشا في السلطة كان الأيزيدية من بين اهداف طمعه وطغيانه فحاك بطريق الغدر والخيانة مؤامرة للأمساك بزعيمهم الديني، إلا أن ناصر الأيسياني تمكن من الإفلات..فامسكت زمرة كرتلي برديفه بدلا منه ووضعوه في سجن في الموصل..وتكتم اليزيدية على الأمر لحبهم لزعيمهم فتحمل بديله [بير سينو] التعذيب والأذى..وتمكن السيد [كريستيان] رسام الذي اتصل به الأيزيدية من التوسط فأطلق سراحه مقابل مبلغ كبير من المال تعهد سكان الشيخان بتسديده من محصول حقولهم..ونفذوا تعهدهم بالوقت المحدد ومنذ تلك الأزمة صاروا ينظرون الى القنصل البريطاني باعتباره حاميا لهم)..
وفي الواقع أن الشيخ ناصر الأيسياني كان قد وثق علاقات صداقة قوية مع لايرد واينزورث وكريستيان رسام قبل محاولة كرتلي القاء القبض عليه وايداع وكيله سينو السجن..والشيخ ناصر في الواقع لم يكن غائبا عن مذابح محمد الراوندوزي للأيزيدية في قراهم ومطاردته لهم في تلقوينجق الذي اخذ اسمه من تلك المذبحة..إذ تعني كلمة كوي انجاق (ذبح النعاج) كما لم ينس اغتيال محمد الراوندوزي لقريبه الشيخ علي ..غير ان العديد من الكتاب الأكراد يميل الى الأئتمار على الذاكرة التاريخية والوثيقة التاريخية لتمويه الصورة والصاق مذابح الأكراد للأيزيدية والنصارى على مختلف مذاهبهم بالأتراك فحسب، بل وسحب قباحات عدد من الباشوات الأتراك ومنهم كريتلي باشا (الكريتي) بوجه خاص على أينجة بيرقدار محمد باشا بهدف تبرئة الراوندوزي واسماعيل باشا، وكلاهما من اغوات الأكراد، من دماء النصارى والأيزيدية..وتجدر الإشارة الى ان كاتب هذا المقال اسهم في مجلة لاليش الأيزيدية بمقال عن الشيخ ناصرالأيسياني منذ اكثر من عشر سنوات وكان زار قرية ايسيان ضيفا على حفيد الشيخ ناصرالأيسياني أيفان وقريبه يوسف واستضافه ايضا الشيخ ميرزا في بيبان وكانوا اناسا كرماء طيبين بما لايقاس..
وفيما يأتي نستعرض انطباعات عدد من الرحالة حول اينجة بيرقدار محمد باشا ..وجلهم زار الموصل في اثناء فترة ولايته او اقام فيها أو قابله شخصيا..وهي انطباعات تشير بدورها على مواقف هؤلاء الرحالة مبشرين أوآثاريين أو تجار..تقدم لنا في نصها ومضامينها امكانية التبصر في طبيعة العصر..فعلى سبيل المثال يتحدث عدد من المؤرخين عن قيام محمد علي بتأسيس دولة عربية قومية قاعدتها مصر ويفسراحتلال سورية من قبل ابنه ابراهيم باشا على انه ينظوي تحت طائلة اقامة هذه الدولة..بينما تؤكد الوثائق ان حروب محمد علي كانت حروبا بالوكالة وبدافع الطموح الشخصي لوالي مصر (وهو الطموح عينه الذي دفعه لذبح المماليك بمذبحة القلعة الشهيرة) بل نشاهد ضباطا فرنسيين وانكليز في قيادة جيوش محمد علي باشا الألباني...فهل كان هدف الغرب تأسيس دولة وحدة عربية بزعامة محمد علي باشا قبل الثورة العربية التي خطط لها البريطانيون ايضا بعد 70 سنة من توغل الجيش المصري في اراضي سورية؟! وتبعا لذلك يفترض المؤرخون انفسهم أن وعيا قوميا مماثلا كان موجودا في الموصل على عهد أينجة بيرقدار محمد باشا تبلور في انتفاضة الموصل عام 1839..وهي انتفاضة لا ذكر لها في اي من ادبيات الرحلة لشهود عيان عاشوا في الموصل في تلك الفترة كباجر وروس واينزورث وجيمس فلجر وبوتا وساوثكيت ولايرد..والمثبت تاريخيا ان انتفاضة (اوعصيان) في العام نفسه (1839) حدثت في ماردين وأن اينجة تحرك لأخمادها بعد ان عجز عنها والي ديار بكر..فكيف لوالي الموصل أن يترك الموصل لأنتفاضتها ( إن كان ثمة انتفاضة) ويتحرك لأخماد انتفاضة في ماردين؟ والأرجح ان هياجا في الموصل، بسبب حملات التجنيد القسري واضطهاد رجال الدين من الطوائف كلها بدون تمييز او بسبب هجوم الخنازير الذي حدثنا عنه روس، حدث خلال غيابه في ماردين؛ فعُدَّ انتفاضة!
ومهما يكن من أمر، فثمة أجماع في تقارير الرحالة والآثاريين على ان الأمن على عهد أينجة بيرقدار محمد باشا ساد الجبل والبادية وأنه تمكن من انجاز مشاريع بناء متنوعة بدءا بكركوك التي تولى أدارتها على مدى سنتين 1833-1835، تضمنت مشروعا طموحا لتصنيع الذخيرة والمدافع وأنه كون ثروة هائلة بحيث بات الباب العالي مدينا له بمبلغ 150.000 باون..إلا أن هذا الأمن وتلك الثروة ما كانا سيتحققان لولا القسوة والقوة المفرطة واللجوء الى المكروالعنف في قمع اية معارضة مهما كان منشأها..أما العرب وبضمنهم اهل الموصل فلامصلحة لهم في خسارات أسطنبول او انتصارات القاهرة لأن اي من هاتين الزعامتين ما كانت ايهما لتعنى بغير مصالحها الشخصية وطموحاتها التوسعية..وكان العرب وأهل الموصل جزءا من الوقود الذي تغذي بواسطته عجلتها العسكرية..وفي مراجعة النصوص ذات الصلة بالموصل في أثناء ولاية اينجة بيرقدار نلاحظ ضربين من الكتابات تعكس ضربين من الرحالة ألأول الآثاريين كبوتا ولايرد وفلاندين وبكنكهام والثاني تبشيريين ارسلتهم جهات كنسية بهدف تغيير المعتقدات لدى النصارى المشارقة كالآشوريين والمارونيين والكلدان ممن يتحدثون باللغة السريانية ويؤمنون بأن للمسيح كيانين أحدهما المسيح الإنسان وثانيهما المسيح بصفته ابن الله وليس كما يؤمن المسيحيون الرومان والبروتستانت والكاثوليك في الغرب بأن للمسيح طبيعتين إنسانية خالصة وإلهية خالصة وان المسيح تعذب وصلب بطبيعتيه الإلهية والإنسانية، بينما يرى النصارى المشارقة بأن المسيح الأنسان هو من تعذب وصلب وليس المسيح الإله لأن الإله في رأيهم لايصلب..وبالنتيجة فأن مريم ولدت المسيح الإنسان أما المسيح بذاته الإلهية فسابق الوجود ومنفصل عن الولادة والموت..وبالتالي اعتبر المبشرون ان المسيحية المشرقية ضرب من ضروب الهرطقة ولأن مركزها العراق وسورية والأناضول وهي مناطق تواجد المسلمين من الترك والكرد والعرب، تدفقوا اليها وبخاصة أزاء تقارير المذابح التي كانوا يتعرضون لها بين الآونة والأخرى على يد الأكراد..وهي مذابح تزامنت مع الهجمات التركية والكردية على الأيزيدية الذين تناولتهم اقلام الرحالة لطرافة معتقداتهم وتوغلها بالأستسراء والقدم..وكان التبشيريون يأتون من فرنسا وبريطانيا واميركا وايطاليا وكان وراء كل جماعة دولة فقد كانت روسيا ترعى الأرثودوكس وفرنسا الرومان الكاثوليك والآباء الدومنيكان وبريطانيا البروتستانت وكانت هذه الجماعات تتناحر مذهبيا احدها مع الأخرى..وكانت الموصل في قلب هذه الصراعات الممتدة في المثلث الممتد بين اورميا وانطاكية وألقوش والمحاطة من الجهات كلها بالفرس والترك والكرد والقبائل العربية اي في حاظنة اسلامية تخترمها الجماعات الإرهابية من قطاع الطرق واللصوص والقتلة المحترفين..وعلى ذلك نجد ان المبشرين يأتون بالتنسيق والأتفاق تجمعهم وحدة الهدف كجيمس فيليب فليجر الذي صاحب جورج بيرسي باجر وكلاهما من بريطانيا بينما وفد هوراشيو ساوثكيت ود.أسا يل جرانت وتوماس لاوري من اميركا؛ ومن جانب الآثاريين وفد اميل بول بوتا ومعه فلاندين من فرنسا و وجورج سميث وهنري جيمس روس و لايرد وميتفورد ومالان من بريطانيا. وليس من قبيل الصدفة ان يلتقي الكثير منهم في مالطة احدى أقدم المحافل الماسونية في العالم قبل توجههم الى الموصل..وفي الموصل كانت اسرة كريستيان رسام نقطة التقاء الرحالة على اختلاف مشاربهم حيث تقيم غالبيتهم في بيته المطل على نهر دجلة، ومنهم من يؤجر بيتا قريبا منه في منطقة الميدان أو الساعة..وتحدد الأهداف مدة اقامة المبشر أو الآثاري..وبينما كانت ألأهداف الآثارية تتحقق تباعا وعلى نحو منتظم، كان مصير الهدف التبشيري الرئيس (تغيير مفاهيم النصارى المشارقة الدينية) الأخفاق لأن العقائد لاتتغير بالمواعظ ولأن كل ذي عقيدة يتصور أن عقيدته هي الأفضل..ولكنهم نجحوا في تحريك السياسيين الأوربيين تجاه المذابح التي يتعرض لها النصارى واليزيدية وبالتالي الأرمن من قبل الأكراد والأتراك على التوالي..ولابد من التأكيد ان دوافع أغوات الأكراد في قتل النصارى كانت لأجلائهم عن اراضيهم التاريخية والأستيلاء عليها، وكان الدين، كالمعتاد، يستخدم غطاءا لهذه الدوافع وبخاصة عندما يستهدف الأيزيدية الذين كانوا مرمى مفتوحا للأطراف كافة..
وتحتل أدبيات الرحلة اهمية كبيرة في محاولتنا تكوين صورة شمولية عن الموصل في سياق تلك الإضطرابات والتناحرات الأقليمية على عهد أينجة بيرقدار، لأن الرحالة يمثلون الآخر الحضاري الذي لاتملي عليه علاقات القوة التي تتحكم بسكان المنطقة تمويه مايرى او يسمع او تحريف معطيات الواقع ..فضلا عن ان تلك الأدبيات كانت تدون بلغات لايعرفها سوى المترجمين النصارى كأسرة نائب القنصل البريطاني الموصلية التي لعبت دورا كبيرا في توجيه الحوادث في تلك الفترة..
التبشيريين والموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا:
يعتبر جورج بيرسي باجر (1815-1888) من انشط التبشيرين والمستشرقين الأنكليز..فقد اوفد الى الموصل عام 1842 بصحبة جيمس فيليبس فليجر واقام في الموصل وتنقل في شمالي بلاد الرافدين على مدى سنتين وعاصر اينجة بيرقدار محمد باشا في آخر سنتين من عمر ولايته وحياته..وقد التقى بالكاتب اللبناني احمد فارس الشدياق الذي تربطه معه صداقة حميمة كما كان قد زار في بيرجيك فرانسيس رودون شيسني في اثناء رحلته حدر الفرات ..ولباجر علاقات واسعة في مالطة وبيروت وعمان والموصل..وقد تزوج كريستيان رسام شقيقته ماتيلدا..اتقن العربية بلهجاتها والسريانية ..وبينما كان في الموصل تعرف على الآثاري البريطاني هنري اوستن لايرد والتاجر البريطاني المقيم في الموصل هنري جيمس روس..كتب كثيرا عن نصارى المشرق والأقليات في شمالي العراق..وكان بيته في الموصل هو نفسه بيت القنصل البريطاني وشقيقه الأصغر الآثاري مكتشف بوابة بلوات هرمز رسام..وكان قد اشرك الأخير في بعثة تبشيرية في اثيوبيا قبل عودته الى الموصل لأستئناف استضافة الرحالة والتبشيريين الذين لم ينقطع سيلهم حتى ثلاثينيات القرن العشرين..وكان فليجر يشير اليه بصديقي السيد (ب).. يخبرنا باجر في كتابه [النسطوريين وطقوسهم]..
(في اليوم التالي لوصولي زرت والي الموصل الشهير محمد باشا المعروف بأينجة بيرقدار....فاستقبلني بحفاوة بالغة، وبالمقابل لهدايا اوربية رجوت تقبلها مني، ارسل لي بعد وقت قصير حصانا هدية منه لي..وكان يعاملني كأحد العلماء الأنكليز فأراني مخطوطا في الهندسة كان موضوعا أمامه في محاولة منه لأفهامي بأنه هو ايضا رجل واسع الإطلاع..وكان قد تمرس بدهاء على هذا النوع من الخداع بحيث أذهلت عندما عرفت فيما بعد أنه يجهل القراءة..وكان قد اعتاد عند وصول اشخاص من جهة الباب "العالي" على استفهام التتر [الحرس المرافق] الذي جلبهم للتعرف على مكانتهم ومدى نفوذهم، فيلقن مساعده بماينوي القيام به ثم يوجهه لقراءة نص المخطوط بحضوره..ولم يكد نبأ عزم الباشا على الدعوة الى التجنيد الإلزامي يصل اسماع الناس، حتى ساد المدينة حال من الذعرلاتوصف..وشرع عسكر الباشا يتجولون في ازقة المدينة بحثا عن الرجال الذين هربوا بالآلاف ومنهم من أختبأ في اماكن سرية ومنهم لاذ بالجبال..وامر الباشا بأغلاق بوابات المدينة كلها بأستثناء باب واحد لايسمح لأحد بالمرور منه بدون موافقة [تذكرة]..واغلقت الأسواق وغادرها الجميع بأستثناء عدد قليل من المسنين، وبدت الشوارع وكأن وباءا انتشر في المدينة..وبينما مررت في المدينة سمعت نحيب النساء وعويلهن في البيوت التي اخذ منها ولدا أو أكثر وترى الآباء والأمهات بالقرب من القصر يتوسلون من أجل اولادهم الذين سوقوا الى الجندية)..
نستدل من وصف باجر لرد فعل اهل الموصل أزاء حملات التجنيد أن أحدا في الموصل لم يكن له ناقة أو جمل في الحروب العثمانية وأن حال من الهلع والحزن تصيب الناس عندما يساق ابنائهم قسرا..ويقينا ان شكواهم عند قصر الباشا كانت تذهب ادراج الرياح لأن احدى بل اهم مهام الباشا كانت تزويد الجيش العثماني الجديد بالرجال ودعم الخزينة العثمانية بالأموال..وكان الباشا، والحديث لباجر، (رجلا قاسيا ذي طبيعة استحواذية متمرسا بالمكر والدسائس..وترتب على رفض الأيزيدية في سنجار دفع الضرائب المطلوبة منهم..والأضطرابات التي حدثت في تلك المنطقة قيام اينجة بيرقدار برد عاجل..إذ قتل بضع مئات من الأيزيدية وقطعت آذان عدد كبير منهم خرمت في غدائر وعلقت على ابواب الموصل، ورد على عنف عرب الصحراء بعنف مماثل فنهب كل من طالته يده منهم بدون تمييز. وخلع عن باشا العمادية الكردي منصبه المتوارث والمنطقة التي تحت امرته وحجم الأكراد الميالين الى الحرب ففرض عليهم الطاعة صاغرين..فهو في ممارساته لم يميز بين النصارى والمسلمين واليهود والأيزيدية..فالجميع غنم في قطيعه تتلخص قيمتهم بالصوف الذي يجنيه منهم)..
ونتعرف من رحلة جيمس فيليبس فليجر الذي رافق باجر في رحلته التبشيرية الى الموصل (حوادث سنتين اقامة في نينوى واسفار في بلاد الرافدين وآشور وسورية، المنشور عام 1850) على تفاصيل مذبحة بدرخان ونورالله بيك للآشوريين في حكاري وجزيرة ابن عمر ومنطقة الزاب وسهل نينوى..وموقف اينجة بيرقدار محمد باشا منها..ثم عن اسلوب تعامل اينجة بيرقدار مع رجال الدين المسلمين والملالي منهم بوجه خاص..ويتطرق الرحالة البريطاني الى مقاومة الآشوريين نادرة المثال وعديمة الجدوى للمهاجمين الكرد..فيروي قصة بطلتها امرأة آشورية تمكنت من انقاذ اولادها والوصول بهم الى الموصل..وكيفية هرب مارشمعون وقتل الأكراد لأحد اشقائه وتقطيعهم لأمه المسنة الى اربعة اجزاء ووضعها على كلك صغير ودفعها حدر نهر الزاب حيث تمكن الآشوريين من رؤية الكلك وسحبه الى حيث يختبيء ابنها مارشمعون..وكانت تلك الحوادث الدامية محصورة بين شهري حزيران وآب عام 1843..ويرى فليجر ان دوافع بدر خان والمتشددين الكرد ممن ايده ومعهم نور الله بيك أمير حكاري كانت تأسيس مملكة كردية مستقلة ولأن الآشوريين من سكان المنطقة الأصليين كانوا العقبة الوحيدة في سبيله، عمد الى افتعال مشاجرة بين الآشوريين والكرد وحصل على موافقة والي ارضروم شقيق أينجة بيرقدار للتدخل ووسع تدخله الى حرب إبادة للآشوريين..كما يرى ان تغافل اينجة بيرقدار عن المذبحة كان تواطؤ دافعه إشراكه ببعض الغنائم..هذا على الرغم من العلاقات الطيبة التي تربطه بمارشمعون..
(في بداية حزيران 1843 وصلت انباءا غريبة ومحزنة الموصل من منطقة النسطوريين في تياري فذكر العديد من الهاربين الذين نجوا بأرواحهم من هجمات الأكراد ان بلدهم الآمن بات مسرحا لحرب بربرية ظالمة..وأن المطران (مارشمعون) نفسه ومعه عدد من اتباعه ورجال الدين في معيته، يتجهون الى الموصل ليضعوا انفسهم في حماية نائب القنصل البريطاني وليحصلوا من خلاله على تدخل الحكومة البريطانية لدى الباب العثماني..وكان الحليف الذي اختاره بدرخان، الحاكم الفعلي للجزيرة، امير حكاري وهي مقاطعة تقع شمال شرقي الموصل..وهذا الرجل واسمه نورالله بيك حصل على صيت سيء بتدبيره اغتيال الرحالة الألماني شولز..ويتميز فضلا عن كونه كالحا، اقصفا، شيطاني الملامح..بما يصف زعامات الكرد كافة، بارتكابه العديد من الأعمال الوحشية..وكان يكره النصارى ولايتطلع الى شيء تطلعه الى اقران كراهيته بالأفعال..ويقال ان محمد باشا والي الموصل كان اصبح طرفا بالتآمر المشين، حيث شغل نفسه لأفساح المجال للتحالفين الكرديين المضي في خططهما بغير مضايقات شريطة ان يتسلم هو حصة معينة من الغنائم..ومن المحتمل ان يكون شقيقه في ارضروم غير جاهل بالمؤامرة المبيتة كما رأى ان من الضروري عليه فيما بعد ان يتظاهر بعدم معرفته بها)..
في الواقع ان دلائل دامغة لاتوجد على تورط اينجة بيرقدار محمد باشا في مذابح بدرخان، ولتأكيد ذلك من عدمه لابد من دراسة تفصيلية مدعمة بالوثائق..إلا ان المعروف انه لم يكن على علاقات ودية مع الأكراد، وعلى العكس، كانت علاقته بالنصارى جيدة..لرغبته بعدم الأختلاف مع كريستيان رسام كما ان حريمه نصرانيات لانعرف ان كن اعتنقن الأسلام من غير ذلك..كما لانتوقع ان غنائم ستجنى على الأرض في قتل الآشوريين وازاحتهم غير الأرض نفسها وهي بغية الأكراد..ونظرا لأن حاكم ارضروم لم تكن تربطه علاقات صداقة مع بدرخان، يبدو ان افتراض تورطه مع اينجة بالتواطؤ في مذابح الآشوريين يرتكز على ارض هشة..كما ويبدو ان الآشوريين أخذوا على حين غرة..أي انهم اصبحوا ضحية ائتمار غادر لم يحتاطوا له..يخبرنا فليجر في هذا الصدد:
(واعتمادا على المودة التي استمرت لبعض الوقت بين البطريرك واغوات الأكراد، لم يفكروا بتسليح انفسهم، ومع بداية الحرب ذبح منهم المئات بدون مقاومة..ولكن بعد انقضاء صدمة الذعر الأولى، تحول يأسهم الى شجاعة ووسيلة دفاع..وكان صراعا مميتا ودمويا لأنها كانت حرب إبادة..وعامل الأكراد اسراهم بوحشية بالغة شعر معها المسيحيون ان من العبث توقع الرحمة او الشهامة لدى آسريهم، فاختاروا الموت واسلحتهم بأيديهم على التعذيب الذي يجد فيه الكفار [الأكراد] غذاءا لقسوتهم ومسرتهم..وفي اية قرية تسقط بأيديهم، كان البرابرة [الكرد] يتقاذفون بالأطفال برؤوس حرابهم ويرجئون الشباب والكهول لبشاعة تعذيب أشنع من الموت...حتى ملأت آهات الرجال المحتضرين تحت ابشع اشكال التعذيب وصرخات النساء المساء اليهن الأنحاء بينما تساق ارتال الأسرى العزل مثل ثيران (حقل) في المنحدرات الحادة في الجبال الكردية)..
يظهر من نص فليجر أن الآشوريين وغيرهم من نصارى الجبل لم يعدوا انفسهم للحرب لأنهم كانوا يعيشون بسلام متصل في أراضيهم التاريخية، وان عداوة لم توجد في السابق بينهم وبين أكراد الجبل ليعدوا انفسهم لحرب محتملة أو مبيتة كالتي شنها بدرخان ونور الله بيك عليهم .. كما نلاحظ ، بعكس ذلك، أن الزعامات الكردية والمهاجمين الأكراد قد اعدوا لهذه الحرب اعدادا مسبقا مما يجعلها حرب مبيتة يقاس حجم اهدافها بضراوتها ..والهدف الكردي الواضح هو طرد النصارى من اراضيهم التاريخية واحتلالها واستيطانها..اي تبديل هوية الأرض وهو نمط مارسته اسرائيل مع فارق ان اسرائيل تحاول اسناد جرائمها على اساس تاريخي ضارب في القدم بينما لايوجد لدى المعتدين الكرد مثل هذا الأساس..بما يجعل جرائمهم تجاه الآشوريين والنصارى الأسوء في التاريخ الى جانب جرائم الأتراك تجاه الأرمن.. ويواصل فليجر حديثه بالقول:
(وخلال استمرار هذه الحرب، ابدى باشا الموصل، الذي يعرف جيدا الحوادث كلها التي جرت في الجبال، صدمته أزاء تحركات الأكراد.إلا ان تأسفه البادي، على اية حال، هو من الوضوح بحيث لا يخدع أولئك الذين يعرفون شخصيته، فهو يعرف تماما ان وحدة عسكرية تركية مسنودة بفصيل ألباني ومعهم قطعتي ميدان أو ثلاث كانت ستوقف الحرب فورا)..
يرى فليجر أن باشا الموصل لم يتدخل لأيقاف الحرب ولكن المنطقة لم تكن كلها تحت إدارته فمنها مايخضع لوالي أرضروم ومنها مايخضع لأدارة دياربكر..وكان تدخله في ماردين في السابق لعجز والي دياربكرعن قمع العصيان فيها وربما بأمر من الباب العالي..غير ان احدا لم يمنع مبادرته لو أنه قاد جيشا لمنع المذبحة، أو تقليص جسامتها..ويواصل فليجر وصفه المثير لحوادث المذبحة:
(وكان تقهقر النصارى يتضح اكثر فأكثر وكان البطريرك هدفا للأكراد يطاردونه من قرية الى أخرى وبصحبته جماعة صغيرة من انصاره المخلصين ممن رفض تركه لمصيره..وكان ىخر ملاذ له عدد من الأكواخ الصغيرة على ضفة الزاب حيث فوجيء [وقعت على راسه] بزيارة مؤلمة بما لايقاس وعلى مسافة غير بعيدة من مجرى النهر..فقد كان الأكراد قد نجحوا بالأمساك بأم البطريرك [مارشمعون] ومعها أحد ابنائها..ولم يشفع عمر وجنس ومكانة المرأة لصالحها، بل ان توسلاتها وابنها ضاعت سدى في خطاب اولئك البرابرة الذين بعد توجيه الشتائم المخجلة لأسيريهما الأعزلين..ذبحوا أم البطريرك بأشنع صورة أمام ولدها وقطعوا جثمانها الى اربعة اجزاء، ووضعوا الأشلاء المقطعة على كلك صغير ثم دفعوا الكلك حدر نهر الزاب..فرآه احد النصارى في اثناء مروره امام مخبأ البطريرك، فسحبوه الى الشاطيء حيث أنحنى البطريرك سيء الطالع محطم القلب في صمت وعذاب على الأشلاء المهانة..فقد غمرت روحه المصائب ولم يبق له اي خيار سوى التوقف عن الكفاح، واللجوء الى الموصل هربا من مطارديه.....وكان في ذيوع نبأ مغادرة البطريرك لموطنه تياري ايذانا بنزوح اعداد كبيرة من الهاربين الذين غادروا الجبال الى السهول، فامتلأت القرى المنتشرة في الطرق المؤدية الى نينوى بالرجال والنساء والأطفال المتسربلين بالجروح وهم يشتكون منها ومن الكدمات والكسور التي لحقتهم في ممرات الجبال هربا بأرواحهم..ومنهم من سقط في صخور الوديان من الأنهاك ولم ينهض الى الأبد بينما تحتضن النساء الى صدورهن ذكريات باردة [الأطفال الرضع]، تركها لهن ازواجهن الذين قتلوا دفاعا عنهن، وقد غادرتها الحياة)..
يتجلى من النص ان المهاجمين كانوا يهدفون إبادة الآشوريين والأستيلاء على اراضيهم وان الحرب لم تكن حربا بين الأسلام والنصارى بل كانت حربا على الأرض تهاجم فيها اقوام رعوية هي امتداد لثقافة الجبال الآرية امة جزرية تمتد جذور تمدنها في التاريخ الى الألف الثالث قبل الميلاد..ويواصل فليجر حديثه عن النزوح الجماعي للآشوريين الى الموصل هربا من الأكراد:
(وفي صباح احد الأيام، بينما كنت جالسا مع صديقي (ب) [ويقصد به باجر] في فناء بيته، انتشر نبأ وصول مارشمعون الموصل وانه في طريقه الى القنصلية الأنكليزية، فذهبنا الى هناك وبعد دقائق دخل البطريرك..وكان لطيفا متواضعا ترتسم على ملامحه الكآبة، وعلى الرغم من كونه في الثلاثينيات من عمره كان شعره قد اكتسى بلون رمادي زاره في غير وقته..وبصحبته مساعده القس أوراها واثنين من اشقائه افلتو من المذبحة..فجهزت لهم غرف في القنصلية بينما فتحت بيتي للعديد من اللاجئين المتوافدين يوميا..والذين شغلوا السراديب الواسعة ..وكانوا يصعدون الى السطوح ليتطلعوا الى التلال البعيدة حيث موطنهم في الجبال) ..
ثم يحدثنا عن أمرأة آشورية اسمها مارثا وكيف قتل الكرد زوجها وعندما أرادوا قتل ولديها تنمرت وقتلت عددا منهم ببندقية زوجها وانتزعت اطفالها ونجحت بالوصول بهم الى الموصل..ثم كيف ماتت بسبب داء انتشر بينهم ..وعن جنازتها وبكاء الرجال خلف الجنازة بكاءا مرا كأنهم فيه نساءا وليسوا رجال تجسأت قلوبهم عن البكاء..وبعد شهرين وفد الموصل حاويا من ايطاليا اخلي له صدر بيت باجر للقيام بألعابه..وحضر مارشمعون المناسبة التي تعرف عليه خلالها التاجر البريطاني والآثاري المقيم في الموصل هنري جيمس روس وبحضور باجر..
في تلك الأثناء كانت هناك لجنة للتحقيق حول مشكلة اثارها المنقب الفرنسي بوتا ضد أينجة بيرقدار في اسطنبول، في طريقها الى الموصل ..وكان محمد باشا قد ارسل عيونه لمتابعة اللجنة ..إلا انه اعتاد على المسكرات ..حتى انتشرت في احد الأيام انباء مرضه فأرسل طبيبه الأرمني بطلب الدكتور جرانت للأستشارة ..واحتفل الناس صباح يوم سماعهم انباء مرض الباشا ..وفي المساء تدهورت حالته فتوفي قبل وصول الدكتور جرانت..والأرجح ان وفاته كانت في شهر اواخرتشرين الثاني من عام 1843..هنا يخبرنا فليجر:
(كان موته ايذانا بفرح عميم..وكان يوم دفنه عيدا ارتدى فيه كثيرا من الناس افضل ملابسهم ومنهم من ترك العمل ليحتفل مع اولاده وزوجته..ونصبت مسقفات (عرازيل) على ضفتي النهر..وخرج الناس في حي المياسة الذي تتخلله الحدائق والخرائب محتفلين..ومنهم من شعر بالخوف ان ينقلب الفرح حزنا لأنهم لم يسبق لهم ان شعروا بمثل تلك الفرحة..وحقا فأن الناس في المشرق لم يعتادوا كثيرا على الحرية بحيث يصدر عن مجرد القليل منها شعور بنشوة السكر من غير خمر)..
ويرى فليجر أن ملالي الموصل كانوا اكثر الناس ابتهاجا لموته لأنهم لم يكونوا اصحاب حظوة لديه فقد قلص امتيازاتهم وارغمهم على دفع الضرائب كما كان يقف بالمرصاد لخداعهم الناس تحت طائلة التظاهر بالتقوى والنسب النبوي..فيقص علينا حكاية رجل دين اتخذه احد كبار التجار في الموصل صديقا وادخله بيته بل جعله يعيش معه في البيت لقاء وعد بأنه سيمنحه التجلي البصري بحيث يرى حواري الجنة الى جانبه ويمكنه من اسرار الصنعة أي تحويل المعادن الخسيسة الى ذهب..ووصل الحد بالتاجر ان جعل رجل الدين واحدا من ابنائه بل جعله افضل من اولاده وبناته..وبالنتيجة بدأت مخاوف العائلة تكبر وتكبر خوفا من ان يورثه فيحرمون من كل شيء..ووصل بهم الخوف ان اوصلوا الشكوى الى اينجة بيرقدار الذي دعى التاجر ورجل الدين للمثول امامه فورا..
(وعندما مثلا امامه وجه كلامه للتاجر قائلا: هل وعدك هذا الشخص يا ابا جهل انه سيجعلك ترى مالايراه غيرك وعلمك فن عمل الذهب؟ هذا صحيح ياباشا، جاء رد التاجر، وانا أؤمن كليا بما يقول! فرد الباشا: سوف نرى، والتفت الى رجاله: اجلبوا عدة الفلقة..فامتثل الجند لأوامره وحضر اربعة قواصين مكتنزي العضلات وهم يحملون سوطا رهيبا مدبوغا من جلد البقر..فتابع الدرويش هذه التحضيرات بنظرة تنم عن حزن واستجداء اشفاق..فيما خاطبه الباشا قائلا: انظر أنت ايها القذر.. انك تحتال مستغلا جهل هذا الرجل وحمقه بهدف تحقيق غايات معينة لمصلحتك..انت أكدت ان بمقدورك صنع الذهب وعليه فأني أأمرك ان تحول قطعة النقود هذه، راميا قطعة بياستر، الى ذهب أو تتحمل خمسين جلدة! ولم يكن المحتال لتنقصه الصلافة فقد عرف ان لاشيء ينقذه من العقوبة سوى محاولة غير اعتيادية فافترض ان جرحا اصاب كبريائه وانبرى يشتكي للباشا انه لاينبغي ان يعامل مؤمنا يتبرك به الناس بتلك الطريقة الخشنة والأمرية وقال ان اسرار السماء [الغيب] لاتتيسر الا لمن يبحث عنها بالرياضة الروحية والصوم..وانا لست مخولا ايها الباشا بان اكشف لك اي سر من هذه الأسرار مالم تصبح مريدا وتدخل الرياضة الروحية..فأجابه سعادته: حسنا [بقى هاكذ] ولكنك ستغير كلامك فورا..أيها القواصين، اطرحوا هذا الشخص ارضا واجلدوه بشدة حتى يعترف بدنائته.. فهيأ القواصون الفلقة وطرحوا المحتال على ظهره ورفعوا قدميه لتلقي السياط الرهيبة وبدأوا بألهاب اسفل قدميه..وبعد قليل من الضربات هتف انه يريد ان يعترف بحيلته ..فاطلق الباشا سراحة على ان لايعود للأحتيال مرة اخرى..غير ان الملالي، على اية حال، لم يكونوا على استعداد للأقرار بعدالة هذا الإجراء الذي يميط اللثام عن الممارسات المشينة لشريحتهم.. وعندما توفي الباشا حاولوا اقناع الناس انه مات بسبب غضب الله عليه..لعدم تقديمه كساء جديد للملا القائم على جامع النبي شيت كما جرت العادة على عهد الباشوات الذين سبقوه حيث يتوجب على الباشا القاء خطبة سنوية وتقديم هدية للملا ..فلم يعترض الباشا على القاء خطبة ولكن ثمن الثوب يستدعي التفكير مليا..وبدلا من شراء ثوب جديد اشترى اينجة ثوبا قديما من تاجر يهودي وقدمه للملالي الذين ابدوا تذمرهم مما دفع اينجة الى شتم الملالي ومعهم النبي شيت..وبعد مضي ستة اسابيع على الحادثة مات الباشا ففسر الملالي موته على انه بسبب غضب النبي شيت عليه)
يتضح من هذا النص ان اينجة بيرقدار محمد باشا كان يسعى في تطبيق العدالة بدون تمييز بين الناس على اساس الملة او العقيدة او المكانة الإجتماعية ..ولم يكن لديه كما يقول اهل الموصل (انخى من الديك ولا اعلى من الجمل)..غير ان التبشيري الأنكليزي فليجر وجد في هذه الرواية منفذا لأنتقاد رجال الدين المسلمين ..فليس ثمة ديانة بدون محتالين ومشعوذين ممن يتخذ الدين اسلوبا للخداع والأنتفاع من الآخرين..ولكنه يخبرنا بتفاصيل لانجدها عند غيره إذ يحدثنا عما حدث بعد وفاة أينجة قائلا:
(وبعد وفاة الباشا مباشرة وضعت اختام [الشمع الأحمر] على صناديق خزينته ونقلت بعد فترة قصيرة جدا الى الحكومة التركية [أسطنبول]..وتلقت اسرته اوامرا بالمثول في القسطنطينية حيث منحت مرتبا تقاعديا بسيطا لتعيش به..لقد تحدر محمد باشا من اصول واطئة جدا ولم يعرف القراءة والكتابة..فهو يشبه معاصره والي مصر محمد علي باشا كونه بدأ جنديا عاديا..وكان الجشع قد جعل من ادارته عبئا لايطاق على الفئات كلها..ولكنه على الرغم من عدم وجود اي شيء يحول دون تحقيق اهدافه، لم يكن قاسيا في طبعه، كما لم يكن يعاقب أحدا للأستمتاع بتعذيبه كما هو الحال لدى العديد من الولاة الآخرين، فقد كانت شخصيته الجريئة الحازمة والأجراءات الحاسمة التي يلجأ اليها تهدف الى الحد من الأعتداءات واعمال النهب التي يقوم بها الأكراد..وقد توفي عن ثلاث زوجات لينعينه او ربما ليبتهجن للتحرر منه، اقدمهن يونانية كان قد ارتبط بها منذ أيام فقره، ويقال انه احبها اكثر من اي انسان أخر، وكان يعاملها بلطف واحترام، اما الأخريتان فكانتا جورجيتان لم تكن ايهما لتحظى بالمزيد من اهتمام رجل تجاوز اسر الشهوة وقوتها الآسرة..وبعد وفاة الباشا حدثت عدة مشاجرات بين احياء مدينة الموصل محيلة جانبا من المدينة الى مشاهد اضطرابات وشغب..وعندما تلاشت آخر موجة من عواطف الفرح..لم يتنفس الكثير من تجار المدينة واثريائها الصعداء لمجيء حاكم آخر واعرب الكثير عن مشاعرهم تجاه الباشا الراحل؛ فكان قول شكسبير يعبر افضل تعبير عن مشاعرهم بكلمته "كان من الأفضل لو انهم حافظوا على الرجل الأفضل")
في حديث الرحالة عن اينجة نستشف الكثير عن جدلية العلاقة بين القوة والحق ..فأينجة غريب عن السياق التاريخي والإجتماعي للموصل فهو تركي في بيئة عربية، علماني او لنقل دنيوي في بيئة دينية ..وفد الموصل في وقت اصبحت فيه بؤرة للفتن والأضطرابات والتناحرات ليفرض النظام بدون تمييز على الجميع..ولم يكن القانون الذي لديه سوى مدونة على ورق لامعنى لها بدون القوة ..فهو لم يقدر على الأستمرار في الحكم اسبوعا واحدا بدون اللجوء الى القوة ..مما يفترض ان القوة ضرورة ليس لنشر الفوضى بل للحيلولة دون انتشار الفوضى وهي معادلة لاتنطبق على العراق وحده بل على المشرق برمته فحالما تغيب القوة، تنتشر الفوضى..وفي حال اينجة لم تكن القوة خيارا اداريا فحسب بل ضرورة فرضتها اوضاع المنطقة اقليميا ..فالموصل قريبة من سورية التي سقطت بأيدي ابراهيم باشا..وفي الشمال شكل الأكراد كونتونات يغيرون منها على اليزيدية والنصارى بل بلغ الحد بهم ان أغاروا على النبي يونس وتلقوينجق في الأولى لنهب الناس وفي الثانية لذبح الأيزيدية اللاجئين الى التل..وفي الجنوب قبائل الشمر التي تغير على القوافل وتنهب القطعان والخيول وكل ماتطاله ايديها..بل كان الداخل في الموصل نفسها وكرا للمؤامرات وثمة تقارير عن محاولات تشكيل طابور خامس في الموصل يمهد لأختراق محتمل للقوات المصرية المدينة..فلم يبق غير القوة الحاسمة التي فرضت هيبة الدولة وجعلت من اينجة حاكما شهيرا اقليميا وعالميا ..فهذا فليجر يؤكد أن أينجة (لم يكن قاسيا في طبعه، كما لم يكن يعاقب أحدا للأستمتاع بتعذيبه كما هو الحال لدى العديد من الولاة الآخرين، وأن شخصيته الجريئة الحازمة والأجراءات الحاسمة التي يلجأ اليها هدفها الحد من الأعتداءات واعمال النهب التي يقوم بها الأكراد)..وبدورنا نقول ليس الأكراد وحدهم بل القبائل العربية والأيزيدية وقطاع الطرق في الداخل والخارج..مما يضفي الى حسنات اينجة الإدارية خلال فترة حكمه للموصل..وعلى اية حال ، فأن مقارنة أينجة بكريتلي تسهم كثيرا في ميزان حسنات الأول وسيئات الثاني..
وبقدر تعامل اينجة مع اليهود والنصارى، يخبرنا توماس لاوري في كتابه [د.جرانت ونساطرة الجبل]:
( بعد عودة د.جرانت الى المدينة واجه اليهود تهديدا بمصادرة ممتلكاتهم والسجن لأنهم سعوا الى الأستفادة من فرمان حصل عليه السفير البريطاني بخصوص التسامح الديني معهم..ولكنهم ارغموا على شجب هذا الفرمان..وكان الباشا يبدي دائما امتعاضه من التدخل الأجنبي، وصادف ان تم اطلاق سراح احد النصارى من السجن بوساطة القنصل الأنكليزي، فأعاده الباشا الى السجن عندما غادر القنصل في رحلة خارج الموصل، ولم يطلق سراحه الا بعد دفعه المبلغ الذي طلب منه دفعه اصلا..ولم يكن هذا الشخص في السجن عند وصول الفرمان القاضي بجعل صلاحية تنفيذ عقوبة الموت بيد السلطان حصريا..الا ان الباشا جمع اعيان المدينة كلهم وأمر بقراءة الفرمان بحضورهم وعندما تأكد ان الجميع فهموا محتواه قال لهم: " أذا كان السلطان او اي شخص آخر يعتقد بأني أقدر ان احكم الموصل بدون هذه الصلاحية [ويقصد عقوبة الموت] فأنه يجهل الأمور جهلا تاما". ثم أشار الى مرافقه..فألقيت رؤوس عدد من المساجين امام الحشد؛ وبعد تمعن أعيان المدينة [وبينهم اليهود] لوهلة بالمشهد المروع للرؤوس المقطعة، سمح لهم بمغادرة المكان بجذل واجل متحسسين رؤوسهم التي مابرحت سالمة فوق اكتافهم)..
ولكن مانلاحظه هنا محاولة للأنفراد بممارسة السلطة على نحو يتجاوز السلطان على نحو يدعونا الى الأفتراض أن أينجة قد ضمن مسبقا عدم وصول الأنباء الى اسطنبول أو انه ضمن من يسكت على افعاله من المسؤولين في اسطنبول أي انه دفع مقدما ثمن قتل هؤلاء أدينوا بجرائم أم لم يدانو لمجرد تثبيت سلطته في الموصل بطريق الإخافة والإرهاب..ولكننا في الواقع لانعرف مدى مصداقية الرواية او ان كان الراوي حاضرا الحادثة، كونه كان تبشيريا في صحبة الدكتورجرانت، ويعد من التبشيريين المتشددين ممن كتب بعد رجوعه الى أميركا محلفا العديد من رفاقه في البعثة الأميركية في تراب الموصل ونواحيها..
ويماثل وصف ساوثكيت للموصل وأحوالها على عهد أينجة بيرقدار محمد باشا وصف توماس لاوري في عرضه لتجربة د.جرانت في الموصل بتفاصيل عديدة..ولكنه يستهل وصفه الموصل بقوله:
(شهد الوضع المدني في الموصل تحسنا ايجابيا كبيرا خلال سنين قليلة. فالمدينة الآن أكثر هي من اي وقت مضى تحت سيطرة السلطان..فقد أدخل الباشا النظام العسكري الجديد، وتعد الطريقة التي استقبل بها من قبل الناس مثالا واضحا على ردود فعل الناس في كل انحاء الأمبراطورية..وعندما اعلن في الموصل ان الباشا على وشك القيامبأولى حملات التجنيد..اصيبت المدينة بعاصفة من الذعرلاتوصف..حيث نزل الضباط الى الشوارع بحثا عن الرجال)..
وبعد وصف مماثل لوصف لاوري لتفاصيل هرب الناس يخبرنا ساوثكيت في كتابه [رواية رحلة عبرارمينيا وكردستان وبلاد فارس وبلاد الرافدين مع مقدمة وملاحظات عابرة حول أوضاع المحمدية والنصرانية في هذه البلدان]:
(وبينما مررت بأحد الأحياء طال سمعي عويل النساء وصراخهن في البيوت التي انتزع منها احد ابنائها..وسبب إثارة هذا الرعب كله لدى الناس مخاوف الناس الغامضة التي اثارتها جدة الحدث والطريقة القسرية التي لجأت اليها السلطة وكانت طريقة التجنيد قاسية لاتميز بين الناس وهي الأولى من نوعها بعد إلغاء الجيش الجديد [الأنكشارية] وكان الغاء الأنكشارية خطأ قاتلا شوه اجراءات السلطة في سبيل الإصلاح)
تتجلى من خلال وصف ساوثكيت حقيقتان أولهما ان اجراءات اينجة بيرقدار الإدارية والعسكرية أدت الى سيادة حال من الأستقرار لاسبيل الى مقارنته بما حدث قبل مجيئه حيث سادت الفوضى والأغتيالات والأوبئة والمجاعات؛ او بعد مجيئه الى الموصل عندما تولى حاكم شائه معتوه ومتعطش للدماء ادارة الموصل فأعادها الى الظلامية والخراب هو محمد الكريتلي..وثانيهما ان الغاء الأنكشارية في رأيه كان خطأ مميتا..فقد كانت الأنكشارية تشكل قاعدة القوة العسكرية للأمبراطورية العثمانية قبل انشقاقها وبينما صاحب الأنكشارية توسعا للأمبراطورية، صاحبت الغائها حالة من التدهور انتهت بسقوط الأمبراطورية العثمانية على الرغم من الأصلاحات..كما ان الغاء الجيوش الدائمية والمحترفة يضع اعباءا هائلة على كاهل الدولة في محاولتها تشكيل جيش جديد وتدريبه وتسليحه..
الآثاريين والموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا:
تختلف نظرة الآثاريين للموصل وإدارتها على عهد اينجة بيرقدار عن نظرة التبشيريين في جانب وتلتقي في جانب آخر، إذ ينطلق التبشيريون من قناعات عقيدية تنظر الى النصارى المشارقة نظرة المسلمين للمشركين والى المسلمين نظرتهم للكفار..ولكنهم ليسوا عدوانيين في سلوكهم وتعاملهم مع المسلمين ولاسيما اهل الموصل التي تحتضن العديد من النصارى..الذين وفدوا الموصل وتجشموا صعوبات كبيرة من اجل تغيير عقيدتهم الى نوع من النصرانية يماثل عقائدهم البروتستانتية او الكاثوليكية وتفرعاتها المذهبية المختلفة..ومنهم من اصيب بالأوبئة الكثيرة المنتشرة في الشرق الأدنى ودفع حياته ثمنا لرسالته كهينزديل وزوجته وميشيل كولبي، وزوجة توماس لاوري وأخيرا د. جرانت نفسه، ومنهم من أخفق اخفاقا ذريعا لأن العقائد عصية على التغيير..بينما يسعى الآثاريون الى تحقيق اهداف عملية مما يعطي تقاريرهم بعدا جراماتيكيا موضوعيا..ويلتقي الطرفان في نقل الوقائع نقلا وافيا لاتخامر صراحته المصالح ولاتعوق وضوحه المخاوف..والحوادث التي تغفل عن متابعتها اعين التبشيريين او يكونوا غائبين وقت حصولها، يمر عليها الآثاريون، مما يجعل تقارير الطرفين متواشجة يتمم احدها الآخر..وفي مطالعتنا لكتاب [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد النهرين وكلدة وأرمينيا] لعالم الأرض والجراح وليم فرانسيس اينزورث الذي صاحب فرانسيس رودون شيسني في حملته الى نهر الفرات عام 1836 على خطى زينوفون ولأكتشاف صلاحية النهر للملاحة قبل حفر قناة السويس بثلاثة عقود..ثم زار الموصل مجددا عام 1840 في بعثة من قبل الجمعية الجغرافية الملكية وجمعية النهوض بالمعرفة المسيحية فالتقى بلايرد وكريستيان رسام وصاحبهما الى الشرقاط والحضر نتوقف عند وصفه لينجة بيرقدار محمد باشا:
(عين الباشا الحالي محمد اينجة بيرقدار لهذه المهمة الصعبة..وتتسم شخصيته بالقسوة المفرطة فقد تمكن بعد العديد من الأعدامات والمصادرات الكبرى ونزع سلاح المواطنين من النجاح في مهمته..وقد ادخل الباشا النظام الذي تمكن بواسطته من تجنيد وتجهيز 3000 رجل بالأضافة الى قوة من الخيالة غير النظاميين وكتيبة صغيرة من المدفعية وتمكن بهذه القوة من شن حملته على العمادية في اثناء وصولنا الموصل في الصيف (1840)..وفي الموصل شيد ثكنة جديدة انيقة ومصهرا لصنع المدافع..وبينما انهمك في تحسين القدرات الهجومية والدفاعية للموصل، كونها محاطة بقبائل خارجة على القانون من الجهات كلها اي أكراد راوندوز والعمادية من الشرق، والأكراد البهدينان وعشائر الموصل العربية من الشمال، وايزيدية سنجار من الغرب، وبدو شمر من الجنوب؛ استنفد موارد المدينة والمنطقة الى اقصى حد بحيث غادر العديد من الناس الموصل بحثا عن مواطن لاتكون فيها الضرائب على الأعمال وضروريات الحياة ثقيلة بما لايطاق..ولكن الباشا احتاط للأمر فمنع الخروج من ابواب المدينة بدون ترخيص)..
ونستنتج من وصف اينزورث ان اينجة بيرقدار قد صلح اسوار الموصل وضبط منافذها كما سنرى في معرض وصف لايرد الممتع لرحلة مبكرة قام بها الى الشرقاط والحضر بصحبة كريستيان رسام وميتفورد وأينزورث..
إذ يخبرنا اينزورث عن اسوار الموصل:
(الموصل واحدة من مدن قليلة في تركيا الآسيوية تتميز اسوارها بالإكتمال من جراء صيانتها وترميمها، وتقع في الزاوية الشمالية الشرقية لسور الموصل باشطابيا ذات البناء الفريد التي شيدت فوق خرائب كنيسة نصرانية "مارجبريل" تخليدا لذكرى تجلي العذراء في ذلك المكان لتهدئة مخاوف الناس وانقاذ المدينة من غزو الفرس. وبالقرب من باشطابيا "التي تقع تحتها عيون الكبريت" تنتصب أطلال مطلة على النهر تسمى قرة سراي "القصر الأسود"، تزين جدرانه العملاقة نقوش تنسب بنائه الى احد الأتابكة..ونجد ان الفضاء وراء السور في هذه المنطقة من المدينة تغطيه خرائب بيوت وقبور وكنائس..ومن بين القبور قبر امام عبد الجليل السلف الكلداني للأسرة الحاكمة من الباشوات سابقا..كما توجد هنا ايضا كنيستان يطلق على كلتيهما مريم العذراء تعود الأولى للكلدن الرومان الكاثوليك والثانية الى السريان الرومان الكاثوليك..وفي المدينة نفسها هنالك ثماني كنائس أخرى ومنهن الطويلة في قلب المدينة تقريبا وتعرف بميلها وهي ملحقة بالجامع الكبير الذي يحتضن في داخله محرابا متقن التكوين..وقد شيد هذا الجامع على موقع كنيسة نصرانية..كما يوجد ضمن المدينة تلا اصطناعيا كان يحتضن في السابق قصورالبيكات، وليس بعيدا عنه القلعة التي احالتها مياه النهر جزيرة..وياتي بعد القلعة [غير باشطابيا] الجسر الذي لم يتبق منه سوى بضعة عقود يرتبط بها عدد من القوارب أستكمالا للجسر..وفي سهل الحراقية [الواسطية] تقع الثكنة الحديثة ومنزل الباشا وعدد من الصروح الدينية المحمدية، وهناك صليبان صخريان قديمان فضلا عن بيت صيفي استحال خربة تسمة علي جدوم)..
لابد هنا من وقفة مقارنة بين وصف اينزورث للمدينة عام 1840 وما آلت اليه المناطق التي أشار اليها باسماء لم تعد موجودة..وبدءا لابد من التأكيد على ان الموصل سكنتها في الماضي البعيد قبائل جزرية آرامية ..تعززت على عهد الرسالة بقبائل جزرية اخرى كتغلب التي بقت على نصرانيتها في الأغلب وهو مايفسر كثرة الكنائس والأديرة التي نالتها يد البلى او هجرت لتشاد عليها جوامع كجوامع النبي يونس والجامع النوري وغيرها..والأشارة الثانية الى الحراقية التي وصفها بسهل تقوم عليه الثكنة وبيت الباشا وعدد من الصروح الأسلامية..ونحن نعلم ان اينجة بيرقدار اتخذ بيتا خارج سور الموصل الى الجنوب من المدينة مما يدعونا الى الأفتراض ان البيت المعروف بقصر المطران في مدخل الدندان كان هو عينه بيت الباشا اما الصروح الأسلامية ويقصد بها الجوامع والمزارات فالأرجح انه يعني بها العناز والخضر وجامع النبي شيت الذي دفن فيه اينجة بيرقدار..وقد شيدت في مكان الثكنة المستشفى العسكري لاحقا..وارجح ان المنطقة الواقعة وراء الثكنة باتجاه الدندان كانت معملا للمدافع والذخيرة وهو ماذهب اليه اختصاصي التراث الموصلي الأستاذ ازهر العبيدي معتبرا الدندان تسمية مصحفة للدانات..إذ لايعقل ان يبني اينجة مصنعا مهما بعيدا عن مكان سكنه..ولا اعرف على وجه التحديد قدم بيت أحدى عوائل العمري بالمنطقة الواقعة بين الدواسة والدندان والمزروعة بأشجار الفستق..ولكن ارجح ان البيت الصيفي الخرب لعلي الجدوم كان يقع بالقرب من بيت الأسرة العمرية وان البيت نفسه شيد على اساس بيت سابق..وليس بيت العمري ببعيد عن قصر المطران وهي في الواقع منطقة تتخللها اوابد قديمة اندثرت ولم يبق منها إلا القليل الذي جئنا على ذكره..ولكن لماذا ترى سميت المنطقة بالحراقية! وبالواسطية فيما بعد! هذا مالايمكن التكهن به في الوقت الحاضرلأحتمال رجوع النسبة الى تسمية شخصية أوالى نشاطات بعينها كحرق النفايات او لأنها تتوسط منطقتين او معلمين بارزين اندثرا وطوتهما يد الزمان..كما نلاحظ تسمية اينزورث لعبد الجليل بالأمام مع معرفته انه نصراني كلداني.. وكان لايرد قد التقى اينزورث في اول زياره له للموصل..وزار الأثنان بصحبة كريستيان رسام ومعهما ميتفورد رفيق سفر لايرد الباشا أينجة بيرقدار طلبا لترخيصهما بجولة الى الشرقاط والحضر مهتدين بمعلومات اعطاها لهما هنري روس التاجر والآثاري المقيم في الموصل؛ فكلف اينجة احد ضباطه وهو حجي علي لمصاحبتهم..فانطلق الخمسة على ظهور خيول، من المدينة صوب الحضر متخذين مسارا شاطيء دجلة الأيمن حتى وصلوا حمام العليل..وكان كريستيان رسام قد اصطحب الكولونيل شيسني في حملته الفراتية وله معرفة واسعة بقبائل المنطقة..ونحن بأطلاعنا على تفاصيل المغامرة بين الموصل والشرقاط فالحضر ثم الرجوع بمشقة الى الموصل نتعلرف على تفاصيل كثيرة حول ادارة اينجة بيرقدار وطبيعة الحياة في محيط الموصل، يخبرنا لايرد:
(وضع السيد اينزورث والسيد رسام خطة لأسكتشاف آثار الحضر التي تقع في وسط صحراء بلاد مابين النهرين فوافقنا انا والسيد ميتفورد على مصاحبتهما. واعتقد ان هذه الأوابد كان قد استكشفها الدكتور روز الطبيب والمقيم السياسي وممثل شركة الهند الشرقية في بغداد..وابلغنا الباشا بعزمنا على الرحلة فعرض علينا ارسال قواص لمرافقتنا..ولم نكن بحاجة اليه لأن خيال واحد لن يفيد كثيرا في حال تعرضنا لهجوم البدو او تسليبهم..وكان اكثر اعتمادنا على معرفة السيد رسام بلهجة وعادات سكان الصحراء هؤلاء حيث تعرف خلال مشاركته بحملة استكشاف الفرات على العديد من شيوخهم، وكانوا يعتمدون عليه في امور عديدة..مع ذلك وافقنا بعرض الباشا وفي يوم 18 نيسان [1840] غادرنا الموصل في رحلتنا..وامضينا الليلة الأولى في قرية حمام علي [العليل] التي يفد اليها الأشخاص المصابون بالأمراض الجلدية والجذام للأستحمام بمياه عيون الكبريت الحارة في مبنى مؤلف من عقود، وكان الباشا قد اسكن حول الحمامات اسر نصرانية بهدف تحصيل اموال من المكان، إلا انهم وبسبب الأضطهاد والفروض المالية [الخاوات] الباهضة، فضلوا الرجوع الى موطنهم في الجبال لأن الأذى الذي يصيبهم من الأكراد هناك أهون مما يصيبهم منه من السلطات التركية..مما أدى أخيرا الى هجر قريتهم تماما كالقرى الخرى التي مررنا بها في طريقنا من الموصل.....وبعدما رأى احجي علي القواص الذي ارسله الباشا في صحبتنا اننا ماضون في الصحراء بدونما اية فكرة حول اين سنذهب او اين تقع تلك الآثار التي نبحث عنها أعلن عن رغبته بالأنصراف عنا..وقال لنا: بأننا سنقع حتما بأيدي البدو الذين سيسلبون منا كل شيء ويتركوننا عراة في العراء حتى نهلك..او ان نحن تمكنا من الأفلات منهم [البدو]، فأننا سنقضي جوعا لأننا لن نجد مكانا آهلا نحصل فيه على طعامنا..لكننا لم نصغ لتحذيراته، ودعنا ومضى مسرعا على حصانه حتى غاب عن أنظارنا..وكان واثقا انه لن يرانا ثانية.. غير انه راح ضحية للمصير الذي توقعه لنا، إذ لم يصل الموصل ابدا! ويعتقد أنه قتل في الطريق إما من قبل زمرة من البدو من قبيلة شمر او من قبل اعراب اتخذوا شاطيء دجلة مرتعا لخيامهم فوجدوا في قتل احد ضباط الباشا فرصة ينتقمون بها لما لحق بهم من اضطهاد وسوء معاملة)..
ونتابع مع لايرد ورفاقه رحلتهم المثيرة في المنطقة الممتدة من الموصل وحتى الحضر حيث ينفد مالديهم من ارزاق جافة من تمر وتين وخبز وشاي ليلجأوا الى بنادقهم في صيد الحجل والقطا الذي يكثر في سهول الموصل في الربيع وتمكنوا من صيد انثى خنزير بري وخنوصين تناولوهما قبل عثورهم على جماعة من الشمر تعرف على شسيخها كريستيان رسام لمعرفته به فقد كان وسيطا له في الموصل لبيع اصواف الأغنام..مما يميط اللثام عن نشاط تجاري لأسرة رسام يضاف الى نشاطها التبشيري والآثاري والدبلوماسي..كما نلاحظ أن الرحلة بواسطة الخيول في مناطق قريبة كالحضركانت تستغرق عددا من الليالي بما يذكرنا بالحملات الآشورية..فقد بات الفريق ليلة في حمام العليل وأخرى بالقرب من مجرى دجلة وثالثة في مضارب الشمر وامضوا في طريق رجعتهم الى الموصل النهار كله ليصلوا الموصل بعد منتصف الليل ويمضوا الليلة كلها مع حرس البوابة..كما يتأكد لنا سبب كثرة مشاهد صيد الأسود في الجداريات الآشورية..فقد كان الفريق يشعل النار لمراقبة الخيول وطهي الطيور او الخنازير التي يصيدونها فضلا عن ابعاد الأسود التي تكثر في براري الموصل..
(ولم يكن لدينا سوى القليل من الخبز والفواكه الجافة وبعض الشاي، فاعتمدنا على بنادقنا للحصول على تجهيزاتنا من الطعام..فصدنا خلال النهار عددا من الحجلان من النوعين المتوفرين في تلال الموصل..الحجل احمرالرجلين كبير الحجم المعروف بالسوري والحجل صغير الحجم [القطا] ذي الطعم اللذيذ جدا.. وبمساعدة سائس خيل عربي بصحبتنا جمعنا حطبا جافا واوقدنا نارا لشوي الحجلان التي لدينا وخنوصا من الخنوصين اللذين اصطدناهما..وطلبنا من السائس ابقاء النار موقدة في أثناء الليل لمراقبة الخيول ولأبعاد الأسود التي تتواجد بين الآونة والأخرى في ادغال هذه المنطقة من بلاد الرافدين)..
وعن رحلة العودة من الحضر يخبرنا لايرد:
(ثم وصلنا، بعد ان ابتعدنا قليلا، الى الدرب المطروق باتجاه الموصل، وعلى الرغم من حلول الظلام وكون المدينة مابرحت على مسافة غير قريبة قررنا الأستمرار..ولكننا اضعنا طريقنا مجددا فاتخذنا من النجوم دليلا، قدر المستطاع، لتحديد مكاننا حتى وصلنا الى خربة تعرف عليها السيد رسام تبعد خمسة أو ستة اميال عن المدينة كانت في السابق كنيسة او ديرا..ثم حدثت فجأة عاصفة رعدية مكنتنا بروقها من استطلاع طريقنا فحثثنا الخطى صوب الموصل حتى لاحت اسوارها عند منتصف الليل..ألا ان مياه الأمطار الغزيرة كانت قد غمرت اماكن عديدة وجابهنا صعوبة بالغة في شق طريقنا الى احدى البوابات، وكانت مغلقة كالمعتاد في اثناء الليل، ورفض الحرس فتحها بدون أوامر من الباشا..فتحرك السيد رسام الى السراي الذي يبعد قرابة ميل خارج المدينة حيث يقيم الباشا..ولكن الباشا كان قد انصرف الى حريمه ولايمكن ازعاجه..فاضطررنا الى الجلوس في الشرفة خارج البوابة لحين شروق الشمس وفتح البوابة..وكان الأنهاك قد أدركنا بعد قطع حوالي 60 ميلا بدون طعام طيلة اليوم)..
تتأكد من هذا النص معلومات عديدة اهمها ان اينجة بيرقدار كان اتخذ سكنا له بيتا منعزلا في سهل الحراقية او الواسطية القريب من الدندان حيث المستشفى العسكري والثكنة التي بناها..وهو غير السراي الذي يقع في مدخل سوق باب السراي من جهة شارع النجفي حاليا الذي كان الجليليون اتخذوه مقرا للإدارة في وسط الموصل..ونعرف ان الأحراش المنتشرة في براري الموصل كانت مأهولة بالأسود..وفي مقارنة المسافة التي تفصل الدير الذي شاهدوه في طريق عودتهم عن المدينة وهي خمسة او ستة اميال، نعرف ان الدير هو مار ايليا الذي خربه نادر شاه وهو يقع جنوبي الموصل وعلى المسافة نفسها من قلب المدينة..كما نستشف من الوضع العام في ربيع اربعينيات القرن التاسع عشر قدرة اينجة بيرقدار على فرض احترام قوانين الدولة في المدينة ومحيطها وحيثما تتواجد قواته وشرطته..كما يتأكد لدينا في الوقت نفسه عدم اكتراث الآثاريين بالدين وبالنشاطات التبشيرية على الرغم من ايفاد اينزورث للأطلاع على احوال النصارى المشارقة فانصرف بدلا من ذلك الى صحبة لايرد مما دعى الجهات الكنسية التي اوفدته الى قطع المساعدة المالية عنه فاضطر للعودة الى لندن على نفقته الخاصة..
وبعد سنة من هذه الرحلة عينت الحكومة الفرنسية بول - أميل بوتا قنصلا في الموصل بهدف جمع المخطوطات والنصوص المسمارية بتأثير المستشرق الألماني يوليوس مول الذي شعر بضرورة التسابق مع بريطانيا تجاه الشرق ودفائنه الأثيرة.. وكان بوتا قبل انتقاله للعمل بهذا المنصب في الموصل طبيبا خاصا لمحمد علي باشا في مصر..ولكن لاندري ان كانت الحكومة التركية او اينجة بيرقدار على اطلاع بمهمته السابقة نظرا لطبيعة العداء المريروالحروب الدموية بين الباشا المنشق والسلطان محمود الثاني من جهة وتأثير فرنسا وبريطانيا في توجيه الصراع من جهة ثانية..ولكن مسار المشكلات التي واجهت بوتا في قرية خرسباد تشير الى تعزيز افتراضنا باحتمال معرفة اينجة بيرقدار من خلال اسطنبول او من مصدر آخر بخدمة بوتا سابقا في البلاط المصري..وتميط المشكلة بين اينجة بيرقدار وبوتا اللثام عن جوانب في شخصية اينجة وطبيعة علاقته بالباب العالي على عهد السلطان محمود الثاني حتى عام 1839 فضلا عن تاثير اللوبي الفرنسي في اسطنبول على عهد السلطان عبد المجيد الأول قبل تشرين الثاني عام 1843..
قلعة بوتا فوق مدينة سرجون:
لم يبد اينجة بيرقدار لبوتا منذ بدئه التنقيبات بالقرب من الموصل غير الصداقة ولكنه ضمنا كان لايألو جهدا في عرقلة مساعيه في التنقيب عن الصروح العملاقة الدفينة تحت قرية خرسباد التي تقع نحو 15 كم شمل شرقي الموصل مما دعى بوتا الى مخاطبة السفير الفرنسي في اسطنبول للتدخل بأرسال فرمان لحل أزمة القلعة الأفتراضية التي شيدها بوتا فوق تل خرسباد ولم تكن في الواقع سوى بيت صغير شيده للأشراف على اعمال التنقيب عن مدينة سرجون النائمة من قرون تحت ذلك التل..ويلخص لنا جوزيف بنومي في كتابه [نينوى وقصورها، 1857] حلقات الصراع بين اينجة وبوتا:
(من الحقائق المعروفة لدى الجميع أن المسلمين، الذين يجهلون الدوافع الحقيقية للبحوث العلمية، غالبا مايعزونها الى الطمع والرغبة بالثراء العاجل..فاتجهوا الى الأعتقاد بأن التنقيبات ليست للبحث عن الآثار القديمة بل عن الكنوز الدفينة..وكانوا يتصورون ان النقوش [المسمارية] التي يستنسخها بوتا باهتمام بالغ لم تكن سوى طلاسم تحل الألغاز في طريق تلك الكنوز وتحدد أماكن وجودها..وذهب آخرون اكثر مكرا من جيرانهم الى فكرة غريبة هي ان ارضهم كانت في عهد مضى ارضا امتلكها الأوربيون، وان البحث في النقوش هو لأكتشاف النصوص التي تثبت عائدية الأرض للأوربيين بما يدعم يوما مطالبهم بعائدية الأمبراطورية العثماني كلها لأوربا..ووجدت هذه الأفكار السخيفة بسرعة طريقها الى عقل والي الموصل الجشع والشكاك محمد باشا..فشرع بالضجر من التنقيبات التي رخصها في البداية؛ فهيمنت فكرة الكنز الدفين التي ذاع خبرها فاكتفى أول الأمر بارسال حرسه لمراقبة العمال وعندما يعثر العمال على اي شيء مصنوع من المعدن يستولي عليه الحرس ويحملونه اليه..وكان الباشا يختبر اي معدن يعثر عليه بطرائق شتى لكي يقنع نفسه بان هذا المعدن ليس ذهبا..كما لجأ الى تهديد العمال خوفا من اخفائهم اي شيء بالتعذيب الشديد فبات العديد من العمال على وشك مغادرة العمل مع بوتا على الرغم من تأكيداته لهم بالحمايةلأنهم يعرفون اجيدا الطبيعة القاسية لمحمد باشا..وكان كل يوم يبدأ بصعوبة جديدة..وكاد بوتا الذي يعاود التفاوض كل مرة مع الباشا على وشك ان يترك التنقيب من الضجر والقرف لو لم تشجعه الأهمية القصوى لأكتشافاته..وعلى الرغم من هذه الأزعاجات استمر العمل حتى بداية شهر تشرين الأول 1843 عندما اعلن الباشا امتثالا لأوامر من القسطنطينية ايقاف التنقيبات رسميا ..ولابد من ذلك من ذريعة لايعجز لحاكم التركي من ايجادها..وكانت الذريعة كالآتي..فقد وافق الباشا على قيام بوتا ببناء بيت صغير في خرسباد مكانا له يقيم فيه عندما يزور الموقع، مع ذلك زعم الباشا ان ذلك البيت هو قلعة انشأها القنصل الفرنسي للسيطرة على المنطقة وابلغ حكومته بهذه الواقعة الخطيرة مما دعى اسطنبول الى منع اية تنقيبات في المنطقة فورا..وهذا ماحصل: بنى بوتا بيتا صغيرا بموافقة الباشا، فتحول البيت الى قلعة [افتراضية] واتخذت الأبحاث البريئة للآثاري المتحمس فجاة حجم مشكلة عالمية كبيرة وجسامتها! إلا أن بوتا لم ينتظر ليتخذ اجراءات لألغاء المنع، فأرسل في 15 تشرين الأول 1843 رسولا الى السفير الفرنسي في القسطنطينية ليروي له ماحدث ويسترجيه ان يطرح على السلطان القضية لأمر بما يمكنه من مواصلة عمله بدون معرقلات لأن عمله جاء بامر وتمويل من الحكومة الفرنسية..وبينما كان في انتظار نتيجة الأجراءات التي سيتخذها السفير، تجشم عناء صعوبات هائلة لأقناع محمد باشا بعدم تهديم بيته في خرسباد او ردم ألأماكن التي حفرت في اثناء التنقيبات وهي الأماكن نفسها التي زعم انها خنادق تأسيس القلعة المزعومة..
وكان سكان الموصل يعرفون من تجربتهم الطويلة ان محمد باشا لايتردد في اللجوء الى الوسائل كلها لتحقيق غاياته..فأصبحوا بحكم الخوف مطيعين لإرادته..فقام في خطوة اولى بإرغام قاضي الموصل على الذهاب الى خرسباد وكتابة تقرير مزور عن جسامة القلعة المزعومة، وارسل هذا التقرير الى القسطنطينية مصحوبا بخارطة خيالية في محاولة لأثارة افكار رهيبة حول الكوخ البسيط الذي بناه بوتا. ثم قام في خطوة ثانية باعداد عريضة ضد مواصلة التنقيبات أرغم سكان خرسباد على توقيعها. وارسلت هذه العريضة ايضا الى القسطنطينية..
وفي اثناء تلك الفترة كلها، لم يتوقف محمد باشا اطلاقا عن التظاهر بالصداقة لبوتا؛ فكان يؤكد له بأنه يجهل تماما الصعوبات التي تعترض عملة العلمي، ويعطيه اوامر خطية طيبة في الوقت نفسه الذي يهدد فيه سكان خرسباد بالفلقة اذا دعاهم سوء طالعهم الى طاعته [اي طاعة بوتا]..ويبين أحد المشاهد الفريدة في هذه الكوميديا [الملهاة] الطويلة الطريقة التي كان محمد باشا يلعب دوره وفقها " يخبرنا بوتا: ’قلت له يوما ان اول مزنة من المطر في هذا الموسم تسببت بأنهيار جزء من البيت الذي بنيته في خرسباد!‘ فرد ضاحكا بلا تكلف وملتفتا الى الضباط الكثيرين الواقفين حوله: ’هل تتخيل شيئا يرقى الى سوء أدب وصلافة أهالي خرسباد؟ يزعمون ان القنصل الفرنسي شيد قلعة منيعة، قلعة منيعة... تسقطها مزنة من المطر! أؤكد لك ياسيد بوتا انني لولا خشيتي من ايذاء مشاعرك، كنت وضعتهم كلهم في الفلقة ليجلدوا حتى الموت..نعم انهم يستحقون ذلك تماما لتجرأهم على اتهامك!".. وبعد انقضاء وقت قصير، على اية حال، ادرك محمد باشا ان الأحابيل المخجلة التي كان يقوم بها أدت الى ضره اكثر من فائدته..فلم تعد وظيفته مؤكدة، وكان يريد المصالحة في وقت كان بوتا يعلق آماله كلها على الحصول على ترخيص لمواصلة عمله، عندما وفر له موت الباشا المفاجيء في تلك الفترة الفرصة التي كان ينتظرها..إلا أنه كان يدرك إرادة الحكومة الفرنسية وكان يتوقع أن يكون الرسام [فلاندين] الذي طلبه في طريقه الى الموصل [حاملا الفرمان الذي يتضمن الحل]..وتم الأتفاق مع اهالي خرسباد على بيع بيوتهم والأنتقال الى مساكن جديدة عند سفح التل..وتمت الموافقة على ابقاء بيت بوتا الذي تسبب بالعديد من الخصومات لحين انتهاء التنقيبات..وسمح له بمواصلة تنقيباته شريطة ان يعيد الأرض المحفورة الى سابق وضعها لكي يعاد بناء القرية في موقعها السابق؟؟كما ارسل مندوب من الفسطنطينية الى خرسباد للحيلولة دون وقوع اية مشكلات اخرى)...
ونعرف بدورنا ان القرية عند سفح التل، التي اطلق عليها باريما، استمرت حتى الوقت الحاضر إذ لم يعد اهالي خرسباد لبناء مساكن لهم فوق التل الذي بقى مهجورا لحين تنقيبات ادورد شيارا في 1928-1930 ثم تنقيبات متحف الموصل في الآونة الأخيرة والتي تمخضت عن اكتشاف الدكتور محمد صبحي عبدالله، ثورا مجنحا غاية في الأتقان كان مصيره التخريب في محاولة سراق قطع رأسه وتهريبه خارج العراق..والمهم في نص بنومي القاء ضوء على شخصية اينجة بيرقدار محمد باشا..والطبيعة المزدوجة في تعامله مع بوتا فضلا عن طبيعة انتقال المعلومات وحرص الحكومات الغربية على كتمان المعلومات الخاصة بمواطنيهم ..فالأرجح ان اينجة ما كان سيلجأ الى ابتكار موضوع القلعة الأفتراضية لو عرف ان بوتا كان طبيبا لمحمد علي باشا..حيث تكفي هذه المعلومة لأتهامة بالتعاون مع العدو المصري..كما كانت الإدارة العثمانية في اسطنبول تجهل بالأرجح هذه الحقيقة وتجهل نوايا الحكومة الفرنسية والتنافس بين الفرنسيين والأنكليز على حساب المصالح العثمانية ومصالح العراقيين في أرض الرافدين..
ونعود الى باجر الذي كان وثيق الصلة بالباشا اينجة بيرقدار كونه مقيما في الموصل ويرتبط بعلاقات جيدة مع الأطراف كلها وبضمنها الآثاريين والتجار والنصارى مكنته من التعرف على تفاصيل الحياة في الموصل بوجوهها كافة..وكان يتابع عن كثب تحركات اينجة بيرقدار في السنة الأخيرة لحكمه وحياته والوصف الذي يقدمه للموصل لايخلو من اثارة ومتعة تدعونا الى ترجمته استكمالا للمعلومات عن احوال المدينة وأهلها على عهد اينجة بيرقدار:
(هناك القليل من البساتين بالقرب من الموصل، غير أن الجبال المحيطة تزود المدينة بالأعناب والرمان والمشمش وبقية الفواكه..ويجلب البرتقال الى الموصل من بغداد..وتنتج ضفاف دجلة والجزيرات التي تتشكل في وسط النهر نفسه في موسم الصيف البطيخ والخيار والخضراوات الأخرى بوفرة؛ وفي موسم الشتاء تمتليء الأسواق بالشلغم والشوندر والجزر؛ وفي الربيع يجلب العرب جمالهم محملة بالكمأ الى المدينة..وخبز الموصل افضل من اي خبز آخر في تركيا؛ أما القيمر ’قيمغ‘ وهو كريم الجاموس، فينافس منتوج افضل مزارع ألبان ديفنشاير [مقاطعة في جنوبي انكلترا معروفة بنتاجها الممتاز من الألبان]..وسقوط الثلوج نادر في شتاءات الموصل حينما يكون المناخ معتدلا وبهيجا، ولكن حرارة أشهر الصيف مفرطة تدفع الناس الى اللواذ بسراديبهم ’التي تتوفر في البيوت كلها تقريبا‘ ويبقون فيها حتى بعيد غروب الشمس عندما يصعدون الى سطوح بيوتهم حيث يتناولون العشاء ويمضون الليل..وهناك في الموصل مالايقل عن 19 جامع و250 مسجد ومصلى و 12 مدرسة الى جانب خرائب العديد منها..ومنارة الجامع الكبير تعد عملا راقيا من اعمال الفن إذ يبلغ ارتفاعها 90 قدم يزينها الطابوق المزخرف المنمق على غرار الفسيفساء وهناك انحناء في المنارة يشبه انحناء برج بيزا..ويقال ان العديد من الجوامع كان كنائس نصرانية واحدى هذه الكنائس كنيسة بيت التكنيتي بالقرب من باب العراق التي استمرت كذلك حتى عام 1245..اذ ورد ذكرها بذلك الأسم في سجل تاريخي في مخطوطة قديمة عثرت عليها في الموصل..وتذكر تلك الوثيقة أن الكنيسة كانت مكرسة لمار ثيودوروس..وان الكتاب كتب من قبل دوقيق لأستعماله من قبل القسين ابراهيم وعبدون من بيت زروغيل وكذلك للنبيل ددون في عهد مار اغناطيوس بطريارك القديس بطرس وخليفته على عرش انطاكية السورية..وكذلك للمار يونان كاثوليكوس ومفريان تكريت ونينوى وكافة الشرق في عام 1557 م. الموافق لعام 643 للهجرة. وقد عثر على هذا الكتاب في كفن والى جانبه هيكل عظمي بشري حفر بالقرب من الجامع منذ قرابة قرنين مضيا..وقد طالب السريان بالرفات واعادوا دفنه في كنيسة مار توما..وللكلدان اربع كنائس في المدينة بالأضافة الى الطهارة قريبة من سور المدينة هي مارمسكنتة ومار شمعون الصفا ومار كوركيس ومار ايشعيا التي تضمنت ثلاث كنائس تحت سقف واحد مكرسة للمار قرياقوس ومار يونان ومار كوركيس؛ ولليعقوبيين اربع كنائس في الموصل ثلاث منها يتقاسمونها مع السريان الكاثوليك هي مار توما ومار خوديمي واثنتان مكرستان لستنا مريم، ولاشيء في هذه الكنائس يلفت النظر وليس لعمارتها الفظة رونق كنيسة الطهارة للكلدان..وسكان الموصل وفق تعداد عام 1849 هو كالآتي: 2.050 عائلة محمدية، و350 كلدانية و450 يعقوبية و300 سريانية بابوية [كاثوليكية] و200 عائلة يهودية..واللغة الوحيدة المستخدمة من قبل اهالي الموصل هي العربية التي يتحدث بها كافة القرويون في القرى والأرياف المحيطة أيضا، ويتحدث الفلاحون الكلدان والنسطوريين الفليحي [العامية السريانية]، ويتحدث اليزيدية الكردية وهي اللهجة الوحيدة المالوفة لدى سكان الجبال الكرد والنسطوريين واليزيدية)..
ثم يحدثنا باجر عن السريانية الكلاسيكية وجهل الكلدان واليعقوبيين في الموصل بها..ثم عن ازياء اهل الموصل وتفنن النساء الموصليات بالحلي الذهبية وكيف تسربت ثروة الموصل الهائلة من الذهب الى مدن بريطانيا ليفربول ومانجستر وكلاسكو لقاء الأقمشة القطنية..ويستطرد للحديث عن عين كبريت [عند قدمي] باشطابيا وحمام علي [حمام العليل] وخصائصهما الصحية ..,يرى ان حمام علي تبعد عن الموصل 10 ساعات والأرجح انه يقصد سيرا ..ثم يروي حادثة غريبة حول اينجة بيرقدار يختتم بها وصفه للموصل:
(وفي مكان يبعد مسافة ثلاث ساعات ركبانا على ظهور الخيل الى الغرب من حمامات علي، توجد بئر طبيعية عمقها 140 قدم وقطرها 50 قدم، تدعى الخسفة، بنت فيها آلاف الحمامات البرية اعشاشها في خلوة لايربك سكونها الناس الذين يعتقدون ان طالعا سيئا لابد محيق اي شخص يحاول اجفالها عن اعشاشها..وفي بداية عام 1844، عقد محمد باشا العزم على امضاء يوم من القنص هناك وعلى ذلك امر القرويين في تلك المناطق كلهم بالحضور وجلب شبكاتهم..فأغلق بهذه الشبكات فتحة البئر بأكملها وشكل الى جانب الفتحة قفص من القماش ارتفاعه ستة اقدام نصب ستارة في داخله يمكن فتحها وقتما يشاء..وبعد امتلاء البيت الأصطناعي بالحمائم أسدل ستار القفص [فامسك القواصون] الحمامات التي [وضعت بأكياس] وحملت على سبعة بغال الى الموصل..وكنت قد وصلت متأخرا لشاهد تلك الحادثة..ولكن عند وصولي المكان [الخسفة] وجدنا عددا من الحمامات ميتات على الأرض لم ير اتباع الباشا داع لحملها..وانتشر حديث انتهاك هذه الخسفة الغريبة بين اهالي الموصل واستمر أياما..وتنبا العديد بسقوط المعتدي [على الحمامات].. وقد عزز موت محمد باشا المفاجيء، في هذه الحالة، تلك الخرافة الشعبية لأن موته حدث بعدها بفترة وجيزة)..
في الواقع تكثر مثل هذه الخسفات في العراق وكنت وجدت هذه الخسفة في اثناء وجودي في العراق في منطقة تقع بالقرب من قرية لقبيلة الحمدون في طريق بادوش ..وحدثني الأهالي عن قبر في اعلى تل قالوا انه يضيء في اثناء الليل ..وارجح ان سبب الضوء معادن توجد في المكان..كما عثرت في المناطق القريبة من حمام علي وبصحبتي المرحوم الدكتور صباح عبد الوهاب الجبوري على مدينة مطمورة..والمنطقة عموما مذخورة بالأسرار والخفايا ذات الصلة بالموصل ونينوى وتاريخيهما.. غير إني اعتقد ان التأريخ الذي ذكره باجر لزيارة اينجة بيرقدار الخسفة غير صحيح لأن الباشا توفي في شهر تشرين الثاني من 1843..كما تفرض سياقات الحوادث والروايات بدون ان تحدد يوما محددا لوفاته..كما ان بدايات العام عادة ماتصاحبها ظروف مناخية غير ملائمة للقنص والطرد والنزهة..كما لاندري ما هي دوافع الباشا لصيد الحمائم غير احتمال رغبته في شوائها واكلها كمقبلات تتلو موسم الزرازير التي تفد الموصل واطرافها في ايلول وبدايات تشرين الأول..ويبدو ان الباشا اعتاد على أكباد هذه الطيور اللذيذة مع الخمرة المحلية (العرق) ..وعندما أنقضى وقت الزرازير، انطلق في تشرين لصيد الحمام تعويضا لها..وتلك عادة درجنا عليها في ايام الصبا والصبابة في الأماكن نفسها ولكن في أزمنة أخرى..
ويحكي هنري جيمس روس لنا في كتابه [رسائل من الشرق] رواية غريبة جرت حوادثها في الموصل في معرض رسالة ارسلها من منزله بالقرب من بطريركية الكلدان الى زوجته ماري في لندن:
(هنا انا في الموصل المدينة الرئيسة لباشليق بالأسم نفسه في الضفة الغربية لدجلة قبالة التلال التي تغطي آثار نينوى وضريح النبي يونس وهو مكان مقدس للغاية لدى المسلمين..وأرى مسننات سور المدينة الذي يمتد قرابة ثلاثة أميال وهي آخذة بالخراب السريع.. للمدينة اربعة ابواب تؤدي الى النهر وستة ابواب على السور الممتد من الشمال الى الجنوب في جهة الصحراء..حدث حادث غريب جدا في أحد الأيام هنا في الموصل..فقد اطلق الحارس عند البوابة الشمالية الأنذار عندما اندفعت مثل دوامة هائلة قطعان من الخنازير البرية الى داخل المدينة مبعثرة كل من تلاقيه من الناس امامها مثل قش تتقاذفه الرياح، ومرقت في ازقة الأسواق الضيقة لتقلب عربات باعة الحلويات والفاكهة والسقائين راسا على عقب ناشرة الفوضى والهرج والمرج في كل مكان، ثم تجمعت وكان شياطينا تقمصتها تحت سور المدينة الذي يرتفع 60 قدما في المكان الذي قتلت فيه او شوهت جميعها..ويفترض انها ربما واجهت اسدا فأنساها الرعب منه خوفها من البشر لتندفع مهاجمة المدينة)..
حدث هذا في اثناء حكم محمد كريتلي باشا في حزيران عام 1844 ..وهو زمن كان الأعجف في تاريخ الموصل بحيث عد حكم اينجة بيرقدار محمد باشا مقارنة به عصرا ذهبيا..ويقينا فأن سلبيات اينجة لاترقى الى سلبيات هذا الحاكم اما فضائل اينجة فلا نجد اية قرينة لها مهما ضئلت لدى هذا الحاكم المسخ..إذ يقتبس توماس لاوري في كتابه [د.جرانت ونساطرة الجبل] رسالة لبوتا كتبها في 8 كانون الأول عام 1844 في وصف كريتلي باشا وجهها الى مسيو فلاندين على الأرجح، جاء فيها:
(مازال باشانا سيئا على النحو نفسه الذي كان عليه عند مغادرتك..والمساكين النصارى مابرحو يعانون المعاناة نفسها..والحديث يجري على اقتراب حين اقالته من المنصب، ولكني اخشى ان يكون الحاكم التالي أسوء..فليس من امل في هذه البلدان سوى تغيير جذري..والله وحده يعلم متى يحدث ذلك، وليس لنا الآن غير الصبر ولكن صبري نفد وانا اتوق الى اللحظة التي أغادر فيها هذا المكان البائس)..
ثم يعود بوتا فيما يذكر توماس لاوري الى وصف باشا آخر في رسالة أخرى لأن شريف باشا الذي اعقب اينجة بيرقدار لم يكن أهلا لأدارة الموصل:
(أنت محظوظ جدا، سيدي العزيز، انك غادرت الموصل قبل وصول باشانا الجديد..فهو، فيما أرى، أبشع رجل وقعت عليه عيني..طوله أربعة اقدام، أعرج وأعوج، بعين واحدة وإذن واحدة ونصف أنف [اعوروأصلم واجدع] تنتشر على وجهه حفر الجدري..أما روحه فمقيم يلائم في قبحه هكذا مقام [جسد]، فهو مركب متكامل للميول والنوازع الرديئة المتمثلة بالقسوة والمكر والجشع والشبق..فقد درج على قطع رؤوس الناس وخنقهم ورمي من يشاء منهم في النهر بسبب طمعه باملاكهم، واحيانا لمجرد الأستمتاع بمشاهد الموت..فقد رايته بنفسي يطلق القنابر بين الناس ليستمتع بمشاهد الذعر والهلع؛ وعندما يسمع هذا الوحش البشع بوجود فتيات حسناوات في اي اسرة، يرسل قواصيه لجلبهن الى حريمه..وتوشك المدينة ان تصبح مكانا مهجورا لكنه عمد الى بناء جدران صمتت عددا من الأبواب ووضع حرسا على الأبواب الأخرى لمنع الناس من الهرب من قبضته..ان قلبي يؤلمني واتوق الى اللحظة التي أغادر فيها هذا المكان حيث اشفق فقط على نظرائي من البشر ومايتعرضون له من مصائب بدون ان اقدر ان افعل شيئا لأنقاذهم)..
يتضح من وصف بوتا ان كريتلي باشا كان قد تعرض لعقوبة جدع الآنف وصلم الأذن وسمل احدى عينيه ان لم يكن قد فقدها بمرض او نتيجة اصابة..ويبدو ان توليته على الموصل جاءت من جراء خطأ في البلاط العثماني وربما بسبب فساد أو خدمة غادرة قدمها لأحد المسؤولين الكبار في اسطنبول..وعلى اية حال فقد تم استدعائه الى العاصمة العثمانية ونفي الى سجن في سميرنا مما يدل على انه قام بممارساته الأجرامية في الموصل بغفلة عن البلاط..وان كان لهذا الوالي المسخ فضيلة تذكر فهي مقارنتنا له بأينجة بيرقدار الذي عمل على تعزيز قوة الدولة ومركزيتها وفرض الأمن في الموصل وانجز الكثير من المشاريع العمرانية والإصلاحية فضلا عن استرجاعه للمقاطعات المنشقة العمادية وراوندوز وتلعفر الى باشليق الموصل..كما نلاحظ اختلافا جذريا في طبيعة استخدام القوة لدى الحاكمين الأول استخدمها وسيلة لتحقيق اهداف ايجابية تخدم الصالح العام ومصلحة الدولة بينما استخدمها الثاني على نحو عشوائي لخدمة اهدافه الشخصية..وبينما شارك اينجة بيرقدار بحروب اقليمية كثيرة تمخضت عن تعزيز قوة الدولة واستقرارها، اقتصرت حروب كريتلي اوغلو على اهل الموصل والأيزيدية..ولم يعن بمحاربة اللصوص وقطاع الطرق من القبائل العربية والكردية مما اعاد الموصل الى حالها قبل تولي اينجة بيرقدار السلطة فيها..ونلاحظ من خلال روايات الرحالة والمبشرين طبيعة نظرة اهل الموصل الى إدارة اينجة كما نطلع على معتقداتهم وموقفهم من الحوادث في عصرهم..ففي حوار جرى بين فليجر (خواجا يعقوب) واحد الملالي من قرية القاضية نتعرف على جوانب مختلفة من حياة الناس ومعتقداتهم..فبعد زيارة الى تلسقف زار ماركوركيس القريب من قرية القاضية حيث استقبله القس وعرفه على الكنيسة وفيها تمثال ماركوركيس يطعن بحربته ثلاثية الرؤوس تنينا..في رمز ابدي يكرر الصراع بين مردوخ وتيامات ونينورتا والأنزو..وآلهة السماء بآلهة الأرض والتمدن الرافدي بالوحشية الآرية..
( في عصر ذلك اليوم جاء احد المحمديين [المسلمين] من قرية مجاورة كان فيما يبدو على صلة حميمة مع القس..وكال الأثنان المديح للقديس كوركيس الذي يخافه الجميع وحتى الأكراد الذين منعهم اكثر من مرة عن حرق الدير..وفي مناسبة عيده [عيد ماركوركيس] يعبرالقديس المقاتل دجلة قادما من الموصل يصاحبه خضر الياس وكلاهما يمتطي حصانا ابيضا، وكلاهما مدجج بالسلاح من رأسه الى قدميه ليجوبان سهل نينوى حتى مطلع الفجر والويل لمن يواجهانه في اثناء جولتهما الليلية..فوجهت عددا من الأسئلة الى المحمدي حول خضر الياس فظهر انه يعرف انه نبي عظيم فحسب وانه مدفون في الموصل..ويذكر احد البلدانيين العرب أن ضريح النبي جرجيس يقع في قلب الموصل، ومن المرجح انه يشير الى الجامع الكبير الذي كان فيما ينسب السكان الى تقاليدهم كنيسة نصرانية..ولعل الكاتدرائية النسطورية القديمة لنينوى الحديثة [الموصل] كانت مكرسة للقديس كوركيس وهذا يفسر كثرة الأساطير الدائرة حوله في الموصل..وفي المساء جاء ثلاثة محمديين احدهم مللا القرية..وبدا الجميع بالحديث بصوت عال عن طغيان محمد باشا واستبداده لأنه كان قد فرض ضرائب ثقيلة على قريتهم، ودار الحديث الاتي بيننا:
المللا: ’متى يأتي قومك للأستيلاء على البلاد؟‘ فاجبته: ’لا اعلم ، فانا تبعا لأفضل مالدي من معلومات ارى ان لانية لديهم للقيام بأي شيء من هذا النوع، ولكن اخبرني يا مللا أنت بصفتك تابعا للنبي ومن السادة لماذا تروم حكم الفرنجة والنصارى عليكم؟‘ فجاء رد المللا: ’خواجة! الله كبير [جبير] ويعلم كل شيء فأن هو اراد ان نصبح [نصير] نصارى أو شاء للأسلام ان يزول، فان هذا سيحدث شئنا نحن أم ابينا..لماذا اذن نقلق على مستقبل الدين والله يعنى بذلك! نحن عميان ولانعلم شيئا‘..فاضاف رفيقه: ’سمعت من يقول ان جوامعنا كانت كنائس نصرانية والله يعلم قد تصبح كنائس مرة اخرى..وأي شيء، سيدي، افضل من طغيان هذا الكلب الباشا..عسى ان يرميه [الله] في نار جهنم‘..فرد المللا: ’محمد باشا من جهة أخرى، رجل عادل، فهو ينهب اليهود والنصارى والمسلمين بدون تمييز؛ فقبل سنة أرسل في طلب أحد الطلبة من معارفي وهو رجل مسكين وورع، فقال له موبخا: انه من المحزن لي ان اراك متخلفا وراء الموصليين [في دفع الضرائب] فرد عليه: أني رجل فقير ياباشا وما املكه يسير ومحصولي شاء الله ان يكون ضئيلا، ونهب الأكراد العديد من اغنامي!‘ فازداد حنق الباشا مثل شيطان وهو الشيطان بعينه ونب مقاطعا الطالب [المريد]: ’كلب! قذر! ستدفع او ترغمك الفلقة على الدفع! على ذلك، عاد المسكين الى بيته مرعوبا..ثم باع [ في اليوم التالي] كتبه لدفع المبلغ..فهل سيذهب مسلم مثل هذا الى الجنة؟ أم سيحشر في قعر جهنم و في الدرك الأسفل منها ..حتى أسفل من اليهود!‘ فقلت بدوري: ’ولكن قاضي الموصل ومفتيها..وهما، بالتأكيد مسلمان، او ينبغي لهما ان يكونان القدوة في اسلامهما، ألا يقدران على مساعدتكم في التاثير على الباشا ليخفف من طغيانه؟‘ فأجاب المللا: ’خواجة، الباشا كافر مخمور، اما القاضي والمفتي، يا أهل الخير، فهما اسوء منه‘)..
نلاحظ من النص اتجاهين عفوي وقصدي..المسلمين والتبشيري البريطاني كلاهما يعبرعن موقف: الموقف العفوي المناهض لظلم الباشا العثماني والرغبة بأزالته باي ثمن حتى ولو كان في احتلال اجنبي للأرض، والموقف الغربي الذي لم يتغير منذ الحروب الصليبية والذي يرتكز على التحريض والنظرة التدوينية للأسلام ففليجر وباسلوب المستشرق الماكر لاينتقد احدا بل يوجه اسئلة ايحائية يتضمن الرد عليها تصريحا لمضامين أكبر من مجرد ظلم الباشا والرغبة بالتخلص من هذا الظلم..فهو يفترض ان القاضي والمفتي ورعين وان هما تصرفا بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيخففا من ممارسات الباشا القمعية، وهو يعرف مسبقا ان الباشا لايصغي لأحد بل يقف مع رجال الدين على طرفي نقيض..فجاء رد المللا [أن القاضي والمفتي أسوء من الباشا على الرغم من ان الباشا رجل كافر ومدمن على الخمرة] وهو الجواب الذي ينتظره فليجر بحكم اسئلته الأيحائية..وتلكم تناقضات مابرحت تشكل قوة ماكرة يلجأ اليها الغرب في بث بذور الفتنة والتشكيك واستغلال العواطف الشعبية لتصدير الفوضى والشقاق في الشرق... وهي مظاهر تتخذ في الوقت الحاضر مسميات اخرى كالطائفية وحرية التعبير وحق الشعوب المضطهدة بالثورة والتغيير..بمعنى ان شيئا لم يتغير في موقف الغرب أو في عالمنا..فالمواقف تتجاوز الحيوات الفردية للناس الذين يرحلون وتبقى افكارهم ومواقفهم حية تتحرك في الفضاءات الإجتماعية والعقلية نفسها منذ القرون الوسطى وحتى العصر الحديث..ونستدل من حركة الغرب تجاه الشرق، ان حكومات الغرب ونخبها المستنيرة كانت اكثر وعيا بأهدافها من المشارقة..بل كانت القوى الغربية تمتلك المؤثرات التي لاتعدو مواقف وتحركات المشارقة في مصر واسطنبول أزاءها سوى ردود افعال لها مما يدعونا الى النظر الى ادارة الموصل في عهد اينجة بيرقدار على انها جزء من رد فعل الأمبراطورية العثمانية ضد القوى التي تهددها من الداخل متمثلة بمحمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، ومن الخارج متمثلة بالقوى الغربية الداعمة لحركات الأنفصال والثورة على الباب العالي..وكان من شأن التصدعات الكبرى وخسارة العثمانيين لنصف اراضي امبراطوريتهم ان برزت قوى اقليمية ومحلية اخرى انتهزت حالات الأنفصال والأستقلال والتمرد لتعلن استقلالها في الإمارات التي نصبهم العثمانيون او ولاتهم عليها كالأكراد في العمادية وراوندوز والأناضول وبقايا القرة قوينلو في شمالي العراق في الوقت الذي نشط فيه قطاع الطرق واللصوص والعيارين في داخل المدن وخارجها..وكانت الموصل قبيل افتتاح قناة السويس مركزا تجاريا وستراتيجيا مهما اضافت اليه العواصم الغابرة لمراكز الحضارات القديمة اهمية كبرى مما يجعل استقرارها مطلبا حيويا ليس لأزدهارها فحسب بل لأزدهار جنوبي الأناضول والخليج العربي وبلاد الشام..إذ يخبرنا اينزورث بهذا الصدد:
(وبدون هذه الشرور الناتئة [يقصد المجاعات والأوبئة والأضطرابات والفتن] وبتوفر حالة الأستقرار في محيطها، تقدم الموصل فوائد تجارية من طراز خاص إذ ترتبط مباشرة بأرض الجوز والبلوط؛ ومن الممكن تفادي الرسوم الجمركية بطريق حلب من خلال إرسال منتجات الجبال مباشرة الى ميناء الأسكندرونة في الوقت الذي تنفتح العديد من الممرات الجبلية على بلاد فارس حيث يستغرق نقل السلع بين خمسة وسبعة ايام..وبسبب قرب الأسكندرونة يمكن ارسال المنتجات الأنكليزية عبر الموصل الى قلب بلاد فارس مع توفير الوقت والتكاليف بحيث لايمكن لطريق طربزون ارضروم تبريز..او طريق بوشهر بغداد، او الطريق الروسي استرخان باكو فمنزدران ان ينافس طريق الأسكندرونة الموصل على الإطلاق)..
ويبدو ان الموصل أصبحت لهذا السبب مركزا تجاريا عظيما على عهد ماركو بولو الذي وصفها بالمملكة، وانها كانت لهذا السبب ايضا احدى المدن التي مر بها ودرسها فرانسيس رودن شيسني وبصحبته اينزورث بحثا عن ممر مائي عبر بلاد الرافدين الى الهند..غير ان انغماس المنطقة ومعها الموصل في الفوضى من جانب والتنافس الأقليمي ، آنف الذكر، بين السلطان محمود من جهة ومحمد علي باشا من جهة اخرى، عطل الدور التجاري للموصل وحلب والقاهرة بل وحتى اسطنبول وفتح الباب امام النشاط التجاري والدبلوماسي والتبشيري والآثاري والإستخباري للغرب..وبينما كانت الحواضر الإسلامية تعيش حالة من الوعي هي استمرار للفضاء الفكري والروحي للقرون الوسطى الإسلامية ، كان الغرب في بواكير العصور الحديثة..ومن الناحية السياسية، في مرحلة تاسيس لعلاقة بين الشرق والغرب تكون الوصاية فيها له على المجتمعات والدول الإسلامية مرتكزا على الخلافات بين مراكز القوى الأقليمية من جهة وتقوية طرف على حساب طرف آخر من جهة ثانية كما حدث في إدارة الصراع بين السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا في مصر وهو صراع يقف في خلفيته التنافس بين روسيا من جانب وانكلترا وفرنسا من جانب آخر.. فلو ترك الغرب الصراع بين القاهرة واسطنبول بدون تدخل لتمكن السلطان محمود من تدمير محمد علي باشا وسحقه ولكن الغرب يفضل تدمير السلطان ووضع محمد علي باشا في طوبقابي على تسليم الأمبراطورية العثمانية لروسيا..وكان التدخل الدبلوماسي في الباب العالي يقابله التدخل العسكري الى جانب محمد علي باشا بطريق دعمه في بناء جيش نظامي وأسطول وتقديم المشورات العسكرية مباشرة من قبل مستشارين فرنسيين يعملون في بلاط محمد علي باشا في الأسكندرية..أما العرب والإثنيات الأخرى في الشرق الأدنى فليس لهم اي حضورسياسي في محاور الصراع كلها بين الغرب وروسيا أو أقليميا بين السلطان العثماني والباشا الألباني..وهذا يفسر بدوره لجوء اينجة بيرقدار الى القوة في إدارته لباشليق الموصل فالظروف الأقليمية والدولية توفر له الغطاء كاملا غير منقوص لأية ممارسة من شأنها تحقيق اهداف الباب العالي.. وفي تتبع سياسات أينجة بيرقدار تجاه التبشيريين والآثاريين والمقيمين الأجانب والنصارى..وجهوده في مجال التصنيع العسكري والحرب ومقارعته للصوص والعيارين وفرضه للضرائب على شرائح المجتمع بدون استثناء انعكاس للإرادة السياسية للسلطان العثماني، واستجابة ايجابية للتحديات التي واجهت الأمبراطورية في عصره..ولم يكن تطبيق الأصلاحات التي اشرنا اليها آنفا في الموصل بالأمراليسير مما جعل اللجوء الى القوة لفرضها ضرورة لبناء الهياكل الإرتكازية كالمستشفى والثكنة ثم معمل المدافع والذخيرة وافران الجيش..وهي مشاريع غطى تجار الموصل الجانب الأكبر من كلفتها..وكانت الخطوات التي اتخذها لضمان الأمن والأستقرار رائدة فقد عمل منذ توليه الحكم على نزع سلاح المدينة وتأسيس التعقيبات وشرطة الأخلاق وكانت الضرائب تجبى من التجار وشيوخ الأصناف ورؤساء الطوائف والمزارعين والأثرياء بدون تمييز..لهذا اصبح هدفا لمحاولات اغتيال متكررة ولأنتقادات كثيرة تكاد تجمع على نعته بالقسوة المفرطة..وأرى ان منجزاته ماكنت ستتحقق لولا اللجوء الى القوة والقسوة في التعامل مع خصومه والمعارضين لأصلاحاته..فقد حول الموصل الى بيت تغلق ابوابه في الليل وتفتح بالنهار وكان يقيم خارج السور في محميته بالقرب من الدندان..غير ان ارادته كانت تحترم في المنطقة بأسرها..وكانت الفلقة افضل وسيلة يلجأ اليها لأرغام المخالفين والمتهربين من الضرائب على الأعتراف والأمتثال بالقوانين..وكانت نتيجة حكمه ان نعمت الموصل بالأمن والإستقرار طيلة ثماني سنوات، ولم يتمكن العيارين واللصوص من الأقتراب من سور المدينة ونهب القطعان على هواهم كما اعتادوا ذلك في العهود التي سبقته مباشرة او على عهد شريف باشا او محمد كريتلي باشا..وبمقدورنا ان نقطع أن ادارة اينجة بيرقدار محمد باشا للموصل كانت اول نموذج للإدارة العلمانية في العراق..وانه حاكم اصلاحي لم يجد بد من اللجوء الى القوة لفرض اصلاحاته..غير ان معلوماتنا عن إدارته لكركوك قرابة سنتين بين عامي 1833 و 1835 قبل توجهه الى الموصل، نزرة ولكن مقارنة المباني التي شيدت في عهده في الموصل بمباني مثيلة في كركوك يظهر تطابقا في عناصر البناء مما يؤكد ماذهب اليه الصائغ بانه بنى في كركوك قصرا منيفا لعله البناء الذي شيدت الى جانبه بناية المشتى اي قشلة كركوك أو دار مدير البلدية التي اقام فيها مارك سايكس، الموقع مع فرانسوا جورج بيكو على اتفاقية تقسيم الشرق الأوسط، في اثناء رحلته في تركيا الآسيوية والتي وثقها في كتابه [دار الأسلام]..
ولا ندري ان كان دفن اينجة بيرقدار في جامع النبي شيت كان بوصية منه، ولكن الأرجح أنه مرض على حين غرة ربما بتفاقم تليف الكبد او بالأحتشاء نتيجة افراطه بالخمرة والطعام وربما بالتسمم لسبب أو آخر.. وكانت وفاته في فترة ترقب وقلق بسبب شكوى قدمها السفير الفرنسي في اسطنبول ضده اثارتها مشكلة قلعة بوتا الإفتراضية في مدينة سرجون [خرسباد]، وتوقع وصول لجنة تحقيقية الى الموصل في اية لحظة.. مما يرجح ان قرار دفنه في جامع النبي شيت اتخذ من قبل المقربين منه أو المتنفذين من اصحاب القرار في الموصل كالقاضي والمفتي.. وختاما ننتهي بما بدأناه وهو ان التاريخ أشبه ببيت متعدد النوافذ وان نافذة الموصل على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا هي أحدى أكثر تلك النوافذ أهمية لأننا شاهدنا من خلالها مشاهد غاية بالإثارة والفرادة والتنوع والجدة.. وهي قبل كل شيء إشارة على ان طبيعة الأنسان لاتتغير مع تغير الأزمنة والأمكنة وان الصراع بين الشرق والغرب، بين الهلال والصليب، على الرغم من القواطع العرضية للمغول والترك، هو احد الثوابت التاريخية التي لم يأن أوان زوالها بعد..
تفتقر مكتباتنا الى المصادر المحلية التي تغطي حوادث النصف الأول من القرن التاسع عشر باللغة العربية وتقتصر المصادر التركية على الوثائق الرسمية والكردية على الروايات الشفهية والمراجعات الحديثة المسيسة في الغالب مما يدعونا الى البحث عن مصادر ومراجع عن تلك المرحلة خارج بيئتنا المحلية ..ولحسن الحظ وجدنا في كتابات التبشيريين والآثاريين والرحالة الأجانب موارد وافية غزيرة بالمعلومات عن الموصل وشمالي العراق ..إلاان هذه المصادر لاتخلو من تحيز نشأ عن تأثر الكتاب الأجانب بمفاهيم خلافية وتصورات استشراقية تعد نصارى الدولة العثمانية اقلية مضطهدة تعيش تحت رحمة المسلمين ويعزون قسوة الأتراك وممارساتهم الى الأسلام..فعلى سبيل المثال نرى كاتبا تبشيريا وطبيبا من طراز الدكتور كرانت يقول في اعقاب هزيمة العثمانيين في معركة نزيب بالقرب من غازي عنتاب والأضطرابات الناشبة في ديار بكر على الرغم من كون القيادة العثمانية فيها اوعزت للألماني فون مولتكة : (أن المسلمين في المدينة باشروا بحملة قتل الأوربيين بسبب غيرتهم من احتمال قيام دولة مسيحية على أنقاض الإسلام بسبب تدهور الأوضاع في تركيا).. يوضح نص كرانت هذا بأن المسلمين يناصبونهم العداء بسبب الدين اي بسبب كونهم نصارى بينما كان تحمسهم الى جانب النصارى بدافع الدين جعلهم يتحيزون ضد المسلمين اتراكا كانوا ام أكرادا ام عرب..غير ان كتابات التبشيريين والرحالة والآثاريين تقدم مكتبة متكاملة من المعلومات النادرة عن حوادث النصف الأول من القرن التاسع عشر والتي اختتمت بمذبحة النصارى عام 1843 وتتضمن هذه المصادر معلومات جغرافية وأثنوغرافية وطوبوغرافية وديموغرافية وآثارية متنوعة فضلا عن معلومات عن النباتات والحيوانات والمياة وطرق المواصلات ووسائل النقل والألبسة والأطعمة ..وهي في معظمها معلومات دقيقة وتفصيلية لاغنى لطلبة التاريخ عنها وهي مدونة على شكل كتب الكترونية تتوفر أصولها بنسخ محدودة او مفردة في مكتبات الغرب..ومن الكتب ذات الأهمية الخاصة في مراجعاتنا لهذه المرحلة من تاريخ الموصل كتاب كلوديوس جيمس ريج المقيم الأنكليزي في بغداد والبصرة (رواية مقيم في كردستان وموقع نينوى القديمة) وكتاب جورج بيرسي باجر (النسطوريين وطقوسهم).. وكتاب التبشيري توماس لاوري الذي صاحب د. كرانت (د.كرانت ونسطوريي الجبل)، وكتاب جيمس فيليبس فليجر (ملاحظات من نينوى)، وكتاب هنري اوستن لايرد (نينوى وأوابدها)، وكتاب وليم اينزورث (رحلات ودراسات في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين) وعدد من المصادر التاريخية الحديثة والموسوعتين الأسلامية والبريطانية ...ولا ازعم ان هذه الدراسة شاملة غطت الجوانب كلها في تلك المرحلة المهمة من تاريخ الموصل بتفاصيلها وتشعباتها ولاسيما مايتعلق بترسيم شخصية اينجة بيرقدار محمد باشا وسياساته وبخاصة تجاه النصارى والأكراد ومديات تورطه من عدمها في الظروف التي قادت الى مذبحة النصارى عام 1843 لأهميتها بالنسبة لتاريخ الموصل ومتابعة أصول المزاعم الديموغرافية والأثنوغرافية للأقليات في شمالي العراق ولاسيما ازاء محاولة عدد من الكتاب اعادة كتابة تاريخهم السياسي على نحو يتنافر مع الوثائق والحقائق والحوادث الفعلية كما يوردها شهود عيان عاشوا تفاصيل الحوادث في ذلك الوقت من تاريخ الموصل ومحيطها السكاني والجغرافي والسياسي..
آملا أن اكون قد قدمت بهذه الدراسة صفحة مفيدة للبحاثة في الموصل والعراق في هذه المرحلة الحرجة والتأسيسية من تاريخنا..
*****
عودة الى الصفحة الرئيسية