أزهر العبيدي
هذه قصة قصيرة كنت قد كتبتها في ساعة تأمل قبل سنوات ونشرت على استحياء في الصفحة الثانية من موقع ملتقى أبناء الموصل، ورأيتها تتفق مع ما جاء في كتاب الصديق العزيز الدكتور حكمت الحلو(سيكلوجية النوم والأحلام) في حديثه حول الأحلام، وهي لا علاقة لها بالرؤيا في الإسلام التي ناقشها الدكتور كذلك في المبحث الثاني من كتابه القيم.
كانوا يعدّونه من العارفين في تفسير الأحلام حتى حادث وفاة جارو الخيّاط المروع، عندما قال له:
- إنها فرحة كبيرة فهذا الحلم يعني أنك سوف ترزق بولد ذكر بعد انتظار طويل وعمر مديد.
أجابه جارو:
- وكيف وأنا في هذا العمر ؟ والشيب قد غطى بشرتي !
قال له:
- إن الله سبحانه إذا أراد أمراً يقول له كن فيكون.
- آمنت بالله.
قالها جارو واتجه إلى بيته في خزرج وهو يتعوذ من الشيطان الرجيم. وفي الليلة نفسها سقط جارو من أعلى السلالم إلى حوش البيت ميتاً.
حامت الشبهات حول تفاسير الحاج قاسم بعد هذا الحادث على الرغم من أن زوجة بشير الكالجي (صانع الكالات) رزقت بطفل جميل وجهه يحاكي القمر كما وصفه الحاج قاسم في حينها، وعلى الرغم من أنه كذب رؤيا الملاّ عبد المبيّض والتي ادّعى فيه بأنه شاهد رسول الله (ص) في المنام يطلب منه أن يأتي إلى قبره الكريم في المدينة المنورة ليسلّم عليه، قال عن عبد في حينها:
- إنه يحتال ليذهب مع قافلة المتعهد الحاج صبري مجاناً.
لقد كانت تفاسيره تنفّس عن بعض الناس كربتهم وتزيل أحزانهم، لكنها لم تكن على صواب في معظم الأحيان.
أما خالد المعلّم فكان يسخر منها على طول الخط ويعتقد أنها أضغاث أحلام لا رابط لها ولا حقيقة، وكثيراً ما كان في صغره يسأل زملاء له في المدرسة:
- هل تشاهدون أحلاماً مزعجة مخيفة ؟ وهل تطيرون في الفضاء مثل الطيور ؟ وهل تسقطون من أعلى الأسطح إلى فناء الدار أو في حفرة لا قرار لها ؟ وهل يظهر لكم شبح الداميّي (أو السعلوّة زوجة الديو) وهي تلحق بكم لتفترسكم ؟ ولكنها لا تصلكم في معظم الأحيان وإن وصلتكم استيقظتم وفراشكم مبلل ؟
وعندما بلغ سن المراهقة كان الكثير من أصحابه يحدثونه عن الحلم الممتع الذي أيقظهم مبللين على الرغم من اجتيازهم مرحلة الطفولة، وكانت معظم أحلامهم تتسبب من تفكيرهم في الجنس الآخر أو فاتنات السينما، لكن فرحتهم سرعان ما تتكلل بنشوة عارمة، فيكون البلل المزعج الذي يقضي على المتعة ويخطف الأحبّة إلى غير رجعة.
وبعد استقراره العائلي تخلّص من أحلام الشباب وأمانيهم المبللة، وراح يحلم بصور مرّت به في صغره وشخصيات كان يحب بعضها ويكره البعض الآخر. مثل تعنيف والده عند ذهابه إلى الشط مع أبناء المحلّة، والذهاب إلى حمام السوق بدون فوطة والماء الحار المتدفق والاستحياء من المحيطين، وشراء شربت الزبيب مع الثلج أيام شهر رمضان المبارك، وعيدانيات العمام والخوال في عيدي الفطر والأضحى، وزواج شقيقته خالدة وحزن أمه الدائم عليها، وقتال فتحية أم البقر مع نساء الجيران بسبب الأولاد، وركوب عربات الخيل للذهاب إلى محلة الفيصلية في الجانب الأيسر، وذهابه مع عمّه حامد إلى دكانه في سوق باب السراي، وعثوره على الكتب التي طالما تمنى الحصول عليها من مكتبة الأهالي في شارع النجفي.
كلّها أحلام عن حوادث مرّت عليه في نشأته أو شبابه وكان لها وقع في نفسه وتركت بصماتها على شخصيته كلّما تقدّم في العمر.
لقد أيقن خالد أن اقتناء العديد من المعارف لكتب تفسير الأحلام هو عبث واضطراب نفسي يلجأ إليه من يريد أن يجد في تفسير الأحلام حلاً لمشاكله وإحباطاته، وهذه الحلول لا يمكن أن يفسّرها سوى صاحب الحلم نفسه. وقيل له أن مخ الإنسان يبقى صاحياً عند نومه فيصوّر له الأحلام، وأن الشخص العادي يحلم في الليلة (3-5) أحلام.
أيقن خالد أن الأحلام هي انعكاس لصور مرّت على الحالم خلال سنيّ حياته، وهي تعبير عن انفعالاته وتصرفاته في اليقظة، وهي صور لأناس أحبهم في حياته وآخرين أساؤوا إليه. وقد تكون بعضها كوابيس مخيفة بسبب المرض أو التخمة.
استمر خالد يحلم في كبره بأبيه وأمه على الرغم من وفاتهما، ثم بأقاربه وأصدقائه الذين رحلوا إلى دار البقاء أو إلى بلد آخر. وكان يتجنب في هذه السن أن يحكي حلمه للآخرين كي لا يقولوا أنه في طريقه للحاق بوالديه اللذين حلم بلقائهما في الجنة، إذ استمر خالد في حياته الطبيعية بعد هذا الحلم لسنوات عدة حلم خلالها بلقاء والديه مرّات عدة. وتجنب أن يقول أنه شاهدهما في أحد الأحلام يطلبان مشاركته في أكلة (الباجة) خوفاً من مطالبته بشراء الباجة العالية السعر وتوزيعها على الجيران والأصدقاء واكتفى بتوزيع (الزنكل) غير المكلف.
الزنكل: طعام موصلي يوزع في المناسبات على أرواح الميتين مثل الزبيبية ويتكون من مزج الطحين مع الماء والملح على نحو سائل سميك ويضاف له الحمّص بعد سلقه وتقشيره وفلقه إلى فلقتين، ثم يقلى بصب كميات صغيرة في الطاوة فيصبح مثل رغيف الخبز الخفيف.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة