أزهر العبيدي
تعد ساحة السراي التي درج الناس على تسميتها خطأً بساحة باب الطوب المركز الرئيس لمدينة الموصل قديماً وحديثاً. كتب عنها المرحوم عبدالمنعم الغلامي بحثاً قيماً مقتضباً في الأربعينيات في جريدة فتى العراق اسماه وصف منطقة باب الطوب سنة 1900 م . سأحاول في هذه السطور التواصل معه حتى نهاية القرن العشرين، متطرقاً إلى المتغيرات التي طرأت إلى حد اليوم ، ماراً بذكريات جميلة عن الساحة التي لابد لكل موصلي أن يمر بها يومياً.
نبدأ من الإشارات الضوئية الحالية في ساحة باب الطوب / السراي وظهرنا إلى باب لكش حيث نجد إلى اليمين بناية شركة الحاج يونس سليمان وأولاده التي أنشئت مكان ( البانق العثماني ) الذي تحدث عنه الغلامي قائلاً: انه كان بناية لدار التعقيم ( تبخير خانة ) قبل أن يصبح مصرفاً. كان البنك قائماً في الخمسينيات في مقدمته دنك من الحلان وسياج حديدي ( محجّل ) جميل الشكل .
في مقابل البنك سينما الوطني / الحمراء / الحدباء في الطابق الثاني وتحتها كراج الصفار للمسافرين وعدد من الدكاكين، وفي الزاوية اليسرى مقهى عبد خروفة . ويبدأ من هذا المكان سوق الصوافة تجار الصوف وشعر الماعز وبيوت الشعر البدوية ، ويتكون من دكاكين على الجانبين ، وعلى امتداده سوق لبيع القماش الملون اللامع للبدو ، وعدد من الصاغة الصابئة الذين يصوغون الفضة للبدو أيضاً . يوازي سوق الصوافة وإلى جانبه سوق القصابين الذي يتكون من دكاكين على الجانبين لبيع اللحم والسقط ، وفي المقدمة بين السوقين دكان عبدالله المشهور ببيع البرتقال .
إلى يسار سوق القصابين كما يذكر الغلامي يوجد خان لبيع النفط الأسود ثم بناية الضبطية (دائرة الشرطة). وأضيف أن سور الموصل وباب السراي كان يقع بين سوق القصابين وخان النفط ، وهدم الباب سنة 1890م . وفي الأربعينات بنيت في موقع الخان سينما الملك غازي الشتوي / الفردوس في الطابق الثاني ، وتحتها مخزن حسّو إخوان الذي كان يرتاده المثقفون والأغنياء فقط ، وكانت السينما من اجمل المباني في ذلك الوقت .
إلى اليمين والبنك الشرقي وعلوة باب الطوب إلى اليسار
يلي السينما كراج للشرطة والتحقيقات الجنائية ، ثم بناية المركز العام / السراي ذي الطابقين الذي ما زال قائماً. وكان من اجمل المشاهد اليومية التي يحب الناس أن يشاهدوها يومياً ، مشهد إنزال العلم العراقي من ساريته فوق بناية المركز عند المساء . إذ يقف حرس السراي بأسلحتهم الطويلة ووجوههم إلى المركز في وضع ( السلام خذ ) الذي يأمر به آمرهم بصوت عال ، ويتم خفض العلم مع صوت بوق قوي تسمعه الساحة والمناطق المجاورة ، وعندها تتوقف وسائل النقل ويتوقف المارة عن السير ويقف الجالسون في الفضاء احتراماً حتى انتهاء مراسيم إنزال العلم .
بعد بناية السراي طريق يؤدي إلى السجن العثماني وخان حمّو القدّو على اليسار وحمام الصالحية على اليمين ، في مدخله انتشر عدد من المصورين الجوّالين ( الشمسيين ) وكتاب العرائض ( العرضحالية ) . بني في مكان السجن بنك الرافدين وفي واجهته المطلة على الشارع عدة دكاكين تبدأ بشركة باتا للأحذية ، ثم مخزن الدباغ لصاحبه خيري محمد صالح الدباغ للمفروشات والتحافيات ، ودكان زكي المسيحي لبيع المشروبات والمعلبات ، ودكان صالح الشيخ نوري وكيل ساعات ريمو وبائع راديوات ، ثم مكتب لشركة الخطوط الجوية العراقية . يليه زاوية فيها مدخل بنك الرافدين الذي كان يتكون من طابق ارضي ، ثم هدم وأقيم مكانه عمارة مصرف الرافدين الحالية من عدة طوابق . بعد الزاوية وإلى اليسار مخزن تجهيزات الهلال لصاحبه فوزي قزازي لبيع المشروبات والمعلبات ، ثم معرض للساعات صاحبه رؤوف الساعاتي . بعد ذلك زقاق خلف البنك يفصله عن خان حمّو القدّو .
وفي الدكاكين العائدة إلى خان حمّو القدّو والمشرفة على ساحة السراي ، وكالة لشركة الدهون تعود إلى بيت عقراوي يعمل فيها صديق واحمد عقراوي ، ثم دكاكين يحيى محمود الخياط واحمد سعيد الخياط وصديق القزاز الخياط ومن بعده استأجر الدكان بشير الحطاب بائع المرطبات بعد هدم دكانه في ساحة البريد . بعد ذلك شركة نقليات الهلال لصاحبها إبراهيم الحمّو، ثم مكتب عبدالسلام الأنكرلي صاحب شركة نقل المسافرين بين الموصل وبغداد والمسماة بـ (الأنكرلي) ثم يبدأ شارع غازي من ركن خان حمّو القدّو .
نعود أدراجنا مرة أخرى إلى ساحة الإشارات الضوئية الحالية ، فنجد أن هناك وعلى اليسار كانت كما يصفها الغلامي : بناية المحكمة الشرعية التي بني مكانها البنك الشرقي ( استرن بنك ـ ليمتد ـ بصرة ) وتليها دائرة البلدية مقابل السراي . وفي الخمسينات أدركنا البنك الشرقي قبل هدمه وكان مظهره جميلاً جداً ، وفيه تم تبديل النقود الملكية بالنقود الجمهورية سنة 1960 في أثناء العهد القاسمي .
يلي البنك إلى اليمين مجموعة من الدكاكين تبدأ بدكان زكي كرجية بائع التبغ والسكاير ، وكان يقف قبالته دائماً بائع السوس واجد مع عدد آخر من السواسين . ثم دكان أولاد مراد يونس وحكمت لبيع النقول ( الجرزات ) ، ودكان عزيز فتحي الوكيل الوحيد في العراق لدراجات ومكائن خياطة الحدباء ، وبعد مدة انتقل إلى قرب دكان الارحيم وشغل مكانه ذنون مراد بائع السكاير الأجنبية . وكان في هذا الدكان سابقاً مع دكان مجاور له مطعم مطلوب (مطعم الأمة ) ، ثم اتخذ جايخانة لعبد مراد ، وشغله أخيراً حازم عفاص بائع الكهربائيات .
بعد ذلك دكان محمد ومحيي القزاز لبيع النقول، ودكان مصطفى ويحيى العاصي لبيع الكهربائيات وشغله من بعدهما اسطيفان مطلوب التحافي . يليه مخزن التاجر عبد القادر الارحيم وكيل سيكاير تركية وبائع المواد المنزلية ، ثم دكان الخياط هايكاز هاكوب كاسكانيان وهو خياط ارمني جيد يقصده الأغنياء والوجهاء ، واتخذ الدكان من بعده عزيز فتحي كما أسلفنا ، تليه أقمشة نافع التي اشغلها الخياط طاطول فيما بعد ، ثم دكان مجيد الساعاتي الذي شغله الخياط جدعون ومن بعده شوقي الشيخ بائع الأجهزة الكهربائية ، ثم قهوة ثامر ( حانوت الشرطة ) التي يجلس في زاويتها دائماً العرضحالجي إبراهيم ، فدكان محمد علي التتنجي ثم السلالم التي ترتقي إلى فوق الدكاكين المارة الذكر حيث الملهى الذي حوّل سنة 1947م إلى مقهى يديره سهيل أبو نجم ، ويتكون من جمالون من الصفيح ( شتوي ) وساحة مكشوفة صيفية .
بعد قهوة ثامر تبتعد الدكاكين إلى الخلف مسافة تقرب من عشرة أمتار لتصبح بموازاة الباب الكبير لعلوة باب الطوب التي تباع فيها الحنطة والشعير، مخلفة أمامها ساحة واسعة قال عنها الغلامي : إنها كانت مساحة صغيرة من الأرض اتخذها موظفو السجن حديقة لهم ويقوم عليها الآن بناية ( البريد والبرق ) أي البريد القديم . بعد باب العلوة وإلى اليمين مجموعة من الدكاكين يشغلها خليل سعيد حديد بائع الراديوات، وسامي سعيد بائع ومصلح الراديوات ، ومخزن جقماقجي لصاحبه محمد النجم لبيع الراديوات والجرامافونات والاسطوانات الخاصة بأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الاطرش وحضيري ابو عزيز وزهور حسين واحمد الكفغ … الخ .
يليه مخزن سالم حديد لبيع الراديوات ، ومقهى طه السرحان ، وسيد غزال الحلاق الذي كان يحلق للزبائن بالموسى والصابون واللكن ويعمل جراحاً فضلاً عن مهنة الحلاقة . ثم دكان واسيل اسحق وكيل سيكاير لوكس ملوكي ، والأخوين محمد ومصطفى أولاد يونس الطويل القرّانين ، وطليع القرّان . ومهنة القرّان ( القغّان ) هي مهنة منقرضة لصنع القران أي السوار المصنوع من قرون الجاموس بعد صقلها ونقشها ، وكانت نساء الأعراب ترتديه بدل الذهب !! ثم مطعم سيد احمد أبو التشريب ، وأولاد الحاج سلّو لبيع الباجة ، ودكان علي الفيل الجايجي . ويقع البريد القديم أمام الدكاكين الأخيرة ويفصله عنها زقاق واسع نسبياً ، وتسمى بالدكاكين خلف البريد ، وإلى جانب البريد حديقة مسيجة بسياج حديدي واطئ تمتد حتى باب العلوة . يجلس تحت حائط البريد الأمامي وأمام الحديقة الجانبية عدد من كتاب العرائض مع كراسيهم ومناضدهم الصغيرة أو على الأرض. وتحت البريد يقف بائع سوداني بملابسه الشعبية يبيع فستق العبيد الحار من موقد فحم محمول على ثلاثة أرجل بمدخنة طويلة .
فوق الدكاكين الكائنة خلف البريد ابتداءً من باب العلوة عيادة طبية للأطباء الألمان الذين جاءوا إلى العراق بعد الحرب العالمية الثانية ، وكانوا متخصصين بمختلف الاختصاصات ، ثم افتتح في مكانها مقهى للقصابين أصحابه جاسم وصالح أولاد شريف . وإلى جانبه مقهى أم كلثوم لصاحبه الحاج عبد المعين احمد الموصلي الذي اختص بإذاعة أغاني أم كلثوم فقط ويجلس فيه هواة كوكب الشرق .
يلي الدكاكين خلف البريد الزقاق المؤدي إلى جامع خزام ، في مدخله الأيسر دكان محمود الأعور البقال ، والأيمن المصور عبد الجبار والبقال احمد أيوب . بعد الزقاق فرن متي لشي الصمون والبقلاوة والقوزي ، وإلى جانبه محروس البقال وجايخانة صبحي عفر ، ثم دكان المصور صبحي . أمام الفرن ساحة واسعة اتخذت موقفاً لسيارات الأنكرلي التي تنقل الركاب يومياً بين الموصل وبغداد ، وكانت سياراتها تسمى ( النيرن ) وظهرت سيارات أخرى خشبية تصنع في النجف يسميها أهل بغداد ( دك النجف ) ، وتقطع المسافة بين الموصل وبغداد في ثماني ساعات .
بعد المصور صبحي زقاق فوقه قنطرة تسمى قنطرة بيت الدبوني ، يؤدي الزقاق إلى محلة شيخ أبو العلا ، قبل القنطرة بيت كامل سارة أول سينمائي في الموصل صاحب سينما كامل ، ويلي الزقاق من اليمين حتى شارع النجفي دكان فيصل النجار وبيت نازو ودكان إبراهيم عفر البقال ودكان مجيد الصاغرجي النجار وبيت داؤد الصقلي وبيت محمد علي أبو المسامير ودكان سيد محمد الجايجي وملا أمين الأوتجي وأولاد بشير الحطاب بائعي الفواكه في الشتاء والمرطبات ( الدوندرمة ) في الصيف ، وأخيراً دكان فالح الحلاق ثم مدخل شارع النجفي .
تم توسيع زقاق أبو العلا إلى شارع ذي ممرين في الستينيات سمي باسم عبد السلام عارف ثم خالد بن الوليد . وفي الوقت نفسه هدم البريد القديم والعلوة والدكاكين الواقعة أمام السراي ، وأقيمت ساحة صقور الحضر وساحة أخرى لوقوف السيارات بقيت مهملة مدة طويلة من الزمن ، ثم أقامت بلدية الموصل سنة 2000 م عمارة مجمع الشواف التجاري في مكانها .
كان الشارع الذي يبدأ من شارع النجفي ماراً بالسراي إلى المحاكم يسمى في أثناء الحكم العثماني بطريق القشلة، وسمي خلال الحكم الملكي بشارع الملك فيصل الأول، وأبدلت تسميته بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى شارع العدالة .