يوم موصلي ... أيام زمان
ما أجمل أيام زمان وما أحلاها وكم نسأل الله أن يعيدها ويعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قبل قلباً على قلب ومشاعر مشتركة ومحبة وعلاقات صميمية عميقة !! لقد كانت مدينة الموصل في منتصف القرن العشرين مدينة صغيرة آمنة ضمن سورها الحجري وأبوابها القديمة تتخللها أزقة ضيقة وبيوت مبنية بالجص الأبيض والحجر متلاصقة لا يشرف أحدها على الآخر، جدرانها عالية لا شبابيك لها على الخارج حرمة لساكنيها وحماية لهم. كل بيت كان يضم الحوش وغرفة للقعدي وأخرى لرب الأسرة أو أكثر من غرفة لكل زوجين من الأعمام أو الأولاد المتزوجين، وإيوان مرتفع السقف والرهرة أو السرداب أو كليهما تحت الغرف والسطوح في الأعلى مع غرفة أخرى أو أكثر تناسب حجم الأسرة.
ما أجمل غرفة القعدي التي تجمع الأسرة طيلة اليوم ويستقبل فيها الضيوف وتفرش أرضيتها في الشتاء بالحصران والسجّاد والليان مع المخدّات للاتكاء، تتصدرها الصندلية خزينة الملابس وفوقها الفرش الملونة والموشّاة المغطّاة بالتول أو الجاجيم الوردي الغامق، وفي الجوانب القبّالات والدواليب الخشبية التي تغطيها وبداخلها الأواني الفرفوري الخزفية والزجاجية بألوانها ونقوشها الزاهية.تعلو الغرفة قبة كروية جميلة نسجت العناكب في أعلاها جسوراً مختلفة من خيوطها لا يسمح الأهل بقتلها فهي حيوانات مباركة نسجت مدخل مغارة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومنعت الكفار من الوصول إليه,
في الخمسينيات من القرن العشرين أدى تحسن الحالة الصحية إلى كثرة الإنجاب بعد أن كان عدد أفراد الأسرة محدوداً بسبب الأمراض والحروب، فأصبح في كل بيت عدد من الأولاد والبنات، وعندما يكبر الولد تبنى له غرفة علوية ليتزوج بها ويكوّن أسرة جديدة، وهكذا مع بقية الأولاد، وكان الأولاد يشاركون أباهم في مهنته قبل انتشار التعليم ويرثون مهنة الوالد وأسرارها. وكان الخروج صباحاً للعمل من العادات التي تحرص الأسرة عليها بعد تناول وجبة الإفطار من الخبز البيتي(القوصة) مع لبن البواطي (كاسة فخارية) أو الطحينية والحلو أو البرمة في الشتاء وهي طعام لذيذ من الحبوب يطبخ تحت رماد الحمام الشعبي. وفي أيام الجمع يكون الفطور متميزاً ويشمل على القيمر والقشفي وخبز السوق.
بعد خروج الرجال لأعمالهم تتجه النساء والبنات إلى أعمال البيت من ترتيب الفرش والغرف والكنس والتنظيف وشطف الإيوان والحوش بالماء من بئر البيت قبل وصول الإسالة ومد الحنفية الوحيدة في قنطرة البيت، وتوزع الحمي (الحماة) كبرى النساء الواجبات على بناتها أو كنّاتها لانجاز العجن والخبز والمساعدة في الطبخ وغسل الملابس كل أسبوع. وتشارك نساء الجيران وبناتهن في الأعمال التي تستوجب تكاتف الجميع في أيام السليقة وتحضير البرغل وتقطيع الرشتة وعمل المعجون وتنقية الحنطة لغرض الطحن والفرش لفصل الشتاء والشلع لفصل الصيف، وتدور خلال العمل أحاديث في شتّى الأمور النسائية فيتم التعريف بمن خطبت من بنات المحلة ! ومن حملت خلال الشهر ! ومن جابت وهل كان ذكرا فرح به الجميع أم أنثى لم تلق الترحيب نفسه ! وكذلك استعراض أسماء عدد من نساء وبنات المحلّة وطباعهنّ لغرض الخطبة مثلاً أو القشبة على الأغلب. وكانت هذه الأحاديث تعد من أفضل مواقع (التواصل الاجتماعي/ الفيس بوك)الحالية.
وفي الصباح خارج البيوت مشهد بانورامي جميل إذ تسمع من المقاهي أجمل الأغاني تصدح بصوت فيروز بعد أن تفتتح بالقرآن الكريم مع صوت البلبل المغرّد الذي يعلن عن افتتاح إذاعة بغداد، وتجد الأزقة والشوارع نظيفة بفضل جهود الكناسين والزبالين ورش عربة رش البلدية، كما يدور الزبالون على البيوت ويفرغوا تنكات الأوساخ في عرباتهم اليدوية، ويشطفوا الأوساخ من الأزقة ومجاري المياه التي تتوسطها وينقلوا الأوساخ على الحمير إلى كرخانات الحمامات لاستخدامها وقوداً بعد جمعها في كدس (بطحة).
كانت أبواب البيوت تبقى مفتوحة في النهار فالدنيا أمان وتوضع خلف الباب بردة من القماش لتمنع الرؤيا داخل البيت أو يوضع حاجز خشبي، وقد تبنى على الأغلب قنطرة ضيقة وعطفة نحو أحد الجانبين لمنع الرؤيا داخل الحوش. ويخرج ويدخل الأولاد وأولاد الجيران بحرية وكذلك النسوة وكأن المحلّة بيت واحد له عدّة أبواب إذ كانت العلاقات الاجتماعية المتينة وصلة الجيرة والقربى تسود بين جميع سكان المحلّة وأسرها، وعندما تحتاج أسرة لمادة ما ترسل الأولاد لطلبها من الجيران دون أن يشعر الطرفان بالإحراج أو الحياء.
وفي الأسواق تنشط الأيدي العاملة وكل مهنة لها سوق أو قيصرية أو خان يمارس صاحب المهنة فيها عمله الشاق على الأغلب مثل: الصفّار والحداد والدباغ والصقال والصواف والقطان والنجار والسراج والقوندرجي والنعلبند والسوفاجي والفحام والخياط والقزاز، ومهن أخرى لا تتطلب جهدا مثل: التاجر واليوزبكي والتتنجي والبزاز والعطار والبقال والصراف. وكان الإخلاص في العمل رائد الجميع والبضاعة الجيدة هي التي تشهر صاحبها دون الحاجة للدعاية أو الإعلان، وكان التنافس في جودة العمل هو رائد الجميع وليس التنافس في البيع إذ كانت أخلاق الناس في ذلك الزمان الجميل تدفع بعض الباعة أن يرسل المشتري لدكان جاره الذي لم يستفتح ببيع بعد.
وفضلاً عن المهن والباعة في الأسواق كان هنالك الباعة المتجولون في الأزقة والمحلاّت منهم باعة الأطعمة والحلويات مثل: الدوندرمة والكريما ستيك وأم العودا في الصيف واللبلبي والمستوى في الشتاء، والشرابت والعسل نعناع والحامض حلو وشعغ البنات والمعسلي والكركري واللكيلك. ومهن أخرى مثل باعة الأقمشة والكاز والحطب والبيض والنامليت والفرارات وبيّاض المويعين وخيّاط الفرفوري واليهودي أبو العتيق. ويشتري الأولاد من هؤلاء الباعة ومن بقّال المحلة العلك وقمر الدين وجلد الفرس والغزنايج وقرص النعناع وكبوعة التوث وسمّاق والقضامي والزبيب بيومياتهم التي كانت لا تتجاوز العشرة فلوس للأغنياء والعانة (أربعة فلوس) للوسط وما دون,ويؤمن البقال كذلك حاجات البيت الضرورية والبسيطة مثل عود الشخاط والسكر والشاي بكميات قليلة والسيكاير وشربت الجميلي للمناسبات وغيرها.
وفي كل محلّة جامع أو مسجد أو أكثر يلتقي فيه يومياً رجال المحلّة صباحاً ومساءً وكأنهم أسرة واحدة يتفقدون بعضهم بعضاً ويزورون الغائب إن كان مريضاً، ويحضرون دفن الموتى والفواتح ويقدمون الطعام طيلة أيام الفاتحة لأهل الميت، ويشاركون كذلك في الأفراح مثل الزواج والولادة وطهور الأولاد والعودة من الحج بتقديم الهدايا التي يقابلهم بمثلها من تهدى له كدين، ويقدمون الأواني والأثاث مثل الكراسي والفرش لأصحاب الدعوى، ولا يدخل الرجال بيوت جيرانهم إلاّ في هذه المناسبات وبدعوة من صاحب البيت. كما يعدّون الطعام للأسرة التي تنتقل من محلّة أخرى إلى بيت في المحلّة لكونهم مشغولين بالنقل.
وكان لكل محلّة حمام شعبي للرجال والآخر للنساء ملاصق له إذ لم تكن في البيوت حمامات قبل توسع المدينة بعد منتف القرن خارج السور في الدواسة والغزلاني والثورة والموصل الجديدة، وللحمامات حديث طويل وطقوس شعبية جميلة سبق وتحدثنا عنها من قبل.
قبل الظهر يشمّ من يمر في الأزقة الموصلية روائح عطرة للطعام الذي يعد في البيوت لوجبة الغداء، فمن بيت محمد جلبي تشمّ رائحة الدهن الحر والرز المولاني والدجاج، ومن بيت حمّو الملاّح تشمّ رائحة (اليبرغ) أو
الدولمة، ومن بيت الحاج ذنون تسمع دقات الجاون الرتيبة حيث يعدّون كبة الموصل، ومن
بيت الملا زكر تشم رائحة سمّاق الربيع، ومن بيت حنا تشم رائحة الشيخ محشي، ومن بيت
حسينة تشم رائحة البرغل وعدس، وروائح كثيرة للكشك والقره زنكي والحصرمية والقاورمة وعروق التنور والخبز الحار وغيرها. وتجتمع الأسرة على الغداء بعد صلاة الظهر مباشرة بعد أن يصب الطعام في ماعون واحد كبير (تبسي)، ويرسل الطعام في سفرطاس أو سطلة إلى محلاّت عمل الرجال إن لم يعودوا للاستراحة ظهراً في بيوتهم.
قبل افتتاح المدارس كان الصغار يجتمعون في حضيرة المحلّة ويلعبون فيما بينهم ألعاب جميلة مسلّية مثل: حارة وحويرة، جلّو ملّو، على علو، على قسطك ما أقعد، سلًيت عكل، من شخطك يا كمر، هبابة الهبابا فضلاً عن اللعب بالتبيل والمزراع والكعاب. وهذه الألعاب للأولاد وهناك ألعاب للبنات مثل: ملعون طش طش خرزي، والشكلة، والجولة، والحبل، وطم خريزة، ولا يجوز للأولاد اللعب مع البنات إذ يسخر ممن يلعب معهم بالقول: حواوا شقّو دفّو .... كل البنات بصفّو. ويتكرر خروج الأولاد للعب عصراً وقبل عودة الآباء من
الأسواق.
ولجاي العصر جلسة عائلية جميلة وسط الإيوان أو الحوش تجتمع فيها الأسرة كباراً وصغاراً لشرب الشاي وتناول الجبن أو جبن البيزا مع خبز الرقاق، وقد تشارك نساء الجيران وبناتهن في هذه الجلسة حيث تدور الأحاديث الشيّقة حول الخطبة والزواج والنيشان والحبل والجلب، وزعل النسوان وصلحهم فيما بينهم أو مع الأزواج.
وكانت سينما العصر ملاذ الشباب في منتصف القرن إذ كانت تلك الفترة العصر الذهبي
للسينما، وكانت بعض الأسر المثقفة ترتاد دور العرض بعد حجز لوج خاص لمشاهدة الأفلام الدينية والاجتماعية والدرامية مثل: ظهور الإسلام وبلال الحبشي وعنتر وعبلة وأفلام الممثلة فاتن حمامة والمطربة أم كلثوم.
بعد صلاة المغرب يتم تناول طعام العشاء مما تبقى من طعام ذلك اليوم ويذهب الرجال إلى مقهى المحلّة لقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء والمعارف، ومن قبل لسماع القصّخون. في حين يتحلّق الأطفال حول أمهاتهم أو جدّاتهم لسماع الحكايات الشعبية عن حديدان والدامية وحسين النمنم وملك الزمان والديو وغيرها حتى يدركهم النعاس فيناموا وهم يحلمون بهذه الشخصيات المخيفة أو المحببة. وينام بعض الأولاد في أودة القعدي وآخرون مع آبائهم في فراش واحد وتحت لحاف واحد لعدة أولاد، وبنام رب البيت وزوجته في سرير (قريولة) من الحديد.
هذه ذكريات أحداث يوم واحد من أيام الموصل زمان نذكرها كأحلام وردية ونحكيها للجيل الحالي لكي يطلعوا على ماضي الآباء والأجداد ويحاولوا أن يحذوا حذوهم. إذ كانت أيام جميلة تسودها العلاقات الاجتماعية المتينة والمحبة والاحترام المتبادل. نسأل الله جل وعلا أن يعيد علينا بعض ما كانت عليه من أمان إنه سميع مجيب.
ه
للعودة إلى الصفحة الرئيسة