من المطبعة إلى المقبرة: جولة مع جرائد الموصل
صالح الياس
صالح الياس
مزيجٌ من رائحة حبر وورق نفاذة، زحامُ رزم متسابقة نحو السقف، منظر يشابه إلى حد ما ثلاجات الموتى حيث تضطجع جثث العنف واللا عنف بانتظار دافنيها. تلك هي الصورة في مخزن مكتبة "زهرة نينوى" أو كما يسميه البعض "مقبرة الصحف".
مراسم تشييع الجرائد الموصلية تتكرر عند موزعيها، كلما عاد إليهم ما عـجزوا عن تصريفه وهي نسخ بالآلاف، نهايتها الحتمية التلف أو استخدامها لغير أغراضها، مسح الزجاج أو بسطها تحت موائد الطعام مثلا.
للصحافة الموصلية، ربيع طويل بدأ مذ ولدت أولى جرائدها في حزيران (يونيو) 1885 باسم "موصل"، وكانت تنشر باللغتين العربية والتركية لتكون الثانية عراقيا، بعد الزوراء البغدادية (1869).
يذكر ذلك جمع من الباحثين والصحفيين، يتقدمهم الراحل أحمد سامي الجلبي، الذي أحصى في مؤلفه "صفحات مطوية من تاريخ الصحافة الموصلية"، 94 جريدة ومجلة حتى 2003، بينها أول مجلة عراقية "أكاليل" في 1902، وأول جريدة فكاهية عنوانها (جكه باز) أي الثرثار، عام 1911.
وبين عامي 2003 و2005- قمة الفوضى- شهدت الصحف فورة كمية وصلت ذروتها عندما تجاوزت المئة، بعضها لأحزاب "فقاعية"، لم يصدر منها سوى عدد يتيم، قبل تلاشيها مع مصدريها.
هذا الرقم تقلص كثيرا ليقترب أخيرا من الأربعين، وفقا لأحمد غانم صاحب مكتبة "زهرة نينوى"، مضيفا بتذمر شديد: "ليس هناك جريدة يومية واحدة، كلها أسبوعية، ومتذبذبة الصدور، باستثناء واحدة أو اثنتين منتظمتين".
"مبيعات الجرائد المحلية تساوي صفر بلا مبالغة، علما أن أرصنها تطبع 1000 نسخة، والسواد الأعظم 250 فقط"، يقول غانم وهو منهك بترتيب مئات النسخ تسلمها منذ أسبوعين، ولم تزحزح قط.
الملاحظ أيضا ان سعر البيع غير مثبت في أغلب الطبعات، وإذا وجد فبأقل فئة نقدية متداولة (250 دينارا)، لأن التوزيع مجاني كما معلوم وموثق ايضا في قوائم الموزعين.
وإذا علمنا أن 90 بالمئة من الصحف، وفق تقديرات متواضعة، تمول نفسها ذاتيا فالسؤال الملح، كيف تغطي تكاليفها اذن؟
مدير إعلام محافظة نينوى وفر نصف الإجابة عندما ذكر أن نحو 35 جريدة مسجلة لديه، تحصل على إعلانات رسمية دورية من ديوان المحافظة، فيما يتهيأ لإستقبال ست أخريات.
ويتابع واثق الغضنفري "لا توجد ضوابط محددة لمنح الإعلانات الرسمية لكننا منصفون في التوزيع بموجب جدول خاص"، نافيا ما يشاع في الوسط الصحفي من وجود فساد او "لي اذرع" يشوب عملية توزيع الإعلانات.
"ألم يحنْ بعد موعد حصتي؟ أنا بانتظارها لأطبع". سؤال يوجه باستمرار على الغضنفري. عليه يتوقع كثيرون أن تتعطل جميع الجرائد الموصلية عن الصدور حال توقف الإعلان الرسمي اذ لا تعويل على مصادر تمويل بديلة.
بقية الإجابة عن سؤال تغطية التكاليف، لا تخرج عن اطار انخفاض مصروفات الصحف، فالتصميم والطباعة والنقل والتوزيع مجتمعة لا تتعدى 350 دولارا للعدد الواحد، الذي يضم أربع إعلانات أو أقل بقليل، قيمة الواحد 210 دولار. كذلك المنشورات، هي في الحقيقة منسوخة من الانترنت باستثناء بعض الأخبار المحلية او المقالات التي يجود بها ذوو الأقلام، الكلام مجددا لصاحب "زهرة نينوى".
هنا، لا توجد جريدة واحدة يمكن وصفها بالمؤسسة، انها أقرب إلى جرائد "افتراضية"، لا وجود لها على الارض، لا مطبعة ولا مقر، وان كان لعدد قليل منها مكاتب صغيرة، فانها تؤدي اكثر من وظيفة.
ويزيد الطين بلة حديث الصحفي نوزت شمدين، عن فساد كبير في أقسام الإعلام الرسمية، حيث تعقد "مناقصات سرية" مع صحف معينة تربح بموجبها إعلانات بمبالغ كبيرة.
شمدين ذكر ان عقبات كثيرة تقف عائقاً أمام تطوير الصحافة في المدينة، فهي تفتقر إلى صحفيين حقيقيين يزاولون عملهم باحتراف، والقلة الموجودون مقيدون بالوضع الأمني المتردي الى درجة ان بعضهم مازال يستتر خلف أسماءٍ مستعارة، كما ان مستقبل المؤسسات الإعلامية غير مضمون وقصير الأمد.
"اننا بحاجة إلى مستثمرين في الإعلام، أو انتظار الاستتباب الامني والنمو الاستثماري والاقتصادي"، بهذا ختم شمدين مداخلته.
كل ما يحتاجه المرء لإصدار صحيفة، هي موافقة شكلية من الحكومة المحلية والقليل من المال وخط انترنت، بينما حيازة اعتماد نقابة الصحفيين بحسب رئيس فرع النقابة في نينوى فوزي القاسم، تفرض وجود مقر حقيقي مؤيد من المجلس البلدي، إلى جانب صدور منتظم، ويستدرك، ان الغالبية الساحقة من الجرائد الموصلية غير مستوفية للشروط.
الدكتور إبراهيم العلاف أستاذ التاريخ المعاصر، عبر عن إيمانه العميق بأهمية الصحف ودورها في التعبير عن الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ورغم أسفه الكبير على توقف بعض الجرائد العريقة لقلة التمويل، مثل (فتى العراق) ذات الانجازات العظيمة منذ تأسيسها 1930، ومع كل السلبيات التي يؤشرها في الشكل والمضمون، إلا أنه لا يتفق تماما مع القائلين بأن الصحافة الموصلية في مرحلة غروب.
واذ يدعو العلاف الصحفيين إلى عدم اعتبار الكتابة الصحفية حرفة بل رسالة أولا، فانه يتطلع لرؤية جرائد مرموقة تليق بتاريخ مدينة الموصل وثقلها الثقافي في البلد، تستقطب النخبة المحترفة.
مشكلة الصحافة المكتوبة في الموصل لا تقتصر على الجانب المادي وقلة التمويل فحسب، بل تتعلق أيضا بالثقة والثقافة.
اما مراسل قناة "الفيحاء" الفضائية سندباد أحمد فقد كان صريحا حين قال: "لا أقرأ الجرائد المحلية، لأنها تنشر موادا ميتة إعلاميا، إذ لا اجد فيها ما يستحق القراءة، واذا لم تأتِ بجديد فلن ينفق المواطن 250 دينار لشرائها، ولن يكلف نفسه عناء تصفحها حتى إن وصلته مجانا".
ولو تحدثنا بالأرقام التي كشفها الموزع الرئيس في المدينة احمد غانم، فان "الصباح" الرسمية الصادرة من بغداد، لديها في الموصل 150 مشتركا فقط، بينما في النجف الصغيرة لديها 3000 مشتركا.
ايضا ان مبيعات الجرائد التي تنشر على مستوى العراق ليست أفضل حظا، فقد اظهر استطلاع اجري لصالح إحدى الصحف البغدادية نتائج مخيفة: 20 نسخة لـ "الصباح" وخمسة لـ "الزمان" في اليوم الواحد في الموصل.
المؤشرات الآنفة التي تدق ناقوس الخطر، لا يراها علي الديوه جي رئيس تحرير صحيفة "عراقيون"، خارج إطار التدهور الثقافي في الموصل، حيث لا وجود لدار نشر، لذا يلجأ الكتاب الموصليون الى بلدان اخرى، بيروت خاصة، لطباعة ونشر نتاجاتهم الأدبية والفكرية والعلمية، الشحيحة أصلا.
وأعاب الديوه جي على مجلس محافظة نينوى أنه لم يرصد اي مبلغ للنهوض بالحركة الثقافية، أسوة بالمجالات الأخرى التي حصدت مليارات الدنانير.
لكن العيب الأكبر أن المجلس لم يفعّل اشتراكه الشهري للصحف الذي قطعه المجلس السابق، بحجة عدم وجود تخصيصات مالية كافية!
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
مراسم تشييع الجرائد الموصلية تتكرر عند موزعيها، كلما عاد إليهم ما عـجزوا عن تصريفه وهي نسخ بالآلاف، نهايتها الحتمية التلف أو استخدامها لغير أغراضها، مسح الزجاج أو بسطها تحت موائد الطعام مثلا.
للصحافة الموصلية، ربيع طويل بدأ مذ ولدت أولى جرائدها في حزيران (يونيو) 1885 باسم "موصل"، وكانت تنشر باللغتين العربية والتركية لتكون الثانية عراقيا، بعد الزوراء البغدادية (1869).
يذكر ذلك جمع من الباحثين والصحفيين، يتقدمهم الراحل أحمد سامي الجلبي، الذي أحصى في مؤلفه "صفحات مطوية من تاريخ الصحافة الموصلية"، 94 جريدة ومجلة حتى 2003، بينها أول مجلة عراقية "أكاليل" في 1902، وأول جريدة فكاهية عنوانها (جكه باز) أي الثرثار، عام 1911.
وبين عامي 2003 و2005- قمة الفوضى- شهدت الصحف فورة كمية وصلت ذروتها عندما تجاوزت المئة، بعضها لأحزاب "فقاعية"، لم يصدر منها سوى عدد يتيم، قبل تلاشيها مع مصدريها.
هذا الرقم تقلص كثيرا ليقترب أخيرا من الأربعين، وفقا لأحمد غانم صاحب مكتبة "زهرة نينوى"، مضيفا بتذمر شديد: "ليس هناك جريدة يومية واحدة، كلها أسبوعية، ومتذبذبة الصدور، باستثناء واحدة أو اثنتين منتظمتين".
"مبيعات الجرائد المحلية تساوي صفر بلا مبالغة، علما أن أرصنها تطبع 1000 نسخة، والسواد الأعظم 250 فقط"، يقول غانم وهو منهك بترتيب مئات النسخ تسلمها منذ أسبوعين، ولم تزحزح قط.
الملاحظ أيضا ان سعر البيع غير مثبت في أغلب الطبعات، وإذا وجد فبأقل فئة نقدية متداولة (250 دينارا)، لأن التوزيع مجاني كما معلوم وموثق ايضا في قوائم الموزعين.
وإذا علمنا أن 90 بالمئة من الصحف، وفق تقديرات متواضعة، تمول نفسها ذاتيا فالسؤال الملح، كيف تغطي تكاليفها اذن؟
مدير إعلام محافظة نينوى وفر نصف الإجابة عندما ذكر أن نحو 35 جريدة مسجلة لديه، تحصل على إعلانات رسمية دورية من ديوان المحافظة، فيما يتهيأ لإستقبال ست أخريات.
ويتابع واثق الغضنفري "لا توجد ضوابط محددة لمنح الإعلانات الرسمية لكننا منصفون في التوزيع بموجب جدول خاص"، نافيا ما يشاع في الوسط الصحفي من وجود فساد او "لي اذرع" يشوب عملية توزيع الإعلانات.
"ألم يحنْ بعد موعد حصتي؟ أنا بانتظارها لأطبع". سؤال يوجه باستمرار على الغضنفري. عليه يتوقع كثيرون أن تتعطل جميع الجرائد الموصلية عن الصدور حال توقف الإعلان الرسمي اذ لا تعويل على مصادر تمويل بديلة.
بقية الإجابة عن سؤال تغطية التكاليف، لا تخرج عن اطار انخفاض مصروفات الصحف، فالتصميم والطباعة والنقل والتوزيع مجتمعة لا تتعدى 350 دولارا للعدد الواحد، الذي يضم أربع إعلانات أو أقل بقليل، قيمة الواحد 210 دولار. كذلك المنشورات، هي في الحقيقة منسوخة من الانترنت باستثناء بعض الأخبار المحلية او المقالات التي يجود بها ذوو الأقلام، الكلام مجددا لصاحب "زهرة نينوى".
هنا، لا توجد جريدة واحدة يمكن وصفها بالمؤسسة، انها أقرب إلى جرائد "افتراضية"، لا وجود لها على الارض، لا مطبعة ولا مقر، وان كان لعدد قليل منها مكاتب صغيرة، فانها تؤدي اكثر من وظيفة.
ويزيد الطين بلة حديث الصحفي نوزت شمدين، عن فساد كبير في أقسام الإعلام الرسمية، حيث تعقد "مناقصات سرية" مع صحف معينة تربح بموجبها إعلانات بمبالغ كبيرة.
شمدين ذكر ان عقبات كثيرة تقف عائقاً أمام تطوير الصحافة في المدينة، فهي تفتقر إلى صحفيين حقيقيين يزاولون عملهم باحتراف، والقلة الموجودون مقيدون بالوضع الأمني المتردي الى درجة ان بعضهم مازال يستتر خلف أسماءٍ مستعارة، كما ان مستقبل المؤسسات الإعلامية غير مضمون وقصير الأمد.
"اننا بحاجة إلى مستثمرين في الإعلام، أو انتظار الاستتباب الامني والنمو الاستثماري والاقتصادي"، بهذا ختم شمدين مداخلته.
كل ما يحتاجه المرء لإصدار صحيفة، هي موافقة شكلية من الحكومة المحلية والقليل من المال وخط انترنت، بينما حيازة اعتماد نقابة الصحفيين بحسب رئيس فرع النقابة في نينوى فوزي القاسم، تفرض وجود مقر حقيقي مؤيد من المجلس البلدي، إلى جانب صدور منتظم، ويستدرك، ان الغالبية الساحقة من الجرائد الموصلية غير مستوفية للشروط.
الدكتور إبراهيم العلاف أستاذ التاريخ المعاصر، عبر عن إيمانه العميق بأهمية الصحف ودورها في التعبير عن الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ورغم أسفه الكبير على توقف بعض الجرائد العريقة لقلة التمويل، مثل (فتى العراق) ذات الانجازات العظيمة منذ تأسيسها 1930، ومع كل السلبيات التي يؤشرها في الشكل والمضمون، إلا أنه لا يتفق تماما مع القائلين بأن الصحافة الموصلية في مرحلة غروب.
واذ يدعو العلاف الصحفيين إلى عدم اعتبار الكتابة الصحفية حرفة بل رسالة أولا، فانه يتطلع لرؤية جرائد مرموقة تليق بتاريخ مدينة الموصل وثقلها الثقافي في البلد، تستقطب النخبة المحترفة.
مشكلة الصحافة المكتوبة في الموصل لا تقتصر على الجانب المادي وقلة التمويل فحسب، بل تتعلق أيضا بالثقة والثقافة.
اما مراسل قناة "الفيحاء" الفضائية سندباد أحمد فقد كان صريحا حين قال: "لا أقرأ الجرائد المحلية، لأنها تنشر موادا ميتة إعلاميا، إذ لا اجد فيها ما يستحق القراءة، واذا لم تأتِ بجديد فلن ينفق المواطن 250 دينار لشرائها، ولن يكلف نفسه عناء تصفحها حتى إن وصلته مجانا".
ولو تحدثنا بالأرقام التي كشفها الموزع الرئيس في المدينة احمد غانم، فان "الصباح" الرسمية الصادرة من بغداد، لديها في الموصل 150 مشتركا فقط، بينما في النجف الصغيرة لديها 3000 مشتركا.
ايضا ان مبيعات الجرائد التي تنشر على مستوى العراق ليست أفضل حظا، فقد اظهر استطلاع اجري لصالح إحدى الصحف البغدادية نتائج مخيفة: 20 نسخة لـ "الصباح" وخمسة لـ "الزمان" في اليوم الواحد في الموصل.
المؤشرات الآنفة التي تدق ناقوس الخطر، لا يراها علي الديوه جي رئيس تحرير صحيفة "عراقيون"، خارج إطار التدهور الثقافي في الموصل، حيث لا وجود لدار نشر، لذا يلجأ الكتاب الموصليون الى بلدان اخرى، بيروت خاصة، لطباعة ونشر نتاجاتهم الأدبية والفكرية والعلمية، الشحيحة أصلا.
وأعاب الديوه جي على مجلس محافظة نينوى أنه لم يرصد اي مبلغ للنهوض بالحركة الثقافية، أسوة بالمجالات الأخرى التي حصدت مليارات الدنانير.
لكن العيب الأكبر أن المجلس لم يفعّل اشتراكه الشهري للصحف الذي قطعه المجلس السابق، بحجة عدم وجود تخصيصات مالية كافية!
للعودة إلى الصفحة الرئيسة