ـ"حياة الشمع" في بغداد بلا عنف
بقلم : صالح الياس
بقلم : صالح الياس
من يسأل عن الشخصيات القديمة، كالشقاوات والمطربين الشعبيين والحرفيين و رجال القصخون، الذين اختفوا تماما من دربونات واحياء بغداد، يجدهم تحولوا الى تماثيل تلوذ بجدران برلينية عالية، ليس خوفا من التفجيرات فحسب وانما للحفاظ على خصوصيتهم ايضا. المتحف البغدادي للفلكلور الشعبي مكان محبب الى قلوب البغداديين، وبسبب نفورهم من الواقع المليء بالعنف يشهد هذه الايام اقبالا غير مسبوق؛ خاصة انه يحاكي حياة اسلافهم يوم كانت بغداد دار السلام بحق.
ابو رائد: ستيني يزور المتحف باستمرار، اعتاد اول ما يفعل عند الدخول التقاط نفس عميق "لأنعاش الذاكرة" كما يقول. هذه المرة جاء مصطحبا حفيدته ليطلعها على "تفاصيل حياة ما قبل الكهرباء والكمبيوتر والموبايل والانترنت والاهم ما قبل المفخخات القاتلة". وعندما تسللت الى مسمعه الثقيل اصوات موسيقى وغناء، انحنى ليشرح لها ان المتحف يحتضن حفلات الجالغي والمربعات والمقامات، وهي ألوان الغناء التراثي البغدادي الذي لم يعد متداولا الا في مناسبات خاصة جدا، ثم انطلق يطوف بالطفلة ذات السبع سنين في الاجنحة المتعددة.
افتتح المتحف عام 1970 بمبادرة من امين بغداد الراحل مدحت الحاج سري الذي جاء بالفكرة اثر عودته من سفرة خارج البلد. وقد تطور منذ ذلك الحين حتى صار يضم - بحسب المدير جاسم الرسام- 385 تمثالا من الشمع، تتوزع على 77 مشهدا يحاكي كل منها قصة من حياة السالفين. ويوضح الرسام وهو فنان تشكيلي، ان المتحف يعرّف بالتراث ونمط الحياة التقليدية البسيطة لفترة زمنية تمتد من القرن التاسع عشر وحتى اواخر القرن العشرين، عبر مشاهد ثابتة تجسد فيها الشخصيات والازياء والعادات، تم تنفيذها من قبل فنانين عراقيين. مهمة المرشدة السياحية علياء جاسم (50 عاما) باتت اصعب من شهر تقريبا، اذ يتزايد الزائرون على نحو ملفت، عقب قرار فتح المتحف يوم الجمعة، مع ذلك لم تبد اي ضيق لأنها، ترتبط – كما تقول- بعلاقة روحية مع المكان فهو يذكرها بجدتها وجدها ومحلتهم القديمة بالتفاصيل يوم كانت العيش ارحب بكثير مما هو الان. وتضيف، ان المتحف بحاجة الى اهتمام اكبر, فكل من يريد الاطلاع على تراثنا يأتي هنا، حتى اننا نستقبل وفودا اجنبية ودبلوماسيين من مختلف بلدان العالم، علينا اذن جعل المكان يليق حقا بالرسالة المنوطة به. ما يميز المتحف ايضا، انه يشغل بناية اثرية انشأت في العهد العثماني (1869م)، حيث كانت مقرا لأول مطبعة تأسست في بغداد، في ذلك اليوم انتبه ابو رائد الى فريق مهندسين يعاين البناية من الداخل باهتمام وقد استوقفتهم شقوق ظهرت على الجدران وفي السقوف، وعندما سألهم بفضول هل من خطر. طمأنوه ان لا شيء مقلق، تحتاج السقوف فقط الى ترميمات بسيطة. ويلفت المدير الى ان الامكانات المتواضعة لم تحل دون تنفيذ مشاريع تطويرية. بدا فخورا وهو يقف امام نموذج نجح بجهوده الشخصية في تحويله الى مشهد متحرك مدعوما بالأصوات ودخان السجائر، وقد دشن مؤخرا. يقول وهو يشير الى جمهرة من الزوار: "كما ترى، يلاقي تفاعلا كبير لذا نتطلع الى تعميم الفكرة على المشاهد الاخرى". ومن مشاريعنا – يتابع الرسام- استبدال التماثيل المصنوعة من الجبس منذ بدايات تأسيس المتحف، بأخرى من مادة السليكون (الشمع) المستخدمة في متحف مدام تيسو، اشهر متاحف الشمع في العالم.
من الواضح ان هنالك تشجيعا على زيارة المتحف، فالدخول شبه مجاني (اقل من نصف دولار للفرد) والادارة تتجه الى فتحه على مدار الاسبوع، لكن بالمقابل لا بد من خطة تطوير ولو بسيطة تبدأ باستبدال اللوحات التعريفية الصدأة والأزياء القاحلة المتربة، لمسات بسيطة كفيلة بجعل المكان اكثر جاذبية.
الحديث عن مكان مليء بالذكريات والشاعرية، يجعلنا ان نتخيل حضورا متميزا للمثقفين لكن الواقع يبدو مغايرا، فأغلب الزوار هم من عامة الناس بعضهم يجعلها نزهة عائلية. مع ذلك لا يخلو الجو ممن يفكر بطريقة مختلفة، الشاعر صفاء الشيخ حمد، يقول: خُيِّل الي وانا اقف للمرة الاولى امام هذه الشخوص انها ليست في الواقع تماثيل صماء, شعرت انها تحدثنا وتوصينا, وما علينا سوى الاصغاء اليها جيداً حتى لا نُضَيِّع ما بقي من تراثنا الذي دمرته الحروب واعمال العنف واهمال المسؤولين والمثقفين. في جناح السوق البغدادي القديم، الحفيدة تمطر جدها ابا رائد ، بوابل من الاسئلة، وفيما كان هو يحاول تبسيط الاجابة وتعريف شخوص وصفاتهم، قاطعته هي: أما زال هنالك قصخون وسَا ومَلاَّ؟ الجد: كلا، ماتوا جميعا.
الحفيدة: للأسف، هل ما توا بانفجار!
ملاحظة: نشرت القصة في 27 شباط 2014، في موقع نقاش الالماني
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
ابو رائد: ستيني يزور المتحف باستمرار، اعتاد اول ما يفعل عند الدخول التقاط نفس عميق "لأنعاش الذاكرة" كما يقول. هذه المرة جاء مصطحبا حفيدته ليطلعها على "تفاصيل حياة ما قبل الكهرباء والكمبيوتر والموبايل والانترنت والاهم ما قبل المفخخات القاتلة". وعندما تسللت الى مسمعه الثقيل اصوات موسيقى وغناء، انحنى ليشرح لها ان المتحف يحتضن حفلات الجالغي والمربعات والمقامات، وهي ألوان الغناء التراثي البغدادي الذي لم يعد متداولا الا في مناسبات خاصة جدا، ثم انطلق يطوف بالطفلة ذات السبع سنين في الاجنحة المتعددة.
افتتح المتحف عام 1970 بمبادرة من امين بغداد الراحل مدحت الحاج سري الذي جاء بالفكرة اثر عودته من سفرة خارج البلد. وقد تطور منذ ذلك الحين حتى صار يضم - بحسب المدير جاسم الرسام- 385 تمثالا من الشمع، تتوزع على 77 مشهدا يحاكي كل منها قصة من حياة السالفين. ويوضح الرسام وهو فنان تشكيلي، ان المتحف يعرّف بالتراث ونمط الحياة التقليدية البسيطة لفترة زمنية تمتد من القرن التاسع عشر وحتى اواخر القرن العشرين، عبر مشاهد ثابتة تجسد فيها الشخصيات والازياء والعادات، تم تنفيذها من قبل فنانين عراقيين. مهمة المرشدة السياحية علياء جاسم (50 عاما) باتت اصعب من شهر تقريبا، اذ يتزايد الزائرون على نحو ملفت، عقب قرار فتح المتحف يوم الجمعة، مع ذلك لم تبد اي ضيق لأنها، ترتبط – كما تقول- بعلاقة روحية مع المكان فهو يذكرها بجدتها وجدها ومحلتهم القديمة بالتفاصيل يوم كانت العيش ارحب بكثير مما هو الان. وتضيف، ان المتحف بحاجة الى اهتمام اكبر, فكل من يريد الاطلاع على تراثنا يأتي هنا، حتى اننا نستقبل وفودا اجنبية ودبلوماسيين من مختلف بلدان العالم، علينا اذن جعل المكان يليق حقا بالرسالة المنوطة به. ما يميز المتحف ايضا، انه يشغل بناية اثرية انشأت في العهد العثماني (1869م)، حيث كانت مقرا لأول مطبعة تأسست في بغداد، في ذلك اليوم انتبه ابو رائد الى فريق مهندسين يعاين البناية من الداخل باهتمام وقد استوقفتهم شقوق ظهرت على الجدران وفي السقوف، وعندما سألهم بفضول هل من خطر. طمأنوه ان لا شيء مقلق، تحتاج السقوف فقط الى ترميمات بسيطة. ويلفت المدير الى ان الامكانات المتواضعة لم تحل دون تنفيذ مشاريع تطويرية. بدا فخورا وهو يقف امام نموذج نجح بجهوده الشخصية في تحويله الى مشهد متحرك مدعوما بالأصوات ودخان السجائر، وقد دشن مؤخرا. يقول وهو يشير الى جمهرة من الزوار: "كما ترى، يلاقي تفاعلا كبير لذا نتطلع الى تعميم الفكرة على المشاهد الاخرى". ومن مشاريعنا – يتابع الرسام- استبدال التماثيل المصنوعة من الجبس منذ بدايات تأسيس المتحف، بأخرى من مادة السليكون (الشمع) المستخدمة في متحف مدام تيسو، اشهر متاحف الشمع في العالم.
من الواضح ان هنالك تشجيعا على زيارة المتحف، فالدخول شبه مجاني (اقل من نصف دولار للفرد) والادارة تتجه الى فتحه على مدار الاسبوع، لكن بالمقابل لا بد من خطة تطوير ولو بسيطة تبدأ باستبدال اللوحات التعريفية الصدأة والأزياء القاحلة المتربة، لمسات بسيطة كفيلة بجعل المكان اكثر جاذبية.
الحديث عن مكان مليء بالذكريات والشاعرية، يجعلنا ان نتخيل حضورا متميزا للمثقفين لكن الواقع يبدو مغايرا، فأغلب الزوار هم من عامة الناس بعضهم يجعلها نزهة عائلية. مع ذلك لا يخلو الجو ممن يفكر بطريقة مختلفة، الشاعر صفاء الشيخ حمد، يقول: خُيِّل الي وانا اقف للمرة الاولى امام هذه الشخوص انها ليست في الواقع تماثيل صماء, شعرت انها تحدثنا وتوصينا, وما علينا سوى الاصغاء اليها جيداً حتى لا نُضَيِّع ما بقي من تراثنا الذي دمرته الحروب واعمال العنف واهمال المسؤولين والمثقفين. في جناح السوق البغدادي القديم، الحفيدة تمطر جدها ابا رائد ، بوابل من الاسئلة، وفيما كان هو يحاول تبسيط الاجابة وتعريف شخوص وصفاتهم، قاطعته هي: أما زال هنالك قصخون وسَا ومَلاَّ؟ الجد: كلا، ماتوا جميعا.
الحفيدة: للأسف، هل ما توا بانفجار!
ملاحظة: نشرت القصة في 27 شباط 2014، في موقع نقاش الالماني
للعودة إلى الصفحة الرئيسة