شارع العمر
صالح الياس
صالح الياس
في بواكير الثمانينات، وصلت الحضارة الى حينا الشعبي الواقع على الطرف الغربي لمدينة الموصل. مُدت شبكة شرايين الحياة، عُبِّدَت الطرق وحُفَّت بالأرصفة، غُرِزَتْ اعمدة الكهرباء بانتظام، تَسَلَّلت اسلاك الهاتف الى الغرف. كل الاعمال انجزت على احسن ما يكون وحسب المخطط، بفضل قوة القانون والشعور بوجود الدولة.
شارعنا الاسفلتي ذو الثمانية امتار عرضا، صار مميزا عن غيره، الجيران في علاقة حميمة جدا يعيشون حياة اشتراكية في المطابخ والجيوب والأفراح والنوائب...، كانوا جيرانا مثاليين بحق.
الاطفال كأزهار بابونج تتعلق بكتف وادي (عكاب) القريب من الحي، لا يقضون في البيوت إلا فترات الراحة والنوم، العائلات في الحدائق التي زرعوها ويديمونها بأنفسهم يجلسون فيها عند اعتدال الجو، وما اجمل ان ترى تطاير الصحون الملأَى بالبطيخ الاحمر بين الحدائق، ثم تتشكل (تعلولة) بطعم الشاي العراقي الداكن.
هكذا عاش اهل الشارع، متوادين متراحمين متكاتفين سعداء متمسكين ببعض، لما همّ ابو احمد ان يرمم منزله الشرقي، اقترح عليه مكتب عقارات ان يبيعه وبإضافة مبلغ الترميم المرصود، يشتري بيتا افضل.
يومها قال: لكنني سأخسر جيراني وهذا ما لا اريده ابدا.
لم يخب ظنه ابدا، فعندما بدأت معاول الهدم تنهال على السقوف والجدران ولان البيوت متراصة، شعر جاره ابو وعد بالضربات تقترب من غرفة الاستقبال وما هي إلا دقائق حتى اطلَّ عليهم العامل برأسه معتذرا وفي نفسه قرار ان لا يرد على اية شتيمة او لكمة، بيد ان تلك (الطاقة) لم تجلب شرا ابدا انما جلبت الماء البارد واللبن المثلج والشاي الداكن على امتداد اسابيع العمل.
لا شيء يدوم، الوضع انقلب على نحو دراماتيكي منذ عام 2003، اول انفجار استهدف قوات الاحتلال الامريكي سقطت شظاياه قريبا من الرصيف حيث ينام اولاد المحلة في ليالي الصيف؛ اذ لا كهرباء. هربوا ساعتئذ، وبعد اشتداد المعارك هُجرت الحدائق وأقفرت البيوت، تفرقوا ولم يبق منهم إلا القليل.
رغم سِنِيِّ الخراب الطويلة الا ان الشارع مازال على قيد الحياة، لكنه مصاب بأمراض الحفر المزمنة، وسرطان التجاوز على كتف الوادي، فقد قسّم اهله الارض ذات الملكية العامة وباعوها بثمن بخس، بحدائقها وذكرياتها الاثرية وأزهارها البابونجية ايضا.
لم تجد نفعا محاولات رتق الجروح، وفي ذروة السقم لاحت بوادر خير، علت اصوات آليات انهمكت في فرش الاسفلت، الفرحة غمرت الجميع لكن السكان الاصليين تذكروا مولد الحضارة قبل ثلاثين عاما، وبهذه المناسبة اخرجوا اكياس الاسمنت نثروها على الاسفلت الجديد ليباركوا الشارع ويشدوا من عزيمته.
ان بونا شاسعا بين اليوم والأمس، انها حالة اللا شعور بالدولة والقانون، فلما اراد شارعٌ فرعي ان يمد انبوبا للماء، اعترض الاهالي على العمل المرخص رسميا وأوقفوه! لا ندري أيحق لهم؟ بما أنهم تولوا اصلاح الانبوب الرئيس قبل عامين، واقتطعوا نفقاته من فم اطفالهم، لان الدوائر الخدمية "صمٌ بكمٌ عُميٌ".
اللا دولة في كل مكان، في شارع مجاور يتجرأ حارس مدرسة على تأجير السكن المخصص له في البناية التابعة لتربية نينوى الى شخص آخر، بينما يعيش هو في بيته الخاص!
جماعات هنا وهناك، تستولي بالقوة على اراض عامة في اطراف المدينة، وتؤدي دور البلدية تقسمها قطعا وتبيعها للمواطنين!
اللا دولة شعور طاغ في القرية والمدينة في المضايف والجوامع والمقاهي،
اللا دولة في العقل الظاهر والباطن، اللا دولة في الحكومة والبرلمان والقضاء،
اللا دولة خارج الحدود ايضا ...
لدينا هويات محلية تتصارع على حساب الهوية العراقية الممزقة،
والنتيجة ان دولتنا = فراغ.
**
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
شارعنا الاسفلتي ذو الثمانية امتار عرضا، صار مميزا عن غيره، الجيران في علاقة حميمة جدا يعيشون حياة اشتراكية في المطابخ والجيوب والأفراح والنوائب...، كانوا جيرانا مثاليين بحق.
الاطفال كأزهار بابونج تتعلق بكتف وادي (عكاب) القريب من الحي، لا يقضون في البيوت إلا فترات الراحة والنوم، العائلات في الحدائق التي زرعوها ويديمونها بأنفسهم يجلسون فيها عند اعتدال الجو، وما اجمل ان ترى تطاير الصحون الملأَى بالبطيخ الاحمر بين الحدائق، ثم تتشكل (تعلولة) بطعم الشاي العراقي الداكن.
هكذا عاش اهل الشارع، متوادين متراحمين متكاتفين سعداء متمسكين ببعض، لما همّ ابو احمد ان يرمم منزله الشرقي، اقترح عليه مكتب عقارات ان يبيعه وبإضافة مبلغ الترميم المرصود، يشتري بيتا افضل.
يومها قال: لكنني سأخسر جيراني وهذا ما لا اريده ابدا.
لم يخب ظنه ابدا، فعندما بدأت معاول الهدم تنهال على السقوف والجدران ولان البيوت متراصة، شعر جاره ابو وعد بالضربات تقترب من غرفة الاستقبال وما هي إلا دقائق حتى اطلَّ عليهم العامل برأسه معتذرا وفي نفسه قرار ان لا يرد على اية شتيمة او لكمة، بيد ان تلك (الطاقة) لم تجلب شرا ابدا انما جلبت الماء البارد واللبن المثلج والشاي الداكن على امتداد اسابيع العمل.
لا شيء يدوم، الوضع انقلب على نحو دراماتيكي منذ عام 2003، اول انفجار استهدف قوات الاحتلال الامريكي سقطت شظاياه قريبا من الرصيف حيث ينام اولاد المحلة في ليالي الصيف؛ اذ لا كهرباء. هربوا ساعتئذ، وبعد اشتداد المعارك هُجرت الحدائق وأقفرت البيوت، تفرقوا ولم يبق منهم إلا القليل.
رغم سِنِيِّ الخراب الطويلة الا ان الشارع مازال على قيد الحياة، لكنه مصاب بأمراض الحفر المزمنة، وسرطان التجاوز على كتف الوادي، فقد قسّم اهله الارض ذات الملكية العامة وباعوها بثمن بخس، بحدائقها وذكرياتها الاثرية وأزهارها البابونجية ايضا.
لم تجد نفعا محاولات رتق الجروح، وفي ذروة السقم لاحت بوادر خير، علت اصوات آليات انهمكت في فرش الاسفلت، الفرحة غمرت الجميع لكن السكان الاصليين تذكروا مولد الحضارة قبل ثلاثين عاما، وبهذه المناسبة اخرجوا اكياس الاسمنت نثروها على الاسفلت الجديد ليباركوا الشارع ويشدوا من عزيمته.
ان بونا شاسعا بين اليوم والأمس، انها حالة اللا شعور بالدولة والقانون، فلما اراد شارعٌ فرعي ان يمد انبوبا للماء، اعترض الاهالي على العمل المرخص رسميا وأوقفوه! لا ندري أيحق لهم؟ بما أنهم تولوا اصلاح الانبوب الرئيس قبل عامين، واقتطعوا نفقاته من فم اطفالهم، لان الدوائر الخدمية "صمٌ بكمٌ عُميٌ".
اللا دولة في كل مكان، في شارع مجاور يتجرأ حارس مدرسة على تأجير السكن المخصص له في البناية التابعة لتربية نينوى الى شخص آخر، بينما يعيش هو في بيته الخاص!
جماعات هنا وهناك، تستولي بالقوة على اراض عامة في اطراف المدينة، وتؤدي دور البلدية تقسمها قطعا وتبيعها للمواطنين!
اللا دولة شعور طاغ في القرية والمدينة في المضايف والجوامع والمقاهي،
اللا دولة في العقل الظاهر والباطن، اللا دولة في الحكومة والبرلمان والقضاء،
اللا دولة خارج الحدود ايضا ...
لدينا هويات محلية تتصارع على حساب الهوية العراقية الممزقة،
والنتيجة ان دولتنا = فراغ.
**
للعودة إلى الصفحة الرئيسة