صالح الياس
لا يشير المظهر الخارجي لمعظم سكان مدينة الموصل إلى أية علامة على أصولهم البدوية. فالموظفون منهم يحرصون على ارتداء بدلات رسمية وربطات عنق حريرية وكذلك يفعل معظم مسؤولو الحكومة. لكن سطوة العشائر على الحياة السياسة بالتزامن مع انهيار مؤسسات الدولة بعد 2003، دفع أهالي المدينة العريقة إلى التنقيب في أشجار نسبهم كي يضاف اسم العشيرة كلاحقة إلى أسمائهم. هكذا سادت ألقاب مثل الجبوري والطائي والشمّري إلى جوار ربطات العنق.
لم تلجأ عائلة حامد السيد نجم المصلاوية الحضرية إلى المحاكم والقضاء العراقي لانتزاع حقها إثر حادثة الدهس التي أودت بحياة احد أبنائها، بل كان العرف العشائري الفيصل في ذلك.
رئيس مجلس محافظة نينوى (السابق) جبر العبد ربه حضر الجلسة التي جمعت طرفي القضية للاحتكام إلى "القانون العشائري"، لكنه لم يأتِ بصفته الرسمية، وإنما كونه من شيوخ قبيلة الجبور، التي ينتسب إليها الشخص المتسبب بالحادثة.
أغلب العوائل الموصلية بدأت تعود إلى أصولها العشائرية لان القانون لم يعد يحمي أفرادها، فأصبحت هناك حاجة فعلية للاحتماء بقوة القبيلة في ظل غياب قانون الدولة المدنية وضعف أدوات تنفيذه، وفقا لقول نصار النعيمي قريب عائلة سيد نجم.
ويضيف، أن الحكم العشائري في هذه القضية "فرض على غريمنا، دفع ديّة قدرها 25 مليون دينار عراقي، لكننا أعدناها لعائلته في الجلسة نفسها، تعبيرا عن حسن النية".
ولم يتطلب البت في هذه القضية عشائريا سوى أيام معدودات، "بينما يستغرق حسمها أشهرا في المحاكم العراقية"، يستدرك النعيمي.
شيوخ العشائر يرون ان "القانون العشائري" أصبح ضامنا أكثر من قانون الدولة العراقية؛ بسبب ضعف ادوات تنفيذه، لاعتبارات كثيرة أبرزها متعلقة بالوضع الأمني.
ويسندون رأيهم هذا بأمثلة من الواقع، حيث أنهم يحكمون باستمرار في نزاعات أطرافها موصليون اقحاح، ارتضوا بالعرف العشائري حَكَما.
دور العشيرة الفاعل في السلطة المحلية والأجهزة الأمنية، لم يكن عرضيا، لان انهيار مؤسسات الدولة العراقية بعد نيسان أبريل 2003 والفوضى التي سادت وقتذاك، دفعت العشائر إلى ملئ الفراغ الأمني والسياسي، الكلام للدكتور احمد فكاك رئيس قسم السياسة العامة في كلية العلوم السياسية، جامعة الموصل.
هذا الدور تعزز عندما صار شيوخ ووجهاء، مسؤولون شرعيون عن حماية مؤسسات الدولة الحيوية، بعقود رسمية مع السلطة، خاصة محطات توليد الكهرباء وأنابيب النفط وسكك القطارات وغيرها.
ويتابع فكاك وهو متخصص في التاريخ، موضحا مراحل تعاظم دور العشيرة السياسي، قائلا: "إن اتباع الممارسات الديمقراطية في العملية السياسية، مكّن العشائر من زج أبنائها في مراكز الحكم المتقدمة فيما بعد، بفعل قوتها الانتخابية، مقابل الانسحاب شبه تام للتكنوقراط".
ويتضح ذلك في الدورة الأولى لمجلس محافظة نينوى، المعينة بداية 2005، حيث ضمت ستة شيوخ عشائر رئيسيين، اما دورة 2009 ففيها اكثر من نصف الاعضاء فازوا بأصوات قبلية، وهكذا تجري الامور ايضا في اروقة المجلس الحالي الذي انتخب قبل اشهر فقط.
"انك تعتاد على سماع كلمة (شيخ) في المحادثات التي تدور بين أعضاء مجلس المحافظة، عربا وغير عرب"، يقول .
ويعتقد العضو الاحتياط في البرلمان عبدالله الحمدون، أن نصف نواب القائمة العراقية (انشطرت الى عدة كتل) عن نينوى ومجموعهم 20 فازوا بأصوات عشائرهم، وستة من النصف المتبقي هنّ نساء، فزن عبر الكوتا، اي بأقل الاصوات.
الملفت للنظر أن جميع من تحدث عنهم حمدون، يستخدمون اللقب العشائري في أسمائهم.
تفسير ذلك ربما نجده لدى أحد موظفي مفوضية الانتخابات في الموصل، حين ذكر أن نسبة كبيرة من الناخبين في الانتخابات البرلمانية السابقة سألوا عن مرشحين ينتمون لعشيرتهم ذاتها، كي يصوّتوا لهم.
ويبدو ان فوز نصف نواب قائمة رئيس البرلمان أسامة النجيفي، بالقوة العددية للعشائر، شجعه لقبول فكرة ان يكون رئيسا لمجلس شيوخ عشيرة بني خالد المنتشرة في عموم البلاد، والتي يرجع نسب عائلته إليها، وهو ما تحقق فعلا في 22 تموز (يوليو) 2011.
كل ذلك يجعلنا نلتفت إلى العقود الأربعة الماضية، التي شهدت موجات هجرة مستمرة من الريف إلى المدينة، سببها الجفاف وتردي الإنتاج الزراعي وقلة دعم الدولة للفلاح، مقابل أن المدينة تبقى جاذبة، لتوفر الخدمات الحياتية.
الخشية من تأثير أبناء العشائر الوافدين إلى المدينة، في قيم وعادات المجتمع الموصلي المعروف بمدنــيته، جراء تزايد أعدادهم باستمرار، وتجمعهم في مناطق معينة خاصة الأطراف، واضحة لدى جزء كبير من الموصليين.
حول ذلك، يعلق أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الموصل علي المعماري، قائلا: "دائما هناك صراع بين القيم الأصلية والقيم الدخيلة، وهذا ما يحدث الآن في المجتمع الموصلي، حيث يدور صراع خفي مصدره خشية الموصليين الأصليين من سيادة عادات وتقاليد يجيء بها أهالي القرى الوافدين".
ويستشهد بالتمسك الكبير باللهجة المصلاوية الحضرية واعتبارها هوية المدينة، تميزهم عن "الدخلاء"، إلى جانب توجه جدي لإحياء دور البيوتات الموصلية المعروفة، والاعتزاز بالانتساب إليها.
"فهناك تضاد في منظومات القيم، وطراز العيش، والتنظيم الاجتماعي، وأنماط التدين" حسب اعتقاده.
المسألة الأخرى التي تبرز دور القبيلة في نينوى، السيطرة شبه التامة لأبناء العشائر على قوات الشرطة والجيش المنتشرة في الموصل، ومردّ ذلك عزوف أهل المدينة عن الانخراط في صفوف الأجهزة الأمنية.
حتى ان بعض الشباب سجلوا على "الفيس بوك" شكوى على صفحة محافظ نينوى أثيل النجيفي، ضد سوء معاملة الجيش والشرطة للمدنيين، وكان رده: "العلة في ذلك أن نسبة تمثيل أبناء (مدينة) الموصل في الأجهزة الأمنية، لا تذكر".
هذا القول يتناسب مع ما كشفه مصدر أمني مطلع بأن أفراد قبيلة الجبور، الأكبر في العراق، يشكلون وحدهم ما يزيد على 70% من عناصر الشرطة المحلية في نينوى، وما تبقى يتوزع على عشائر أخرى.
المعطيات الموجودة هنا في الموصل، يبدو أنها تدعم ما يذهب إليه القانون الاجتماعي القديم القائل: كلما ضعفت الدولة برزت القوى المحلية بما فيها القبيلة، والعكس صحيح.
ملاحظة: المقال نشر اول مرة في عام 2011
للعودة إلى الصفحة الرئيسة