ـ مدينة نينوى أنموذجاُ
ترجمة واعداد
الدكتور حسيب الياس حديد
الاستاذ سيف لقمان
التخطيط علم حديث بدأ البحث فيه منذ أوائل القرن العشرين وما يزال يأخذ أبعاداً جديدة تساير تطور العلوم والتكنلوجيا الحديثة تلبيةً لحاجات الإنسان المختلفة، إلا أن القول بأنه علم حديث لا يعني فصله عن البعد الزمني الذي نشأت فيه المدن منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، ذلك لأن بقايا آثار المدن القديمة التي لا تزال شاخصة لحد الآن تشهد على أسبقية الإنسان في العمل على تخطيط هذه المدن، إلا أن أكثر الذين اهتموا بأمور المدينة في العصور القديمة لا يمكن اعتبارهم مخططين للمدن بالمعنى الذي نعرفه اليوم فقد كانوا إما معماريين تهمهم الناحية المعمارية أو الجمالية أو النواحي الدفاعية والتحصينية للمدينة([1]).
وإذا حددنا موقع بلاد الرافدين وعلاقته بمفهوم التخطيط فإن هناك مؤثرات بيئية تنعكس بدورها على الاستيطان في بلاد الرافدين، وأولى هذه المؤثرات هي تأثيرات الموقع الجغرافي، فلموقع العراق جغرافياً أثر مهم في مسيرة حضارته سياسياً واقتصادياً والذي أثر بدوره على تركيبة سكانه بإتصالهم بالأقوام المجاورة، نظراً لوقوعه بين منطقتين تقل فيهما الموارد الطبيعية، إذ تحده من الشمال الشرقي مناطق جبلية، ومن الغرب والجنوب الغربي مناطق صحراوية فقيرة في مواردها الزراعية والمائية، مما جعل العراق محط أنظار وهدفاً لهجرات الأقوام من المنطقتين المجاورتين التي تقل فيهما موارد العيش ([2]).
ومن العوامل المؤثرة على التخطيط هي الخصائص الطوبغرافية للتضاريس الأرضية فقد أخذت جبال العراق شكلها الحالي وتكون السهل الرسوبي بفعل الطمى والغرين اللذين يكونهما نهرا دجلة والفرات، وعموماً يمكن تمييز عدة أجزاء من أرض العراق التي تختلف عن بعضها البعض من سهول وهضاب ومناطق جبلية، وقد أوجد هذا الاختلاف في التوزيع الطوبغرافي للتضاريس الأرضية تبايناً في حضارة بلاد الرافدين التي ميزت منطقة عن منطقة أخرى وذلك لأختلاف البيئة الطبيعية للعراق القديم ([3]).
وللتأثيرات المناخية دور كبير في التأثير على الفكر التخطيطي للإنسان فمناخ العراق متنوع بأقسامه الطبيعية، إذ يتميز مناخ المنطقة الجبلية بمناخ البحر الأبيض المتوسط الذي يتصف بالبرودة المعتدلة شتاءً وبالحرارة المعتدلة صيفاً ويتراوح معدل سقوط الأمطار فيه ما بين (40-100سم) سنوياً، أما السهل الرسوبي والهضبة الغربية فيسودها مناخ صحراوي، إذ يبلغ معدل سقوط الأمطار في السهل الرسوبي نحو (5-10 سم) كما أن هناك نوعاً آخر من المناخ هو المناخ الانتقالي بين مناخ البحر الأبيض المتوسط في شمال بلاد الرافدين وبين المناخ الصحراوي في الجنوب الذي يبلغ معدل أمطاره (20-40سم) لذلك فإن أمطار العراق بصورة عامة تكفي للزراعة الديمية في الأقسام العليا من ألعراق، نظراً لأن الحد الأدنى للزراعة المطرية هو (30 سم) وهو ما يمكن تحقيقه في المناطق الشمالية، لذلك كان الاعتماد على الري في الزراعة منذ أقدم العصور لسهولة استعماله لسقي الأراضي المنبسطة ([4]).
لقد تحركت لدى الإنسان القديم فكرة الانتقال من الكهف في المناطق الجبلية شمال العراق ومن حياة جمع القوت إلى مرحلة جديدة ظهرت فيها بوادر الزراعة والتدجين لبعض الحيوانات، وكانت هذه هي البوادر الأولى لأشكال المستوطنات الطينية الفصلية في قرى زاوي ﭽمي([5])، وكريم شاهر ([6])، وملفعات ([7])، وكردي جاي([8])،حيث كانت مرحلة انتقال الإنسان تدريجيا من حياة الكهوفً إلى حياة الاستقرار والاستيطان ([9]).
ونتيجةً لتطور التنظيم الاجتماعي والاقتصادي وبدء تفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة به فقد ظهرت قرى أكثر تطوراً من القرى السابقة وهي قرى نمريك و تل الصوان ([10])، ويارم تـﭙـه([11])، وﭽكامامي ([12])، وأم الدباغية ([13])، وقد تميزت هذه القرى بعناصر عمارية متميزة وخاصةً تل الصوان فقد أظهرت الطبقة الثالثة من هذا الموقع أن المعمار إستفاد من مساحة الأرض المخصصة للبناء بتوزيعه للأبنية بصورة عشوائية و متفرقة وجعل بينها مسافات أستعملت ممرات أو طرقاً للتنقل بين أرجاء القرية، وقد أستعملت الحجارة في رصف هذه الطرق، وسورت قرية تل الصوان بسور وخندق دفاعي والذين يعدان أقدم نظام دفاعي في بلاد الرافدين، أما فيما يتعلق بالمباني داخل القرية فقد ظهرت مخططات دور السكن بشكل الحرف (T) وكذلك في ﭽكامامي وتتميز هذه البيوت بأنها وزعت داخل القرية بشكل منفرد ([14]).
لقد استطاع الإنسان العراقي القديم من أن يتكيف مع البيئة المحيطة به، لذلك فإن ما توصل إليه الإنسان في مرحلة القرية يمثل المبادئ الأساسية التي شيدت عليها المدينة فيما بعد، فعلى الرغم من أن تخطيط كل قرية من ألقرى ألمشار إليها كان تخطيطاً وتوسعاً عشوائياً إلا أن هيكل القرية تضمن عناصر تخطيطية كان أهمها المنطقة السكنية وشبكة الشوارع والطرقات ثم الساحات المفتوحة والأسوار([15])، ووجهت الأبنية في القرية بصورة عامة نحو الجهات الأربع وكان ذلك لعدة أسباب منها عوامل مناخية لمواجهة الرياح الشمالية الغربية السائدة، ولتحقيق مستوى متوازن لتوزيع أشعة الشمس على جميع واجهات المبنى فضلاً عن القيمة الرمزية والدينية من ارتباط المبنى بهذا الشكل بالمحاور الكونية التي تقاطعها نقطة الاتصال بالسماء، ويعتقد الباحثون أن قرية تل الصوان وجهت بشكل موازٍلأتجاه جريان نهري دجلة والفرات وربما يكون لهذا التوجيه علاقة وثيقة باتجاه الأنهر لكونها عدت أساساً لحياة سكان بلاد الرافدين ([16]).
بدأ الفكر التخطيطي لدى الإنسان العراقي القديم يزداد شيئاً فشيئاً عن طريق اكتمال نضوجه الفكري بسبب ازدياد حاجاته ومتطلباته اليومية وازدياد كثافة السكان التي أججت بداخله حب الانتقال من مكان أصغر مساحة وهي القرية إلى مكان أكبر مساحة تتوفر فيها كل متطلباته وهي المدينة، حيث ارتكز على عوامل وظيفية أساسية ساعدته في تخطي المصاعب التي يمر بها، فقد اعتمدت المدينة في بدايات تأسيسها على عوامل وظيفية أساسية وهي الوظائف الاقتصادية والدينية والسياسية والعسكرية وكل هذه الوظائف إنعكست بصورة كبيرة على تخطيط المدينة، ولكون هذه العوامل المحور الرئيس للمدينة، فقد ظهرت مدن اتصفت بأنها مدن دينية وسياسية وإدارية أو مدن عسكرية ([17]).
ولكون المدينة امتداداً للقرية فلم يكن هناك اختلاف من حيث الموقع، إذ أن المدينة تقع أيضاً بالقرب من الأنهار الرئيسة ووزعت المباني بصورة منتظمة حول المركز الذي كان يضم المعبد أو القصر، وبعد أن ظهر البرج المدرج أو الزقورة الذي يتوسط المدينة بدأ هناك توسع في مساحة المباني الدينية والدور السكنية، وأصبحت مساحة المدينة أكبر مما هو عليه في القرية، وعلى الرغم من التوسع في مساحات المباني في المدينة إلا أن التخطيط العام للمدينة وتوزيع المباني كان هو نفسه في القرية، إذ بقيت المنطقة المركزية للمدينة متمثلة بالمعبد وأُضيف اليها القصر وتحيط بالمنطقة المركزية المنطقة السكنية والطرقات والشوارع والساحات المفتوحة والحدائق ثم السور الخارجي، وهذا ما ينطبق فعلاً على مدينة نينوى ([18]).
لقد إستندت فكرة تخطيط المدن في العراق القديم إلى عوامل عدة أولها الأساس الطبيعي أو العمراني للمدينة الذي يتمثل بالمباني والطرق والحدائق والمتنزهات وإلى غيرها من الملامح التي تعطي شكلها وهيئتها والعامل الثاني هو العامل السياسي ثم العامل الاقتصادي وأخيراً العامل الاجتماعي ([19])
المصادر
([1]) حيدر عبد الرزاق كمونة، "تباين أسس تخطيط المدن عبر التأريخ"، المورد، م31، ع2 ، 2004، ص3.
([2]) حيدر عبد الرزاق كمونة ونوفل ناظم هندي، "الفكر التخطيطي لمدن العراق القديم"، المورد، م27، ع3، 1999، ص22-23.
([3]) المصدر نفسه، ص25.
([4]) طه باقر، مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة، ج1، بيروت، ط1، 2009، ص26.
([5]) زاوي ﭽمي: قرية صغيرة تقع على ضفة الزاب الكبير على بعد 4 كم إلى الغرب من كهف شانيدار على ارتفاع 425م فوق مستوى سطح البحر. للمزيد ينظر:
عادل عبدالله الشيخ، بدء الزراعة وأولى القرى في العراق، رسالة ماجستير غير منشورة، بإشراف: د. تقي الدباغ، جامعة بغداد، 1985، ص43.
([6]) كريم شاهر: قرية تقع في محافظة السليمانية على بعد 6 كم شرق ناحية ﭽمـﭽمال. للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص44.
([7]) ملفعات: يقع هذا الموقع على نهر الخازر على الطريق الرابط بين أربيل والموصل، للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص45.
([8]) كردي ﭽاي: يقع هذا الموقع على الضفة اليسرى لنهر الزاب الكبير وهو موقع صغير ذو مخلفات عمارية بسيطة. للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص 46.
([9]) بهنام أبو الصوف، تخطيط المدن في العراق القديم (المستوطنات الأولى)، المدينة والحياة المدنية، ج1، 1988، ص117.
([10]) تل الصوان: أكتشَفَ موقع تل الصوان لأول مرة الأستاذ هيرتسفيلد رئيس البعثة الألمانية العاملة في تنقيبات موقع مدينة سامراء الإسلامية في العام 1911 ومن الأمور التي جلبت الانتباه إلى الموقع هي الملتقطات السطحية التي كانت تتألف من كسر مما عرف فيما بعد بفخار حسونة السمج وفخار سامراء الملون فضلاً عن كسر وأدوات من حجر الصوان وحجر الزجاج البركاني الأسود وكان هذا السبب في تسمية الموقع محلياً بتل الصوان. للمزيد ينظر:
دوني جورج يوحنا، عمارة الألف السادس قبل الميلاد في تل الصوان، رسالة ماجستير ، بإشراف: د. وليد محمود الجادر، جامعة بغداد، 1986، ص7-8.
([11]) يارم تـﭙـه: يتألف هذا الموقع من مجموعة من التلول تقع على بعد 10 كيلومتر غرب تلعفر ومعنى اسم يارم تـﭙـه باللغة التركية نصف تل. للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص81.
([12]) ﭽكامامي: يقع موقع ﭽكامامي ضمن سلسلة مواقع أثرية موازية للطريق العام الذي يصل بين مدينة مندلي ونفط خانة ويبعد حوالي 5 كيلومتر شمال مدينة مندلي ضمن السهل أسفل مناطق التلال إلى الجنوب الغربي من سلسلة جبال زاكَروس قرب مناطق الحدود العراقية الإيرانية يبلغ طول الموقع 200م وعرضه حوالي 100م وارتفاعه من 2-5م. للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص95.
([13]) أُم الدباغية: يقع هذا الموقع في منطقة الجزيرة على الحافات الشمالية من وادي الثرثار وإلى الجانب الشرقي منها وعلى مسافة 26 كيلومتر غرب مدينة الحضر، ويبلغ طول التل 100 م وعرضه 85 م وعمقه 4م. للمزيد ينظر: المصدر نفسه، ص88.
([14]) المصدر نفسه، ص9-11.
([15]) حيدر عبدالرزاق كمونة، "تباين أسس تخطيط المدن عبر التاريخ"، المصدر السابق، ص38.
([16]) بهنام أبو الصوف، المصدر السابق، ص120.
([17]) حيدر عبدالرزاق كمونة ونوفل ناظم هندي، المصدر السابق، ص32.
([18]) Novak.M," From Ashur to Nineveh: The Assyrian Town Planing Programme", Nineveh, Vol: 1, London, 2005, p.185.
([19]) Bienkowski, P. and Millard. A., Dictionary of the Ancient Near east, University of Pennsylvania, 2001, p.213.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة