المؤسسات القضائية في بلاد الرافدين
بقلم صوفي لافو*
ترجمة الدكتور حسيب حديد
لا تعد العدالة هي المهمة الوحيدة التي يضطلع بها القضاة بالمعنى الاصطلاحي للذين يمتهنون القضاء من رجال القضاء في بلاد الرافدين ، اذ كانوا يضطلعون بمهام اخرى في الدولة . فقد ورد ذكر القضاة في اللغة
(Du - KUs)
وباللغة الاكدية
(dayyânu)
كما ورد ذكرهم في قوانين حمورابي (1792 – 1750 ق. م) اذ تعاقب المادة الخامسة من هذه القوانين القاضي الذي يرتكب الخيانة في وظيفته وذلك بعزله عن موقعه في وظيفة القضاء. فقد نصت هذه المادة على ما يأتي: " اذا حكم قاضي في قضية واصدر قراراً واثبته في رقيم مختوم وغير في حكمه بعد ذلك سوف يثبتون على القاضي تغيير الحكم الذي اصدره ويدفع غرامة قدرها (12) ضعفا للغرامة التي تطلبتها القضية ويتم طرده من كرسي القضاء في المجلس ولن يعود ولن يجلس مع القضاة في اية قضية اخرى" .
ولا يعرف الكثير عن تشكيل هيئة القضاء ولكن بالتأكيد يوجد مركز متخصص لاعداد القضاة في مدينة نيبور (نفر بالقرب من قضاء كفل في محافظة القادسية). وهي مدينة مشهورة بالقضاة وتعرف بمدينة القانون. ومن خلال المصادر المتوفرة بات متضحاً ان مهنة القضاء كانت محصورة بعوائل معينة خلال العصر البابلي الحديث (625 – 539 ق. م) ولا يبقى القضاة الملكيون في العاصمة دائما حيث انهم يدخلون ضمن تشكيلة السلطات القضائية في المدن الكبرى دون معرفتنا فيما اذا كانوا يتدخلون بصورة منتظمة بسبب اهليتهم واختصاصاتهم الفنية التي تجعلهم مؤهلين للتعامل مع الملفات الدقيقة.
ويذكر ان للاب دور كبير في القضاء ضمن عائلته فهو الذي يحسم جميع القضايا المدنية والجنائية في العائلة ولكنه لا يملك صلاحية الموت والحياة فيما يخص افراد عائلته، أي انه لا يصدر احكاما بالموت على احد افراد عائلته. ومن الاهمية بمكان ان نشير الى وجود حقوق الارتباطات العائلية في العصر البابلي الحديث . وعلى سبيل المثال باستطاعة الاب ان يصدر حكما على ولده اذا تزوج من دون موافقته ، ففي هذه الحالة يحق للاب اعتبار الزواج لاغيا ، ويذكر ان هذه الاجراءات موثقة عند السومريين في الالفية الثالثة ق. م وعند البابليين في الالفية الاولى ق. م وكانت من مسؤولية القدامى فَضْ النزاعات التي تنشب بسبب مواد في القانون العام والقانون الخاص وتم توضيح دورهم بصورة جلية في الوثائق التي جاءتنا من مدينة ماري (تل الحريري) ، فهم الحماة الحقيقيون للتقاليد والاعراف .
وفي كل تلك العصور التاريخية كان الموظفون الاداريون يتلقون اختصاصات قانونية لاكمال وظائفهم الرئيسة ، فقد كان حاكم أي مدينة من تلكم المدن يجلس لتسوية النزاعات ضمن رقعته الجغرافية وبدوره يقوم بنقل حكمه الى العاصمة او ان يتم تنسيق بينه وبين مجموعة اخرى من القضاة لحسم كثير من القضايا . وفي العصور السومرية كان الوزير الكبير
(Sukkal - MAH)
هو المسؤول عن جميع الطلبات والشكاوى والدعاوى ذات العلاقة بالامور القانونية ، وكانت الاختصاصات القضائية منوطة بكبار رجال الادارة ويرتبط كل موظف اداري كبير بالسلطة المركزية .
وهنالك اختصاصات وفروع متعددة في القانون وخاصة القانون التجاري حيث توجد مؤسسة تضم موظفين مسؤولين عن متابعة كل الملفات ، وقد وردت هذه التفاصيل منذ العصور الاشورية القديمة حيث نجد تجارا تم تعيينهم بصورة فعلية من قبل المكتب التجاري في كانيش أكول في اسيا الوسطى لتسوية النزاعات على المستوى المحلي قبل ان يتم ارسال القضايا الى السلطات العليا لكي تصدر حكمها النهائي . اما بالنسبة للملك فانه يتدخل بصفته الرسمية في جميع المحاضر وفي الالفية الثانية كانت هناك حالات وقضايا قانونية تسمى بـ " الحالات او القضايا الملكية " أي ان الملفات الخاصة بالجرائم والخصومات والمنازعات التي يدخل حسمها وتسويتها ضمن اختصاص الملك وصلاحيته حصرا . وفي الالفية الاولى كانت القضايا السياسية والمؤامرات والتمردات والاضرار الجسيمة والقتل من اختصاص السلطة القضائية الملكية وليس من اختصاص الملك نفسه.
التنظيم القضائي :
لا يوجد مصطلح " المحكمة " بالاكدية ولا بالسومرية بالمعنى المتعارف عليه في الوقت الحاضر، ولم يتم تعيين هيئات متخصصة لتقوم بعمل السلطة القضائية او تنظيم المرافعات والاجراءات القانونية . وهذا يعني انه لا توجد جلسات دائمية ومنتظمة للقضاء وانما هناك اجتماع للقضاة والحرفيين الذين يشكلون سلطة قضائية مؤقتة لحسم الكثير من الامور . وتذكر بعض الالواح وجود محل خاص بمحاضر الجلسات ويضم هذا المجلس ممثلين عن المواطنين من القدماء والكبار والحكماء المؤهلين لحسم القضايا المدنية والجنائية وكذلك السياسية والادارية . وهنا لا يمكننا القول ان ذلك يشكل محكمة بالمعنى الدقيق للمصطلح وانما هيئة مشكّلة من قبل السلطة المحلية وتمتلك اختصاصات قانونية . وتعقد هذه المحاكم جلساتها في اماكن مختلفة لانه لم يرد أي ذكر لذلك في الشرق الادنى القديم وتوضح هذه الخاصية وبكل بساطة غياب الفصل بين السلطات من الناحيتين النظرية والعملية. فالقضاء كان متنقلا في الفترة البابلية القديمة وكذلك في ماري حيث يتدخل الملك بالامور القضائية عندما يقيم في مدينة ما فترة ما يمارس فيها القضاء . ولكن في الالفية الاولى ق. م. استقرت الهيئة في العاصمة حيث اصبح تنقل الملك امراً صعباً، وفي هذه الحالة كان القضاة الملكيون هم الذين يضطلعون بمهام المحاكم والقضاء وكانوا يمارسون القضاء بناءً على طلب المحكمة ويؤدون وظيفتهم باسم الملك وليست لدينا معلومات كافية حول الكيفية التي يتم فيها استدعاء السلطات القضائية المحلية او الملكية. ونجد في بعض الدعاوى ان السلطات القضائية تعقد جلساتها بناء على طلب المشتكين بينما في حالات اخرى تعقد جلساتها بناء على طلب من السلطة المركزية .
كانت السلطات القضائية ذات طابع دنيوي ولا يبدو وجود محاكم دينية بالمعنى الدقيق للمصطلح، اما ذكر المعبد او ادارة المعبد في المحاضر في بلاد الرافدين فانه يعني اما من المتطلبات الاجرائية او انه تنسيق مع رجال الدين لدراسة احد الملفات التي لها مساس بالمؤسسة الدينية . وهكذا كانت الحالة في العهد البابلي القديم حيث عندما تكون هناك خصومة او جناية يتم ارتكابها وتلحق الضرر بالمعبد او بأحد الافراد الذين كرسوا انفسهم للمعبد يجري التحقيق في هذه الحالة بجلسة مشتركة تضم شخصيات دينية واخرى دنيوية للموظفين او العامة .
ومن ناحية اخرى تختلف المؤسسات المكلفة بتقديم الملف عن السلطات التي ينبغي عليها اتخاذ قرار الحكم . ويتم التحقيق على المستوى المحلي وذلك من قبل هيئات متساوية التمثيل لمستويات محددة من الموظفين والاداريين ومن النبلاء . ويتم رفع القضية الى السلطات العليا او الى الملك . ولا تشير النصوص الى وجود تشكيل هرمي للجهاز القضائي اذ تخضع جميع المرافعات ولو بصورة نظرية الى رقابة السلطة السياسية العليا . ولا يبدو وجود قاضي واحد فقط في بلاد الرافدين ما عدا الملك . اذ ان السلطات القضائية جماعية ويكون عددها فرديا ولا نعرف بالضبط فيما اذا يشارك جميع الاعضاء وبصورة متساوية لبلورة قرار الحكم ام لا.
المعاونون القضائيون :
هناك صيغة معينة في الادعاء العام ، اذ يمارس المدعي العام وظيفته وتتضمن مسؤوليته مجموعة من العمل الاداري ويذكر ان هذه الوظيفة تم استحداثها في العصر البابلي القديم ، كما عرف القانون الاشوري في عصره الحديث المدعي العام بانه مكلف بالقيام بمتابعة التجاوزات التي ترتكب ضد التاج .
اما بخصوص المحامين فقد تم توثيقهم في النصوص المسمارية ، وهناك ما يثبت وجود مهنة وكيل الدعاوى
(Rabisum)
التي على ما يبدو كانت موجودة في العصر الاشوري القديم ، ويتم تكليف هذا الشخص باجراءات المرافعة باسم صاحب القضية، ويتم تعيينه من قبل السلطات العامة او ان يتم تجنيده من قبل احد الافراد الذي يقوم بتثبيت المبلغ الواجب دفعه كاجور له. ويقع على وكيل الدعاوى عقد نتيجة واذا ما خسر المرافعة عليه ان يعيد المبلغ الذي تسلمه. وفي عصر المملكة الاكدية كان بامكان أي فرد من الافراد الذين يمتازون بأهلية ان يقوم باجراءات المرافعات لحساب طرف يقيم خارج المنطقة التي تتواجد فيها السلطة القضائية المختصة. وعلى العموم يبدو ان القوانين في بلاد الرافدين تطبق مبادئ يمكن بموجبها تمثيل طرف ما امام العدالة.
المرافعات :
يمكن اعتماد طريقة الطعن او الرجوع وهذا يعني عقد جلسة للقضاة لحسم قضايا عالقة ولكن يمكن في بعض الاحيان اتخاذ قرارات ولائية حيث تتدخل المحكمة للتحقيق او للمصادقة على اجراءات معينة تتعلق بالقانون الخاص مثل تسجيل حق النفقة التي يجب على الزوج ان يقدمها لزوجته المريضة.
اجراءات خاصة بالصلح :
يجوز قبل اجراءات المرافعة ان يقوم الاطراف بالتفاوض فيما بينهم، وتم اعتماد هذه الخطوة في فترات مختلفة، وتم استعمال الفعل
(Sabâtu)
والذي يعني القيام بحركة رمزية او حقيقية يقوم بموجبها المدعي بالطلب من خصمه ليدفع له تعويضا عما اقترفه تجاهه قبل المثول امام القاضي . ويذكر ان التجار الاشوريين القدامى كانوا يتوصلون الى اتفاق قبل المثول اما القضاة . فاذا لم يكن هناك صلح بين اطراف الدعوى سوف يتم نقلها الى المحاكم ومن الممكن ان يتم الصلح قبل اداء القَسَم. وفي العصر الاشوري الحديث كانت هناك حلول وسط يتم التوصل اليها وتصديقها امام شهود يتم تدوين اسمائهم وكذلك مكان الصلح والشروط التي بموجبها تم ابرامه .
التحقيق وتهيأة الدعوى :
يقوم الاطراف بتقديم دعواهم امام هيئة مختلطة دائما تضم في عضويتها مجموعة من النبلاء وموظفين اداريين او قضاة محترفين وتشبه في تشكيلتها هيئة المحلّفين المدنية او الجنائية وتتولى مسؤولية التحقيق في الاثباتات ومن ثم تقوم بنقل المحضر الى السلطة القضائية، وبعدها يتم استجواب الشهود والاطراف اما بصورة منفردة او حضوريا .
ويترتب على الطرفين من الناحية المبدئية الحضور الى الجلسة شخصيا او ان يحضر ممثلين عنهم ، وفي حالة غيابهم يتم اتخاذ القرار غيابيا . وتتضمن الاجراءات الجنائية الاهلية بالنسبة للمتهم ، وفي حالة الادانة يمكن ان يتم اتخاذ قرار بالتغريم ، وعليه ان
يقبل هذا الحكم . وقد ظهرت مثل هذه الحالات في العصر الاشوري الحديث ، ففي حالة سرقة يتم فيها القاء القبض على السارق وهو متلبس في الجريمة، تقوم هيئة مكوّنة من ثلاثة اعضاء بعقد اجتماع وتقرر ادانة المتهم الذي يعترف بما اقترفه وذلك لتجنب وضع المحضر امام السلطات في مدينة نينوى ويعد القرار المتخذ قطعياً . وهكذا يترتب على المتهم بجريمة قتل ان يثبت ان الضحية قام بالاعتداء عليه وعلى القضاة اخذ هذا التبرير بنظر الاعتبار بغية تخفيض الحكم .
طرق الاثبات واقامة البينة :
تعترف القوانين والتشريعات الشرقية بالاثباتات المادية (الشهادة والمدونات والاعتراف) وتلجأ عادة الى القَسَم. وفي المجال الجنائي بصورة خاصة يستند الحكم على الاثباتات المؤكدة ، وهذا يوضح الاستعمال الشائع للاثباتات غير العقلية امام المحاكم وليس
بوسع القاضي الاستناد فقط الى اعتقاد محض لاتخاذ القرار واصدار الحكم .
ولاقناع متهم بملف جنائي تقوم هيئة التحقيق بجمع كل الادلة، وهنا نشير الى ان الادلة تتضمن وثائق واوراق رسمية تكون مختومة بالشمع الاحمر ، وعندما يكون لدى القضاة ادلّة غير كافية وغير مقنعة، او هناك شك في فرد معين يصدرون امرا يسمح بعدم اطفاء الدعوى او شطبها . وسوف يعمل اكتشاف أي دليل مادي على اعادة المرافعة دون اخذها من البداية بحيث يسمح ذلك باتخاذ قرار ومن ثم صدور قرار الحكم .
وهناك اجراء اخر معروف في الالفية الاولى ق. م يقضي باجراء تحقيق عندما لا يكون المتهم متعاوناً . ويؤدي هذا الاجراء الى اخذ الاعتراف الكامل ، الا ان الاعتراف لا يشكل الا بداية التحقيق ولا بد من اكماله بالادلاء بالشهادات او بأدلة اخرى لكي تتم
ادانة المتهم . ويوضع المتهم عادة في التوقيف الاحترازي وذلك للحيلولة دون هروبه وان يكون تحت تصرف السلطة القضائية
ويبدو هناك طعن ضد الاعتقال التعسفي ويتم تقديم الطعن امام مجلس شعبي ويتم تفحصه من قبل الملك .
وفي المسائل المتعلقة بالخيانة او الاخلال بالواجب يتم تحضير ملف يتضمن شكاوى الافراد، ويقع عبء الاثبات على المدعي. وفي المجال الجنائي ينبغي على المتهم ان يثبت براءته من الجريمة او الاتهام الموجّه ضده . ففي مجال الزنا على سبيل المثال ينبغي على الزوجة المشتكية ان تقدم الدليل القاطع الذي يدين زوجها بارتكابه الزنا وعلى الزوجة التي يتم اتهامها بالزنا ان تؤدي القسم لاثبات اخلاصها وبراءتها. (المادة 13 من قانون حمورابي).
*[1]
Sophie LAFONT: “ Considération sur la pratique judiciaire en Mésopotamie, Rendre Justice en Mésopotamie”, Presses Universitaires
de Vincennes, Paris,2000.
(Du - KUs)
وباللغة الاكدية
(dayyânu)
كما ورد ذكرهم في قوانين حمورابي (1792 – 1750 ق. م) اذ تعاقب المادة الخامسة من هذه القوانين القاضي الذي يرتكب الخيانة في وظيفته وذلك بعزله عن موقعه في وظيفة القضاء. فقد نصت هذه المادة على ما يأتي: " اذا حكم قاضي في قضية واصدر قراراً واثبته في رقيم مختوم وغير في حكمه بعد ذلك سوف يثبتون على القاضي تغيير الحكم الذي اصدره ويدفع غرامة قدرها (12) ضعفا للغرامة التي تطلبتها القضية ويتم طرده من كرسي القضاء في المجلس ولن يعود ولن يجلس مع القضاة في اية قضية اخرى" .
ولا يعرف الكثير عن تشكيل هيئة القضاء ولكن بالتأكيد يوجد مركز متخصص لاعداد القضاة في مدينة نيبور (نفر بالقرب من قضاء كفل في محافظة القادسية). وهي مدينة مشهورة بالقضاة وتعرف بمدينة القانون. ومن خلال المصادر المتوفرة بات متضحاً ان مهنة القضاء كانت محصورة بعوائل معينة خلال العصر البابلي الحديث (625 – 539 ق. م) ولا يبقى القضاة الملكيون في العاصمة دائما حيث انهم يدخلون ضمن تشكيلة السلطات القضائية في المدن الكبرى دون معرفتنا فيما اذا كانوا يتدخلون بصورة منتظمة بسبب اهليتهم واختصاصاتهم الفنية التي تجعلهم مؤهلين للتعامل مع الملفات الدقيقة.
ويذكر ان للاب دور كبير في القضاء ضمن عائلته فهو الذي يحسم جميع القضايا المدنية والجنائية في العائلة ولكنه لا يملك صلاحية الموت والحياة فيما يخص افراد عائلته، أي انه لا يصدر احكاما بالموت على احد افراد عائلته. ومن الاهمية بمكان ان نشير الى وجود حقوق الارتباطات العائلية في العصر البابلي الحديث . وعلى سبيل المثال باستطاعة الاب ان يصدر حكما على ولده اذا تزوج من دون موافقته ، ففي هذه الحالة يحق للاب اعتبار الزواج لاغيا ، ويذكر ان هذه الاجراءات موثقة عند السومريين في الالفية الثالثة ق. م وعند البابليين في الالفية الاولى ق. م وكانت من مسؤولية القدامى فَضْ النزاعات التي تنشب بسبب مواد في القانون العام والقانون الخاص وتم توضيح دورهم بصورة جلية في الوثائق التي جاءتنا من مدينة ماري (تل الحريري) ، فهم الحماة الحقيقيون للتقاليد والاعراف .
وفي كل تلك العصور التاريخية كان الموظفون الاداريون يتلقون اختصاصات قانونية لاكمال وظائفهم الرئيسة ، فقد كان حاكم أي مدينة من تلكم المدن يجلس لتسوية النزاعات ضمن رقعته الجغرافية وبدوره يقوم بنقل حكمه الى العاصمة او ان يتم تنسيق بينه وبين مجموعة اخرى من القضاة لحسم كثير من القضايا . وفي العصور السومرية كان الوزير الكبير
(Sukkal - MAH)
هو المسؤول عن جميع الطلبات والشكاوى والدعاوى ذات العلاقة بالامور القانونية ، وكانت الاختصاصات القضائية منوطة بكبار رجال الادارة ويرتبط كل موظف اداري كبير بالسلطة المركزية .
وهنالك اختصاصات وفروع متعددة في القانون وخاصة القانون التجاري حيث توجد مؤسسة تضم موظفين مسؤولين عن متابعة كل الملفات ، وقد وردت هذه التفاصيل منذ العصور الاشورية القديمة حيث نجد تجارا تم تعيينهم بصورة فعلية من قبل المكتب التجاري في كانيش أكول في اسيا الوسطى لتسوية النزاعات على المستوى المحلي قبل ان يتم ارسال القضايا الى السلطات العليا لكي تصدر حكمها النهائي . اما بالنسبة للملك فانه يتدخل بصفته الرسمية في جميع المحاضر وفي الالفية الثانية كانت هناك حالات وقضايا قانونية تسمى بـ " الحالات او القضايا الملكية " أي ان الملفات الخاصة بالجرائم والخصومات والمنازعات التي يدخل حسمها وتسويتها ضمن اختصاص الملك وصلاحيته حصرا . وفي الالفية الاولى كانت القضايا السياسية والمؤامرات والتمردات والاضرار الجسيمة والقتل من اختصاص السلطة القضائية الملكية وليس من اختصاص الملك نفسه.
التنظيم القضائي :
لا يوجد مصطلح " المحكمة " بالاكدية ولا بالسومرية بالمعنى المتعارف عليه في الوقت الحاضر، ولم يتم تعيين هيئات متخصصة لتقوم بعمل السلطة القضائية او تنظيم المرافعات والاجراءات القانونية . وهذا يعني انه لا توجد جلسات دائمية ومنتظمة للقضاء وانما هناك اجتماع للقضاة والحرفيين الذين يشكلون سلطة قضائية مؤقتة لحسم الكثير من الامور . وتذكر بعض الالواح وجود محل خاص بمحاضر الجلسات ويضم هذا المجلس ممثلين عن المواطنين من القدماء والكبار والحكماء المؤهلين لحسم القضايا المدنية والجنائية وكذلك السياسية والادارية . وهنا لا يمكننا القول ان ذلك يشكل محكمة بالمعنى الدقيق للمصطلح وانما هيئة مشكّلة من قبل السلطة المحلية وتمتلك اختصاصات قانونية . وتعقد هذه المحاكم جلساتها في اماكن مختلفة لانه لم يرد أي ذكر لذلك في الشرق الادنى القديم وتوضح هذه الخاصية وبكل بساطة غياب الفصل بين السلطات من الناحيتين النظرية والعملية. فالقضاء كان متنقلا في الفترة البابلية القديمة وكذلك في ماري حيث يتدخل الملك بالامور القضائية عندما يقيم في مدينة ما فترة ما يمارس فيها القضاء . ولكن في الالفية الاولى ق. م. استقرت الهيئة في العاصمة حيث اصبح تنقل الملك امراً صعباً، وفي هذه الحالة كان القضاة الملكيون هم الذين يضطلعون بمهام المحاكم والقضاء وكانوا يمارسون القضاء بناءً على طلب المحكمة ويؤدون وظيفتهم باسم الملك وليست لدينا معلومات كافية حول الكيفية التي يتم فيها استدعاء السلطات القضائية المحلية او الملكية. ونجد في بعض الدعاوى ان السلطات القضائية تعقد جلساتها بناء على طلب المشتكين بينما في حالات اخرى تعقد جلساتها بناء على طلب من السلطة المركزية .
كانت السلطات القضائية ذات طابع دنيوي ولا يبدو وجود محاكم دينية بالمعنى الدقيق للمصطلح، اما ذكر المعبد او ادارة المعبد في المحاضر في بلاد الرافدين فانه يعني اما من المتطلبات الاجرائية او انه تنسيق مع رجال الدين لدراسة احد الملفات التي لها مساس بالمؤسسة الدينية . وهكذا كانت الحالة في العهد البابلي القديم حيث عندما تكون هناك خصومة او جناية يتم ارتكابها وتلحق الضرر بالمعبد او بأحد الافراد الذين كرسوا انفسهم للمعبد يجري التحقيق في هذه الحالة بجلسة مشتركة تضم شخصيات دينية واخرى دنيوية للموظفين او العامة .
ومن ناحية اخرى تختلف المؤسسات المكلفة بتقديم الملف عن السلطات التي ينبغي عليها اتخاذ قرار الحكم . ويتم التحقيق على المستوى المحلي وذلك من قبل هيئات متساوية التمثيل لمستويات محددة من الموظفين والاداريين ومن النبلاء . ويتم رفع القضية الى السلطات العليا او الى الملك . ولا تشير النصوص الى وجود تشكيل هرمي للجهاز القضائي اذ تخضع جميع المرافعات ولو بصورة نظرية الى رقابة السلطة السياسية العليا . ولا يبدو وجود قاضي واحد فقط في بلاد الرافدين ما عدا الملك . اذ ان السلطات القضائية جماعية ويكون عددها فرديا ولا نعرف بالضبط فيما اذا يشارك جميع الاعضاء وبصورة متساوية لبلورة قرار الحكم ام لا.
المعاونون القضائيون :
هناك صيغة معينة في الادعاء العام ، اذ يمارس المدعي العام وظيفته وتتضمن مسؤوليته مجموعة من العمل الاداري ويذكر ان هذه الوظيفة تم استحداثها في العصر البابلي القديم ، كما عرف القانون الاشوري في عصره الحديث المدعي العام بانه مكلف بالقيام بمتابعة التجاوزات التي ترتكب ضد التاج .
اما بخصوص المحامين فقد تم توثيقهم في النصوص المسمارية ، وهناك ما يثبت وجود مهنة وكيل الدعاوى
(Rabisum)
التي على ما يبدو كانت موجودة في العصر الاشوري القديم ، ويتم تكليف هذا الشخص باجراءات المرافعة باسم صاحب القضية، ويتم تعيينه من قبل السلطات العامة او ان يتم تجنيده من قبل احد الافراد الذي يقوم بتثبيت المبلغ الواجب دفعه كاجور له. ويقع على وكيل الدعاوى عقد نتيجة واذا ما خسر المرافعة عليه ان يعيد المبلغ الذي تسلمه. وفي عصر المملكة الاكدية كان بامكان أي فرد من الافراد الذين يمتازون بأهلية ان يقوم باجراءات المرافعات لحساب طرف يقيم خارج المنطقة التي تتواجد فيها السلطة القضائية المختصة. وعلى العموم يبدو ان القوانين في بلاد الرافدين تطبق مبادئ يمكن بموجبها تمثيل طرف ما امام العدالة.
المرافعات :
يمكن اعتماد طريقة الطعن او الرجوع وهذا يعني عقد جلسة للقضاة لحسم قضايا عالقة ولكن يمكن في بعض الاحيان اتخاذ قرارات ولائية حيث تتدخل المحكمة للتحقيق او للمصادقة على اجراءات معينة تتعلق بالقانون الخاص مثل تسجيل حق النفقة التي يجب على الزوج ان يقدمها لزوجته المريضة.
اجراءات خاصة بالصلح :
يجوز قبل اجراءات المرافعة ان يقوم الاطراف بالتفاوض فيما بينهم، وتم اعتماد هذه الخطوة في فترات مختلفة، وتم استعمال الفعل
(Sabâtu)
والذي يعني القيام بحركة رمزية او حقيقية يقوم بموجبها المدعي بالطلب من خصمه ليدفع له تعويضا عما اقترفه تجاهه قبل المثول امام القاضي . ويذكر ان التجار الاشوريين القدامى كانوا يتوصلون الى اتفاق قبل المثول اما القضاة . فاذا لم يكن هناك صلح بين اطراف الدعوى سوف يتم نقلها الى المحاكم ومن الممكن ان يتم الصلح قبل اداء القَسَم. وفي العصر الاشوري الحديث كانت هناك حلول وسط يتم التوصل اليها وتصديقها امام شهود يتم تدوين اسمائهم وكذلك مكان الصلح والشروط التي بموجبها تم ابرامه .
التحقيق وتهيأة الدعوى :
يقوم الاطراف بتقديم دعواهم امام هيئة مختلطة دائما تضم في عضويتها مجموعة من النبلاء وموظفين اداريين او قضاة محترفين وتشبه في تشكيلتها هيئة المحلّفين المدنية او الجنائية وتتولى مسؤولية التحقيق في الاثباتات ومن ثم تقوم بنقل المحضر الى السلطة القضائية، وبعدها يتم استجواب الشهود والاطراف اما بصورة منفردة او حضوريا .
ويترتب على الطرفين من الناحية المبدئية الحضور الى الجلسة شخصيا او ان يحضر ممثلين عنهم ، وفي حالة غيابهم يتم اتخاذ القرار غيابيا . وتتضمن الاجراءات الجنائية الاهلية بالنسبة للمتهم ، وفي حالة الادانة يمكن ان يتم اتخاذ قرار بالتغريم ، وعليه ان
يقبل هذا الحكم . وقد ظهرت مثل هذه الحالات في العصر الاشوري الحديث ، ففي حالة سرقة يتم فيها القاء القبض على السارق وهو متلبس في الجريمة، تقوم هيئة مكوّنة من ثلاثة اعضاء بعقد اجتماع وتقرر ادانة المتهم الذي يعترف بما اقترفه وذلك لتجنب وضع المحضر امام السلطات في مدينة نينوى ويعد القرار المتخذ قطعياً . وهكذا يترتب على المتهم بجريمة قتل ان يثبت ان الضحية قام بالاعتداء عليه وعلى القضاة اخذ هذا التبرير بنظر الاعتبار بغية تخفيض الحكم .
طرق الاثبات واقامة البينة :
تعترف القوانين والتشريعات الشرقية بالاثباتات المادية (الشهادة والمدونات والاعتراف) وتلجأ عادة الى القَسَم. وفي المجال الجنائي بصورة خاصة يستند الحكم على الاثباتات المؤكدة ، وهذا يوضح الاستعمال الشائع للاثباتات غير العقلية امام المحاكم وليس
بوسع القاضي الاستناد فقط الى اعتقاد محض لاتخاذ القرار واصدار الحكم .
ولاقناع متهم بملف جنائي تقوم هيئة التحقيق بجمع كل الادلة، وهنا نشير الى ان الادلة تتضمن وثائق واوراق رسمية تكون مختومة بالشمع الاحمر ، وعندما يكون لدى القضاة ادلّة غير كافية وغير مقنعة، او هناك شك في فرد معين يصدرون امرا يسمح بعدم اطفاء الدعوى او شطبها . وسوف يعمل اكتشاف أي دليل مادي على اعادة المرافعة دون اخذها من البداية بحيث يسمح ذلك باتخاذ قرار ومن ثم صدور قرار الحكم .
وهناك اجراء اخر معروف في الالفية الاولى ق. م يقضي باجراء تحقيق عندما لا يكون المتهم متعاوناً . ويؤدي هذا الاجراء الى اخذ الاعتراف الكامل ، الا ان الاعتراف لا يشكل الا بداية التحقيق ولا بد من اكماله بالادلاء بالشهادات او بأدلة اخرى لكي تتم
ادانة المتهم . ويوضع المتهم عادة في التوقيف الاحترازي وذلك للحيلولة دون هروبه وان يكون تحت تصرف السلطة القضائية
ويبدو هناك طعن ضد الاعتقال التعسفي ويتم تقديم الطعن امام مجلس شعبي ويتم تفحصه من قبل الملك .
وفي المسائل المتعلقة بالخيانة او الاخلال بالواجب يتم تحضير ملف يتضمن شكاوى الافراد، ويقع عبء الاثبات على المدعي. وفي المجال الجنائي ينبغي على المتهم ان يثبت براءته من الجريمة او الاتهام الموجّه ضده . ففي مجال الزنا على سبيل المثال ينبغي على الزوجة المشتكية ان تقدم الدليل القاطع الذي يدين زوجها بارتكابه الزنا وعلى الزوجة التي يتم اتهامها بالزنا ان تؤدي القسم لاثبات اخلاصها وبراءتها. (المادة 13 من قانون حمورابي).
*[1]
Sophie LAFONT: “ Considération sur la pratique judiciaire en Mésopotamie, Rendre Justice en Mésopotamie”, Presses Universitaires
de Vincennes, Paris,2000.